الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الثامن
في ترجمة الليث وخديجة الكبرى والزهري
والكلام على بعض حديث: أول ما بُدِئَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤية لصالحة في النوم
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليه الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ? قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ
لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَاّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ. قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَاّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قوله: «حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير» هذا هو أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن
بكير القرشي المخزومي المصري، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وبكير مصغر البكر (1) .
قال «حدثنا الليث» هذا هو أبو الحارث الليث بن سعد عبد الرحمن الفهمي المصري، عالم أهل مصر من تابعي التابعين، ولد بقرقشنده على نحو أربع فراسخ من مصر سنة ثلاث أو أربع وتسعين، واتفق العلماء على إمامته وبراعته وجلالته وحفظه وإتقانه وفضله وورعه وعبادته، وغير ذلك من المحاسن والمكارم، ووصفه الشافعي بكثره الفقه إلا أنه ضيعه أصحابه، ولم يعتنوا بكتبه ونقلها والتعليق عنه، ففات الناس معظم علمه، قال يحيى بن بكير: كان الليث أفقه من مالك، ولكن كان الخطوة لمالك ورأيت من رأيت فما رأيت مثل الليث، كان عربي اللسان، حسن القراءة، ويحفظ الحديث والقرآن والشعر، حسن المذاكرة، وما زال يعدد خصالاً حميدة جميلة حتى عقد عشرة.
وقال الإمام أحمد عنه: كان كثير العلم صحيح الحديث ما في هؤلاء المصريين أثبت منه ولا أصح حديثاً منه.
وقال ابن سعد: استقل بالفتوى في زمانه.
وكان ثرياً نبيلاً سخياً، ومناقبة جمة قال الشافعي: وما ندمت على أحد ما ندمت على الليث، وكان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة قط لعدم إمساكها حتى يجول عليها الحول، ولما قدم المدينة أهدى له مالك من ظرفها فبعث إليه ألف دينار.
وقال بعضهم: إن جماعة من أصحاب الليث وقفوا على باب الإمام مالك رضي الله عنه فامتنع من الخروج إليهم فقال بعضهم: هذا ليس ببشر صاحبنا فسمعه الإمام فخرج إليهم وقال: من صاحبكم؟ قال: الليث بن سعد، قال: أتشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب أولادنا فأرسل إلينا شيئاً صبغنا به ثياب أولادنا وثياب جيراننا وثيابنا، والفاضل بعناه بألف دينار.
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/70) : نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين، «وعقيل» بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم على إتقانه وإمامته.
ومن الغرائب الدالة على سعة كرمة رضي الله عنه ما نقل عن منصور بن عمار وكان واعظاً عظيماً بالحجاز مشهوراً قال: دخلت إلى مصر في أيام الليث، ووعظت في الجامع، وكان إذا تكلم أحد في مصر واعظاً نفاه فلما وعظت سمع بي، فأرسل في طلبي، وقال لي الرسول: أجب الليث، فآتيته خائفاً منه، فقال: أنت الواعظ؟ قلت: نعم، قال: أعد علينا كلامك، فتكلمت فبكى ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، فأعطاني ألف دينار، وقال: صن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولك في كل سنة مثلها فتكلمت في الجامع في الجمعة الثانية أرسل في طلبي، وقال: أعد علينا ما قلت، فتكلمت فبكى بكاء كثيراً ثم قال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت خمسمائة دينار، فلما كان في الجمعة الثالثة آتيته مودعاً قاصداً بيت الله الحرام، فقال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت ثلثمائة دينار، ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور فأتت بأربعين ثوباً فقلت: يرحمك الله أنا يكفيني ثوبان فقال: أنت رجل كريم فيصبحك قوم فأعطهم، ثم قال: خذ الجارية أيضاً ومعها ألف دينار ولا تخبر ولدي فيراه قليلاً رضي الله عنه.
وكانت وفاته في شعبان سنة خمسين وسبعين ومائة، وقبره بمصر يزار وعليه من الجلالة والبهاء ما هو لاق به، وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه.
«عن عقيل» بضم العين المهملة وفتح القاف، هذا هو عقيل الحافظ بن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي بفتح الهمزة والياء المثناة التحتانية القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان الحافظ.
«عن ابن شهاب» هذا هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري، المدني، سكن الشام، وهو تابعي صغير كذا في شرح ابن الملقن، وفي الكرماني هو تابعي كبير، سمع عشرة من الصحابة بل أكثر سمع أنساً وخلقاً من الصحابة، وسعيد بن المسيب وخلقاً من كبار التابعين ورأى ابن عمرو، وروى عنه، وصح عنه أنه قال:«ما استودعت حفظي شيئاً فخانتي» ، وصح عنه أيضاً أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة» كما قاله البخاري في التاريخ.
قال الليث: ما رأيت عالماً أجمع من الزهري ولا أكثر علماً منه.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أتقن للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً الدنيار والدرهم أهون عنده، إن كانت الدراهم والدنانير عند بمنزلة البعر.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة، والعلماء
متفقون على إمامته وجلالته وحفظه وإتقانه وضبطه وعرفانه، وقد وصفوه بأنه جمع علم جميع التابعين.
وكانت وفاته بالشام سابع عشر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنين وسبعين سنة وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها:«شغب وبدا» لينال من المارين بقربة، ولله القائل:
بقارعة الطريق جعلت قبري
…
لأحظى بالترحم من صديقي
فيا مولى أنت أولى
…
برحمة من يموت على الطريق
«عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين» رضي الله عنهما، وعن أبويها وجديها «أنها قالت أول ما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي (1) الرؤيا الصالحة (2) في النوم (3) ، فكان لا يرى إلا وجاءت في مثل فلق الصبح (4) »
قال الإمام النووي: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فإن عائشة لم تدرك زمان وقوع هذه القصة فروتها إما سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر.
قال الطيبي (5) : والظاهر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لقولها قال: «فأخذني فغطني» ، ومرسل الصحابة حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به أبو إسحاق الإسفرايني.
قول عائشة «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم» تصريح منها بأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من جملة أقسام الوحي، وهذا متفق عليه، وإنما بُدئ صلى الله عليه وسلم بالوحي في المنام قبل جميع أقسام الوحي السبعة ليكون تمهيداً وتوطئه بمجيىء الملك إليه في اليقظة بالوحي لئلا يأتيه بصريح النبوة بغتة، فهذا لا يتحمله القوى البشرية.
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : يحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز.
(2)
قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «الرؤيا الصالحة» وقع في رواية معمر ويونس عند البخاري في التفسير «الصادقة» وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيداً وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضاً رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
(3)
قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «في النوم» لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازاً.
(4)
قال ابن حجر في الفتح (1/71) قوله: «مثل فلق الصبح» بنصب مثل على الحال، أي: مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي: جاءت مجيئاً مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه.
(5)
هو: أحمد بن أحمد بن بدر الدين، شهاب الدين الطيبي الصالحي الدمشقي، ولد سنة: 910هـ،، تفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأصبح من أئمته، وكان متصوفاً، كان إماماً بجامع بني أمية، له: زاد الابرار وسلاح الأخيار، وله نظم وليس بشاعر، وكانت وفاته سنة: 979هـ.
وكانت مدة وحي المنام كما قاله البيهقي ستة أشهر.
قال ابن حجر: على هذا فابتداء النبوة بالرؤيا من شهر مولده، وهو ربيع الأول، وابتداء الوحي يقظة وقع في رمضان.
فائدة لغوية: «الرؤيا» مصدر الوحي كالرجعى مصدر رجع، ويختص برؤيا المنام كما اختص الرأي بالقلب، والرؤية بالعين.
والصالحة يجوز أن يكون صفة موضحة للرؤيا، بناءً على أن غير الصالحة لا تسمى رؤيا تسمى بالحلم، كما ورد الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، ويجوز أن يكون صفة مخصصة بناءً على أن السنة تسمى بالرؤيا قال العلماء: الرؤيا على قسمين صالحة وتسمى صادقة، وهي بشارة من الله يبشرها عبده ليحسن بها ظنه، ويكثر عليها شكره، وكاذبة وتسمى: بالحلم وبأضغاث أحلام، وهي من الشيطان يراها الإنسان ليحزنه فيسوء ظنه بربه، ويقل حظه من شكره، ولذلك أمر بالنفوذ من شره وغيره كما سيأتي ليطرده.
والرؤيا الصالحة لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم بل يشاركه غيره فيها لكن خص صلى الله عليه وسلم بأن جميع ما كان يراه في منامه حق وصدق، ولهذا قالت عائشة «وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وفلق: بفتح أولهما وثانيهما ضياؤه أي: جاءت مثل الوضوح والبيان.
قال الكرماني: والصحيح أنه بمعنى المفلوق، وهو اسم للصبح، فأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين، والذي يدل على أن الفلق هو الصبح استعماله وحدة قال تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ? [الفلق: 1] ، وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره: لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن تم نورها وبرهانها، وظهرت أشعتها وإلى هذا صاحب البرده أشار بقوله:
لا ينكر الوحي من رؤياه أن له
…
قلباً إذا نامت العينان لم ينم
بخلاف رؤيا غيره صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون صادقة، وقد تكون أضغاث أحلام.
وحقيقة الرؤيا الصالحة: أن الله يخلق في قلب النائم وفي حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه فربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام، وربما جعل ما رآه علماً على أمور أُخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها فتقع تلك، كما جعل الله الغيم علامة للمطر وصلاح الرؤيا إما باعتبار تعبيرها.
وقال القاضي عياض: صلاحها حسن ظاهرها أو صحتها أو فسادها، إما بسوء ظاهرها وإما بسوء تأويلها.
فائدة: ورد في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة» (1) .
وفي رواية: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» (2) .
وفيه كثير غموض عن كثير من الناس وإيضاحه أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة على الصحيح، ومدة نبوته منها ثلاث وعشرون سنة لأنه نبئ على رأس الأربعين، وكان نصف سنة يرى الوحي في المنام إلى المدة التي رآه فيها في اليقظة كانت نصف جزء من ثلاث وعشرين سنة، وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
لكن المشكل رواية مسلم «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة» (3)
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (6/2562، رقم 6582) ، ومسلم في صحيحه (4/1774، رقم 2264) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2568، رقم 6593) من حديث أنس أيضاً بزيادة في أوله، وعند مسلم في الصحيح (4/1774، رقم 2263) عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت بلفظه.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/1775، رقم 2265) عن ابن عمر.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/383، رقم 7626) ، وابن ماجه في سننه (2/1283، رقم 3897) ، وابن أبي شيبة (6/173، رقم 30455) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/410، رقم 714) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/186، رقم 4757) عن ابن عمر.
والحديث جاء أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس:
فأما رواية أبي سعيد فعند ابن ماجه في سننه (2/1282، رقم 3895) من طريق عطية عن أبي سعيد الخدري
…
به.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/153) : هذا إسناد ضعيف لضعف عطية العوفي.
وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه البزار في مسنده (5/250، رقم 1864) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/217، رقم 9057)، وأخرجه أيضاً: في المعجم الصغير (2/141، رقم 928) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/173) : رواه الطبراني في الكبير والصغير وقال فيه جزء من سبعين جزءا والبزار ورجال الصغير رجال الصحيح.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد في مسنده (1/315، رقم 2896) ، وأبو يعلى (4/466، رقم 2598) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/277، رقم 11727) .
ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (7/172) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
فإنها لا يظهر لها وجه، وللرؤيا الصادقة شروط متى اختل شرط منها كانت أضغاث أحلام لا يصح تأويلها.
منها: أن لا يكون الرائي خائفاً من شيء أو راجياً، وفي معنى الخوف والرجاء الحزن على شيء والسرور بشيء، فإذا نام من اتصف بذلك كذلك رأى في نومه ذلك الشيء بعينه.
ومنها: أن لا يكون خالياً من شيء هو محتاج إليه كالجائع والعطشان يرى في نومه كأنه يأكل ويشرب.
ومنها: أن لا يكون ممتلئاً من شيء فيرى كأنه يجتنبه، كالممتلئ من الطعام يرى أنه يقذفه.
ومنها: أن لا يرى ما لا يكون كالمحالات وغيرها مما يعلم أنه لا يوجد، بأن يرى الله سبحانه وتعالى على صفة مستحيلة عليه، أو يرى نبياً يعمل عمل الفراعنة.
ومنها: أن لا يكون ما رآه في النوم قد يراه في اليقظة، وإدراك حسه بعهد قريب قبل نومه، وصورته باقية في خياله فيراها بعينها في نومه.
ومنها: أن لا يكون قد حدثته نفسه به في اليقظة وتفكر فيه قبل النوم بمدة قريبة.
ومنها: أن لا يكون موافقاً ومناسباً لما هو عليه من تغيير المزاج، بأن تغلب عليه الحرارة من الصفراء فيراها في نومه نيراناً شمساً محرقة، أو تغلب عليه البرودة فيرى الثلوج، أو تغلب عليه الرطوبة فيرى الأمطار والمياه، أو تغلب عليه اليبوسة والسوداء فيرى الأشياء المظلمة والأهوال، فمتي اختل شرط مما ذكرنا كانت الرؤيا فاسدة لا تعبير لما ورد، وإذا وجدت هذه الشروط في رؤيا الإنسان غلب على الظن سلامة رؤياه من الفساد، وصح تعبيرها خصوصاً إذا انضم إلى ذلك كون الرائي من أهل الصدق والصلاح، فإن الظن يقوي بأنها صادقة صالحة، ففي الحديث «أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً» (1) .
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في سننه (4/304، رقم 5019) ، وابن ماجه في سننه (2/1289، رقم 3917) ، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والحاكم في المستدرك (4/432، رقم 8174) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (13/404، رقم 6040) ، والدارمي في سننه (2/168، رقم 2144) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/291، رقم 955) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) جميعاً عن أبي هريرة.
ومن علامات صدق الرؤيا من حيث الزمان كونها في الأسحار، وكونها عند اقتراب الزمان ففي الحديث «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب» (1) واقتراب الزمان هو اعتداله وقت استواء الليل والنهار، وقيل: اقتراب الزمان قرب قيام الساعة.
وعن جعفر الصادق (2) أنه قال: أصدق رؤيا النهار وقت القيلولة، لأن الحسين بن على رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«أتسرعون السير بكم إلى الجنة» فقال الحسين رضي الله عنه: يا أبت لا حاجة إلى الرجعة إلى دار الدنيا بعد رؤيتك، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا بني لابد لك من الرجعة وهي ساعة لم يكذب فيها، ثم صلى الظهر وقتل شهيداً» (3) .
ومن علامات صلاحها: أن تكون تبشيراً بالثواب على الطاعة أو تحذيراً من المعصية، وليس المراد من قولنا بأن هذه الرؤيا الصالحة أنها صالحة على سبيل القطع بل على غلبة الظن.
قال ابن الصلاح: ومعلوم أن إدراك ما هو حق منها مما هو باطل، وعسر الطريق أن يظن إلا ظناً.
فإن قيل: بأي شيء يرى الإنسان المنام بالروح أو بغيرها؟
فالجواب: أن مقاتلاً ذكر في تفسير قوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ? [الانعام: 60] أن الإنسان له حياة وروح ونفس، فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء، ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع كشعاع الشمس فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد، فيها ينقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفه عين، فإذا رجعت أخبرت الروح القلب فيصبح فيعلم أنه رأى رؤيا صالحة فيعرف بما رأى في منامه فتحيا النفس وتحيا الروح وتخبر الروح القلب، فإذا أراد الله تعالى أن يميت هذا الرائي في المنام يمنع النفس التي خرجت منه العود إلى البدن، ويقبض الروح إليها، فيموت في منامه.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1773، رقم 2263) ، والترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) عن أبي هريرة.
(2)
جعفر الصادق هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو عبد الله المدني الصادق، وأمُّه: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها: أسماء بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، فلذلك كان يقول ولدني أبو بكر مرتين. توفى رضي الله عنه عام 148هـ.
قال عمرو بن أبي المقدام: «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين» ، وقال عنه ابن حبان في الثقات: «كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا
…
» ، وقال مالك:«اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل وإما صائم وإما يقرأ القرآن ما رأيته يحدِّث إلا على طهارة» .
(3)
لم نقف عليه.
ونقل بعض علماء التعبير عن دانيال عليه السلام أنه قال: الأرواح يعرج بها إلى السماء السابعة حتى تقف بين يدي رب العزة فيؤذن لها بالسجود، فما كان طاهراً سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر سجد قاصياً فلذلك، يستحب لمن أراد أن ينام، أن ينام على طهارة.
فائدة: قال العلماء: وإذا كان الإنسان يقرع في منامه فليقل ما رواه ابن السني أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا أنه يفزع في منامه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أويت إلى فراشك فقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فقالها فذهب عنه» ، وكان عبد الله بن عمرو (1) يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبهن فعقلهن عليه، نقل ذلك أبو داود وغيره (2) .
وإذا رأى في نومه ما يحب فليحمد الله تعالى وليحدث بها، وإذا رأى ما يكرهه فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فقد ورد في هذا الصحيح عن أبي سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله تعالى عليها وليحدث بها» ، وفي رواية (3) «ولا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى غير ذلك مما يكره إنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا
(1) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، من قريش ولد قبل الهجرة بسبع سنوات، معدود في الصحابة، من النساك، من أهل مكة، كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية، وأسلم قبل أبيه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكتب ما يسمع منه فأذن له، وكان كثير العبادة حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً
…
الحديث» ، وكان يشهد الحروب والغزوات، ويضرب بسيفين، وحمل رآية أبيه يوم اليرموك، وشهد صفين مع معاوية، وولاه معاوية الكوفة مدة قصيرة، ولما ولي يزيد امتنع عبد الله من بيعته، وانزوى كما في إحدى الروايات بجهة عسقلان، منقطعاً للعبادة، وعمي في آخر حياته، توفي سنة: 65هـ، واختلفوا في مكان وفاته، له 700 حديث.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (4/12، رقم 3893) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/191، رقم 10602)، وفي عمل اليوم والليلة (ص: 453، رقم 766) وفيه اسم الرجل الذي يفزع، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان خالد بن الوليد بن المغيرة رجلاً يفزع في منامه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اضطجعت فقل باسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» فقالها فذهب ذلك عنه.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/181، رقم 6696) ، والحاكم في المستدرك (1/733، رقم 2010) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/50، رقم 23598) ، وأبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/462، رقم 116) .
(3)
هذه الرواية وردت في حديث آخر غير حديث أبي سعيد الآتي فهي عند البخاري في الصحيح (6/2582، رقم 6637) عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة يقول: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره» .
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10730) .
يذكرها لأحد فإنها لا تضره» (1) .
وينبغي إن رأى في منامه ما يكرهه أن ينفث أي: ينفخ عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ من الشيطان، فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرؤيا الصالحة» وفي رواية «الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره» ، وفي رواية «فليبصق» بدل «فينفث» .
قال النووي: والظاهر المراد من النفث: وهو نفخ خفيف لا ريق معه.
وكذلك لمن رأى ما يكره أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه فقد روينا في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» (2) .
كذلك ينبغي لمن رأى ما يكره أن يقوم ويصلي ويحصل التعوذ المذكور في هذه الأحاديث بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن الأحسن أن يقول عند رؤية ما يكره: اللهم أعوذ بك من عمل الشيطان، وسيئات الأحلام كما ورد ذلك، والسنة للإنسان إذا قص عليه أحد رؤيا أن يقول له:«خيراً رأيت وخيراً يكون، وخيراً تلقى، وشرا توقى، خيراً لنا، وشراً لأعدائنا، الحمد لله رب العالمين» .
وقول عائشة رضي الله عنها «ثم حبب إليه الخلاء» (3)
أي: حبب الله له الخلوة
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2563، رقم 6584) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10729) ، وأحمد في مسنده (3/8، رقم 11069) ، وأبو يعلى في مسنده (2/513، رقم 1363) عن أبي سعيد.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (4/1772، رقم 2262) عن جابر.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/390، رقم 7653) ، وابن ماجه في سننه (2/1286، رقم 3908) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/179، رقم 30494)، وعبد بن حميد في مسنده (ص: 319، رقم 1047) ، وأبو يعلى في مسنده (4/180، رقم 2263) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4761) .
(3)
قال ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «حبب» لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له.
وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح، وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكي أيضاً، وحكي فيه غير ذلك جوازاً لا رواية، هو جبل معروف بمكة.
والغار: نقب في الجبل وجمعه غيران.
فإن الخلاء بالمد الخلوة وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين، وإنما حبب إليه الخلوة لأن فيها فراغ القلب وهي معينة على الفكر، وينقطع بها عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فلطف الله تعالى به في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة وقطعه عن مخالطة البشر، ليجد الوحي له متمكناً كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وكان دخوله الخلوة بإلهام من الله تعالى لا من تلقاء نفسه، قال بعض أهل العلم: ففيه دليل على أن الإنسان إذا قصد الخلوة والانقطاع عن الناس فلابد له من إذن شيخه له في ذلك، وقد صرح بذلك العارف بالله الزاهد الكامل زين الدين أبو بكر الحراني الخراساني نفعنا الله به في وصيته لأصحابه حيث قال فيها ما معناه: من قصد سلوك طريق الأولياء وقصد الانقطاع والتبتل في الخلوة وترك الاختلاط فلا بد أن يكون ذلك بحضور الشيخ، وأمره الظاهر وأمره الباطن فإن المريد إذا صحت رابطتة مع شيخة وكان مسلماً لأوامره وإشاراته يرى شيخة في واقعته فيأمره وينهاه ويحل واقعته، ثم قال في وصيته: ولا ينبغي لمن أراد دخول الخلوة أن يقصد بدخوله أن يصير مكاشفاً أو ذا كرامة عيانية فإن من رحل على هذا القصد رأى الأشياء الباطلة في صورة الحق.
ثم قال: دخل واحد من أصحابنا في خراسان الخلوة بغير إذن ولا وقت استحقاق دخولها، فجاء الشيطان إليه على صورة الخضر فقال له: أتريد أن تحصل لك العلوم الدينية فقال: نعم وكان مائلاً أن يتكلم في العلوم وأن يجري على لسانه، فقال له: افتح فاك فرمى الشيطان بزاقة في فمه، ثم بعد ذلك صنف كتاباً مشتملاً على أبواب من المعارف فلما وصل إلى الملاقاة والاجتماع بي عرض ما صنفه علي وحكى واقعته فقلت له: يا مسكين ذلك أن الشيطان جاء إليك في صورة الخضر ولعب بك وشغلك عن طاعة الله وذكره، إذهب واغتسل وتب إلى الله.
والشيطان يجيىء على صورة الصالحين كثيراً ولا يقدم على التمثيل بصورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بصورة الشيخ إذا كان الشيخ تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم مأذوناً له بالإرشاد من شيخة المأذون وهكذا إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قالت عائشة: «فكان يخلو بغار حراء» الغار: نقب في الجبل وهو قريب من معنى الكهف، ويجمع الغار على غيران وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل بينه وبين مكة شرفها الله تعالى نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى من شرفها الله، وفي «حراء وقباء» ست لغات المد والقصر والصرف وعدمه والتذكير والتأنيث، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
قباء وحراء اذكروا أنثهما معاً
…
ومد واقصر واصرفن وامنع الصرفا
فمن صرف أراد أن اللفظ علم للمكان ونحوه، فيكون فيه االعلمية فقط، وهي وحدها لا تمنع الصرف، ومن منع الصرف أراد اللفظ علم للبقعة، فيكون فيه علتان العلمية والتأنيث، وكذا كل اسم مكان إن جعلت اللفظ علماً للبقعة أو الجهة فهو غير منصرف، وإن جعلته علماً للمكان ونحوه فهو منصرف فهي قاعدة كلية نبه عليها الكرماني وغيره.
«فيتحنث فيه وهو التعبد (1)
الليالي ذات العدد» مرادها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يخلو بغار حراء يتحنث أي يتعبد، ويتحنث بمعنى يتعبد، وإن تعبده كان في ليال معدودة في كل سنة فضمير «وهو التعبد» راجع إلى التحنث الذي دل عليه لفظ «فيتحنث» فهو كقوله تعالى ?اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة: 8] فتفسير التحنث بالتعبد إما من كلام عائشة وهو الظاهر، وإما من كلام الزهري في الحديث على عادته.
وحقيقة التحنث في الأصل التجنب عن الحنث أي: الإثم فكان المتعبد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة.
والمراد بقوله: «الليالي ذوات العدد» مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، وكانت هذه الليالي التي يعبد فيها مع أيامها إلى شهر رمضان وأيامه في كل سنة.
فائدة: إنما خصص صلى الله عليه وسلم جبل حراء بالخلوة والتعبد فيه دون غيره من جبال مكة
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «فيتحنث» هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم. وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة «يتحنف» بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.
قوله: «وهو التعبد» هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.
كجبل أبي قبيس مع أنه أول جبل وضعه الله على الأرض حين صارت قاله مجاهد، وكجبل شبير وغيره، لأن جبل حراء نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد على جبل بمكة يقال له: شبير وكان قد طالبه الكفار فقال له شبير بلسان القال لا بلسان الحال: انزل عن ظهري فإني أخاف أن تقتل على ظهري فيعاقبني الله تعالى فقال له جبل حراء: إليَّ يا رسول الله.
وقيل: خصصه بذلك لأنه يرى بيت ربه منه وهو عبادة، كما اختلفوا في عبادته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة.
فائدة أخرى: قال البغوي في تفسيره: لما تجلى الله للجبل وصار دكاً طار منه ست أجبل وقعت ثلاثة بمكة وهي ثبير وحراء وثور، وثلاثة بالمدينة، وهي أحد وورقان ورضوي (1) .
فائدة أخرى: اختلف العلماء رضوان الله عليهم في الغار بأي شيء كانت، كما اختلفوا في عبادته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة فقيل: كان يعبد بشريعة إبراهيم، وقيل: بشريعة موسى، وقيل: بشريعة عيسى، وقيل: بشريعة نوح، وقيل: بشريعة آدم، وقيل: بشريعة غير ذلك، والذي عليه جمع وحذاق أهل السنة أنه لم يتعبد بشرع أحد بل كان يتعبد كما قاله ابن الملقن بالتفكر قال: ولاخلاف بين أهل التحقيق أنه عليه الصلاة والسلام قبل نبوته هو وسائر الأنبياء منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان فانهم لا يليق بهم الشك في شيء من ذلك، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك.
وقولها «قبل أن ينزع إلى أهله» أي: كان تعبده في الغار قبل أن يحن إلى أهله
(1) انظر تفسير البغوي (2/198) .
قلت: وقد روي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/314) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/440) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/150، رقم 4407) عن معاوية بن قرة عن أنس مرفوعاً.
وأورده ابن كثير في تفسيره (2/246) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وقال عقبه: وهذا حديث غريب بل منكر.
وآفته أن فيه: الجلد بن أيوب ذكره ابن حبان في المجروحين (1/210، ترجمة 176) وأخرج حديثه هذا وقال: موضوع لا أصل له.
وأورده ابن حجر في فتح الباري (6/430) فقال: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي مالك رفعه
…
فذكر الحديث وقال عقبه: وهذا غريب مع إرساله.
ويشتاق إليهم، فيرجع إليهم.
وقولها «ويتزود لذلك» مرفوعاً عطفاً على فيتحنث، وذلك إما إشارة إلى الخلاء وإما إلى التعبد، أو كان صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، ويتزود لمدة خلوته وتعبده والتزود اتخاذ الزاد، والزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر.
وقولها «ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها» أي: كان بعد الفراغ من التعبد في هذه الليالي يرجع إلى خديجة، فإذا جاء وقت الليالي يتزود لمثلها أي: يصحب معه زاد يكفيه لمثل تلك الليالي.
وخديجة هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية، كانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة (1)
، وكانت أكثر قريش مالاً وأعظمهم شرفاً، وهي التي وآزرته على النبوة، وهاجرت معه وواسته بنفسها ومالها، فإن العرب كانت تتمادح بكسب المال ولاسيما قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في التجارة، وخديجة كانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء معلوم فلما بلغها حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج مالها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره.
وفي سيرة ابن مغلطاى: أنها استاجرته على أربع بكرات فقبل النبي صلى الله عليه وسلم وخرج في مالها مع غلام يقال له: ميسره، قال البرهان: وميسره هذا لا علم أحداً ذكر له إسلاماً، وكأنه توفى قبل النبوة، ولو أدرك النبوة لأسلم، فلما أرسلت ميسرة معه صلى الله عليه وسلم قالت له: لا تعص لمحمد صلى الله عليه وسلم أمراً حتى قدم به سوق بصرى وهي مدينة حوران من أرض الشام.
فإنه صلى الله عليه وسلم دخل أرض الشام أربع مرات:
المرة الأولى: مع عمه أبي طالب وكان عمره اثنتى عشر سنة على أصح الأقوال الثلاثة فرآه بحيرا الراهب قال الذهبي في تجريده: بحيرا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به ذكره ابن منده في الصحابه.
واسم بحيرا «جرجيس» فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفه بصفته فأخذ بيده وقال هذا سيد العالمين هذا يبعثه الله للعالمين فقيل له: وما علمك بذلك فقال: إنكم حين أشرفتم
(1) قاله الزبير بن بكار رواه عنه الطبرانى في الكبير (22/447، رقم1091) من قوله، وكذا ابن عساكر في التاريخ (3/131) .
انظر ترجمتها في: (الثقات 1/44، والاستيعاب 4/1817 ترجمة: خدبجة بنت خويلد برقم: 3311، والإصابة 7/600، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 11086) .
به من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي وإنا نجده في كتبنا وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عليه من اليهود.
المرة الثانية: مع ميسره وكان عمره خمساً وعشرين سنة ويقال استاجرت معه رجلاً من قريش فلما دخلوا نزلوا تحت ظل شجرة بقرب نسطور الراهب، قال البرهان الحلبي: ولا أعلم أحداً ذكره في الصحابة بخلاف بحيرا فلما رآه نسطور قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية: ما نزل تحتها قط إلا نبي.
المرة الثالثة: ليلة الإسراء وصل إلى بيت المقدس.
المرة الرابعة: إلى تبوك، فأما دمشق فإنه لم ينقل أنه دخلها صلى الله عليه وسلم.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر تجارة خديجة إلى مكة ونظرت خديجة ما جاء به صلى الله عليه وسلم بربح كثير فحدثها ميسره بقول الراهب.
وذكر في كتاب شرف المصطفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من بصرى وقرب من مكة قال له ميسرة: عجل إلى خديجة وبشرها بالربح الكثير، وكانت خديجة تصعد على سطح دارها أوقاتا لتنظر هل قدموا من السفر أم لا، فصعدت يوماً فرأت محمداً صلى الله عليه وسلم على بعيره وعلى يمينه ملك شاهر سيفه وعلى شماله ملك شاهر سيفه والغمامة على رأسه، فلما تحققت أمره امتلأ قلبها فرحاً ورغبت في التزوج به.
قال العراقي: ورغبت فخطبت محمداً فيالها من خطبة ما أسعدها، فأرسلت إليه وعرضت نفسها عليه، ثم أرسلت شيئاً ليرسله لأبيها ليرغب فيزوجه، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه فخرج حمزة وأبو طالب (1) ، ورؤساء الحرم إلى خويلد بن أسد
(1) نقل محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 15) عن ابن إسحاق أنه قال: «وحضر أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجلاً إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا نبأ عظيم، وخطر جليل فتزوجها» .
قلت: لم نقف عليه من رواية ابن إسحاق ووقفنا عليه من قول أبي الحسين بن فارس كما في السيرة الحلبية (1/226)، وأورده ابن الجوزى في صفوة الصفوة (1/74) بقوله: «وقد ذكر بعض العلماء أن أبا طالب حضر العقد ومعه بنو مضر فقال أبو طالب
…
فذكره» كما ذكره الإمام أحمد في مسائله (ص: 19) ولم يعزه إلى أحد.
وخطبوها فزجها أبوها، وقيل: أخوها، وقيل: عمها، ويجمع الأقوال بأن الثلاثة حضر وزوجها أبوها على الراجح (1)
فنسب الفعل إلى كل واحد منهم.
وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشر أوقية ونبشاً (2)، وقيل: عشرين بكره (3) ، وكان عمره حين التزوج بها خمسة وعشرين سنة على الراجح من الأقوال الستة (4)
، وكان عمر خديجة أربعين سنة على الراجح من الأقوال (5)
(1) صوب ابن سعد أن عمها عمرو بن أسد هو الذى زوجها له صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن سعد الروايات التى ورد فيها أن أباها هو الذى زوجها إياه ثم قال: هذا كله عندنا غلط، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مثله الطبري في التاريخ نقلاً عن الواقدي. انظر: الطبقات الكبرى (1/133) ، والطبري في التاريخ (1/522) .
(2)
ورد ذلك في رواية أخرجها الدولابي في الذرية الطاهرة (ص30، رقم 14) بلاغاً.
(3)
هذا هو قول ابن إسحاق نقله عنه الحافظ الذهبي في السير (2/14) . وانظر السيرة لابن هشام (2/9) ، (6/57) ، والكلاعي في الاكتفاء (1/156) .
(4)
انظر: كلام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه الإستيعاب (4/1818، 1819) وقوله بأنه صلى الله عليه وسلم حين تزوجها كان ابن خمس وعشرين سنة، وقد صرح في موضع آخر (1/35) أن من قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وله إحدى وعشرين سنة هو الزهري. وقال: قال أبو بكر بن عثمان وغيره: كان ابن ثلاثين.
وممن روى أن سنه كان وقت ذاك خمس وعشرين سنة ابن سعد في الطبقات (8/17) عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة، وكانت خديجة أسن مني بسنتين ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة وولدت أنا قبل الفيل بثلاثة عشرة سنة.
(5)
تجارته صلى الله عليه وسلم في مال خديجه وسفره بالتجارة وقصة بحيرا ورغبة خديجة رضي الله عنها في الزواج به صلى الله عليه وسلم ورد من رواية محمد بن إسحاق فقد قال: كانت خديجة رضى الله عنها امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوما تجاراً فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يتجر لها في مالها، ويخرج إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، وكان ميسرة فيما يزعمون يقول: إذا كانت الهاجرة واشتد الحر نزل ملكان يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدثها ميسره عن قول الراهب وعن ما كان يرى من إظلال الملكين إياه، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، كل قومها قد كان حريصاً على ذلك منها، لو يقدر على ذلك، فلما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالت، ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب، حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: أخرجه الدولابى (ص 26، رقم 8) عن محمد بن إسحاق، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات (8/16) عن نفيسة بنت أم أم أمية أخت يعلى بن أمية. وانظر السيرة لابن هشام.
ومن فضائلها ما ذكره في عقائق الحقائق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج خديجة كثر كلام الحساد فيها فقالوا: إن محمداً فقير قد تزوج بأغنى النساء فكيف رضيت خديجة بفقره فلما بلغها ذلك أخذتها الغيرة على محمد صلى الله عليه وسلم أن يعير بالفقر، فأحضرت سادات الحرم، وأشهدتم أن جميع ما تملكه لمحمد، فإن رضي بفقري فذلك من كرم أصله فتعجب الناس منها، وانقلب القول فقالوا: محمد أمسى من أغنى أهل مكة وخديجة أمست من أفقر أهلها فأعجبها ذلك، وإلى ذلك أشار الله بقوله جل ذكره ?وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? [الضحى: 8] على قول.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم أكافئ خديجة؟ فجاءه جبريل وقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: مكافأة خديجة علينا فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم المكافأة فلما كان ليلة المعراج ودخل الجنة وجد قصراً مد البصر فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال: يا جبريل لمن هذا القصر؟ قال: لخديجة، فقال: هنيئاً لها لقد أحسن الله مكافآتها.
ومن فضائلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: هذا جبريل يقرئك السلام من ربك فقالت: الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، إنما قالت: السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام (1) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1389، رقم 3609) ، ومسلم في صحيحه (4/1887، رقم 2432) عن أبي هريرة، قال مسلم عقبه: قال أبو بكر في روايته عن أبي هريرة ولم يقل: «سمعت» ، ولم يقل في الحديث: ومني.
وأخرجه أيضاً: أحمد (2/230، رقم 7156) ، وأبو يعلى (10/477، رقم 6089) ، وابن أبي شيبة (6/390، رقم 32287) ، وابن عساكر في التاريخ (50/11) .
قال السهيلي في الروض: لأنها علمت بفهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين.
وفي رواية: قال جبريل: «يا محمد هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» (1) والقصب: اللؤلؤ المجوف، والصخب: الصياح، والنصب: التعب.
والحكمة في كون البيت من قصب أنها أجازت قصب السبق إلى الإيمان فإنها أول من آمن من النساء بل أول من آمن مطلقاً على قول.
ومن فضائلها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناءه عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فأدركتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيته غضب غضباً شديداً فندمت وقلت: اللهم إن
(1) الحديث عند النسائى في فضائل الصحابة (ص 75، رقم 254) عن أنس بلفظ: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده خديجة فقال: «إن الله يقرئ خديجة السلام فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» .
وأخرجه الطبرانى في المعجم الكبير (23 /15، رقم 25) من حديث سعيد بن كثير عن أبيه.
قال الهيثمى (9/225) : فيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف.
وأخرج نحوه الفاكهي في أخبار مكة (4/93، رقم 2429) من حديث ابن عباس والقاسم بن أبي بزة من طريقين في موضع واحد خلال قصة وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: وهو أى جبريل يقرئك السلام من الرحمن الرحيم ثم يقرئك السلام فقالت رضي الله عنها: «إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام» .
وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (70/118) من حديث ابن عمر أن جبريل قال: معي إليها رسالة من الرب تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله. وانظر السيرة النبوية (2/79) .
وذكره الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 37، رقم 27) بقوله: قال ابن هشام وحدثني من أثق به أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
…
فذكره.
ذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء، ثم قال:«صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء» (1) .
وفي رواية: فذكرها يوماً فقلت: يا رسول الله هل كانت إلا عجوز قد أخلفك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال:«لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها» فقلت في نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً (2) .
هي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت، فقامت معه أربعاً وعشرين سنة وأشهراً، توفت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقيل: بخمس، وقيل: بأربع، وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام عن خمس وستين سنة، ودفنت بالحجون، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها.
وكان يسمى العام الذي ماتت فيه هي وعمه عام الحزن، فطمعت قريش بموتها في النبي صلى الله عليه وسلم وبالغوا في آذاه وتزوجت قبل، النبي صلى الله عليه وسلم برجلين أولهما: عتيق بن عابد، ثم تزوجها أبو هالة (3)
، فولدت منه هاله والظاهر وهند، فعاش هند (4)
وأدرك الإسلام
(1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 32، رقم 19) ، والطبرانى في المعجم الكبير (23/13، رقم 21) .
قال الهيثمى (9/224) : رواه الطبراني وأسانيده حسنة.
(2)
أخرجه أبو عمر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1824) . وأورده الحافظ في الإصابة (7/604) وعزاه إلى أبي عمر.
(3)
للمحب الطبري كلاماً طيباً في هذه المسألة نذكره ونوثقه إتماماً للفائدة فنقول:
قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص 11) : قال ابن شهاب: «تزوجت خديجة قبل النبى صلى الله عليه وسلم رجلين، الأول منهما: عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فولدت له حارثة، ثم خلف عليها بعده أبو هالة التيمى، وهو من بني أسيد بن عمير فولدت له رجلاً» .
قلت: رواه عن الزهري ابن عساكر في التاريخ (3/174) ، والطبراني في الكبير (22/445، رقم 1087) .
وأخرج ابن عساكر نحوه (3/69) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه.
وقال المحب الطبري: قال ابن إسحاق: «تزوجت وهي بكر: عتيق بن عابد ثم هلك عنها فتزوجها: أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة أحد بني عمر بن تيم، حليف بني عبد الدار فولدت له رجلاً وامرأة ثم هلك عنها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
قلت: أخرج ذلك الدولابي في الذرية الطاهرة (ص: 25، رقم 4)، وابن إسحاق في كتاب السيرة المسمى: المبتدأ والمبعث والمغازي (5/229، رقم 340) .
وقال المحب: قال الدارقطنى: «أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة» .
قلت: بين الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (11/63) : أن الدارقطني حكاه في كتاب الأخوة، ونقل عن الزبير بن بكار مثله في الإصابة (6/517، ترجمة: هالة بن هالة بن أبي هالة التميمي برقم 8919) .
وقال المحب الطبري: وعن قتادة قال: «أبو هالة هند بن زرارة بن النباش فولدت له هند بن هند» .
قلت: أورد قول قتادة هذا الحافظ في الإصابة (6/557، ترجمة: هند بن أبي هالة التميمي برقم 9013) .
وقال المحب الطبري: وروى عن ابن شهاب: «أنها تزوجت أولاً أبو هالة ثم عتيق، ذكره الدولابي، وأبو عمر وصحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» ولم يذكر ابن قتيبة غير الأول.
قلت: وقول ابن شهاب أخرجه الدولابي (ص 26، رقم 7) قال: كانت خديجة قبل النبي تحت أبي هالة أخي بني تميم وكانت بعد أبي هالة عند عتيق بن عابد المخزومي ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله «صحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» وهو قوله: بأنها تزوجت أولاً بأبي هالة، وقد سبق قوله: بأنها تزوجت أولاً بعتيق بن عابد.
ورجح زواجها بأبي هالة أولاً ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1817، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 2311) .
(4)
قال أبو عمر بن عبد البر في الإستيعاب (4/1545) كان رضي الله عنه وصافاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرح أبو عبيدة وابن قتيبة وصفه ذلك لما فيه من الفصاحة وفوائد اللغة. وقول أبو عمر حكاه عنه الدارقطني في كتاب الأخوة. انظر: الإصابة (6/557) .
قال المزي في تهذيب الكمال (30/315) : وحديثه من أحسن ما روي في وصف حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إسناد حديثه بعض من لا يعرف، وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود وذكر حديث ابن أبي هالة فقال: أخشى أن يكون موضوعاً. انتهى. قلت: قد أجاب أبو حاتم الرازى عن ذلك فيما نقله الحافظ في تهذيب التهذيب (11/63) فقال: قال أبو حاتم الرازي: روى عنه قوم مجهولون فما ذنب هند حتى أدخله البخاري في الضعفاء. انظر: الكامل في ضعفاء الرجال (7/134، ترجمة 2050 هند بن أبي هالة) ونقل عن البخارى قوله: هند بن أبي هالة روى عنه الحسن بن علي بن أبي طالب يتكلم في حديثه.
وأما عن حديثه في صفة النبى صلى الله عليه وسلم فيقول الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/557) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الحسن بن علي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي والبغوي والطبراني وغيرهم من طرق عن الحسن بن علي، ووقع لنا بعلو في مشيخه أبي علي بن شاذان من طريق أهل البيت، وأخرجه البغوي أيضاً وأخرجه ابن منده من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس أنه قال لهند بن أبي هالة صف لي النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: فحديثه في صفة النبى صلى الله عليه وسلم يروى من طريق الحسن وابن عباس كما قال الحافظ، فالحديث عند الترمذى في الشمائل المحمدية (ص، رقم 8) .
ورواه في موضع آخر (ص 184، رقم 226) مختصراً.
ورواه في موضع ثالث (ص 276، رقم 337) ولفظه أطول وجميعها من طريق الحسن بن على.
ورواه من طريقه أيضاً: الطبرانى في المعجم الكبير (22/155، رقم 414) .
قال الهيثمى في المجمع (8/278) : فيه من لم يسم.
ورواه البيهقى في شعب الإيمان (2/154، رقم1430) ، وابن عدى في الكامل (7/134) ، وابن حبان في الثقات (2/145) في باب ذكر وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/422) .
وأما حديث هند من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس فأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/437، رقم 1231)، والبغوي وابن منده كما قال الحافظ. انظر: الإصابة (6/557) .
وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأماً وأختاً أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة.
قال السهيلي: مات بالطاعون، طاعون البصرة (1)، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفاً فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته: واهند بن هنداه، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: قتل مع على يوم الجمل والأول هو الصحيح (2) .
* * *
(1) انظر: الإستيعاب (4/1545) قال ابن عبد البر: هكذا قال الزبير. وغيره يقول: إن هند ابن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة مجتازاً إذ مر بها فلم يقم سوق البصرة يومئذ وقالوا مات أخو فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح ما قاله الزبير في ذلك والله أعلم بأن هند بن أبي هالة قتل يوم الجمل وأن ابنه هند بن هند بن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة في الطاعون.
(2)
قاله الزبير بن بكار. انظر: الإستيعاب (4/1545) ، وتهذيب الكمال (30/316) ، والإصابة (6/557) .