المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثالث والعشرين - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثالث والعشرين

‌المجلس الثالث والعشرين

في الكلام على باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ»

وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ?

وذكر ما فيها من الفوائد واللطائف

قَالَ البُخَارِي:

«باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله» (1) وأن المعرفة (2) فعل القلب لقول الله (3) ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ?» .

قيل: قصد البخاري بهذه الترجمة الرد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان ولا يشترط عقد القلب، واستدل على بطلان قولهم بالآية، وهي: ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ? [البقرة: 225] أي: بما استقر فيها.

فإن الآية وإن وردت في «الأيمان» بفتح الهمزة، فالاستدلال بها في «الإيمان» بكسر الهمزة واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة بينهما على مدار القلب، وقيل: قصد بالترجمة بيان تفاوت درجات الناس في العلم بالله، وإن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في أعلى الدرجات (4) .

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «أنا أعلمكم» كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه. وفي رواية الأصيلي:«أعرفكم» وكأنه مذكور بالمعنى حملاً على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل البخاري.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «وأن المعرفة» بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة. وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر، وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «لقوله تعالى» مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب.

(4)

قال ابن حجر في الفتح (1/149) : وقوله: «بما كسبت قلوبكم» أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب.

وكأن البخاري لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى ?لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ? [المائدة: 89] قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلاً على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله صلى الله عليه وسلم:«أنا أعلمكم بالله» ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقاً.

ثم أتى الحافظ بفائدة عن النووي فقال: قال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل» فمحمول على ما إذا لم تستقر.

قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: «أو تعمل» لأن الاعتقاد هو عمل القلب.

ص: 450

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ:«إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا» .

إنما كان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس من الأعمال بما يطيقون الدوام عليه، شفقة عليهم ورفقاً بهم ورحمة لهم، لئلا يتجاوز طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل مادام وإن قل، وإذا حملوا ما لا يطيقونه تركوه أو بعضه بعد ذلك، فصاروا في صورة ناقضي العهد والراجعين عن عادة جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء على حاله، ولأن الإنسان إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذذ، ونشاط لا يلحق ملل، وقد ذم الله من اعتاد عبادة ثم فرط بقوله: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ? [الحديد: 27] .

وإنما قالوا: «لسنا كهيئتك» أي: كمثلك يا رسول الله ليأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزيادة من الأعمال رغبة في الخير، فإنهم كانوا يشاهدونه صلى الله عليه وسلم يدأب في العبادة ويجتهد فيها مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكأنهم يقولون: أنت مغفور لك ما تحتاج إلى عمل، ومع ذلك مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة، فأمرنا بالزيادة من العمل عليك يا رسول الله، فكان إذا قالوا له هذا القول يغضب من قولهم حتى يعرفوا الغضب في وجهه، ويرد عليهم ويقول لهم: أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأتقاكم وأخشاكم لله.

وقولهم: «إن الله قد غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر» من قول الله تعالى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً

ص: 451

مُّسْتَقِيماً? [الفتح: 2] .

وقد استشكل العلماء ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب والكبائر قبل النبوة وبعدها عمداً وسهواً، وكذا سائر الأنبياء، فما ذنبه الذي غفر له؟

وللعلماء في هذه الآية أقوال بعضها مقبول وبعضها مردود:

والقول الأول: المراد ليغفر لك الله الذنب الذي كان قبل النبوة، فهذا مردود لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم قبل النبوة وبعدها.

الثاني: ليغفر لأبويك آدم وحواء، وهذا مردود أيضاً لأن آدم معصوم لا ينسب إليه ذنب، وذنوب أمته كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له.

وأحسن ما يقال في الجواب: أنه تعالى قصد بهذه الآية تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب، فأخبره الله عز وجل أنه قد غفر له من ذنبه وما تأخر، وإن لم يكن ذنب، تشريف له صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لمقامه الكريم، ولم يخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك إظهاراً لشرفة عليهم.

وقد قال المحققون جواباً آخر: وهو أن المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ? ليعصمك الله فيما ما تقدم من عمرك وفيما تأخر منه، وهذا القول في غاية الحسن وإلي هذا الجواب أشار البرماوي بقوله: والصواب أن معنى الغفران للأنبياء الإحالة بين الأنبياء وبين الذنوب، فلا يصدر منهم ذنب لأن الغفر: هو الستر، فالستر إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام القسم الأول، واللائق بالأمم القسم الثاني.

فائدة: يأتي نظير هذا الإشكال في الحديث الوارد في هذا الصحيح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» (1) .

وفي الحديث الوارد في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (2) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2324، رقم 5948) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/114، رقم 10268) ، وابن ماجه في سننه (2/1254، رقم 3815) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/172، رقم 35071) ، والديلمي في الفردوس (1/56، رقم 154) جميعاً عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (4/2075، رقم 2702) عن الأغر وفيه سمعت ابن عمر يحدث

فذكره.

وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص: 218، رقم 621) .

ورواه عن الأغر بدون ذكر ابن عمر، النسائي في السنن الكبرى (6/116، رقم 10280) ، وأحمد في مسنده (4/211، رقم 17880) ، وابن حبان في صحيحه (3/209، رقم 929) ، والطبراني في المعجم الكبير (1/301، رقم 882) ، والروياني في مسنده (2/468، رقم 1489) والطيالسي في مسنده (ص 166، رقم 1202) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/349) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (6/49) .

ص: 452

وفي الحديث الوارد في أبي داود الترمذي وصححه وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر ليّ، وتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم» (1) .

فإنه يقال: التوبة والاستغفار يقتضيان الذنب، وهو في الرتب العليا من العصمة صلى الله عليه وسلم وأجابوا عن هذا: بأن توبته واستغفاره صلى الله عليه وسلم ليسا عن ذنب وإنما توبته الرجوع إلى مولاه في ستر ما استقصره من الشكر بالنسبة إلى ما ارتقى إليه من المقامات الأكملية، فإنه عليه أفضل الصلاة والسلام كلما بدا له من جلال الله وكبريائه قدراً، كان مرتقياً من كمال إلى أكمل فيستقصر بنظره إليه مما هو فيه من القيام بشكر الله تعالى على تلك الإنعامات العظيمة وطاعته، فيرجع إلى الاعتصام به تعالى ويطلب الستر لما ظهر من قصور الشكر.

وفي الحديث فوائد:

الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية والغرف العلية، فإنها ترفع الدرجات وتمحوا عنه الخطيئات.

الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك ادعى إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة واستزادة لها بالشكر عليها.

الثالثة: فيه من الفوائد أنه ينبغي للإنسان أن يقف عند ما حد الشارع من عزيمته ورخصته، وأن يأخذ من العمل بالأرفق الموافق للشرع، وهو أولى من أن يأخذ بالأشق المخالف.

(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/494، رقم 3434) ، وأبو داود في سننه (2/85، رقم 1516) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/119، رقم 10292) ، وأحمد في المسند (2/21، رقم 4726) ، وابن حبان في صحيحه (3/206، رقم 927) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 251، رقم 786) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/438، رقم 641) عن ابن عمر.

ص: 453

والرابعة: أن الأولى في العبادة القصد، والملازمة لا المبالغة المقتضية إلى الترك، فقد ورد في حديث آخر «المنبت» أي: المجد في السير «لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى» (1) .

الخامسة: فيه دلالة وتنبيه على فضل الصحابة وشدة رغبتهم في العبادة وطلبهم الازدياد وفعل الخير.

السادسة: فيه مشروعية الغضب عند مخالفته الأمر الشرعي، والإنكار على مرتكب ذلك، وإن كان صادقاً متأهلاً لفهم المعنى تحريضاً على التيقظ.

السابعة: فيه دليل على جواز تحدث المرء بما فيه من فضل، بحسب الحاجة لذلك، عند الأمن من المباهاة والتعاظم، خصوصاً إذ دخل إلى بلد لا يعرف فيها.

لطيفة: كان دانيال عليه السلام عارفاً بالطب، فأراد أن يظهر نفسه لملك زمانه، فأمر طباخه أن يزيد دانقاً في ملح الطعام على القدر المحتاج إليه، ففعل ذلك فضعف نظر الخليفة، فسأل دانيال عن ذلك فقال: إن الطباخ زاد في ملح الطعام فسأله فقال: نعم، قال: ولم فعلت ذلك قال أمرني دانيال بذلك، فسأله فقال: نعم، لأنك لم تحتج إلى علمي فأردت أن أجعلك تحتاج إليه.

الثامنة: فيه من الفوائد أن الصالح ينبغي له أن لا يترك اجتهاده في العمل اعتماداً على صلاحه، فانظر إلى سيد الصالحين ورسول رب العالمين كيف كان اجتهاده في العمل صلى الله عليه وسلم.

التاسعة: في دلالة وحث على العمل الصالح وعلى المداومة عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (2)

رواه الترمذي في سننه.

وفي صحيح مسلم عن أبي عبد الله ثوبان مولى الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد سجدة إلا رفعك الله بها

(1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/184، رقم 1147) ، والرافعي في التدوين (1/238) .

ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (1/62) جميعاً عن جابر.

قال الهيثمي: وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب، وهو في السند عند الجميع.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/565، رقم 2329) عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟

فذكره.

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

ص: 454

درجة، وحط بها عنك خطيئة» (1) .

وفي الصحيحين عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتبع الميت ثلاث أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله» (2) .

وفي مسند أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي: يا محمد بل أنا أحاسبهم فإن كان منهم زلة سترناها عنك حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن قلبك» .

وقالت عائشة: نظرت يوماً إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته فرحاناً مسروراً فسألته فقال: «يا عائشة سئلت ربي في أبناء الأربعين فقال: يا محمد قد غفرت لهم، فقلت: فأنباء الخمسين قال: إني غفرت لهم، قلت: فأبناء الستين قال: قد غفرت لهم، قلت: فأبناء السبعين، قال: يا محمد إني لأستحي من عبدي إذا عمرته سبعين سنة يعبدني لا يشرك بي شيئاً أن أعذبه بناري، فقلت فأبناء الأحقاب أبناء الثمانين والتسعين فقال: أقيل عليهم وأقول لهم: أدخلوا من أحببتم معكم الجنة، فإنكم أحبائي، أفنيتم أعماركم في توحيدي وطاعتي» .

ولله در القائل: من كان وكان يا غافلاً يتمادى، في اللهو كم هذا الزلل، غداً عليك ينادى، يا ناكثا خوان، لا تغتر بالدنيا، فليس هي الباقية، الدار دار الأخرى، فجد بالبنيان، أبناء عشر تواصوا بالخير فيما بينكم، فالخير لا شك عادة من الصغر قد بان، أبناء عشرين جدوا واستغنموا لشبابكم، ما دام غصن الشيبة، غض رطب ريان، يا ابن الثلاثين، بادر إلى المتاب فربما تأتي المنايا بغتة وتحرم الإمكان، وأنت ماذا عذرك، ذا الوقت يا ابن الأربعين، وقد بلغت أشدك فأسبق إلى الإحسان، أبناء خمسين هذا

(1) أخرجه مسلم في الصحيح (1/353، رقم 488) عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله

فذكره.

وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (1/242، رقم 724) ، وأحمد في المسند (5/276، رقم 22431) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (4/2273، رقم 2960) ، والترمذي في سننه (4/589، رقم 2379) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه (4/53، رقم 1937) ، وأحمد في المسند (3/110، رقم 12101) عن عبد الله بن أبي بكر.

ص: 455

وقت الرجوع عن الزلل، فليس عند الزيادة شيء من النقصان، أبناء ستين كونوا من المنون على حذر، فما أحد قط يعطي من المنون أمان، أبناء سبعين وافى جيش المشيب فما بقى للزرع إلا حصاده وينشر الديوان، يا ابن الثمانين، قل لي في الدهر ماذا تنتظر، قد حان وقت رحيلك، وشالت الركبان، أبناء تسعين فوزوا فقد كتب توقيعكم من ربكم بالإنابة والعفو والغفران، يا ابن المائة إن وقتك ما بقي لك من عمل، إلا التوجه إلى الله في السر والإعلان، قد حان وقت رحيلك، فقم تجهز للسفر، وحصل الزاد وإلا تبقى عليه ندمان.

وقيل: لا يفوت الإنسان عمل اعتاده إلا بذنب.

قال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب واحد، قيل: ما هو؟ قال رأيت رجلاً يبكي فقلت هذا مرائي.

وقال أبو يزيد البسطامي (1) : قمت ليلة فتذكرت أهل الغفلة من النائمين، فكوشفت بأن الرحمة تنزل عليهم كالقائمين، فتعجبت من ذلك فهتف بي هاتف يا أبا يزيد هؤلاء ذكروا عذابي فقاموا، وهؤلاء ذكروا رحمتي فناموا.

الفائدة العاشرة: في الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاذ رتبة الكمال الإنساني، لأن الكمال الإنساني إما بالعلم، وإما بالعمل، وقد جمع صلى الله عليه وسلم الكمالين، وأشار إلى الأول بقوله:«أعلمكم بالله» ، والي الثاني:«أتقاكم» وهو صلى الله عليه وسلم أعرف خلق الله بالله، وأتقى خلق.

ومعرفة الله هي: تحقيق العلم، بإثبات الواحدانية (2) .

(1) أبو يزيد البسطامي هو: طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد، ويقال: بايزيد، مولده سنة: 188هـ، زاهد مشهور، له أخبار كثيرة، كان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر، نسبته إلى بسطام بلدة بين خراسان والعراق أصله منها، ووفاته فيها سنة: - 261هـ، قال المناوي: وقد أفردت ترجمته بتصانيف حافلة.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر.

وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطاباً ومقصوداً المعرفة، وأول واجب اشتغالاً وأداء القصد إلى النظر.

وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جداً.

وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم.

ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه. ومع ذلك فقول الله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا? [الروم: 30]، وحديث:«كل مولود يولد على الفطرة» ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها.

وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني -وهو من كبار الأشاعرة- أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب.

ص: 456

وقيل: هي حياة القلب مع الله.

وقيل: نسيان غير الله، وقد دل على فضلها ومدحها الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ? [الأنعام: 91] أي: ما عرفوا حق معرفته، وقال: ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ? [المائدة: 83] .

وجاء في الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن دعامة البيت أساسه، ودعامته الدين المعرفة بالله تعالى» .

وقد تكلم المشايخ الصوفية فيها، فكل منهم نطق بما وقع له منها، وأشار إلى ما وجده منها في وقته.

قال الأستاذ أبو علي الدقاق: من أمارة المعرفة بالله حصول الهيبة من الله تعالى فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته منه، ومن ازدادت هيبته استقامت حالته، وعظمت بين الخليقة حرمته.

وقال الشبلي (1) : ليس للعارف بالله علاقة أي: حظ في غير مولاه.

وقال بعضهم: من عرف الله انقطع بل خرس وانقمع.

وقال آخر: من كان بالله اعرف كان له أخوف.

وقال بعضهم: من عرف الله تبرم بالبقاء أي: كره البقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.

قال بعضهم: للعارف أمارة وهي: قلبه إذا نظر فيها تجلي فيها مولاه.

وقال ذا النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة، فسبقت روح نبينا صلى الله عليه وسلم أرواح الأنبياء إلى روضة الوصال.

وقال أيضاً: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى في أن يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله تعالى، فمتى صحبته وعفا عن كل ذنب يكون منك زال عنك برؤيته الفتور والكسل، وتخلقت بأخلاقه الحميدة.

واختلف العلماء في أول واجب على المكلف فالجمهور على أن واجب على المكلف معرفة الله لأنها أصل لسائر الأعمال الواجبة، إذ لا يصح بدونها واجب، بل

(1) الشبلي هو: دلف بن جحدر الشبلي: ناسك، كان في مبدأ أمره والياً في دنباوند من نواحي رستاق الري، وولي الحجابة للموفق العباسي، وكان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية وعكف على العبادة، فاشتهر بالصلاح، وله شعر جيد، ومتفرقات في آداب السلوك تناقلها الناس، سلك به مسالك المتصوفة، مولده سنة: 247هـ، وأصله من خراسان، ونسبته إلى قرية شبلة من قرى ما وراء النهر،، ووفاته ببغداد سنة: 334هـ، واختلف في اسمه ونسبه، فقيل: دلف بن جعفر، وقيل: جحدر بن دلف، وقيل: دلف ابن جعترة، وقيل: دلف بن جعونة وقيل: جعفر ابن يونس.

ص: 457

ولا مندوب.

وقيل: النظر المؤدي إليها.

وقيل: أول النظر.

وقيل: القصد إلى النظر.

وحقيقته سبحانه وتعالى مخالفة لسائر الحقائق، فلا يشاركه شيء في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

واختلف العلماء هل حقيقته معلومة للناس في الدنيا؟

فقال المحققون: إنها ليست معلومة في الدنيا، قال الرازي: وكلام الصوفية يشعر به، ولهذا قال الجنيد: والله ما عرف الله إلا الله، وإذا كان الإنسان لم يدرك حقيقة نفسه فكيف يدرك حقيقة خالقه كما قيل:

حقيقة المرء ليس يدركها

فكيف كيفية الجبار في القدم

وأما حديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (1)

فلم يصح ولم يثبت كما قاله النووي في فتاويه، وهو من كلام يحيى بن معاذ الرازي لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

واختلف العلماء في معناه على أقوال، فقال النووي: معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له، عرف ربه بالقوة والقهر والربوبية والكمال المطلق والصفات العليا.

(1) ذكره الهروي في المصنوع (ص:189) وقال: قال ابن تيمية: موضوع.

وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/343) : قال ابن تيمية: موضوع، وقال النووي قبله: ليس بثابت، وقال أبو المظفر بن السعاني في القواطع: أنه لا يعرف مرفوعاً، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله، وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال: لكن كتب الصوفية مشحونة به يسقونه مساق الحديث كالشيخ محي الدين بن عربي وغيره، قال: وذكر لنا شيخنا الشيخ حجازي الواعظ شارح الجامع الصغير للسيوطي بأن الشيخ محي الدين بن عربي معدود من الحفاظ، وذكر بعض الأصحاب أن الشيخ محي الدين قال: هذا الحديث وإن لم يصح من طريق الرواية فقد صح عندنا من طريق الكشف.

وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سماه: «القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه» .

وقال النجم: قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للمارودي عن عائشة سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعرف الناس بربه قال أعرفهم بنفسه» .

ص: 458

وقال بعض العارفين: معناه من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقره، عرف الله بعزته وقدرته وغناه، فيكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد.

وقال بعض أهل الله: لما كانت الروح في الجسد لا تدرك بالبصر ولا تمثل بالصور، علمنا سبحانه أنه لا تدركه الأبصار ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فطوبي لمن عرف وبذنبه اعترف.

أشار بعض مشايخي في هذا المعنى فقال:

قل لمن يفهم عني ما أقول

قصر القول فذا شرح يطول

هو شيء غامض من دونه

ضربت والله أعناق الفحول

أنت لا تعرف إياك ولا

تدر من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري صفات ركبت

فيك حارت في خفاياها العقول

كيف تدر من على العرش استوى

لا تقل كيف استوى كيف النزول

كيف تجلى أم ترى كيف يرى

فلعمري ليس ذا إلا فضول

هو لا كيف ولا أين له

وهو في كل النواحي لا يزول

جل ذاتاً وصفاتاً وسما

وتعالى ملكه عما أقول

وذهب كثير من المتكلمين إلى أنها معلومة للناس في الدنيا، واحتجوا بوجهين:

أحدهما: أنا مكلفون بمعرفة وحدانيته، فلذلك يتوقف على معرفة حقيقته، فلم نوجبها لكلفة ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أنها متوقفة على معرفته بالحقيقة، وإنما تتوقف على معرفته بوجه.

ثانيهما: أنا نحكم على ذات الله عز وجل بأحكام، والحكم مسبوق بتصور المحكوم عليه، وهو ضعيف أيضاً، لأن تصور المحكوم كان بوجه ما.

قال الزركشي: والأحسن القول الأول وهو أنها ليست معلومة للناس في الدنيا قال تعالى: ?وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً? [طه: 110] .

واختلف العلماء هل يمكن علمها في الآخرة؟

فقيل: لا، لأن علمها يقتضي الإحاطة به تعالى وهي ممتنعة.

وقيل: نعم، لحصول الرؤية فيها، ورد بأن الرؤية لا تفيد الحقيقة، والواجب على المكلف في الدنيا معرفته بوجه، وهو: بصفاته كما به أجاب موسى لفرعون لما قال: ?وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ? فقال: ?قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم

ص: 459

مُّوقِنِينَ? [الشعراء: 24] إجابه بالصفة لتعذر الجواب بالماهية، فظن فرعون أن موسى مخطئ في الجواب لعدوله عن الجواب المطابق لسؤاله، ولم يعلم بغباوته أنه هو المخطئ في السؤال، وأن ما أتى به الكليم في الجواب أقصى ما يمكن.

قال الرزركشي: وغاية معرفة الإنسان لربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة، ويعرف أنها موضوعة ومحدثة، وأن محدثها يصح ارتفاع كلها مع قيامه، ولا يصح بقاؤها وارتفاعه.

وفي هذا المقام قال الصديق الأكبر: سبحان من لم يجعل لخله سبيلاً إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفة شيء.

قال الرازي: واعلم أن من عرف الله لا يخلو عن قبض وبسط، فإذا استغرق في عالم الجلال والعزة والاستغناء وقع في القبض والهيبة، فيصير كالمعدوم الفاني، وإذا استغرق في عالم الجمال والرحمة والكرم وقع في البسط والفرح والسرور، فيصير فرحاً بربه.

قيل: كان يحيى عليه السلام الغالب عليه الحزن والقبض، وكان عيسى عليه السلام الغالب عليه الفرح والسرور والبسط فتحاكما في هذه الواقعة إلى حضرة رب العزة، فأوحى الله تعالى إليهما إن أقربكما إليّ أحسنكما ظناً بي.

واستدل كثير من السلف على معرفة الله تعالى بطرق.

لطيفه: سأل جماعة من الكفار وكانوا سبعة عشر نفساً الإمام الشافعي ما الدليل على معرفة الصانع؟

فقال: ورقة الفرصاد أليس طعمها ولونها وريحها واحد عندكم قالوا: نعم فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبرسيم، والنحلة فيخرج منها العسل، والشاة فيخرج منها البعرة والظبية فينعقد في نوافحها المسك، فمن ذا الذي جعلها كذلك، مع أن الطبع واحد، فاستحسنوا منه ذلك وآمنوا على يديه.

وسئل أبو حنيفة عن معرفة الصانع فقال: إن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى، ويريد الأنثى فتكون ذكراً، فدل ذلك على معرفة الصانع.

واستدل أحمد بن حنبل على معرفة الله تعالى بالبيض وخروج الفرخ منها، وقال: الدليل على الصانع قلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها أي: لا باب، كالفضة المذابة والذهب الإبريز ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فدل ذلك على اللطيف الخبير.

ص: 460

وسأل هارون الرشيد مالكاً عن الصانع، فاستدل عليه بخلاف الأصوات، وتردد النغمات، وتفاوت اللغات.

وسأل الأصمعي بعض الأعراب فقال له: كيف عرفت الله: فقال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وأبحر ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير.

وسئل أبو نواس الشاعر عن الدليل على الصانع فقال: النرجس وأنشد فيه:

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

أصول من لجين زاهرات

على أطرافها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي بكر الأصبهاني قال: رؤي أبو نواس في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس (1) .

سؤال: هل الطيور والبهائم البرية والبحرية عارفة بربها أم لا؟

قال الإمام فخر الدين الرازي: أكثر أرباب الآثار والأخبار جوزوا ذلك، وقالوا إن كونها عارفة بربها مشتغلة بتسبيحه أمر جائز في العقول، فوجب الاعتراف بذلك، وإن حصول الفهم والعلم في ذوات هذه الحيوانات من جملة الممكنات والله تعالى قادر على كل الممكنات، واستدلوا على ذلك بأنه يحصل منها أفعال لا تصدر إلا من العقلاء بل من أفاضل العقلاء، فدل ذلك كونها عارفة بربها.

ثم بين ذلك بوجوه:

منها: أن النحلة أعطاها الله من الذكاء أنها تبني البيوت المسدسة، من غير نظر ولا آلة ولا شكل، وإن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا عند استعانة بالآلات الكثيرة، وإنها تسعي في تحصيل قوتها وتؤخره لعلمها أنها قد تحتاج إليه في الأزمنة المستقبلية، ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات فسعت وادخرته، وذلك لا يصدر إلا من عاقل عارف بربه.

ومنها: أن الجمل والحمار وغيرهما إذا ذهب في طريق في ليلة ظلماء مرة واحدة، المرة الثانية يقدر على السلوك بتلك الطريق من غير إرشاد مرشد، وما ذاك إلا لعقله

(1) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/465) عن أبي بكر أحمد بن محمد بن موسى الأصبهاني بأصبهان قال

فذكره.

ص: 461

ومعرفته بربه.

ومنها: أن الفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن إن كان رأسها ضيقاً ولا تدخل رأسها ويحصل مقصودها بهذا الطريق، وهذا يدل على عقلها.

ومنها: أن العنكبوت تبني بيتها على وجه عجيب وعلى نسجه الشبكة التي تصيد بها الذباب.

وهذه أفعال فكرية فوجب الإقرار بثبوت العقل لها، وإذا أثبت كونها مهتدية عارفة بهذه الدقائق، فأي بعد في كونها عارفة بربها مسبحة لمالكها، ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: ?قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ? [النمل: 18] وهذا لا يصدر إلا من الفاهم العاقل.

ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مكحول عن بعض الأحبار أنه قال: «قام داود النبي عليه الصلاة والسلام ليلة على ساحل البحر يصلي ويسبح لله ويحمد، ويقول في دعائه: إلهي هدأت الأصوات، وغارت النجوم، ونامت العيون، وعين داود لم تنم، وأنت الحي القيوم، فهو متعجب بقيام ليله، فأوحى إلى ضفدع أن أجيبه فقال الضفدع: يا داود أعجبك قيام ليلة واحدة وأنا في مكاني هذا منذ سبعين سنة لم يفتر لساني من التسبيح والتقديس لربي، قال داود: فبأي شيء تسبحين؟ قالت: فإني أقول: سبحان ربي المعبود بكل مكان، سبحان ربي المشكور بكل لسان، سبحان ربي المحمود في كل أوان» .

وأما ما يتعلق بالتقوى التي دل عليها في الحديث قوله: «أتقاكم» فهو: أن البرماوي وغيره قالوا: إن التقوى على ثلاث مراتب:

الأولى: وقاية النفس عن الكفر وهذه المرتبة للعموم.

الثانية: وقاية النفس عن المعاصي وهي للخواص.

الثالثة: وقاية النفس عما سوى الله وهي لخواص الخواص.

قال حجة الإسلام الغزالي: التقوى كنز عزيز، ولئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وخير كثير، ورزق كريم، فوز كبير، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة.

قال: وأنا أعد لك من جملها اثنا عشر خصلة:

ص: 462

أولها: المدح والثناء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? [آل عمران: 186] .

الثاني: الحفظ والحراسة من الأعداء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ? [آل عمران: 120] .

الثالث: التأييد والنصرة قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ? [النحل: 128]، وقال تعالى: ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ? [البقرة: 194] .

والرابع: النجاة من الشدائد والرزق الحلال قال الله تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ? [الطلاق: 2، 3] .

والخامس: إصلاح العمل قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً? [الأحزاب: 70، 71] .

السادس: غفران الذنوب كما قال تعالى: ?وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ? [الأحزاب: 71] .

والسابع: محبة الله قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ? [التوبة: 4] .

والثامن: القبول قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ? [المائدة: 27] .

والتاسع: الإكرام والإعزاز قال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] .

والعاشر: البشارة عند الموت قال الله تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ? [يونس: 64] .

والحادي عشر: النجاة من النار قال الله تعالى: ?ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا? [مريم: 27]، وقال تعالى: ?وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى? [الليل: 17] .

والثاني عشر: الخلود في الجنة قال الله تعالى: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? [آل عمران: 133] .

فهذا كله خير وسعادة في الدارين تحت خصلة واحدة وهي التقوى، ولا تنس نصيبك منها أيها الرجل وفسروا قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ

ص: 463

تُقَاتِهِ? [آل عمران: 102] بأن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، هذا أعلى درجات التقوى، وهذا عزيز وربما يعجز الإنسان عنه، ولهذا لما نزلت الآية وسمعها الصحابة خافوا العجز عن القيام بذلك، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16] .

وكان سهل بن عبد الله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه.

وقال بعض العارفين: من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى يقول: ?وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا? [يوسف: 109] .

وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكل منه على الله فيما لم ينل من الرزق، وحسن الرضا منه فيما قد نال منه، وحسن البصر منه على ما فات مما يحبه.

وجاء في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أوصني فقال: «عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله فإنه نور لك أي: يهديك إلى الصراط المستقيم.

وأنشد ذو النون المصري قدس الله سره:

ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم

تحن إلى التقوى وترتاح للذكر

وعن عائشة أنها قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعجبه أحد إلا ذو التقى.

وعن قتادة رضي الله عنه أنه قال: «مكتوب في التوراة يا ابن آدم اتق الله ونم حيث شئت» .

وكتب على بعض القبور: ليس زاد إلا التقى فخذ منه أو دع.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاده آمنا» .

وقال ابن لقمان لأبيه أي الخصال خير؟ قال: الدين، قال: فإن كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال، قال: فإن كانت ثلاثة؟ قال: الدين والمال والحياء، قال: فإن كان أربعاً؟ قال: حسن الخلق، قال: فإن كانت خمساً؟ فقال: السخاء، قال: فإن كانت ستاً؟ قال: يا بني إذا اجتمعت فيه هذه الخمس خصال فهو تقي لله ولي، ومن الشيطان بري، ولقد صدق من قال:

من اتقى الله فذاك الذي

سبق إليه المتجر الرابح

من عرف الله فلم تغنه

معرفة الله فذك الشقي

ماذا على الطائع ما ضره

في طاعة الله ماذا لقي

ص: 464

ما يصنع العبد بعز الغنى

والعز كل العز للمتقي

لطيفة: نزل ضيف على سليمان الفارسي ولم يكن عنده شيء، فخرج إلى الصحراء فوجد ظباء وطيور فأشار إلى ظبي وطير فاقبلا فقال: الضيف سبحان الله قد سخر لك الظباء والطير فقال سلمان: هل رأيت عبدا أطاع الله فعصاه شيء.

لطيفة أخرى: خرج شاب بالمدينة لصلاة العشاء في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرأته امرأة فعرضت نفسها عليه فتبعها إلى منزلها، ثم تذكر قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ? [الأعراف: 201] أي: خطرة ونزعة من الشيطان، ?تَذَكَّرُوا? أي: تذكروا أنهم وقع منهم شيء يغضب الله تعالى، فلما قرأ الشاب هذه الآية وقع مغشياً عليه فطرحته المرأة على باب دراها، فخرج أبوه فلما أفاق سأله عن حاله فقص حاله على أبيه، فلما قرأ الآية ثانياً خرجت روحه فلما دفنوه بلغ ذلك عمر، فوقف على قبره وناداه: يا فلان ?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ? [الرحمن: 46] فأجابه من القبر يا عمر قد أعطاينهما ربي بفضله.

* * *

ص: 465

باب

تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ (1)

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (2) ، قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَدْخُلُ (3) أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمان. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» .

قَالَ وُهَيْبٌ (4) حَدَّثَنَا عَمْرٌو (5)«الْحَيَاةِ» (6) . وَقَالَ: «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ» (7) .

في هذا الإسناد لطيفة وهو أن رجاله كلهم مدنيون.

بهمز قطع قوله: «أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة (8)

» بهمزة قطع وهو خطاب

(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال» : «في» ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال.

(2)

قال الحافظ في الفتح (1/152) : قوله: «حدثنا إسماعيل» هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسي عن مالك، وليس هو في الموطأ، قال الدارقطني: هو غريب صحيح.

(3)

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «يدخل» للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره «يدخل الله» وزاد من طريق معن «يدخل من يشاء برحمته» وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب.

(4)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «قال وهيب» أي: ابن خالد.

(5)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا عمرو» أي: ابن يحيى المازني المذكور في سند هذا الحديث.

(6)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «الحياة» بالخفض على الحكاية، ومراده: أن وهيباً وافق مالكاً في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيي بسنده، وجزم بقوله:«في نهر الحياة» ولم يشك كما شك مالك.

(7)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «وقال خردل من خير» هو على الحكاية أيضاً، أي: وقال وهيب في روايته: مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكاً أيضاً في هذه الكلمة.

وقد ساق البخاري حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسي ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال:«من خردل من إيمان» كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا.

ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال:«من خردل من خير» كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسي.

وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه.

ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود.

(8)

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «مثقال حبة» بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا أقل منه.

قال الخطابي: هو مثل ليكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم.

وقال إمام الحرمين: الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال.

وقال غيره: يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه.

والمراد بحبة الخردل هنا: ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخري:«أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة» .

ص: 466

للملائكة، والمعنى ثم يقول الله بعد إدخال عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى النار لملائكته: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبه من خردل من إيمان.

ويجوز أن تكون همزة وصل ويكون الخطاب للعصاة الذين أدخلهم الله النار، والمعنى: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، وإنما أتى «بحبه الخردل» دون غيرها من البذورات لأنها في غاية الصغر، فلهذا يشبه بها للبالغ في القلة أي: أخرجوا من النار من بلغ إيمانه إلى غاية القلة، بحيث لا يكون فيها أحد إيمانه أقل من منه، هذا دليل على أنه لا يبقى في النار من أهل الإيمان من العصاة أحد من قل إيمانه أو كثر، تفضلاً منه سبحانه وكرماً.

وكم من عاص تفضل الله عليه وعفا عنه وسامحه، من غير سبق عذاب في البرزخ ولا في الآخرة، بل عامله بحسن ظن فأدخله الجنة.

لطيفة: روي عن إبراهيم بن أدهم قال: بينما أنا أمشي في بعض الأذقة، وإذا امرأة تحمل ميت والناس يرجمونه بالحجارة، فقلت لها: ما يكون هذا الميت قالت ولدي وكان يعصي الحق ولا يستحي من الخلق، فلما حضره الموت سمعته يقول: يا محسنا لمن رجاه، يا من لا يهتك عبداً عصاه، فلما مات هجره الخلق ورجموه، فلا أدري كيف أتجه به، فقلت: أنا أحمله وأصلي عليه، فحملته معها فجهزناه ودفناه، فمضت أمه، فتفكرت أنا عند قبره فأخذتني سنة النوم، فرأيت ملكين قد نزلا عليه فانشق القبر فأجلساه وشم أحدهما جميع مفاصله فقال: لرفيقه ما في جسده مثقال حبة من خير فقال رفيقه: ربه أعلم به فنوديا: شقا قلبه، فخرج منه شامة بيضاء تتلألأ كالقمر، فنوديا: يا أيها الملكان هذه شهادة أن لا إله إلا الله، توفى عليها، وهو يرجوني ويقصدني فيكف أخيب من قصدني.

فإن قيل: من أين تعرف الملائكة العصاة الذين أدخلوا النار وفي قلوبهم مثقال حبة من خردل من خردل حتى يخرجوهم والإيمان أمر قلبي؟

فالجواب: أن الله تعالى يجعل له علامات يعرفون بها، كما يعلمون بأنهم من أهل التوحيد بعلامات السجود.

وقوله: «فيخرجون منها قد اسودوا» أي: صاروا سود كالحمم من آثار النار.

«فيلقون في نهر الحياء» أي: في نهر المطر (1) .

(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: قوله: «في نهر الحياء» كذا في هذه الرواية بالمد، وفي غيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل.

ص: 467

«أو الحياة» أي: النهر الذي ينغمس فيه الحي.

«فينبتون كما تبنت الحبة من جانب السيل» و «الحبة» (1) بكسر الحاء تجمع على حبب، وهو بذر العشب، وإنما شبه صلى الله عليه وسلم نبات العصاة الذين أخرجوا من النار في نهر الحياة بنبات العشب لسرعة نباته وخروجه من الأرض، قيل: إنه ينبت في يوم وليلة بخلاف غيرها من الحبب لا ينبت كذلك.

وقوله: «ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية» .

فائدة: هذا اللون مفرح يسر الناظرين، قال تعالى في حق بقرة إسرائيل: ?بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ? [البقرة: 69] ونقل القرطبي عن علي بن أبي طالب أنه قال: من لبس نعلاً أصفراً قل همه.

ولهذا كان الحناء سيد رياحين الجنة لصفرته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية» (2)

والفاغية: نَوْرُ الحناء.

وقال أنس: «كان أحب الرياحين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاغية» (3) رواهما البيهقي.

والمعنى: أن العصاة إذا خرجوا من النار وألقوا في نهر الحياة، يخرجون من ذلك النهر منورين منبسطين متبخترين كخروج هذه الريحانة من جانب السيل، ويسمى هؤلاء الذين أخرجوا من النار «عتقاء الله» فإنهم يدخلون الجنة ومكتوب على جباههم وبين أعينهم «عتقاء الله» .

وروي أنهم إذا أدخلوا الجنة بعد ذلك فتكون تسميتهم الجهنميين، فيكرهون هذا الاسم ويسألون الله تعالى أن يزيله عنهم، فيثور في الجنة شبه الضباب فينقلهم الله إلى منازل لا يعرفون فيها، ويزول عنهم هذا الاسم.

وفي رواية: إذا دخلو الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميين، فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار، فيرسل الله تعالى ريحاً من تحت العرش يقال لها:

(1) في معناها قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: «الحبة» بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري: الحبة: جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو: الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضاً، وإنما افترقا في الجمع.

وقال أبو المعالي في المنتهى: الحبة بالكسر: بزور الصحراء مما ليس بقوت.

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/92، رقم 5904) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.

قال البيهقي: ورواه جماعة عن أبي هلال الراسبي، تفرد به أبو هلال محمد بن سليم.

وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (7/271، رقم 7477) ، والديلمي في مسند الفردوس (2/325، رقم 3482) .

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/35) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن عبية القطان ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

(3)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/131، رقم 6074) عن أنس بن مالك.

ص: 468

المثيرة، فتهب على وجوههم فتمحوا الكتابة أي: ما هو مكتوب بين أعينهم.

فقد روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش، إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله» .

وقوله: «مثقال حبة من خردل من إيمان» المثقال من الذهب عند الفقهاء عبارة عن اثنين وسبعين شعيره، فإن قيل: الإيمان عرض فكيف يوزن؟

فالجواب: أن هذا مثل، فيكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن الإيمان ليس بجسم فيوزن، ولكن ما يشكل من المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم، ويشبه ليعلم.

وقيل: الذي يوزن إنما هي الصحف المشتملة على الأعمال.

ويستفاد من الحديث أنواع من العلوم:

منها: إثبات دخول طائفة من عصاة الموحدين النار، وهذا أمر دلت عليه النصوص الظاهرة، وأجمع عليه من يعتد به، ولهذا لا يجوز كما قاله ابن عبد السلام وغيره أن يقول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات جميع ذنوبهم، ولا اللهم لا تدخل أحداً منهم النار، قالوا: لأنا نقطع بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم من أن منهم من يدخل النار.

ولا يشكل على هذا القول مع قول نوح عليه السلام: ?رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ? [نوح: 28] لأنه ورد بصيغة الفعل في سياق الإثبات، وذلك لا يقتضي العموم، لأن الأفعال نكرات، ولجواز أن يكون نوح عليه الصلاة والسلام قصد معهوداً خالصاً وهو أهل زمانة مثلاً بل جميع المؤمنين والمؤمنات من أهل زمانه وغيرهم.

وفي الحديث أيضاً: دلالة على أنه لابد من إخراج العصاة ولا يخلدون في النار، ولو كانوا من أصحاب الكبائر، وهنا غرائب مناسبة:

الأولى: فإن قيل: إذا أدخل الله العصاة النار هل يميتهم الله في النار ثم يخرجهم بالشفاعة أو لا يميتهم؟

في المسألة قولان:

أحدهما: ورجحه القرطبي: أن الله يميتهم في النار إماتة حقيقية تكريماً لهم حتى لا يحسوا بألم العذاب بعد الاحتراق، ثم يخرجهم منها، والدليل على ذلك ما ورد في بعض الأحاديث:«فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة فيهم» (1) أكد

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/172، رقم 185) ، وابن ماجه في سننه (2/1441، رقم 4309) ، وأحمد في مسنده (3/11، رقم 11092) ، وابن حبان في صحيحه (16/530، رقم 7485) ، وأبو عوانة (1/158، رقم 456) ، والدارمي في سننه (2/427، رقم 2817) ، وأبو يعلى في مسنده (2/348، رقم 1097) عن أبي سعيد.

ص: 469

ذلك بالمصدر فدل على أن الإماتة حقيقية، بخلاف الكفار المخلدين فيها قال الله تعالى في حقهم: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ? [فاطر: 36] بل كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها كما قال الله تعالى: ?كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ? [النساء: 56] .

ثانيهما: أنهم إذا دخلوا النار لا يموتون فيها، بل إماتتهم المذكورة في الحديث عبارة عن أن الله يلقي عليهم في النار النوم حتى يعينهم عن ألم العذاب، وليس بموت على الحقيقة فإن النائم قد يغيب عن كثير من الألم والملاذ، وقد سماه الله تعالى وفاة بقوله العزيز: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الزمر: 42] .

فإن قيل: إذا أماتهم في النار على القول الأول وألقى عليهم النوم على القول الثاني، فأي حكمة وفائدة في إدخالهم النار ولا شعور لهم بأليم العذاب، الذي هو المقصود من دخول النار؟

أجاب العلماء عن ذلك: بأنه يدخلهم إلى النار وإن لم يحسوا بأليم العذاب، تأديباً لهم ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم، كالمحبوس في السجن، فإن الحبس عقوبة له وإن لم يكن معه غل ولا قيد والله أعلم.

الثانية: العصاة الذين يدخلهم الله النار من المؤمنين متفاوتون في العذاب، بحسب أعمالهم فمنهم من تأخذه النار إلى صدره، فقد جاء في خبر عن كعب الأحبار:«يا مالك قل للنار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرؤون القرآن، يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم» فالنار أعرف بهم بمقدار استحقاقهم من الوالدة بولدها، بخلاف الكافر فإن العذاب يشمل جميع جسده، ولا تعاف منه شيئاً، كما اشتمل في الدنيا على الكفر تشمله النار في الآخرة قال تعالى: ?لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ? أي: ما فوقهم ظلل لهم وما تحتهم ظلل.

ويعظم جسد الكافر في النار وأعضاؤه كأسنانه ويديه ورجليه وباقي أعضائه ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» (1) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2189، رقم 2851) ، والترمذي في سننه (4 /704، رقم 2579) ، وأحمد في مسنده (2/328، رقم 8327) ، وابن حبان في صحيحه (16/532، رقم 7487) عن أبي هريرة.

ص: 470

وفي حديث آخر للترمذي: «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة» (1) .

وكذلك تسود وجوه الكفار في النار، وتزرق عيونهم، ويغلون بالأغلال.

والعصاة من المؤمنين فإنهم يسلمون من ذلك كله، ويتفاوتون في قدر البقاء في النار فمنهم من يمكث فيها ساعة، ومنهم من يمكث فيها يوماً، ومنهم من يمكث شهراً، ومنهم من يمكث فيها سنة، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي وماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوهم، ولا تزرق عيونهم، ولا يغلون بالأغلال، ولا يقرنون مع الشياطين، ولا يضربون بالمقامع، ولا يطرحون في الأدراك، منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج، وأطولهم مكثاً فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة

الحديث» (2) .

الثالثة: فإن قيل: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة هل يعرفون منازلهم وأمكنتهم التي أعدها الله بهداية من الله، أو أن الملائكة تدلهم على منازلهم؟

في المسألة قولان:

أحدهما: أن الملائكة إذا وصلت بأهل الجنة إلى بابها يقولون لهم: تفرقوا إلى منازلكم، فيذهب كل واحد منهم إلى منزله فيها، وهو أعرف بمنزله في الجنة وموضعه فيها من منزله الذي كان في دار الدنيا، كما أن أهل صلاة الجمعة مثلاً إذا أخرجوا من المسجد يعرف كل واحد منزله، كذاك أهل الجنة وهذا القول هوالراجح ويدل عليه قول الله تعالى: ?وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ? [محمد: 6] .

ثانيهما: إنهم لا يعرفون منازلهم إلا بالملائكة يمشي مع كل واحد ملك بين يديه إلى منزله، وهو الملك الموكل بعمله.

الرابعة: أفاد بعض العلماء أنه يمكن معرفة أهل الجنة من أهل النار في الدنيا بعلامة وهي: أن الشخص إذا ملأ الله أذنيه من ثناء الناس عليه فهو من أهل الجنة، وإذا ملأ الله أذنيه من ذم الناس له فهو من أهل النار، واستُدل على ذلك بحديث في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فداك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت:«وجبت وجبت وجبت» ومر

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/703، رقم 2577) عن أبي هريرة.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش.

(2)

رواه الحكيم في نوادر الأصول (2/36) عن أبي هريرة.

ص: 471

بجنازة فأثني عليها شراً فقلت: «وجبت وجبت وجبت» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» (1) .

وفي بعض طرق البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة فقال: «وثلاثة» فقلنا: واثنان فقال: «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد.

والحديث السابق يعطي العموم، وإن من كثرت شهوده وانطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير والثناء الصالح، كانت له الجنة والله اعلم.

ومرت جنازة على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ فقال الرجل: وما يدريني من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ قال: انظر إلى ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض.

وغير مستنكر إذا أحب الله عبداً أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء عليه، وفي قلوبهم المحبة له قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ? [مريم: 96] .

قدمنا أنه ورد في الحديث: أن الله تعالى إذا أحب عبداً فدعا جبريل فقال: إن الله يحب فلاناً فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وفي البغضاء مثل ذلك.

قال القرطبي: وقد شوهد رجال من المسلمين علماء صلحاء كثر الثناء عليهم، وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم.

الخامسة: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما سأل الله عبداً الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخلنيه» (2) .

وفي حديث آخر: «ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره، ولا سئل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخله الجنة» (3) .

فالرب تعالى جواد له الجود كله يجب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه، فخلق من

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (1/460، رقم 1301) ، ومسلم في صحيحه (2/655، رقم 949) من حديث أنس بن مالك.

(2)

لم نقف عليه.

(3)

أخرجه أبو يعلى في مسنده (11/54، رقم 6192) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/249، رقم 213) عن أبي هريرة.

وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/243) وقال: رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم.

ص: 472

يسأله وألهمه سؤاله، وخلق له ما يسأله، فهو خالق السائل وسؤاله ومسؤوله، وذلك لمحبته لسؤال عبده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه، وهو يغضب إذا لم يُسأل، وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحين في الدعاء كلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه فأكثروا من طلب الجنة ومن الاستعاذة من النار.

فقد ورد في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم سأل الله الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاثاً قالت النار: اللهم أجره من النار» (1) رواه الترمذي وغيره.

وفي حديث آخر: «أكثروا مُساءلة الله الجنة واستعيذوا به من النار فإنهما شافعتان مشفعتان، وإن العبد إذا أكثر مساءلة الله الجنة، قالت الجنة: يا رب عبدك هذا الذي سألنيك فأسكنه إياي، وتقول النار: يا رب عبدك هذا الذي استعاذ بك مني فأعذه» (2) .

وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة، ويقولون: حسبنا أن يجيرنا من النار.

وجاء في حديث آخر يقول الله عز وجل: «انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته، ومن استعاذني من النار أعذته» (3) .

وفي حديث آخر: «أطلبوا الجنة جهدكم، اهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها، وإن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره، وإن الدنيا محفوفة باللذات والشهوات فلا تلهينكم عن الآخرة» (4) .

* * *

(1) أخرجه الترمذي في سننه (/699، رقم 2572) عن أنس بن مالك.

قال الترمذي: هكذا روى يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق هذا الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقد روي عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس بن مالك موقوفاً أيضاً.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/155، رقم 12607) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/717، رقم 1960) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (6/356، رقم 3682) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (4/390، رقم 1560) .

(2)

لم نقف عليه.

(3)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/175) عن أنس بن مالك.

قال ابن رجب في التخويف من النار (ص:44) : إسناده ضعيف.

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/200، رقم 449) ، وفي المعجم الأوسط (4/73، رقم 3643) عن كليب بن حزن.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/230) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنه وفيه معلى بن الأشدق وهو ضعيف جداً.

ص: 473

قَالَ البُخَارِي (1) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ (3) ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ (4)

، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ (5) يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ (6) ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الدِّينَ» .

في هذا الحديث فوائد:

الأولى: دل على استحباب تأويل دليل الرؤيا إذا كان عارفاً به، أو أنه يسأل العالم بها عنها، كما أول صلى الله عليه وسلم المنام الذي رآه لسيدنا عمر لما سألوه عنه «بالدين» .

وإنما أول رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين للإنسان كالقميص له في أنه يستره من النار، ويحجبه عن كل مكروه، كما أن القميص يستر عورة الإنسان.

وظاهر الحديث يقتضي أن القميص على أي لون كان يؤول بالدين إذا كان يجره على الأرض.

وفصل علماء التعبير في ذلك وقالوا: القميص الأبيض والأخضر يؤول بالدين، وأما الأزرق فإنه لا يحمد في المنام لقوله تعالى: ?وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً? [طه: 102] .

أما الأحمر فإنه يدل على الشهرة والخيلاء في المنام فإن كان معتاداً بلبسه فهو دليل

(1) بعدما تكلم المصنف عن شرح حديث في تفاضل أهل الإيمان أتى بعد ذلك بحديث آخر من أحاديث الباب فشرحه فتنبه هداك الله.

(2)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا محمد بن عبيد الله» هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير.

(3)

قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «عن صالح» هو ابن كيسان تابعي جليل.

(4)

قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «عن أبي أمامة بن سهل» هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو تابعيان وصحابيان، ورجاله كلهم مدنيون كالذي قبله.

وأفاد ابن حجر أنه سيشرح هذا مفصلاً في كتاب التعبير إلا أنه علق على وروده هاهنا في هذا الباب فقال: والحديث ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان.

(5)

قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «بينا أنا نائم رأيت الناس» أصل «بينا» : بين ثم أشبعت الفتحة، وفيه استعمال «بينا» بدون «إذا» وبدون «إذ» ، وهو فصيح عند الأصمعي ومن تبعه وإن كان الأكثر على خلافه، فإن في هذا الحديث حجة.

(6)

قال الحافظ في الفتح (1/154) : وقوله: «الثدي» بضم المثلثة وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانية جمع ثدي بفتح أوله وإسكان ثانيه والتخفيف، وهو مذكر عند معظم أهل اللغة، وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق في الرجل والمرأة، وقيل: يختص بالمرأة وهذا الحديث يرده، ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في الحديث مجازاً، والله أعلم.

ص: 474

على رفعة وسودد يحصل له، وإن لم يكن معتاداً بلبسه، فهو هم وحزن.

وأما القميص الأصفر فهو دليل على مرض يحصل للابسه في المنام، فإن رأى أنه لبسه وغسله أو خلعه نجا من ذلك المرض، ومن رأى أن عليه قمصاً كثيرة، أو على غيره فذلك دليل على أن له عند الله أجراً عظيماً.

ومن رأى قميص تخرق على جسمه استغنى من قبل امرأته، وإن رآه تفتق فارق امرأته أوشريكه.

ومن رأى قميصاً بلا كمين عليه أو على غيره فذلك دليل على حسن شأن لابسه في دينه ودنياه وأنه ليس له مال.

ومن رأى قميص شق طولاً فهو دليل على كلام يحصل له وهم يزول عنه، وإن رآه شق عرضاً فهو دليل على كلام يقال في عرضه.

ومن رأى أنه قَدْ قُدَّ من وراءه فإنه يتهم بتهمة هو برئ منها، فإن رأه قُدَّ من قبله فالذي يرمى به صحيح لقصة يوسف: ?إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [يوسف: 26، 27] .

ومن رأى أنه لبس قميصاً مقلوباً فإنه يدل على تغير حاله إلى خلاف عادته.

ومن رأى أنه لبس قميصاً خلقاً وسخاً فهو دليل على فقر ودَين.

ومن رأى أنه لبس جديداً صفيقاً فهو دليل على قوة في دين صاحبه، ويفسره للمرأة بالزوج، وللرجل بالمرأة إذ لبساه لقوله تعالى: ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] .

ومن رأى أن جيب قميصه انشق انفتح عليه باباً من الفقر، ومن رأى أنه لبس قميصاً قصيراً لم يستر ركبتيه، فذلك دليل على نقص في دينه للحديث السابق الذي ساقه البخاري.

ومن رأى أنه أهدى إليه قميص فإنه يبشر ببشارة حسنة لقوله تعالى في قصة يوسف: ?فَلَمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ? [يوسف: 96] .

فائدة مناسبة: ذكر بعض المفسرين أن يوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه كان له ثلاثة أقمصة، قميص العلامة، وقميص الشهادة، وقميص البشارة، أما قميص العلامة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ? [يوسف: 18] فإن أخوة يوسف كانوا إحدى عشر لما ألقوه في الجب وأخذوا قميصاً فذبحوا شاة ولطخوا قميصه بدمها فلما تأخروا عن الوقت الذي كانوا يروحون فيه إلى يعقوب أحس قلبه بالشر، فقام ليستقبلهم فلم يطق النهوض فتوكأ على جارية، وجعل يمشي حتى أشرف على الوادي، فرمى نفسه هناك، فلما أشرفوا على الوادي شقوا ثيابهم وحثوا التراب على

ص: 475

رؤوسهم، وهم يضجون في البكاء والصياح، فلما رآهم يعقوب على هذه الحالة وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: مالي لا أرى قرة عيني فيكم؟ قالوا: كما أخبر الله عنهم: ?ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? [يوسف: 17] قال: لم يبق له عضو من أعضائه تأتوني به أستانس به وأشم ريحه منه فقالوا: هذا قميصه ملطوخ بدمه، فقلبه فلم ير فيه شقاً ولا تمزيقاً وشمه فلم يجد ريحة فيه، فقال: سبحان الله ما كان أشفق وأرفق هذا الذئب حيث أكله فلم يمزق ثوباً ولم يبق له عضواً، وأحس في نفسه أن الذئب لم يأكله، فصار يبكي ويقول: قرة عيني ليت شعري، في أي بئر طرحوك، ليت شعري لأي سبع عرضوك.

قال بعضهم لبعض: ألا ترون أن أبانا يكذبنا ولا يصدق مقالتنا، تعالوا حتى نصطاد ذئباً ونلطخه بالدم ونأتي به إليه ونقول هذا هو الذئب الذي أكله، فلعله أن يسليه ذلك عما هو فيه، قالوا: نعم فاصطادوا ذئباً وأوثقوه وأتوا به إلى يعقوب، فلما مثلوه بين يديه نظر يعقوب إليه وقال لهم: ما هذا؟ فقالوا هذا الذئب الذي يغشي أغنامنا وأكل أخانا وأفجعنا فيه، فقال لهم: أطلقوه فأطلقوه فجعل الذئب يببصبص بذنبه ويدنوا إليه ويعقوب يقول: أدن أدن فجعل يدنوا حتى ألصق خده بخده، فرفع يعقوب إلى السماء رأسه وقال: اللهم إن كنت أجبت لي دعوة، ورحمت لي عبرة، فأنطق لي هذا الذئب بقدرتك، فإنك على كل شيء قدير، فأنطق الله لسان الذئب وقال: السلام عليك يا نبي الله فقال: وعليك السلام أيها الذئب بأي جرم أفجعتني في ولدي، وأورثتني هماً طويلاً فقال الذئب: وحقك ما أكلت لحمه، ولا شربت دمه، ولا نتفت شعره، ومالي بولدك عهد، وإني لذئب غريب أقبلت من ناحية مصر في طلب أخ لي غاب عني منذ سنين، فلا أدري أحي أخي أم ميت فاحتسبته، وإن لحوم الأنبياء محرمة على جميع السباع، فقال يعقوب لبنيه: لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا خرج في طلب أخيه وأنتم ضيعتم أخاكم، ولقد علمت أن الذئب برئ مما نسبتم إليه ?قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ? [يوسف: 18] .

وقال في أنس المحاضرة: خرج بنو يعقوب عليه السلام إلى الصحراء فأمسكوا ذئباً فشدوا وثاقه، وأتو به إلى أبيهم يعقوب، فقالوا: يا أبانا هذا الذي أكل أخانا، قال: حلوا ثاقة، وقال له يعقوب عليه السلام: أنت أكلت حبيبي يوسف؟ فقال: يا نبي الله ألست تعلم أنه محرم علينا لحوم الأنبياء، قال: صدقت، فمن أين جئت؟ قال من مصر، قال: والي أين تريد؟ قال: إلى خراسان، قال: في ماذا؟ قال في زيارة أخ لي، قال: وما بلغك فيه؟ قال: حدثني أبي عن جدي عن الأنبياء السالفين: أنه من زار أخاه له في الله كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة فقال يعقوب لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن الذئب، فقال: معاذ الله أن أملي عليهم لأنهم كذبوا علي وقالوا ما لم أفعل.

وكذلك للمؤمن ثلاثة أقمصه قميص الخدمة، قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا

ص: 476

زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ? [الأعراف: 31] ، وقميص العفة، قوله تعالى: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ? [الأعراف: 26]، وقميص الكرامة قوله تعالى: ?وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ? [الكهف: 31] .

وفي كل قميص يعطى فائدة، ففي قميص الخدمة يناجي مولاه، وفي قميص العفة يغلب شهوته وهواه، وفي قميص الكرامة يرى من جل عن الأشباه.

وأما قميص الشهادة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ? [يوسف: 27] .

وأما قميص البشارة فقد أشار الله إليه بقوله: ?اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً? [يوسف: 93] .

وهذا القميص كان قميص إبراهيم الذي لبسه حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجب وهو من الجنة أمره جبريل بإرساله، وقال: إن فيه ريحك ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي.

ففي كل واحد منها فائدة، ففي قميص العلامة عوفي من البلوى، وفي قميص الشهادة برئ من الدعوى، وفي قميص البشارة جميع بينه وبين من يهوى.

وفي الحديث دليل على فضل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغزارة دينه ونفعه للمسلمين حياً ومياً، فإن القميص يؤول بالدين كما أوله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقمصة: قميص العطية حين سألته المرأة فأعطاها قميصاً لم يكن له سواه، فجاءت الصلاة فلم يجد ما يلبسه ويخرج به إلى الصلاة فأنزل الله تعالى: ?وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً? [الإسراء: 29] .

وقميص الهدية: وذلك أن عبد الله بن أبي سلوك كان رأس المنافقين فلما جاءه الموت قال: سيروا إلى محمد وأرغبوه أن يعطيني قميصه، فادفنوه معي في قبري، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«خذوه إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً» فلما رأى ذلك المنافقون قالوا: إذا كان سيدنا يتبرك بثوبه فنحن أولى أن نتبرك بنفسه، فأخلص في ذلك اليوم ألف منافق.

وقميص المعجزة وهو أن ما لبس ثوباً طال أو قصر إلا وكأنه خيط عليه، فإن كان طويلاً قصر حتى ساوى كعبيه وإن كان قصيراً طال حتى ساواها.

وفي كل قميص ذكر فائدة: ففي قميص العطية وقع التعليم، وفي قميص الهدية بأن قدره العظيم، وفي قميص المعجزة ظهر الحق لمن كان في قفر الشك يهيم.

وجره يؤول ببقايا آثاره الجميلة الحسنة بعد موته ليقتدى به وبسنته، ويتخلق بأخلاقه.

وقد نفع عمر رضي الله عنه الناس في حياته ومماته:

ص: 477

أما في حياته فقد تواتر نفعه للناس حيث كان يقضي حوائج المحتاج من الأرامل واليتامى وغيرهم، ويحرس بيوت الناس ليلاً، فقد نقل أنه خرج في ليلة مظلمة فدخل بيتاً ثم خرج منه، ودخل بيتاً آخر وطلحة ينظره، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فرأى عجوزاً عمياء مقعده فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك في كل ليلة؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، ويأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذي أي: البول والغائط.

وكان رضي الله عنه مع هذا الدين الغزير أحياناً يعاتب نفسه ويبكي حتى يبل لحيته، وربما يغشى عليه.

قال أنس رضي الله عنه سمعت عمر رضي الله عنه وبيني وبينه حائط يقول: والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذنك.

وكان أحياناً يضرب ظهره بدرته وأخذ يوماً تبنة من الأرض وقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليت أمي لم تلدني ياليتني كنت نسياً منسياً.

وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، جاءه أعرابي له بنات فأنشده

يا عمر الخير رقيت لجنة

اكسوا بناتي وأمهن

وكن لنا من الزمان جُنة

أقسم بالله لتفعلنه

فلم يرتج لترققه ولا راعه قسمه عليه بل قال: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً يا أبا حفص لأذهبنه، فقال: وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال: يكون حالي لتسألنه، وموقف المسئول تنتهينه إما لي نار وإما إلى الجنة، فلما ذكر له الجنة والنار والموقف بين يدي الله تعالى بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذاك اليوم لا لشعره، أما والله لا أملك غيره.

فانظر ما حصل عنده من رقة القلب لم ينعم عليه إلا بما هو من خاصة ماله، ولم يجد غير قميصه، وقد كانت خزائن الأرض مملوءة بين يديه ذهباً، ولم يعطه من بيت مال المسلمين، وإن كان الأعرابي فقيراً مستحقاً، لأنه لما استنزله بشعره ولم يكن العطاء لمصلحة المسلمين فلم يعطه من مالهم.

وأما نفعه للناس بعد موته: فقد أفاد بعض العلماء أنه لما مات رضي الله عنه جلس علي بن أبي طالب على قبره يسمع بماذا يجب الملكين، قال: وكان الله أعطى علياً علم البرزخ، فلما دخل الملكان عليه ارتعد منهما ثم أجابهما فقالا: نم يا ابن الخطاب، فقال: كيف أنام وقد أصابني منكم هذه الرعدة وقد صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أشهد عليكما الله وملائكته أن لا تدخلا على مؤمن ولا على مؤمنة إلا في أحسن صورة ففعلا، فقال له على بن أبي طالب: نم يا ابن الخطاب فجزاك الله عن المسلمين خيراً، لقد نفعت الناس في حياتك وبعد مماتك.

سؤال: فإن قيل: يلزم من الحديث أن يكون سيدنا عمر أفضل من أبي بكر لأن المراد بالأفضل الأكثر ثواباً، فمن كان دينه أكثر كان ثوابه أكثر، مع أن العلماء أجمعوا على

ص: 478

خلاف ذلك؟

جوابه: لا يلزم ذلك، إذ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، فإنه صلى الله عليه وسلم قسم من عرض عليه في ثلاثة أقسام، قسم عليهم قميص تبلغ الثدي، وقسم عليهم قميص لا تبلغها، وقسم ثالث وهو عمر بن الخطاب عليه قميص يجره.

ويحتمل أن يكون قسم رابع لم يذكره صلى الله عليه وسلم، ويكون أبا بكر رضي الله عنه سلمنا انحصار القسمة، لكن لم يخصص صلى الله عليه وسلم القسم الثالث بعمر، ولم يقصره عليه سلمنا التخصيص به، لكنه معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق التي تواتر القدر المشترك بها، فدليلكم ودليلنا متواتر سلمنا التساوي بين الدليلين، لكن الإجماع منعقد على أفضليته وهو دليل قطعي، وهذا دليل ظني، والظني لا يعارض القطعي.

ومما يدل على تفضيل أبي بكر على عمر وعلى غيره من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته أقامة مقامة في إمامة الصلاة حيث قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (1) واتفق العلماء على أن السنة أن يقدم على القوم أفضلهم علماً وقراءة وخلقاً وورعاً.

وصح في هذا الصحيح أن محمد بن الحنفية قال لأبيه علي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر

الحديث (2) .

* * *

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/240، رقم 646) ، ومسلم في صحيحه (1/316، رقم 420) من حديث أبي موسى.

(2)

انظر حديث محمد بن الحنفية في صحيح البخاري (3/1342، رقم 3468) .

والحديث عند أبو داود في سننه (4/206، رقم 4629) .

ص: 479