الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس التاسع
في الكلام على بقية حديث أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الوحي الرؤيا في النوم
قول عائشة «حتى جاءه الحق (1)
وهو في غار حراء» مرادها بالحق الوحي الكريم.
وقولها «فجاءه الملك» أي: جبريل.
فإن قيل: إن قوله له فجاءه الملك بالفاء التعقبية بعد قوله حتى جاءه الحق يقتضي مجيىء جبريل إليه بعد مجيىء الوحي مع أن جبريل هو النازل بالوحي؟
فالجواب: أن هذه الفاء تسمي بالفاء التفسيرية نحو قوله تعالى ?فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ? [البقرة: 54] إذ قتل النفس التوبة وهنا مجيىء الملك إليه هو
(1) تحدث الحافظ ابن حجر عن اختلاف الرويات في إتيان الملك فقال:
قوله: «حتى جاءه الحق» أي: الأمر الحق، وفي التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته، وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولاً قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام.
وسمي حقاً لأنه وحي من الله تعالى.
وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يري في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل:«يا محمد» فنظر يمينا وشمالاً فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال:«يا محمد، جبريل جبريل» فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئاً، ثم خرج عنهم فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه «اقرأ باسم ربك» ورأي حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف.
وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: «لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين» ، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج.
وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: «لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهي، ومرة في أجياد» وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى.
ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء وأقرأه «اقرأ باسم ربك» ثم انصرف، فبقي متردداً، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمراً عظيماً. انظر: الفتح (1/72) .
عبارة عن مجيىء الوحي بالتفصيلية أيضاً لأن مجيىء الملك.
وقوله «اقرأ» إلى آخر ما سيأتي تفصيل للمجمل الذي هو مجيىء الحق، والمفصل نفس المجمل، ومقصود عائشة أنه وحي المنام، وهو ستة أشهر كما تقدم، لما فرغت نزل عليه جبريل بالوحي في اليقظة، وهو في غار حراء، وكان نزوله عليه يوم الاثنين بعد مضي سبع عشر ليلة خلت من رمضان ورسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وستة أشهر فقال: أول ما نزل عليه جبريل نزل عليه صلى الله عليه وسلم «اقرأ» قال: قلت له: «ما أنا بقارئ» .
قال العلماء: «ما» هنا نافية واسمها «أنا» و «بقارئ» خبرها، والباء زائدة لتأكيد النفي أي: ما أحسن القراءة.
قال ابن الملقن وغيره: وغلط من جعلها استفهاميه لدخول الباء في خبرها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأخذني لما قلت له: ما أنا بقارئ فغطني» أي: ضمني وعصرني «حتى بلغ مني الجهد» أي: الطاقة «ثم أوصلني» أي: أطلقني من العصر «فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة ثم أرسلني» .
والحكمة في عصر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ليشغله عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا ولبيالغ في أمره بإحضار قلبه لما يقول له.
قيل: والحكمة في ذلك أن جبريل أراد بالعصر أن يوقفه على أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وكان كلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه بالعصر لينبهه على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه.
والحكمة في عصره ثلاثاً مبالغة في التنبيه على ذلك.
وقيل: الحكمة في فعل ذلك ثلاثاً الإشارة إلى أنه يبتلى بثلاث شدائد ثم يأتي الفرج، ولقي ذلك صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه حصل لهم شدة من الجوع في الشعب حين تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم، وشده أخرى من الخوف والإبعاد بالقتل، وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليهم، ثم كانت العاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.
قال العلماء: في عصر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأن يأمره بإحضار مجامع قلبه، وأن يكرر له ما يعلمه ثلاثاً، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم بكلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه.
وقد ورد في فضل تعليم القرآن وتعلمه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً، فيقرأ صبياً من صبيانهم في الكتاب ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ? [الفاتحة: 2] فيسمع الله عز وجل فيرفع عنهم العذاب أربعين سنة» (2) .
وكذلك الواعظ ينبغي له أن يحتاط في أمر الحاضرين بإحضارهم قلوبهم ليفهموا ما يلقى إليهم، واستنبط القاضي شريح (3) من هذا الحديث أن مؤدب الأطفال لا يزيد على ضرب الصبي على التعلم على ثلاث ضربات، كما عصر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وفي صبر النبي صلى الله عليه وسلم حين عصره جبريل تنبيه على أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لمعلمه وإن كان أصغر منه.
قالوا: العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي.
وقال ابن عباس: ذللت طالباً ففزت مطلوباً.
وقال الإمام علي كرم الله وجهه: من حق المعلم عليك أن تسلم على الناس عامة، وتخصه من دونهم بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولن قال فلان خلافاً لقوله، ولا تساور في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذ كسل، ولا تعرض أي: تشبع من طول صحبته.
قال النووي قدس الله سره: ولا نعلم إلا ممن كملت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهر صيانته، فقد قال السلف الصالحون: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فقال: جبريل غط النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ويقول له: اقرأ وهو يقول: ما أنا بقارئ في المرة الرابعة ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 1، 2، 3] فقوله ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ? معناه: لا تقرأ القرآن بقوتك، ولا بمعرفتك، بل بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5/345، رقم 8385) عن أبي هريرة.
(2)
ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/256) وعزاه إلى الثعلبي وكثير من المفسرين عن حذيفة، ثم قال: حديث موضوع كما قاله الحافظ العراقي وغيره، وقيل: إنه ضعيف.
وذكره البيضاوي في التفسير (1/84) ، وأبو السعود في تفسيره (1/20) .
(3)
هو: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ، وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر، وعمر طويلاً، ومات بالكوفة سنة: 78 هـ.
صارت تكتب بالقلم يعني أنها كانت أمية.
وقوله: ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? فيه إذن وإعلام بأن الإنسان أشرف المخلوقات.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً وهذه صفات الرب سبحانه وتعالى.
وينبني على كون الإنسان أحسن المخلوقات سؤال وهو: ما لو قال شخص لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق هل تطلق زوجته بذلك إن لم تكن أحسن من القمر أم لا؟
قال العلماء: إنها لا تطلق وإن كانت زنجية لقوله تعالى ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? [التين: 4] إذ المراد به إحكام الخلقة وكمال العقل.
وقد وقعت هذه الواقعة في أيام الملك المنصور (1) لموسى بن عيسى الهاشمي كان يحب زوجته حباً شديداً فقال لها: يوماً أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه وقالت: طلقني فإن القمر أحسن مني وبات في ليلة عظيمة، فلما أصبح ذهب إلى دار المنصور فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور حزناً عظيماً إذ طلب المنصور العلماء واستفتاهم في ذلك، فقال جميع من حضر وقع عليه
الطلاق، إلا واحد من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً فقال المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: لا تطلق يا أمير المؤمنين لأن الله تعالى قال: ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? يا أمير المؤمنين الإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى الأمر كما قال الرجل، أقبل على زوجتك، وأرسل المنصور إلى زوجته أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقكي.
وهذا الجواب ينقل عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه هذا إن أريد بالحسن إحكام العقل، وكما أن العقل فإن أريد به الجمال الظاهر أنها إذا كانت قبيحة الشكل تطلق، نبه عليه الأذرعي.
فإن قيل: الإنسان مخلوق من علقه واحدة كما في آية أخرى من نطفة ثم من علقة فكيف قال في هذه الآية ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?؟
فالجواب: أن المراد جنس الإنسان خلق من علق فهو في معنى الجمع.
فإن قيل: أي: مناسبة بين الخلق العلق، والتعليم بالعلم؟
فالجواب: إن الله سبحانه وتعالى نبه لقوله ?الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 4، 5] بعد قوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? على أن أدنى مراتب
(1) المنصور العباسي هو: عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، أبو جعفر، المنصور: ثاني خلفاء بني العباس، هو أول من عني بالعلوم من ملوك العرب، كان عارفاً بالفقه والأدب، مقدماً في الفلسفة والفلك، محباً للعلماء، ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان سنة: 95هـ، وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136هـ، وهو باني مدينة «بغداد» أمر بتخطيطها سنة 145هـ، وجعلها دار ملكه بدلا من «الهاشمية» التي بناها السفاح، ومن آثاره مدينة «المصيصة» و «الرافقة» بالرقة، وزيادة في المسجد الحرام، وفي أيامه شرع العرب يطلبون علوم اليونانيين والفرس، وعمل أول أسطرلاب في الإسلام، صنعه محمد بن إبراهيم الفزاري، وكان بعيداً عن اللهو والعبث، كثير الجد والتفكير، وله تواقيع غاية في البلاغة، وهو والد الخلفاء العباسيين جميعاً، وكان أفحلهم شجاعة وحزماً إلا أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه، توفي ببئر ميمون من أرض مكة محرماً بالحج، ودفن في الحجون بمكة سنة: 158هـ، ومدة خلافته 22 عاماً، يؤخذ عليه قتله لأبي مسلم الخراساني سنة 137هـ، ومعذرته أنه لما ولي الخلافة دعاه إليه، فامتنع في خراسان، فألح في طلبه، فجاءه، فخاف شره، فقتله في المدائن، وكان المنصور أسمر نحيفاً طويل القامة خفيف العارضين معرق الوجه، رحب اللحية يخضب بالسواد، عريض الجبهة، كأن عينيه لسانان ناطقان، تخالطه أبهة الملوك بزي النساك " أمه بربرية تدعى سلامة. وكان نقش خاتمه «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .
الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالماً، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أحسن المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي العلم.
فإن قيل: لأي شيء خص الإنسان بالذكر بقوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? مع أن جميع الحيوانات مخلوقات من علق؟
فالجواب: أنه إنما خصه بالذكر ليبين قدر نعمته عليه فأعلمه أن خلقه من نطفه مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً مميزاً.
وقوله تعالى: ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? قال العلماء: القلم نعمة من الله على عبادة، وهو من أشرف المخلوقات لله، ولذا أقسم به في كتابه العزيز فقال: ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? [القلم: 1] .
والقلم أول ما خلقه الله تعالى في الحديث عن أبي هريرة قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? ثم قال له: اكتب قال: وما اكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة» (1) .
وفي الحديث «من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى
(1) أخرجه الديلمي في الفردوس (1/12، رقم 3) ، والسمعاني في أدب الاملاء والاستملاء (1/158) عن أبي هريرة.
وهو حديث باطل فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (6/269، ترجمة 1753 محمد بن وهب بن عطية الدمشقي) قال ابن عدي بعد أن أخرج الحديث: وهذا بهذا الإسناد باطل منكر، وقال في نهاية الترجمة: ولمحمد بن وهب بن عطية غير حديث منكر ولم أر للمتقدمين فيه كلاما وقد رأيتهم قد تكلموا فيمن هو خير منه.
وترجم له الذهبي في الميزان (6/362، ترجمة 8304) وقال: قال ابن عدي: له غير حديث منكر، وقال أبو القاسم بن عساكر: ذاهب الحديث. وانظر: لسان الميزان (5/419، ترجمة 1379) .
وقد فرق الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (9/446)، بينه وبين رجل آخر في الثقات فقال: «محمد بن وهب بن مسلم القرشي
…
أورد له بن عدي حديثه عن الوليد عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعة
…
فذكر الحافظ الحديث ثم قال: قال بن عدي: هذا باطل، لكن ظن ابن عدي أنه الأول فقال هو: محمد بن وهب بن عطية وليس كما ظن وقد فرق بينهما أبو القاسم بن عساكر فأصاب.
قلت فالضعيف منهما: محمد بن وهب بن مسلم القرشي.
والحديث ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/309) وعزاه إلى الحكيم الترمذي.
يوم القيامة» (1)
ففي هذا الحديث دلالة على أن القلم هو المأمور بالكتابة.
قال ابن عباس: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
قال القرطبي: ويقال خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين فقال: اجر، فقال: يا رب بم أجرى؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ، ووضع الله هذا القلم فوق عرشه.
وهل خلق قلماً واحداً لكتابه المقادير أو أقلاماً سيأتي بيان ذلك في حديث المعراج.
وفي قوله ?عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? بعد قوله ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? تنبيه على أنه كما يحصل التعلم بالقلم يحصل بتعليم الله تعالى بلا واسطة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب حتى تعلم بالقلم.
ومعنى قوله ?اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 3] الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، وينعم على عباده النعم التي تحصى، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمته وارتكابهم المناهي، وتركهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم، فما لكرمه غاية ولا مد.
وفي الحديث دليل على أن أول ما نزل من القرآن ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ?
[العلق:1-5] .
وللعلماء في هذه المسألة أقوال أصحها أن أول ما نزل أوائل السورة ?اقْرَأْ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ?.
وقيل: أول ما أنزل سورة الفاتحة، وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم.
واختلف العلماء في آخر آية نزلت فقيل آية الربا وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا? [البقرة: 278]، وقيل: آية الدين، وقيل: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
…
? إلى آخر السورة [التوبة: 128، 129] ،
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/39) ، والحكيم في نوادر الأصول (2/354) عن علي ابن أبي طالب.
قلت: وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة السابق ورد هذا الخبر على أنه تمام له، كما في رواية السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (1/158) .
والأرجح كما قاله ابن حجر وغيره: إن آخر ما أنزل قوله تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ? [البقرة: 281] لما فيها من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.
وقسم العلماء القرآن باعتبار نزوله إلى مكي ومدني وسفري وحضري وليلي ونهاري، وبين الليل والنهار، وسماوي وأرضي، وإلى ما نزل بين السماء والأرض، وما نزل تحت الأرض، وإلى صيفي وشتائي، وإلى فراشي ونومي.
فأما المكي والمدني فالناس فيه اصطلاحات أشهرها المكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعدها سواء نزل بمكة وبالمدينة أم الفتح أو عام الوداع أم بسفر من الأسفار.
ومن فوائد معرفة القلب الفرق بينهما العلم فيكون ناسخاً أو مخصصاً، قال ابن الحصار: فالمدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتى عشرة سورة، والباقي مكي باتفاق.
وأما الحضري فأمثلته كثيرة.
وأما السفري فقليل بالنسبة إلى الحضري، ومن أمثلته قوله تعالى ?وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ? [محمد: 13] ، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجراً إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فنزلت.
ومن أمثلته أيضاً ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
…
? الآية [الحجرات: 13] نزلت بمكة يوم الفتح لما رقى بلال على ظهر الكعبة وأذن، فقال بعض الناس: هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة.
وأما النهار فهو كثير نزل القرآن نهاراً.
وأما الليلي فهو قليل بالنسبة إلى النهار ومن أمثلته أيضاً ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس في أول الأمر ليلاً حتى نزلت، وخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله، ومن أمثلته أيضاً سورة الأنعام ومريم فإنها نزلت ليلاً.
وأما الذي بين الليل والنهار أي: في وقت الصبح فمن أمثلته آية التيمم في المائدة، وقوله تعالى ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? [آل عمران: 128] .
وأما الأرضي فكثير.
وأما السماوي فمن أمثلته قوله تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ
…
? [البقرة: 285] إلى آخرها نزلت هذه الآية ليلة الإسراء بقاب قوسين لما انتهى إلى سدرة المنتهي.
وأما ما نزل بين السماء والأرض فأربع آيات فقط في الصافات ?ومنا وَمَا مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ
…
? الآيات الثلاث [الصافات: 164 - 166] ، وواحدة في الزخرف ?وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا
…
? الآية [الزخرف: 45] .
وأما ما نزل تحت الأرض هو في الغار فسورة المرسلات كما في الصحيح عن ابن مسعود.
وأما الصيفي والشتائي فمن أمثلتها آية الكلالة قال الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين أحدهما في الشتاء، وهي أول النساء، والأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها.
وأما الفراشي فمن أمثلته ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] ، وآية الثلاثة الذين خلفوا في الأرض (1) .
وأما النومي فمن أمثلته سورة الكوثر فقد روى مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذا غفي إغفأة، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل على آنفاً سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ
…
? إلى آخرها.
ومن القرآن ما أنزل مرتين تعظيماً لشأنه وخوفاً من نسيانه فمن ذلك آية الروح، ومنه قوله تعالى ?وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ? [هود: 114] ، وذكر قوم منهم الفاتحة وسورة سبحان.
وقيل: منه قوله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? [الإخلاص: 1] فإنها نزلت جواباً للمشركين بمكة ونزلت بأهل الكتاب بالمدينة.
ومن القرآن ما نزل آيات مفرقة وهو غالب القرآن ومنه ما نزل جمعاً أي: السورة بكمالها من غير تفريق آياتها كسورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين نزلتا معاً والمرسلات والأنعام من القرآن ما نزل مفرداً على يد جبريل فقط.
ومنه ما نزل مشيعاً أي: معه ملائكة كثيرون كسورة الأنعام نزلت ومعها سبعون
(1) وهي قوله تعالى في سورة التوبة الآية (118) : ?وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?.
ألف ملك كما ورد عن أنس مرفوعاً بسند ضعيف أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب قال: «نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس والأرض ترتج» (1) .
وكذلك سورة الكهف سبعون ألف ملك.
ومن القرآن ما نزل على بعض الأنبياء كـ ?سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ? [الأعلى: 1] .
فائدة: قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58] نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في جوف الكعبة ولم ينزل في جوف الكعبة آية سواها، كما نبه على ذلك الدميري في أول كتاب الوديعة من شرح المنهاج.
ثم قالت عائشة: «فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم» بالآيات التي علمه جبريل وهي ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
…
? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 1 - 5] قاصداً بيت خديجة يرجف فؤاده أي: يخفق ويضرب فالرجف من شدة الحركة، والفؤاد هو القلب، وقيل: إنه عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب.
فإن قيل: أين علمت خديجة برجفان فؤاده؟
فالجواب: إما إنها رأته حقيقة، وإما إنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال، وإما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك.
«فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني» أي: دثروني، وجاء في رواية أخرى:«دثروني وصبوا على ماءاً بارداً» (2) وقال ذلك صلى الله عليه وسلم لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط، ولولا ما جبل صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والقوة ما استطاع على تلقي ذلك لأن الأمر جليل.
«فزملوه حتى ذهب عنه الروع» أي: الفزع.
«فقال لخديجة وأخبرها الخبر» أي: خبر ما وقع له من مجيىء الملك وغطه وقوله له
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/470، رقم 2433) .
ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/20) قال الهثيمي: رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات.
وأخرجه أيضاً: معجم شيوخ (2/552) .
(2)
هذه الرواية عند البخاري أيضاً في الصحيح (4/1874، رقم 4638) من حديث جابر.
وأيضاً: عند أحمد في مسنده (3/392، رقم 15251) ، وابن حبان في صحيحه (1/220، رقم 34) .
اقرأ أو غير ذلك.
«لقد خشيت على نفسي» أي: خفت عليها، وهو جواب قسم محذوف أي: والله لقد خشيت، وهو مقول قال، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبرها بخبر ما وقع مع جبريل، لقد خشيت على نفسي.
قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر: اختلف العلماء في مراده صلى الله عليه وسلم بالخشية المذكورة على اثنى عشر قولاً:
فقيل: خشي أن يحصل له عند رؤية جبريل وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة.
وقيل: خشي من العجز على أعباء النبوة.
وقيل: خشي أن يعجز عن النظر إلى الملك من الرعب.
وقيل: خشي من عدم الصبر على أذي قومه.
وقيل: خشي من أن يقتلوه.
وقيل: خشي من مفارقة الوطن وقيل خشي من تكذيبهم إياه.
وقيل: خشي من تعييرهم إياه.
والراجح: كما قاله ابن حجر من الأقوال أنه خشي من الموت من شدة الرعب أو من المرض أو دوام المرض (1) .
فائدة: يستفاد من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر خديجة إلا بعد أن ذهب عنه الفزع أن العالم في حال خوفه ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه، وكذلك القاضي ينبغي أن لا يقض في حال فزعه، ولا يرفع إليه أمر في تلك الحال حتى أن الإمام مالك رضي الله عنه قال: إن الخائف المذعور لا يصح بيعه ولا إقراره، ولا غيره.
قال: «لقد خشيت على نفسي قالت له: خديجة كلا والله ما يحزنك الله أبداً» معنى «كلا» هنا النفي والإبعاد أي: لا والله ما يخزيك الله أبداً أي: ما يفضحك ويهينك، ورواه مسلم «يحزنك» من الحزن خلاف السرور، ويجوز على هذا فتح الياء وضمها فيقال «يَحزيك ويُحزيك» ، فإنه جاء:«أحزنه وحزنه» لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع قال تعالى ?لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ? [الأنبياء: 103] من حزن ?قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ? [يوسف: 13] من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء.
فائدة: الفرق بين الهم الحزن أن الحزن يكون على أمر قد وقع، كأن مات له ميت
(1) انظر الفتح (1/74) .
فيحزن عليه، واما الهم فإنه يكون على أمر مستقل متوقع الوقوع ولم يقع.
ثم قالت له خديجة: «إنك لتصل الرحم» أي: لتحسن إلى أقاربك، فيه دلالة على استجاب صلة الرحم، وهو الإحسان إلى الأقارب، فتارة تكون صلة الرحم بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيادة، وتارة بالسلام، وتارة بغير ذلك.
«وتحمل الكل» أي: الثقل، والمعنى: أنك تعين الضعيف، وترفع ما عليه من الثقل.
«وتكسب المعدوم» الرواية الفصيحة (1) الكثيرة المشهوه «تكسب» بفتح الياء واختلف في معناه على خمسة أقوال:
فقيل: معناها وتعين المحتاج، فإن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب كالمعدوم البت، أي: تعين هذا الذي كالمعدوم لعجزه فتعينه، وقيل في معناها غير ذلك.
وروي «تكسب» بضم أوله بمعنى تكسب غيرك المال المعدوم، أي: تعطيه إياه فحذف أول مفعوله، وقيل: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق العلوم وغير ذلك.
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/75) : في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.
قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجوداً رغبت أنت أن تستفيد رجلاً عاجزاً فتعاونه.
وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه.
قال أعرابي يمدح إنساناً: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب «كسوب كذا المعدوم من كسب واحد» أي: مما يكسبه وحده، (انتهى) .
ولغير الكشميهني «وتكسب» بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح.
قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالاً وأكسبته بمعنى.
وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظاً في التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.
«وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (1) أي: على حوادث الحق، ومعنى كلام خديجة: أنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله فيك من مكارم الأخلاق وجميل الصفات، فخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء، والمكارم سبب لدفع المكارة، وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة نظراً.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب» (2) فهو محمول على المدح بباطل أو يؤديه باطل.
وفيه دليل على أنه ينبغي لمن حضر عند من حصل له مخافة من شيء أن يذكر له أسباب السلامة، وأن يذكر ما فيه من الفضائل كما فعلت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه أبلغ دليل على كمال خديجة وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظمتها، جمعت رضي الله عنها جميع أنواع المكارم وأمهاتها.
ويدل على كمال عقلها وقوة معرفتها ما ذكره ابن إسحاق أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم «أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به فجاءه جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضى الله عنها: هذا جبريل عليه السلام قد جاءني، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : وقولها: «وتعين على نوائب الحق» هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم.
وفي رواية البخاري في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: «وتصدق الحديث» وهي من أشرف الخصال.
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة «وتؤدي الأمانة» .
وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/124، رقم 339) ، ومسلم في صحيحه (4/2297، رقم 3002) ، والترمذي في سننه (4/599، رقم 2393) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه (2/1232، رقم 3742) ، وأحمد في مسنده (6/5، رقم 23875) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/227، رقم 295) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/239، رقم 565) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/297، رقم 26259) ، وفي مسند الشاميين (1/274، رقم 479) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/413، رقم 711) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/242، رقم 20926) جميعاُ عن المقداد بن عمرو.
واقعد على فخذي الأيمن فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت: يا ابن عم أثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان» (1) .
وجاء في رواية أخرى: أنه لما كمل من العمر أربعون سنة قال لخديجة دعيني أتحنث، فكانت تصنع له الكعك والزبيب ثم يخرج إلى أجياد الأصغر، وقيل إلى غار حراء، فخرج يوماً فهتف به جبريل عليه السلام ولم يبد له، فغشي عليه، فجاء المشركون إليها وقالوا: دونك يا خديجة قد تزوجت مجنوناً فضمته إلى صدرها ووضعت رأسه في حجرها، وقبلته بين عينيه وقالت: تزوجت نبياً مرسلاً، فلما أفاق قالت: بأبي أنت وأمي ما الذي أصابك هل رأيت شيئاً أنكرته؟ فقال: ما أصابتي إلا أني سمعت صوتاً أفزعني، ففرحت خديجة واستبشرت ثم قالت: من الغد فعد إلى الموضع الذي كنت فيه بالأمس فإن يك ملكاً فسيرجع لك، وإن يك شيطان فليس براجع، فلما كان اليوم الآخر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموضع، فهتف جبريل ولم يبد له، فغشي عليه فحملوه إليها قال: وفرحت قريش بذلك وقالوا: يتخطبه الشيطان، فحملوه إليها وقالوا مثل القول الأول، فردت عليهم مثل القول الأول، فلما أفاق سألته وقالت: بأبي وأمي رأيت اليوم شيئاً فقص عليها القصة ففرحت وقالت: إذا كان من الغد فارجع فرجع من الغد إلى موضعه فبدا له جبريل في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسولي إلى الثقلين الإنس والجن، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله، ثم قال: ألا تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا جبريل وأنت محمد، ولا نبي بعدك، وعرج جبريل إلى السماء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجياد الأصغر وما مر بحجر أو شجر إلا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله، حتى ذهب إلى خديجة وأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها من الرسالة، فغشي عليها من الفرح، فنضح عليها الماء حتى أفاقت فآمنت بالله ورسوله وانشدوا في المعنى:
رموا بالجنون نبي الورى
…
وتاج الكرام ومزن الأوام
وقالوا خديجة هذا الذي
…
ملأت به قلبك المستهام
(1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (1/35) ، والطبري فى التاريخ (1/533) كلاهما من طريق ابن إسحاق.
وانظر: السيرة لابن هشام (2/75) .
أصابته من بيننا غشية
…
فها هو ما إن يبين الكلام
فقالت لهم أنتم بالذي
…
تقولون أحرى برب الأنام
فخلوا حبيبي وسيروا فما
…
يؤثر فيه عندي الملام
فضمته شوقاً إلى صدرها
…
وقالت محمد ماذا الهيام
فقال لها جاءني آنفاً
…
من الله جبريل يقرئ السلام
علي ويخبرني أنني
…
رسول الإله لهذا الأنام
ألا فأسلمي تسلمي من لظى
…
فإنك أولى بهذا المقام
فقالت له إنني قد شهدت
…
بأن الإله قديم الدوام
وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه أو تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها، فثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس.
جاء في رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجت أي: من الغار حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل فرفعت رأسي فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فلا أنظر في ناحية إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما تقدم أمامي ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ثم انصرف عني وانصرفت إلى أهلي، فقالت خديجة: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك، فحدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة (1) .
وقولها «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة (2) » .
(1) هذه رواية ابن إسحاق فى السيرة (2/100، رقم 140) .
وأخرجه الطبري فى التاريخ (1/532) ، وابن عساكر فى التاريخ (63/12) ، والفاكهي فى أخبار مكة (4/86، رقم 2420) جميعاً من طريق ابن إسحاق.
وأورده ابن كثير فى البداية والنهاية (3/11) بقوله: «وقال ابن اسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي وكان داعية عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته
…
فذكره» .
وانظر السيرة النبوية (2/69) ، والسيرة الحلبية (1/385) ، والإكتفاء للكلاعى (1/202) .
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فانطلقت به» أي مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء. وقوله:«ابن عم خديجة» هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: «تنصر» أي: صار نصرانياً، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
إنما كان ورقة ابن عم خديجة لأنها: خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو: ورقة بن نوفل بن أسد، وورقة كان من علماء قريش وشعرائهم، وكان يدعى القس، وكان يعرف اللسان العربي والعبراني أي: صار نصرانياً وترك عبادة الأوثان، وفارق طريق الجاهلية.
والجاهلية: المدة التي قبل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانوا عليه من فاحش الجهالات، وقيل: هو زمن من الفترة مطلقاً.
«وكان أي: ورقة يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب» هكذا وقع هنا ووقع في كتاب «التصبير» وفي مسلم (1) : «وكان يكتب الكتاب العربي بالعربية» (2) .
قال النووي: وحاصلة أنه تمكن من معرفة دين النصارى وكتابتهم، وتصرف حتى
(1) انظر صحيح مسلم (1/139، رقم 160) .
وحديث بدء الوحي وما كان من خديجة وورقة ابن عمها عند أبو عوانة في مسنده (1/102، رقم 328) ، وابن منده فى الإيمان (2/689، رقم 681) ، والبيهقي فى السنن الكبرى (9/5، رقم 17499) ، والدولابي في الذرية الطاهرة (ص 33، رقم 22) .
وانظر: السيرة لابن هشام (2/217) .
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية» .
وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين.
ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسراً، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها:«أناجيلها صدورها» .
صار يكتب الإنجيل إن شاء بالعربية، وإن شاء بالعبرانية.
قال ابن الملقن: فيه دليل على جواز ذكر العاهة بالشخص ولا يكون ذلك غيبة.
«فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك» وفي رواية «يا عم» (1) .
قال الكرماني: وكلاهما صحيح فإن ورقه كان ابن عم خديجة حقيقة كما في رواية البخاري، وسمته عمها كما في رواية مسلم مجازاً للاحترام، وهذا عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بقوله له يا عم احتراماً له ورفعاً لمرتبته.
وقول خديجة لورقة «اسمع من ابن أخيك» يقضي أن ورقة كان عماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس من أعمامه لكن أولو ذلك بأنها جعلته عماً له صلى الله عليه وسلم احتراماً له واستعطافاً على سبيل المجاز، وقيل غير ذلك.
«فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس» اتفق على أن جبريل يسمي الناموس، وعلى أنه المراد في هذا الحديث، ومعنى الناموس في اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر، سمي جبريل بذلك لأنه تعالى خصه بالغيب والوحي الذي يطلع عليه غيره، وإنما قال ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله موسى، ولم يقل على عيسى مع أنه الأقرب وورقة قد تنصر وكتب الإنجيل، لأن موسى متفق عليه على رسالته بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته، أو لأن النصارى يتبعون أحكام التوارة
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/77) : قولها: «يا ابن عم» هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم «يا عم» وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحاً لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة، وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه.
وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمع من ابن أخيك» لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.
أو قالته على سبيل التوقير لسنه، وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة:«اسمع من ابن أخيك» أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم.
قوله: «ماذا ترى؟» فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى.
ويرجعون إليها (1) .
ثم قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: «ياليتني فيها» أي: في أيام نبوتك أو دعوتك أو دولتك «جذعاً» يعني شاباً فتياً قوياً حتى أبالغ في نصرتك، ويكون لي كفاية تامة لذلك.
وها هنا سؤالان:
أحدهما: فإن قيل: كيف أدخل حرف النداء في «يا ليتني» على حرف التمني، وحرف النداء من خواص الاسم، ويأتي السؤال في قوله تعالى ?يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا? [مريم: 23] .
وأجيب عنه بجوابين
أحدهما: أنه محمول على حذف المنادى تقديره: يا محمد ليتني كنت فيها حياً وضعفه ابن مالك بأن القائل قد يكون وحده لا يكون معه منادي ثابت، ولا محذوف كما في الآية.
ثانيهما: أن «يا» حرف تنبيه كـ «ألا» في قول من قال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة.
(1) فصل القول ابن حجر في هذه المسألة فقال: وقوله: «على موسى» ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانياً، لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى.
كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقاً للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيراً من اليهود ينكرون نبوته.
وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى.
والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف، نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولاً أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال:«لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم» فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم. انظر: الفتح (1/78) .
السؤال الثاني: فإن قيل: كيف وقع «جذعاً» هنا منصوباً وليت عملها تنصب الاسم وترفع الخبر، وجذعاً خبرها؟
أجيب عنه بأجوبة:
الأول: أنه منصوب بليت بناء على نصبها الجزئين كما في قول الشاعر: «يا ليت أيام الصبا» وهو قول الكسائي.
والثاني: أنه منصوب على الحال وخبر «ليت» فيها، وهذا القول للقاضي عياض والسهيلي، وقال النووي: أنه الصحيح الذي اختاره المحققون، وقيل: محذوف تقديره: يا ليتني فيها أو موجوداً في حال فتوة.
الثالث: أنه منصوب على أنه خبر كان مقدر أي: ليتني كنت فيها جزعاً، يؤيده قوله بعده:«ليتني أكون حياً» قاله الخطابي (1) ، ورد بأن كان الناقصة إنما يطرد حذفها بعد إن ولو.
الرابع: ليت أتمنى فنصب الجزئين قاله الفراء، ورد بأنه راجع للأول.
ثم قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم «ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك» استعملت «إذ» هنا موضع «إذا» للاستقبال، من باب تنزيل المستقبل المقطوع بوقوعه منزلة الماضي الواقع (2) .
(1) هو: حمد بن محمد بن إبراهيم ابن الخطاب البستي، أبو سليمان، فقيه محدث، من أهل بست، من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب له: معالم السنن شرخ فيه سنن أبي داود وبيان إعجاز القرآن، وإصلاح غلط المحدثين، وغريب الحديث، وشرح البخاري في كتاب أسماه: تفسير أحاديث الجامع الصحيح للبخاري، وله شعر أورد منه الثعالبي في اليتيمة نتفاً جيده، وكان صديقاً له، توفي في بست في رباط على شاطئ هيرمند سنة: 388هـ.
(2)
في هذا المقام لمحة لغوية لطيفة أوردها ابن حجر في الفتح (1/79) فقال: قوله: «إذ يخرجك» قال ابن مالك: فيه استعمال «إذ» في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: ?وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ? [مريم: 39] هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد.
وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير «حين يخرجك قومك» وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم موسى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقاً لوقوعه أو استحضاراً للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال.
وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شاباً، هو مستحيل عادة.
ويظهر لي أن التمني ليس مقصوداً على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
فلما قال ذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو مخرجي هم؟» هذا استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات، أنفسنا له الفداء صلى الله عليه وسلم.
فلما قال: «أو مخرجي هم (1) ؟ قال له ورقة: نعم لم يأت رجل قط مثل ما جئت به إلا عودي (2) » يعني: أن أهل الحق لا يخلون من أهل الباطل يعادونهم ولله در القائل:
إن العرانين تلقاها محسدة ......ولا ترى للئام الناس حساداً
«وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أي: إن بقيت إلى يوم انتشار نبوتك أو يوم يخرجك قومك أنصرك نصراً قوياً بليغاً.
«ثم لم ينشب ورقة» أي: لم يلبث (3) .
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «أو مخرجي هم» بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج.
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «إلا عودي» وفي رواية يونس «إلا أوذي» فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
(3)
قال ابن حجر في الفتح (1/80) : قوله: «ثم لم ينشب» بفتح الشين المعجمة أي: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات.
وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.
فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكراً بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع.
وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك.
«أن توفى وفتر الوحي» أي: احتبس بعد تتابعه في النزول، وسنذكره في المجلس الآتي ببيان مدة الفترة.
فائدة: قال الكرماني: فإن قلت: ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه؟
قلت: لا شك أنه كان مؤمناً بعيسى، وأما الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا، ولئن ثبت أنه كان منسوخاً في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق، وقد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه والله اعلم.
وقال البرماوي: علم من هذا أي: من قوله: «يا ليتني فيها جذعاً» إلى قوله: «وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أن ورقة آمن، لتصديقه رساله بنبينا صلى الله عليه وسلم بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال كما قاله البلقيني، خلافاً لما قاله العراقي في سيرته من أنه ثاني من أسلم حيث قال:
فهو الذي آمن بعد ثانياً
…
وكان براً صادقاً مواتياً
ومنع بعضهم من إيمانه وقال: إنه أدرك نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لا رسالته، وهذا مردود في كتب السير من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضر عنده قال له: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل موسى، وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك.
فإن هذا يدل على إيمانه بعد رسالته، ويدل عليه أيضاً ما في المستدرك الحاكم «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين» (1) .
وفي حديث آخر «رأيته وعليه حلة خضراء يدخل في الجنة» (2) .
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه، ومن قوله كما قاله الجوزي رحمه لله تعالى:
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/666، رقم 4211) عن عائشة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه أيضاً: الديلمي في الفردوس (5/13، رقم 7297) .
وأخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (9/416) قال الهيثمي: رواه البزار متصلا ومرسلا وزاد في المرسل: «كان بين أخي ورقة وبين رجل كلام فوقع الرجل في ورقة ليغضبه
…
» والباقي بنحوه ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح.
وأورده الحافظ في فتح الباري (8/720) وسكت عنه.
(2)
لم نقف على هذه الرواية.
سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به
…
وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
…
لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
…
يبقي الإله يودي المال والولد
أين الملوك التي كانت لعزتها
…
من كل أوب إليها وافد يفد (1)
وأنشد أيضاً حين أتته خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم:
فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي
…
حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما
…
من الله وحي يشرح الصدر منزل
قال ابن الملقن وغيره: اشتمل هذا الحديث على درر وفوائد:
منها: أن الدراية منه صلى الله عليه وسلم لا بسبب، لأنه صلى الله عليه وسلم جبل على الخير ابتداء من غير أن يكون معه من يحضره عليه، فحبب إليه الخلوة لأنها عبادة.
ومنها: أن التبتل الكلي والانقطاع الدائم ليس من السنة، فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقطع بالكلية بل في شهر رمضان، ثم يرجع إلى أهله.
ومنها: أن العبادة لا تكون على إعطاء الحقوق الواجبة وتوقيتها، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يرجع إلى أهله لإعطاء حقهم، فكذا غيره من الحقوق.
ومنها: أن الرجل إذا كان صالحاً لنفسه تابعاً للسنة، يرجو أن الله يؤنسه الله بالمرائي الحميدة، إذا كان في زمان مخالفة وبدع.
ومنها: أن البداية ليست كالنهاية لأنه صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ في نبوته بالرؤيا ثم ترقى حتى جاءه الملك يقظة، ثم ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدني كذلك الاتباع يترقون في مقام الولايات ما عدا مقام النبوة حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا فمن نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ماهو أعلى منه، ويشهد لذلك ما حكي عن بعضهم أنه ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فنودي: هنا سُري بذات محمد السنية حيث سَرى سيرك، ولا يصل ولي أن يعرج بروحه وجسده في حال اليقظة إلى السماء، ومن ادعي ذلك فهو زنديق كافر يقتل.
ومنها: أن فيه دليلاً على أن المربي أفضل من غيره.
ومنها: أنه يدل على أن الأولى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، ويدل على أن
(1) أورد هذه الأبيات لورقة الكلاعي في الإكتفاء (1/194) ، والسهيلي في الروض الأنف (1/330) ، والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/298) .
الخلوة عون الإنسان على تعبده وصلاحه.
ومنها: أن فيه دلالة على مشروعيه الزاد لدخول الخلوة إذ يحصل بسببه إظهار وصف العبودية، ويحصل بتركه العجب والادعاء، ولهذا كان بعض أهل الطريق إذا دخل لخلوته أخذ رغيفاً وألقاها تحت وسادته وواصل أياماً.
حكى الكمال الدميري في «المهر» من حياة الحيوان عن أبي عبد الله محمد بن حسان البسري أنه كان إذا جاء رمضان دخل بيتاً وقال لامرأته: غلقي على الباب وألقي على كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب، ودخلت فوجدت الثلاتين رغيفاً في زاوية البيت، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام رضي الله عنه.
وحكي من كراماته أنه كان في غزوة في فلاة من الأرض، فمات مهرة الذي كان يركبه فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر فلما وصل بيته أخذ السرج عنه فسقط ميتاً، وهو منسوب إلى بصرى قرية الشام فأبدلت الصاد سينا.
وفي اتخاذ الزاد في الخلوة فائدة أخرى وهي قطع تشوف النفس وقلقها اتخاذه لينافي التوكل فقد اتخذه سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن فيه دليلاً على أن الإنسان إذا خرج لتعبده أن يعلم أهله لأنه معرض للآفات.
ومنها: أن فيه دلالة وإشارة إلى التسلي والصبر عند الحوادث، والوعد بالنصر كما في خلقه من علقه ثم طوره وإخرجه إلى الوجود.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز تأديب المعلم للمتعلم، وأن كتاب الله لا يؤخذ بقوة لأن جبريل ضمه عليه الصلاة والسلام إليه لتلقي ما يلقى عليه من القرآن بقوة، قال الله تعالى ليحيى ?يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ? [مريم: 12] .
ومنها: أن فيه دلالة لما يقول الصوفية من أن التحلي لا يكون إلا بعد التخلي فيتخلى أولاً عن القبائح والرذائل، ثم يتحلى بالخصال الحميدة.
وفيه دلالة على أن التحلي قسمان: مكتسب، وفيض من الرب جل جلاله، وقد جمعا له عليه الصلاة والسلام بالتحنث والغط، وقد يجتمعان لأفراد من أمته وقد ينفرد بعض بالكسب وبعض بالفيض، كالفضيل بن عياض وابن أدهم وكثيراً ما هم.
ومنها: أنه يدل على أن الفكر أفضل الأعمال ولهذا ورد «تفكر ساعة خير من
عبادة سنة» (1) ، وفي رواية «من عبادة الدهر» لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه.
ومنها: أن فيه دلالة على أن الإنسان إذا أصابه هم ينبغي له أن يحدث بذلك أهله، ومن يعتقد من أصحابه إذا كانوا أصحاب دين ونظر، وأن الإنسان إذا وقع له واقع يسأل أهل العلم والنُهى، كما عرضت خديجة ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم على ورقة.
ومنها: أن فيه دلاله على أنه ينبغي للإنسان أن يتمنى الخير لنفسه كما تمنى ورقة أن يكون جزعاً في أيام رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث فوائد كثيرة غير ذلك (2) .
(1) أورده بهذا اللفظ علي القاري في المصنوع (1/82، رقم 94) وقال ليس بحديث إنما هو من كلام السري السقطي رحمه الله تعالى، وكذا قال العجلوني في كشف الخفاء (1/370) فقال: في لفظ «ستين سنة» عن ابن عباس، وذكره الفاكهاني بلفظ:«فكر ساعة» وقال: إنه من كلام سري السقطي.
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/80) : «فائدة» : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلي هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول «اقرأ» و «يا أيها المدثر» عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفي ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم.
وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً.