الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس السابع عشر
في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وستون شعبة» وفيه ترجمة لأبي هريرة رضي الله عنه مع فوائد ولطائف
الحمد لله الذي نور قلوب العارفين بضياء الإلهام، وأيقظ أسرار القاصدين فلاح لهم الأعلام، وشغل أسماعهم بلذة خطابة عن سماع الملام، واستنهض عزائمهم فساروا في جنح الظلام، حاديهم الوجد ودليلهم القصد وسائقهم الغرام، شمروا حتى وصلوا وطلبوا حتى حصلوا ووقفوا حتى قبلوا، وأهل الغفلة نيام، ليس المقبول كالمطرود، ولا المحبوب كالمردود، ولا الوصال كالصدود، ولا الخلي المستهام، أفلا تستحي ممن وجدك وأحياك وعرفك وهداك وأيدك وولاك وخاطبك وناداك ووعدك بشرف المقام، أحمده على ما ألهم وأنعم وأكرم وأبرم من الأحكام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له إله انتظمت أفعاله بحسن الإتقان والإحكام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقام به أركان الإسلام، وأبطل به الأنصاب والأزلام، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه هداة الأنام، صلاة دائمين باقية على مر الأيام.
قَالَ البُخَارِي:
باب أُمُورِ الإِيمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ? لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ?. وَقَوْلِهِ ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? الآيَةَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» .
قوله «باب أمور الإيمان» (1) الإضافة فيه بيانية أي: الأمور التي في الإيمان لأن
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/119) : قوله: «باب أمور الإيمان» ، وللكشميهني «أمر الإيمان» بالإفراد على إرادة الجنس، والمراد بيان الأمور التي هي الإيمان والأمور التي للإيمان.
الأعمال والأقوال هي الإيمان عنده، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى اللام أي: الأمور التي للإيمان في تحقق حقيقته واكتمال ذاته.
وساق البخاري هذه الترجمة للدلالة على إطلاق اسم الإيمان على الأعمال، وقصد به الرد على المرجئة القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل فلا تضر المعصية مع الإيمان.
فائدة: للعلماء مذاهب في المعصية مع الإيمان:
الأول: مذهب المرجئة يقولون: إن المعصية لا تضر مع الإيمان ولا يستحق صاحبها العذاب.
الثاني: مذهب المعتزلة يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر فيثبتونه المنزلة بين المنزلتين، ويقولون في مثله: فاسق مخلد في النار.
الثالث: مذهب الخوارج يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة مخلد، بل ومرتكب الصغيرة أيضاً كافر يخلد في النار، ومذهبهم كمذهب المعتزلة مبني على أن الأعمال ركن من حقيقة الإيمان.
والخوارج سبع فرق أولهم الذين خرجوا على علي بن طالب وكفروه.
الرابع: مذهب الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق.
الخامس: مذهب أهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة لا يكفر بها بل هو باق على إيمانه ولا يخلد في النار إن عذب، ولابد من دخوله الجنة هذا هو المذهب الحق، فالمعصية عند أهل السنة لا تضر في أصل الإيمان في كماله فيقال: الشارب الخمر مثلاً عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وعند المعتزلة يقال: إنه فاسق ولا مؤمن ولا كافر، وعند الخوارج كافر، وعند الحسن البصري منافق.
واستدل البخاري رضي الله عنه على أن الإيمان يطلق على الأعمال يأتي من كتاب الله تعالى حيث قال «وقول الله عز وجل ?لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
…
? الآية، وتمام الآية الشريفة ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ? [البقرة: 177] .
وفي قوله: ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ? مضاف مقدر، إما في البر تقديره ولكن صاحب البر من آمن، وإما من تقديره لكن البر من آمن ليصبح المعنى.
ووجه الاستدلال بالآية: أنها حصرت المتقين على أصحاب هذه الصفات والأعمال والمراد: المتقون من الشرك وهم المؤمنون الكاملون.
وقوله عز وجل: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ
…
? الآية، وتمام هذه الآية الشريفة:
?الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ?.
أفلح: فعل لازم بمعنى دخل في الفلاح، قال الكرماني: فعلم منها أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه الأعمال المذكورة.
قال ابن حجر: وكأن المؤلف أشار إلى مكان عدد الشعب من هاتين الآيتين (1) .
«حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح، عن أبي هريرة» قال: اختلف العلماء في اسم أبي هريرة واسم أبيه على نحو ثلاثين قولاً أصحها عند أكثر العلماء: عبد الرحمن بن صخر.
وسبب الاختلاف في ذلك أنه قتل شخصاً في الجاهلية وهرب، وصار كلما دخل
(1) وللحافظ كلام طيب في الفتح (1/119) عن هاتين الآيتين فقد قال: قوله: «وقول الله تعالى» بالخفض، ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره، من طريق مجاهد أن أبي ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا عليه: ? لَيْسَ الْبِرَّ
…
? إلى آخرها، ورجاله ثقات.
وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون.
والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هي داخلة في مسمى الإيمان.
فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟
أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تاماً.
قوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ?، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيراً لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? إلى آخرها.
إلى قرية وبلد يسمي نفسه وأباه باسم غير الاسم السابق.
قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية ولا في الإسلام كالاختلاف في اسمه، روي عنه أنه قال:«كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، وسميت في الإسلام عبد الرحمن» .
واسم أمه ميمونة وقيل: أميمة وقد أسلمت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بعد أن كانت تتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق.
قيل: إن أبا هريرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي أسمعتني فيك ما أكره، فقال:«اللهم اهد أم أبي هريرة» (1) قال: فخرجت أعدو لأبشرها فرأيت الباب مردوداً فلما أحست بي خرجت وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرجعت وأنا أبكي من الفرح كما كنت أبكي من الحزن، وقلت: يا رسول الله قد استجاب الله دعاك، أدع لي أن يحببني أنا وأمي إلى المؤمنين، فما من مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا.
وهو أزدي دوسي يماني مدني، قال رضي الله عنه نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً وكنت أجير البرة بنت غزوان خادماً لها في مالها، فزوجنيها الله فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبي هريرة إماماً.
وكان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ويشكر الله على ما أعطاه فيقول: «الحمد لله الذي هدى أبي هريرة في الإسلام، وعلمه القرآن ومنَّ عليه بمحمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أطعمني الخمير، وألبسني الحبير، الحمد لله الذي زوجني بنت غزوان بعد ما كنت أجيراً لها بطعام بطني.
قدم المدينة عام خيبر وأسلم بها سنة ستة، وشهد خيبر مع رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم ثم لزمه وواظب عليه أناء الليل والنهار، ولا يشغله عنه أهل ولا مال، وصبر على الفقر الشديد حتى أفضى به إلى الظل المديد، وكان عريف أهل الصفة، وكان يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في هذا الصحيح، وكان رضي الله عنه حريصا على سماع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في هذا الصحيح عنه رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1938، رقم 2491) ، وأحمد في مسنده (2/319، رقم 8242) عن أبي هريرة.
يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه» (1) .
وكان رضي الله عنه آدم اللون ذا ضفيرتين محفياً لشاربه مزاحاً، وكان ينزل بذي الحليفة بقرب المدينة، وله دار تصدق بها على مواليه.
قال إمامنا الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث.
ومن فضائله: أنه كان يسبح كل يوم اثنا عشر تسبيحه ويقول: أسبح بقدر ديتي يعني أن دية الآدمي اثنا عشر ألف درهم، فهو يسبح بعددها لتكون فكاكه من النار، وكان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح.
قال رضي الله عنه: ما وجع أحب إلىّ من الحمى لأنها تعطي كل عضو قسطه، وإن الله يعطي كل مفصل قسطاً من الأجر، وتحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم شيء كثيراً، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع العلماء رضي الله عنهم.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث وأربع وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثمائه وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري ومسلم بمائة وتسعين.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قلت: ثم يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً فأنساه قال: «أبسط رداءك» ، فبسطته قال: فغرف بيديه ثم قال «ضمه» فضممته فما نسيت بعد ذلك من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً (2) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/49، رقم 99) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/426، رقم 5842) ، وأحمد في مسنده (2/373، رقم 8845) ، وابن منده في الإيمان (2/862، رقم 905) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/394، رقم 825) قال محققه الألباني: إسناده جيد على كلام يسير في ابن حميد، والحديث أخرجه البخاري وابن خزيمة، والآجري وأحمد من طريق إسماعيل بن جعفر أخبرنا عمرو بن أبي عمرو
…
به، وتابعه معاوية بن معتب عن أبي هريرة
…
به، وأخرجه ابن خزيمة ورجاله ثقات كلهم غير معاوية بن معتب قال الحسيني: وثقة ابن حبان وهو مجهول وأقره الحافظ في التعجيل. (انتهى) ؟
ويلاحظ أن كلام الألباني خاص بكل مصدر يعزوك إليه فرب حديث صحيح عند البخاري ضعيف عند ابن خزيمة لجهالة معاوية بن معتب فتنبه هداك الله.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1/56، رقم 119) ، والترمذي في سننه (5/684، رقم 3835) وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/362) . وانظر: الاستيعاب (4/1771) ، والإصابة (7/436) ، وسير أعلام النبلاء (12/174) .
روى عنه الحديث أكثر من ثمانمائة رجل من صاحبي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس.
وروي أنه بكى في مرضه فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود أو أهبط على جنة أو نار، لا أدري في أيهما يأخذني.
وكانت وفاته رضي الله عنه بالمدينة الشريفة، وقيل: بالعقيق سنة سبع وخمسين، وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبله في السنة التي مات فيها، وصلى عليها وكان سنة يوم موته ثمانية وسبعين سنة، ودفن بالبقيع، وما اشتهر من أن قبره بقرب عسقلان، قال ابن الملقن: لا أصل له فاجتنبه، ثم قال: نعم هناك قبر «جندرة بن خشينة» الصحابي فاعلمه.
ومن كراماته التي ظهرت بعد موته: ما روى عن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فوقعت عنده مسألة، وتنازع فيها الخصوم، وعلت أصواتهم فاحتج بعض العلماء الحاضرين على دعواه بحديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فرد بعض الخصوم الحاضرين المنازعين الحديث وقال: أبو هريرة غير مقبول فيما يرويه، ومال الرشيد نحو هذا البعض القائل هذا القول ونصر قوله، قال عمر بن حبيب: فرددت قول هذا القائل وقلت: الحديث صحيح وأبو هريرة صحيح النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه قال: فلما قلت هكذا نظر إليَّ الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب فدخل إليَّ فقال: أجب أمير المؤمنين إجابه مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك صلى الله عليه وسلم فأجللت نبيك صلى الله عليه وسلم أن يطعن في أصحابه، فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على الكرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما رأني قال: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء إذا كان أصحابه كذا فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والنكاح والحدود كلها مردودة غير مقبولة، فرجع الرشيد إلى نفسه ثم قال: احييتني يا ابن حبيب حياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.
كرامة أخرى له رضي الله عنه: حكي في تاريخ ابن النجار عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه قال: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور فجاء شاب
خراساني حنفي المذهب يسأل الشافعية عن مسألة المصراة وطالب بالدليل فقال له شخص من الشافعية: الدليل عليها ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصرو الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر» (1) فقال الشاب الحنفي: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما أتم كلامه حتى سقطت عليه حيه عظيمة من سقف الجامع فهرب الناس، وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية، كأن لم يكن لها أثر.
يحتمل أن تكون هذه الحية ملكاً تشكل في صورة الحية وجاء ناصراً لأبي هريرة رضي الله عنه كرامة له، فقد أيد الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كثيراً بذلك.
فقد ذكر العلماء من ذلك: أن أبا جهل لعنه الله اشترى من رجل جملاً وماطله، فأتى الرجل نادى قريش مستعيناً بهم في تخليص ثمن الجمل فأحالوه على النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وقالوا له: إذهب إلى محمد يخلص حقك منه، فجاء الأعرابي إليه صلى الله عليه وسلم وقص عليه قصته مع أبي جهل فمضى معه النبي صلى الله عليه وسلم فطرق باب أبي جهل فخرج فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل له دهشته ورعب، فأوسعه إلا أن قال أهلاً بأبي القاسم فقال:«إعط هذا حقه» فأعطاه من فوره، فحدث قومه فقال: إني رأيت ما لم تروا رأيت والله على رأسي تنيناً فاتحاً فاه ولو أبيت لالتهمني.
ومن نصرة الله لنبيه أن معمر بن زيد كان أشجع قومه استعانت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شجاعاً مطاعاً فقال لهم: إني قادم عليكم بعد ثلاثة أيام أريحكم منه، وعندي عشرون ألف مقاتل فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي، وإن سألوا الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة، وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس، فلبس سلاحه ولبس درعين، وجاء في اليوم الذي واعد قريشاً فرآهم في الحطيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الجحر يصلي وقد عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فما التقت ولا تزعزع ولا قصر في صلاته فقالت قريش لعمر بن زيد: هذا محمد ساجد فسل سيفه واقبل نحوه فلما دنى منه وإذا به قد رمى سيفه ورجع مسرعاً مهرولاً، حتى وصل إلى باب الصفا عثر بدرعه فسقط، فقام وقد أدمى وجهه بالحجارة التي سقط عليها وهو يعدو كأشد
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/755، رقم 2041) ، ومسلم في صحيحه (3/1159، رقم 1524) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
العدو، حتى بلغ البطحاء وهو لا يلتفت إلى الخلف، فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ما شأنك ماذا أصابك قال: ويحكم المغرور من غررتموه، ما رأيت كاليوم دعوني حتى ترجع إليَّ نفسي، فتركوه ساعة ثم قالوا له: ما الذي أصابك قال: إني لما دنوت من محمد فأردت أن أضربه بسيفي فرأيت عند رأسه شجاعين أقرعين ينفخان بالنيران تلمع أبصارهما، قصداني فعدوت منهما، ولست بعد هذا اليوم أعود إلى مقربة محمد بشيء.
فالشجاعان الأقرعان كانا ملكين من الملائكة فكذلك الحية التي سقطت من سطح المسجد وتبعت من سب أبا هريرة لا يبعد أن يكون ملكاً.
وأبو هريرة أول من كني بهذه الكنية واختلفوا فيمن كناه بها فروي عنه رضي الله عنه أنه قال: كنت أرعى غنماً وكان لي مهرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: كان المكني له بذلك أبوه، وقيل: رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كمه هرة فقال: يا أبا هريرة، وكان رضي الله عنه يحب الهرة ويحملها ويألفها وكان يقول: بعدم جواز بيعها، والصحيح جواز بيعها وحل أكل ثمنها كما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله عنه وكافة العلماء.
أما ما ورد في صحيح مسلم وغيره بسند صحيح من أن رسول الله رضي الله عنه نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها (1) ، فهو محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه كذا قاله الشافعي والجمهور.
وهاهنا فوائد ولطائف مناسبة:
الفائدة الأولى: قال العلماء اتخاذ الهرة وتربيتها مستحب قالوا: وإنها تشبه الإنسان في أمور وهي أنها تعطس وتتثاوب وتتمطى، وتتناول الشيء بيدها وتمسح وجهها، وإذا تلطخ شيء من بدنها نظفته.
الثانية: قيل: إنها مخلوقة من عطسة الأسد وسببه أن أهل سفينة نوح تأذوا من الفأر، فمسح نوح عليه السلام جبهة الأسد فعطس ورمي الهرة، من ذلك كانت أشبه شيء بالأسد بحيث لو قيل للمصور صور لي هرة فلا تخرج إلا صورة الأسد.
الثالثة: سئل بعض العلماء عن حكمة ستر الهرة إذا هي بالت دون غيرها من
(1) أخرجه أيضاً: أبو داود (3/278، رقم 3480) ، وابن ماجه في سننه (/1082، رقم 3250) ، والحاكم في المستدرك (2/40، رقم 2246) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والدارقطني في سننه (4/290) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 319، رقم 1044) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/16، رقم 835) من حديث جابر رضي الله عنه.
الحيوانات فأجاب: إن الله تعالى خلقها لأجل الفأر، وقد طبع الفأر الخوف منها، بحيث أن الفأرة إذا رأت الجمل لا تهرب، وإذا رأت الهرة أو شمت رائحتها تهرب منها خوفاً، فألهم الله تعالى الهرة إذا بالت أن تستر بولها حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب، فإذا بالت الهرة تشم رائحة بولها أولاً فإن كان له رائحة شديدة غطته، وبالت في غطائه وإلا اكتفت بأيسر التغطية.
الرابعة: الهرة على ثلاثة أنواع أهلية ووحشية وهرة الزباد ويحرم أكل الجميع على الأصح، وأما الزباد فالصواب كما قاله النووي: طهارته وصحة بيعه إلا إذا اختلط بشيء من شعر الهرة.
الخامسة: قال العلماء إذا أخذت الهرة حمامة مثلاً، وهي حية في فمها جاز ضرب فمها أو قطع أذنها لترسلها، وإذا قصدت الحمام أو غيرها، وكانت ضارية مفسدة فقتلها الإنسان في حال إفسادها دفعاً جاز ولا ضمان عليه ولا إثم إذا لم تكن حاملاً، إما إذا كانت حاملاً فعندها قال الدميري: لا يجوز قتلها لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية، وأمَّا قتلها في غير حالة الإفساد فغير جائز على الأصح خلافاً للقاضي حسين حيث جوزه من غير ضمان وألحقها بالفواسق الخمس.
السادسة: قال العلماء: سؤرها طاهر لطهارة عينها فلا يكره وورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (1)
فإن تنجس فمها بأن أكلت شيئاً نجساً ثم ولغت في الحال في ماء قليل أو غيره من المائعات، فإنها تنجسه إذا غابت بعد أن أكلت النجس، واحتمل ولوغها في ماء طاهر يطهر فمها في غيبتها فإنها لا تنجس ما ولغت فيه.
السابعة: روى صاحب الإستيعاب عن سلمان الفارسي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالهرة وقال: «إن امرأة عذبت في هرة ربطتها
…
» (2) الحديث، قال
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1/19، رقم 75) عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء، حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال
…
فذكره مرفوعاً.
وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (1/55، رقم 68) ، وأحمد في مسنده (5/296، رقم 2258) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/478) .
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/1760، رقم 2243) ، وأحمد في مسنده (2/424، رقم 9478) ، والطيالسي في مسنده (ص 199، رقم 1400) ، وأبو يعلى في مسنده (11/12، رقم 6152) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (2/305، رقم 546) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
العلماء: وهذه المرأة كانت كافرة فاستحقت العذاب بكفرها، لا بحبسها للقطة حتى ماتت، فإن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، على ذلك ما روي في مسند أبي داود الطيالسي من حديث الشعبي عن علقمة قال: كنا عند عائشة ومعنا أبو هريرة فقالت: يا أبي هريرة أنت الذي تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة» فقال: أبو هريرة نعم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة قالت: إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله فانظر كيف تحدث (1) .
لطيفة: حكى ابن خلكان وغيره عن الشيخ الإمام أبي الحسن بن باب شاذ النحوي وكان من أكابر العلماء وكان فقيراً جداً فلازم بعض السلاطين وخدمه لأجل فقره وقعت بعد ذلك واقعة ترك بسببها خدمة السلطان، كما حكي عنه أنه كان يوماً في سطح جامع مصر يأكل شيئاً وعنده بعض أصحابه فحضر قط فرموا له لقمة فأخذها في فيه وغاب عنهم، ثم عاد إليهم فرموا له شيئاً فأخذه وذهب ثم عاد ففعل ذلك مراراً كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب يعود من فوره فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ الطعام، ويدخل إلى خزنة فيها شبه البيت الخراب في سطح ذلك البيت قط أعمى فإذا هو يصح الطعام بين يديه فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ ابن باب شاذ: إذا كان حيواناً أخرس قد سخر له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرم الرزق فكيف يضيع مثلي ثم قطع الشيخ علائقه، وترك خدمة السلطان ولزم بيته مشتغلاً متوكلاً على الله إلى أن مات.
لطيفة أخرى: وروى ابن عساكر في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي قال رأيت الشبلي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي فقال: لا، فقلت بإخلاصي في عبوديتي، قال: لا، فقلت: بحجي وصومي وصلاتي، ثم قال: ما غفر لك بذلك، فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، قال: لا، فقلت: بإدامة أسفاري في طلب العلم فقال: لا، فقلت
(1) ورواه أيضاً أحمد في مسنده (2/519، رقم 10738) عن الشعبي عن علقمة
…
به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/116) : رجاله رجال الصحيح.
يارب هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري ظناً أنك بها تعفو عني، قال: كل هذه لم أغفر لك، فقلت: إلهي بماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة قد أضعفها البرد تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فاخذتها رحمة بها فإذا دخلتها في فرو كان عليك، وقاية لها من البرد، فقلت: نعم، قال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك.
«عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضعة وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» .
قوله: «بضعة» بالهاء هو الواقع في أكثر نسخ البخاري، وفي بعض النسخ «بضع» بلا هاء، والبضع والبضعة بكسر الياء على اللغة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، ويجوز فتحها في لغة قليلة: هو عدد مبهم مستعمل فيما بين الثلاثة والتسعة على الراجح، فإذا قلت له: عندي بضعة عشر درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة عشر فأربعة عشر وهكذا إلى تسعة عشر، وإذا قلت له: عندي بضعة وأربعين درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين، وهكذا إلى تسع وأربعين وهكذا.
قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة» (1)
يحتمل أن يكون ثلاثة وستين أو أربعة
(1) شرح الحافظ ابن حجر في الفتح (1/120) هذه الجملة شرحاً بديعاً فقال: قوله: «بضع» بكسر أوله، وحكي الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز. وقال ابن سيده: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع.
ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: ?فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ? [يوسف: 42]، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشاً قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعاً.
ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع. قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة. وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف. ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل.
قوله: «وستون» لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني -بكسر المهملة وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا:«بضع وسبعون» من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق:«ست وسبعون أو سبع وسبعون» ، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضاً لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ:«أربع وستون» فمعلولة، وعلي صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة -كما ذكره الحليمي ثم عياض- لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لاسيما مع اتحاد المخرج.
وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن.
قوله: «شعبة» بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء.
قوله: «والحياء» هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر:«الحياء خير كله» .
فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟
أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة وحاجزاً عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا.
فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟
أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر.
وستين.
فائدة: لا يستعمل بضع ولا بضعة إلا مع عشراً مع العشرين أو مع الثلاثين وهكذا إلى التسعين، ولا يستعمل مع المائة ولا مع الألف، فلا يقال بضع ومائه، ولا بضع ألف.
و «شعبة» بضم الشين هي في أصل الوضع غصن الشجرة وفرع كل أصل وهي هنا بمعنى خصلة.
قال العلماء: شبة النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، كما شبه الإسلام في حديث «بني الإسلام» أنه ذا أعمدة، وحاصل معنى الحديث أن الإيمان يتشعث من شعب كثيرة كما تتشعب من الشجرة أغصان كثيرة ضبطها صلى الله عليه وسلم هنا في رواية البخاري وحصرها في بضع وستين شعبة منها الإيمان فيقال: لا إله إلا الله شعبة من شعب الإيمان، ويقال للصلاة من شعب الإيمان، ويقال للأمر بالمعروف شعبة من شعب
الإيمان، ويقال للحياء شعبة من شعب الإيمان، ويقال لإزالة الحجر من طريق المسلمين شعبة من شعب الإيمان.
ولم يبين هنا صلى الله عليه وسلم أعلا شعب الإيمان أو أدناها لكن بين صلى الله عليه وسلم أعلاها وأدناها في حديث آخر كما ثبت في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: «أعلاها لا إله إلا الله» (1)، وفي رواية:«أفضلها لا إله إلا الله» (2)، وفي رواية:«أعظمها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق» (3)، وفي رواية:«إماطة العظم عن الطريق» (4) فبين صلى الله عليه وسلم أن أعلا الشعب التوحيد على كل مكلف، والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته وإن أدناها ما يتوقع منه ضرر للمسلمين، وبقي بينهما تمام العدد فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده كما نؤمن بالأنبياء والملائكة وإن لم نعرف أعيانهم وأسمائهم.
وقد صنف العلماء في تعيين هذه الشعب كتباً كثيرة من أعظمها منهاج الحليمي (5) .
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/420، رقم 191) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/20، رقم 9004) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/169، رقم 30416) ، وابن منده في الإيمان (1/334، رقم 171) عن أبي هريرة.
(2)
هذه الرواية عند البخاري في الأدب المفرد (ص 209، رقم 598) ، وأبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، والنسائي في سننه (8/110، رقم 5004) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) ، وابن منده في الإيمان (1/297، رقم 147) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/429، رقم 428) .
(3)
هذه اللفظ عند ابن أبي شيبة في المصنف (5/212، رقم 25339) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وستون باباً أو بضع وسبعون باباً أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» .
(4)
هذه الرواية عند أبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) .
(5)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/121) : قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان.
ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه.
وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.
فأعمال القلب: فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغصب.
وأعمال اللسان: وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو.
وأعمال البدن: وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضا ونفلاً، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات.
ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد.
ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذي عن الناس، واجتناب اللهو وإماطة الأذي عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم.
وقد ورد في فضل من أزال من طريق المسلمين ما يضرهم من حجر أو شوك أو عظم أو غير ذلك أحاديث.
وورد أن فعل ذلك مكتوباً لفاعله في ديوان الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائه مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظم وآمن
فنهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائه، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، ونصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (3) .
لطيفة: وروي عن أبي حفص النيسابوري أنه اشتغل قلبه بحب جارية، فاستشار بعض أصحابه كيف يتحيل إليها حتى يصل إليها، فأشار إليه أن يمضي إلى فلان اليهودي ليحتال له في أمرها فمضى إليه وأطلعه على حاله فأمره اليهودي أن لا يصلي أربعين يوماً ولا يعمل عملاً يرضاه الله تعالى، ففعل ذلك ثم ذهب إلى اليهودي بعد الأيام الأربعين وأعلمه بما فعل فشرع اليهودي في حيلة يحتال بها في أمره ليجمع بينه وبين الجارية، فلم يقدر على ذلك فقال اليهودي: أظن أنك قد عملت في هذه المدة شيئاً يرضاه الله تعالى من أفعال البر، فتفكر أبو حفص وقال: والله ما عملت شيئاً غير
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/698، رقم 1007) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/209، رقم 10673) ، وابن حبان في صحيحه (8/173، رقم 3380) ، والبيهقي في السنن (4/188، رقم 7611) ، وفي شعب الإيمان (7/511، رقم 11161) ، وأبو الشيخ في العظمة (5/1620) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/820، رقم 816) جميعاً من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/307، رقم 891) ، وابن حبان في صحيحه (2/287، رقم 529) ، والترمذي في سننه (4/339، رقم 1956) وقال: وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وحذيفة وعائشة وأبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.
ورواه البزار في مسنده (9/457، رقم 4070) جميعاً من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
بهذا اللفظ رواه أبو بكر البغدادي في تكملة الإكمال (1/495) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
ورواه الطبراني في المعجم الصغير (2/131، رقم 907) حذيفة بن اليمان مرفوعاً بلفظ: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لا يصبح ويمسي ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم» .
ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/48) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/361، رقم 10586) عن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ: «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم» . قال البيهقي: إسناده ضعيف.
أني أزلت حجراً عن طريق المسلمين برجلي فقال اليهودي: هذا رب كريم لم يضيع لك هذا المقدار، وعصمك بسبه من هذه الأوزار، فكيف يليق بك أن تعصيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والحياء شعبة من الإيمان» إنما أافرد صلى الله عليه وسلم هذه الخصلة من خصال الإيمان في هذا الحديث وخصها بالذكر دون غيرها من باقي شعب الإيمان، لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، فإن صاحب الحياء يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلما كان الحياء كالسبب لفعل باقي الشعب خص بالذكر ولم يذكر غيره معه.
واستشكل العلماء جعل الحياء من شعب الإيمان فقالوا: إن الحياء من الأمور التي طبع الإنسان وغرز عليها، وليس من كسبه فكيف يعد من شعب الإيمان وشعب الإيمان كسبيه لا غريزة فيها؟
وأجيب عن هذا الإشكال بأن: الحياء قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وأيضا يقال: وإن كان غريزياً ولكن استعماله على وفق الشرع وقانونه يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان بهذا الاعتبار.
لطيفة في الحياء: قال في الروض الفائق: قال مالك بن دينار: كان لي جار مسرف على نفسه فاجتمع الجيران إليَّ يشكونه، فأحضرته وقلت له: إنته عن عصيانك، واتق الله فإما أن تتوب وإما أن تخرج من هذه المحلة، قال: أنا في ملكي ما أخرج منه، قلت له: نشكوك إلى سلطان فقال: أنا من أصحابه، قلت: فندعو الله عليك، قال: ربي أرحم بي منكم ثم نهض، فلما كان الليل رفعت يدي وقت السحر وقلت: سيدي قد آذانا هذا الرجل فافعل به ما شئت، فهتف بي هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا قال: فقمت من ساعتي وطرقت عليه الباب فخرج، وظن أني قد خرجت لأخرجه من المحلة، فخرج وهو يبكى ويقول: يا سيدي السمع والطاعة أنا أخرج من المحلة قال: فقلت: يا حبيبي ما جئتك لهذا، وإنما الساعة تضرعت إلى الله فهتف هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا، فبكى بكاء شديداً وتاب وحسنت توبته، فأصبح الناس يزورونه ويتبركون به كثيراً، فخرج إلى مكة شرفها الله تعالى ماشياً وأقام بها فحججت في العام فبينما أنا في وقت الظهيرة في المسجد الحرام بحائط وإذا بجماعة قد اجتمعوا في جانب المسجد فقمت إليهم فإذا هم قد أحدقوا برجل فتأملته فإذا هو صاحبي وهو ملقى على التراب وهو يجود نفسه، فجلست عند رأسه أبكي ففتح عينيه فرآني فقال: يا مالك أترى يعفوا عن تلك السيئات، ويرحم هذه العبرات، إنما خرجت من تلك المحلة،
وفارقت وطني حياء منك وأنت مخلوق، فكيف أقف غداً بين يدي الخالق، ثم تنفس وتحسر ومات، رحمة الله تعالى عليه.
ولله در القائل:
فائدة: الحياء محمود وحقيقته: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، فيستفاد من هذا أن الحياء خير لأنه يبعث الإنسان على فعل الخير ويمنعه من فعل المعصية، فلهذا جاء في حديث:«الحياء خير كله» (1)، وفي حديث آخر:«الحياء لا يأتي إلا بخير» (2) .
واستشكل العلماء هذا أيضاً بأن الحياء قد يمنع من الخير ومن قول الحق، وما يمنع من فعل الخير وقول الحق كيف يكون خير.
وأجابوا عن هذا أيضاً: بأن هذا ليس بحياء حقيقي شرعي بل هو عجز، وجوزوا تسميته حياء بطريق المجاز، سماه بعض أهل العرف حياء الشبهة بالحياء الحقيقي.
وقد ورد في فضل الحياء وفضل من تخلق به أحاديث قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه: «استحيوا من الله» قالوا: إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله فقال: «ليس
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/64، رقم 37) ، وأبو داود في سننه (4/252، رقم 4796) ، وأحمد في مسنده (4/426، رقم 19830) ، والبزار في مسنده (9/29، رقم 3537) ، والروياني في مسنده (1/128، رقم 127) ، والطيالسي في مسنده (ص 114، رقم 854) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/171، رقم 387) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/76، رقم 70) عن عمران بن حصين.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2267، رقم 5766) ، ومسلم في صحيحه (1/64، رقم 36) من حديث عمران بن حصين أيضاً.
ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة وله نية الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (1) .
ومعنى «أن تحفظ الرأس وما وعى» حفظه من السمع والبصر واللسان، فلا يستعملها إلا فيما يحل، وقوله:«والبطن وما حوى» يريد لا يجمع فيه إلا الحلال ولا يأكل إلا الطيب، ويحتمل أن يراد بما حوى الفرج والقلب والرجل.
وفي بعض كتب الله المنزلة يقول الله: ما انصفني ابن آدم يدعوني فأستحي أن أرده، ويعصيني ولا يستحي مني.
وفيها أيضاً يقول الله تعالى: عبدي إنك ما استحيت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، ولم أناقشك يوم الحساب يوم القيامة.
وفيها أيضاً يقول الله تعالى: إن كنتم لا تعلمون أني أنظر إليكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعملون أني أنظر إليكم فلم جعلتموني أهون الناظرين.
وكان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: يا مسكين تغلق بابك وترخي سترك وتستحي من الناس ولا تستحي من الملكين الذين معك، ولا تستحي من القرآن الذي في صدرك، ولا تستحي من الجليل سبحانه وتعالى وهو لا يخفي عليه خافية، ولله در القائل في المعنى حيث يقول:
كن حييا إذا خلوت بذنب
…
ليس يخفى عن الرقيب الشهيد
أتهاونت بالإله
…
وتواريت عن عيون العبيد
يروى أن رجلاً حبشياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: «نعم» ، قال: فهل كان الله يراني؟ قال: «نعم» ، فصاح الحبشي ووقع ميتاً.
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/637، رقم 2458) وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد، وأحمد في مسنده (1/387، رقم 3671) ، والحاكم في المستدرك (4/359، رقم 7915) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (8/461، رقم 5047) ، والطبراني في المعجم الكبير (10/152، رقم 10290) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/354، رقم 10561) عن عبد الله بن مسعود.
لطيفة: مر منصور بن عمار فوجد شاباً يحدث امرأة فانصرف الشاب، لما رأى منصور بن عمار فتقدم منصور فكلمها أن تذهب فمشت خلفه حتى دخلت منزله، فقعدت في منزله ووقف منصور يصلي فطول عليها، فلما سلم قالت: يا هذا طولت عليَّ فقال لها: ما تقولين في رجل عليه حق بأربعة شهود، والحاكم يعلم به هل يقدر أن يمتنع منه بجحود؟ قالت: لا والله، قال: فإن معي ملكين ومعكي ملكين، والحاكم يعلم بنا ويرانا، فاضطربت المرأة ووقعت ميتة.
وقيل: إن المنافق إذا لم ير أحداً دخل مدخل السوء، وإذا لم ير أحداً بطش، إنما يراقب الناس ولا يراقب الله عز وجل، وإن المؤمن يعلم أن الله يراه ويعلم سره ونجواه فإنما قلبه بين يدي الله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر غلطه، ومن كثر غلطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ودعه مات قلبه.
فسبحان من تفضل على قوم فعرفهم ورفعهم، واختصهم لخدمته واصطعنهم، وتكبر على قوم فأذلهم بحجابه، وضعهم وطردهم عن بابه، ومنعهم وختم عنهم باب الوصل وقطعهم، ولقد جاءهم الإنذار فما نفعهم ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم.
لطيفة: كان طاووس بمكة فراودته امرأة عن نفسها فلم يزل بها حتى أتى بها إلى المسجد الحرام، والناس مجتمعون فقال لها: قصي ما كنت تردين قالت: أفي هذا الموضع والناس ينظرون، قال لها فالحياء من نظر الله حق، فتابت المرأة وحسنت توبتها ولقد أحسن من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
…
خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
…
ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
* * *