المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الحادي عشر - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الحادي عشر

‌المجلس الحادي عشر

في قصة هرقل وما فيها

قَالَ البُخَارِي:

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟

قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ

ص: 249

يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ

الإيمان حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإيمان حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَا نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلَامَ، وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَاّ الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ

هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ

ص: 250

وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمان قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قوله: «حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره» .

قال العلماء: أبو سفيان بن حرب هو أبو معاوية وأخوه واسمه صخر بن حرب وهو قرشي أموي مكي، وكما يكنى بأبي سفيان يكنى بأبي حنظلة أيضاً، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة فتح مكة، وكان شيخ مكة حينئذ ورئيس قريش، وشهد مع الله صلى الله عليه وسلم حنيناً وفتح الطائف وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة من الأبل وأربعين أوقية، وفقئت عينه الواحدة يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك تحت رآية يزيد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهبت عينه وهي في يده:«أيهما أحب اليك عين في الجنة، وأدعو الله أن يردها عليك، قال: بل في الجنة» (1) ولو طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها لردها.

فإنه كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم إبراء المريض فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم رد عين قتادة بن النعمان يوم أحد بعدما ما وقعت جبينه وكانت أحسن عينيه (2) .

وتفل في عين علي رضي الله عنه يوم خيبر فشفيت.

هذا الذي رد عيناً بعد ما قلعت

وريقة قد شفا عين الإمام علي

وقطع أبو جهل يد معوذ بن عفراء، وجاء يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1680) في ترجمة أبي سفيان مسألة فقء عينه ولم يذكر الحديث الذي أورده المصنف هاهنا.

(2)

رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/187) عن زيد بن أسلم وغيره كذا قال.

وأورده ابن عبد البر الإستيعاب (3/1275) من رواية عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر بن عبد الله قال أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد وكان قريب عهد بعرس فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخذها بيده فردها فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً.

ورواه الطبري في التاريخ (2/66) عن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة

به. وانظر: السيرة لاين هشام (4/31) .

ص: 251

وألصقها فلصقت (1) .

ورد الله على أعمي بصره بتوسله به صلى الله عليه وسلم فقد روى النسائي عن عثمان بن حنيف: «أن أعمي قال: ادع لنا الله أن يكشف لي عن بصري فقال له: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قال: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بحرمه محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري، اللهم شفعه فيَّ قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره» (2) .

إن كان عيسى أبرأ الأعمي بدعوته ......فكم بتفلة قد رد من بصر

نزل أبو سفيان المدينة ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين وهو بن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع.

(1) بينت الروايات والأخبار أن اللقاء بين معوذ وأبو جهل كان في غزوة بدر الكبري، وبينت الأخبار أيضاً أن معوذ استشهد في نفس الغزوة بعد أن ساهم في قتل أبي جهل هو وأخوه عوف أجهدا أبو جهل حتى وقع على الأرض صريعاً وبعدها قتله عبد الله بن مسعود، ولم نقف على ما أورده المصنف هاهنا.

يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/492) : معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم، وأمه عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار في رواية محمد بن إسحاق وحده، وشهد بدراً وهو الذي ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف بن الحارث حتى أثبتاه وعطف عليهما أبو جهل لعنه الله يومئذ فقتلهما، ووقع أبو جهل صريعاً فذفف عليه عبد الله بن مسعود رحمه الله، وليس لمعوذ بن الحارث عقب.

وقال ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1442، ترجمة 2473) شهد بدراً مع إخوته معاذ وعوف بني عفراء هو الذي قتل أبا جهل بن هشام يوم بدر ثم قاتل حتى قتل يومئذ ببدر شهيداً قتله أبو مسافع.

وانظر أيضاً في ذلك الإصابة (6/193) .

(2)

رواه النسائي في السنن الكبرى (6/168، رقم 10494) عن عثمان بن حنيف بلفظ: «أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أعمى فادع الله أن يشفيني قال: «بل أدعك» قال: أدع الله لي مرتين أو ثلاثا قال: «توضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة» فقال: يا محمد إني أتوجه بك إلى الله أن يقضي حاجتي أو حاجتي إلى فلان أو حاجتي في كذا وكذا: اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي.

وأخرجه أيضاً: أحمد (4/138، رقم 17280) ، والحاكم في المستدرك (1/700، رقم 1909) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/30، رقم 8311) ، وفي المعجم الصغير (1/306، رقم 508) .

ص: 252

«أن هرقل» : هذا هو ملك الروم، و «هرقل» اسمه بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، ويقال:«هرقل» بإسكان الراء وكسر القاف، والهرقل بلغتهم وهو لا ينصرف للعلمية والعجمية وهو صاحب حروب الشام.

أقام في الملك إحدى وثلاثين سنة وفي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له قيصر، ومن ملك الفرس يقال له: كسرى، وكل من ملك الترك يقال له: خاقان، وكل من ملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل من ملك مصر يقال له: العزيز، وكل من ملك حمير يقال له: تبع.

واما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» (1) فالمراد منه: أنه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق، بل يكونان في غير هذين الأقليمين قاله إمامنا الشافعي في المختصر.

ومعنى قيصر: «البقير» ، ولقب بذلك لأن أمة لما أتاها الطلق به ماتت وبقي يضطرب في جوفها فبقر بطنها أي: شق فخرج حياً وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعاً جباراً مقداماً في الحروب وهو أول من ضرب الدنانير وأحدث البيعة.

وسئل الشافعي عنه هل يقال هرقل أم قيصر؟ فقال: هرقل هو وقيصر الأول علم له والثاني لقباً، كما يقال على أمير المؤمنين.

«أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام» قال ابن عسار: الشام مهموز، ويجوز تخفيفه، وفي لغة يجوز فيقال: شأم بفتح السين والمد وهو مذكر وجوز ثأنيثه، وحد الشام طولاً من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس ورجحه ابن حبان في صحيحه فقال: أول الشام بالس، وآخره العريش (2) ، وعرضاً من جبل طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما سامت ذلك من البلاد وهو ديار الأنبياء، وقدمنا ان نبينا صلى الله عليه وسلم دخل أرض الشام أربع مرات مرتين قبل النبوة ومرتين بعدها، ودخله عشرة آلاف صحابي.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (3/1325، رقم 3422) ، ومسلم في صحيحه (4/2236، رقم 2918) من حديث أبي هريرة.

(2)

قاله ابن حبان في الصحيح (16/294) عقب حديث (رقم 7305) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستخرج عليكم نار في آخر الزمان من حضرموت تحشر الناس» قال: قلنا بما تأمرنا يا رسول الله قال: «عليكم بالشام» قال أبو حاتم: أول الشام بالس وآخره عريش مصر.

ص: 253

«في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان كفار قريش فآتوه وهم بإيلياء» وإيلياء هو بيت المقدس، وفيه أربع لغات إيلياء بالمد موزون كبرياء، وإيلياء بالقصر والياء بوزن إعطاء، وإيلياء بتشديد الياء ومعناه بيت الله.

ولمسجد بيت المقدس فضائل وخصوصيات منها: أنه أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» (1) .

ومنها: أن الله تعالىسماه مباركاً حيث قال ?إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ? [الإسراء: 1] قال مجاهداً: سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة، وقيل: سماه مباركاً من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها انفجارها كان من تحت الصخرة.

ومنها: أن الدجال لا يدخله قال صلى الله عليه وسلم «إن الدجال يدخل الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور» (2)

رواه أحمد بن حنبل في المسند.

ومنها: أن الصلاة فيه بألف صلاة فقد أخرج ابن ماجه وأبو داود عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم إنها قالت في بيت المقدس قال: «أرض المحشر والمنشر إتيوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة» (3) .

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/398، رقم 1132) ، ومسلم في صحيحه (2/1014، رقم 1397) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (5/364، رقم 23139) عن جنادة بن أبي أمية قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدخلنا عليه فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحدثنا ما سمعت من الناس، فشددنا عليه فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أنذركم المسيح وهو ممسوح العين أحسبه قال: العين اليسرى، تسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض أربعين صباحاً يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى والطور» .

وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة أبي شيبة في المصنف (7/495، رقم 37506) .

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/343) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وقال ابن حجر في فتح الباري (13/105) : رجاله ثقات.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1/125، رقم 457) ، وابن ماجه (1/451، رقم 1407) عن ميمونة.

وأخرجه أيضاً: إسحاق بن راهويه في مسنده (1/106، رقم 1) ، وأبو يعلى في مسنده (12/523، رقم 7088) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/216، رقم 3448) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/32، رقم 54) ، ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في فضائل بيت المقدس (ص 49، رقم 16) ، والديلمي في الفردوس (2/25، رقم 2159) مختصراً.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/14) : وإسناد طريق ابن ماجة صحيح رجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود فإن بين زياد بن أبي سودة وميمونة: عثمان بن أبي سودة كما صرح به ابن ماجة في طريقه، وكما ذكره العلاء بن صلاح الدين في المراسيل.

ص: 254

ومنها: أن من زاره حط الله عنه أوزاره، ومن صلى فيه كفر الله عنه ذنوبه، ولنا عوداً إلى كلام على فضائله في المجالس الآتية.

قال العلماء: حديث هرقل الذي ساقه البخاري هنا حديث جليل مشتمل على كثير من الفوائد، قال ابن رجب (1) : من أظن أن هذا الحديث سمر من الأسمار وخبر من الأخبار لا يتضمن علماً كما يحكى عن بعض المتأخرين فهم في غاية الجهل والعمى والطغيان، وإنما أخرجه البخاري في بدء الوحي إن لم يكن فيه بدء الوحي لتضمنه من أعلام النبوة وبراهنيها.

فائدة: هرقل قيل: كان ساكناً في مدينة في مدينة حمص، وكانت دار ملكة وكانت في زمانهم أعظم من دمشق وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنه ستة عشر بعد قصة هرقل بعشر سنين، سميت بحمص باسم رجل من العمالقة اسمه: حمص بن المهر بن حاف، كما سميت حلب بحلب بن المهر، قاله ابن الملقن.

فائدة: دخل مدينة حمص من الصحابة تسعمائة رجل قاله الثعلبي.

فائدة أخرى: حمص هي إحدى مدائن الجنة الخمسة ورد عن كعب الأحبار: «خمسة مدن في الدنيا في الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وحمص، وخمسة مدن في الدنيا في النار رومية وقسطنطينية وهي أسطنبول وأنطاكيه وصنعاء وتدمر» قيل: المراد بأنطاكية المحترقة لا هذه، وبصنعاء بلد بأرض الروم لا صنعاء اليمن.

فائدة أخرى: ورد في مسند أحمد بن حنبل لكن ضعيف أن من أهل حمص سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب (2) .

(1) ابن رجب هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج، زين الدين: حافظ للحديث، من العلماء. ولد في بغداد سنة: 736 هـ، ونشأ وتوفي في دمشق في سنة: 795 هـ، من كتبه: شرح جامع الترمذي وجامع العلوم والحكم في الحديث، وهو المعروف بشرح الأربعين، وفضائل الشام، والإستخراج لأحكام الخراج، والقواعد الفقهية، ولطائف المعارف، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لم يتمه، وذيل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، والاقتباس من مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وأهوال القبور، وكشف الكربة في وصف حال أهل الغربة رسالة في شرح حديث بدأ الإسلام غريباً، والتوحيد، ورسالة في معنى العلم.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (1/19، رقم 120) عن حمزة بن عبد كلال قال سار عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام

فذكر قصة لعمر فيها: فسمعته يقول: ردوني عن الشام بعد أن شارفت عليه لأن الطاعون فيه، ألا وما منصرفي عنه مؤخر في أجلي، وما كان قدومه معجلي عن أجلي، ألا ولو قد قدمت المدينة ففرغت من حاجات لا بد لي منها فيها لقد سرت حتى أدخل الشام ثم أنزل حمص فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ليبعثن الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب ولا عذاب عليهم، مبعثهم فيما بين الزيتون وحائطها في البرث الأحمر منها» .

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/61) رواه أحمد وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو ضعيف.

وأخرجه أيضاً: البزار (1/449، رقم 317) بنحو لفظ أحمد إلا أنه قال: «تسعين ألفاً» .

وأعله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/408) بعد عزوه للبزار بأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم أيضاً.

وأخرجه من طريق آخر ليس فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الحلكم في المستدرك (3/95، رقم 4504) من طريق راشد بن سعد أن أبا راشد حدثهم يرده إلى معدي كرب بن عبد كلال أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سافرنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه آخر سفره إلى الشام

فذكره وأعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ص: 255

ومشي هرقل مرة من حمص إلى بيت المقدس، قال العلماء: وقصة هرقل وسبب مشية إلى بيت المقدس كما ذكره الطبري وغيره أن كسرى أرسل جيشه إلى بلاد هرقل فخربوا كثيراً منها ثم استبطأ كسرى الأمير الذي أرسله إلى بلاد هرقل واسمه: «شهر براده» فعزله وأضم على قتله، وولي أمير غيره يقال له فارخان فسمع المعزول أن كسرى عزله فصالح هرقل واتفق معه على كسرى، وانهزم عنه بجنود فارس فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكر الله تعالى على كشف جنود فارس عنه، وكان يبسط البسط ويوضع عليها رياحين فيمشي.

فلما وصل إلى بيت المقدس سنة ست من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فقال:«من ينطلق بكتابي هذا إلى قيصر فله الجنة» قالوا: وإن لم يقيل يا رسول الله قال: «وإن لم يقبل» فانطلق به دحية إلى أمير بصرى وهو: الحارث بن أبي شمر الغساني، فأرسله أمير بصرى إلى هرقل فوصل دحية بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال هرقل قبل قراءة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض بطارقته:«قلب لي الأرض ظهراً والبطن وأتني بمن يعرف هذا الرجل» يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: فتش لي على أحد يعرف هذا النبي الذي أرسل لنا هذا الكتاب حتى نسأله عن أحواله وعلامته الثابتة عندنا في التوراة والإنجيل، فذهب ذلك البطريق إلى غزة فرأى في غزة أبا سفيان ومعه جماعة من أهل مكة يبلغون ثلاثين، وقيل: عشرين وكلهم كانوا إذ ذاك كفاراً أو خرجوا من مكة إلى غزة للتجارة، فإن أهل مكة إذ ذاك يسافرون إليها للتجارة وكان

ص: 256

أبو سفيان كبيرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح أهل مكة على ترك القتال عشر سنين، وذلك في الحديبية في أخر السنة السادسة، فخرج أبو سفيان ومن معه إلى غزة فرآهم البطريق هناك.

هذا معنى قول البخاري: إن هرقل أرسل إلى أبي سفيان في ركب من قريش أي: حال كونه في ركوب وكانوا تجاراً بالشام.

«في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها كفار قريش» أي: مصالحاً فيها أبا سفيان وكفار فريش، «وماد» فعل ماض من المفاعلة وهو الاتفاق على مدة مأخوذ من المداد ومن المدة.

فلما رأى البطريق أبا سفيان ومن معه ساقهم إلى بيت المقدس حتى أحضرهم عند هرقل كما قال البخاري وهم بإيلياء.

«فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم» ، والمراد: فدعاهم حال كونه جالساً في محل حكمه لا في خلوة ولا في الحرم أي: أمر بإحضارهم.

وجاء في رواية: أنه كان على رأسه التاج وعظماء الروم مطبقون به من جوانبه.

فائدة: الروم اسم لهذا الجبل المعروف من ولد الروم بن عيصوا فكأنه اسم أبيهم عليهم.

«ثم» حضروا مجلسة ودعاهم أي: أستدعاهم.

«ودعا ترجمانه» والترجمان: بفتح الياء والجيم وقد تضم التاء اتباعاً لها هو الذي يعبر لغة بلغة.

فقال هرقل للترجمان قل لهم «أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا به» وإنما كان أقربهم لأنه من بني عبد مناف، وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذا لأبي سفيان.

قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيرى، وإنما خص هرقل الأقرب بالسؤال عن حال النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مطلع على أمره ظاهراً أو باطناً أكثر من غيره، وإلا يعد لا يؤمن أن تحمله العداوة على الكذب والقدح فيه بخلاف القريب فإن نسبه يمنعه من ذلك.

«قال: أي هرقل لأصحابه أدنوه مني» أي: قربوا أبا سفيان مني «وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره» ، والحكمه في جعل أصحابه وراء ظهره أنه إذا سأله عن شيء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فكذب ردوا عليه أصحابه وبينوا كذبه، بخلاف ما إذا

ص: 257

جلسوا مواجهين له فقد يمنعهم الحياء من أن يواجوه بالتكذيب، إذا المقابلة بالتكذيب في الوجه صعبة.

«ثم قال» أي: هرقل «لترجمانه قل لهم» أي: لأصحاب أبي سفيان «إني سائل هذا» أي: صاحبكم أبا سفيان «عن هذا الرجل» أي: الذي يزعم أنه نبي «فإن كذبني» أي: نقل إلى عن محمد بأن قال فيه خلاف الواقع «فكذبوه» أي: لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه بل كذبوه.

«قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً بالكذب عليه» ، وفي نسخة «لكذبت عنه» وهي إما بمعنى لأخبرت عنه بالكذب، وإما بمعنى: على أي: لكذبت عليه.

معنى كلام أبي سفيان: لولا الحياء من أن رفقتي يرون عني ويحكون في بلادي كذباً فأعاب به لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو، لكذبت عليه لبغضي إياه ولمحبتي نقصه، ويعلم من هذا أن الكذب كان قبيحاً في الجاهلية.

فائدة: صرح فقهاؤنا بأن شهادة العدو على عدوة لا تقبل للتهمة، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تقبل شهادة ذي غمر» (1)

بكسر الغين أي: عدو حقود على أخيه ويفرح بمصيبته

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/545، رقم 2298) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا مجلودة ولا ذي غمر لأخيه

الحديث» .

قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال: ولا نعرف معنى هذا الحديث ولا يصح عندي من قبل إسناده، والعمل عند أهل العلم في هذا أن شهادة القريب جائزة لقرابته، واختلف أهل العلم في شهادة الوالد للولد، والولد لوالده، ولم يجز أكثر أهل العلم شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد.

وقال بعض أهل العلم إذا كان عدلاً فشهادة الوالد للولد جائزة، وكذلك شهادة الولد للوالد ولم يختلفوا في شهادة الأخ لأخيه أنها جائزة، وكذلك شهادة كل قريب لقريبه.

وقال الشافعي: لا تجوز شهادة الرجل على الآخر وإن كان عدلاً إذا كانت بينهما عداوة، وذهب إلى حديث عبد الرحمن الأعرج عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا:«لا تجوز شهادة صاحب إحنة» يعني صاحب عداوة، وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال:«لا تجوز شهادة صاحب غمر لأخيه» يعنى صاحب عداوة.

والحديث رواه أبو داود (3/306، رقم 3600) من طريق سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه» .

وأخرجه أيضاً: سنن ابن ماجه (2/792، رقم 2366) إلا أنه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده

به.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/54) : هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج بن أرطأة، رواه من طريقه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده

به، وله شاهد من حديث عائشة رواه الترمذي في الجامع.

ص: 258

ويحزن لمسرته، والعداوة وقد تكون من الجانبين وقد تكون من أحدهما، نعم لنا صورة تصح فيها شهادة العدو على عدوه، وهي ما كان بينهما عداوة دينية كشهادة المسلم على الكافر، والسني على المبتدع، فإن البغض لله ليس قادحاً في الشهادة فيمن أبغضته لفسقه قبلت شهادتك عليه، وأما الشهادة للعدو فأنها تقبل إذا لم يبغضه لعدم التهمة، والفضل ما شهدت به الأعداء.

قال أبو سفيان: «ثم كان أول ما سألني عنه هرقل على لسان الترجمان أن قال: كيف نسبه فيكم» يعني هل من أشرافكم «قلت: هو فينا ذو نسب» أي: صاحب نسب عظيم.

«قال» أي: هرقل «فهل قال هذا القول منكم أحد قط» يعني هل أدعى النبوة من قومكم قريش أو العرب أحد قط قبله؟ «قلت: لا» .

«قال: فهل كان من آبائه من ملك» أي: من تولي الملك «قلت: لا» .

«قال: فأشراف الناس» أي: كبارهم وأهل الأحساب منهم «اتبعوه أم ضعفاءهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم» .

قول أبي سفيان أن الضعفاء اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم دون الأكابر نظراً إلى غالب أتباعه، فلا يشكل بمن سبق إلى أتباعه من أكابر أشراف دينه كالصديق والفاروق وحمزه وغيرهم، وإنما كان أتباع الرسل الضعفاء دون الأشراف، لأن الأشراف يأنفون من تقديم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون بل يسرعون إلى الانقياد أتباع الحق.

«قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه» أي: كرهه له بعد أن يدخل فيه، «قلت: لا» أي: لا يرتد أحد منهم لأجل كراهته لدين الإسلام بل إما مكرهاً وإما رغبة في غيره لحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن حجش.

وارتد بعد الصحابة أيضاً جماعة لحظ نفساني كما يحكى أن مؤذناً أذن في منارة أربعين سنة فصعد يوماً وأذن حتى بلغ حي على الصلاة فوقع بصره على امرأة نصرانية

ص: 259

فذهب عقله ولبه، وترك الأذان وذهب إليها وخطبها فقالت: مهري ثقيل عليك، فقال وما هو؟ فقالت: تدخل في ديني فكفر بالله ودخل في دينها، فقالت: إن أبي في أسفل الدار فأنزل إليه واخطبني منه فنزل وزلت رجله فسقط ومات كافراً ولم يقض شهوته نسأل الله تعالى أن يمتنا على الإسلام بمنه وكرمه.

«قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا» أي: لا نتهمه بالكذب، لكن ذكر ابن سيد الناس في السيرة أنه يروى في خبر أبي سفيان أنه قال لقيصر قد كذب قال: وما هو؟ قال: أنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيليا ورجع في تلك الليلة قبل الصباح قال: وبطريق إيليا عند قيصر، فقال: صدق ما قال، وما أعلمك بهذا قال إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت بعمالى ومن يحضرني فلم نستطيع أن نحركه، كأنما نزاول جبلاً فدعوت النجاري فنظر إليه فقال: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان فلا تستطيع أن نحركه حتى نصبح، فنظر من أين أتى فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليها، فإذا الجبل الذي في زاوية المسجد منقوب، وإذا فيه أثر ربط الدآبة، فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا هذا، فقال قيصر: يا معشر الروم أنتم تعملون أن بين عيسى وبين الساعة نبياً بشركم به عيسى ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا: بلى قال: فإن الله قد جعله في غيركم في أقل منكم عدداً وأصغر منكم بلاداً وهي رحمة يضعها حيث شاء.

«قال فهل يغدر» أي: ينقض العهد «قلت: لا، قال أبو سفيان: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها» .

يعنى: صالحناه على ترك القتال مدة لا ندري ما يفعل في هذه المدة، وهذا منه أشارة إلى عدم الجزم بغدره.

«قال أي: أبو سفيان ولم تملكني كلمة أدخل فيها شيئاً» أي: انتقصه به غير هذه الكلمة يعني قوله «ونحن في مدة منه لا ندري ما هو فاعل» فيها من قبيل إطلاق الكلمة على الكلمة.

قال ابن مالك:

* وكلمة بها كلام قد يؤم *

ولم يمكنه أن ينتقص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يعلم من أخلاقه صلى الله عليه وسلم الوفاء والصدق.

ص: 260

«قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال» أي: نوبة لنا ونوبة له، ولله درمن قال:

يوم علينا ويوم لنا ويوم نساء يوم لنرى

السجال: جمع سجل وهو الدلو الكبير، والمتحاربين كالمستقين يستقي هذا دلو ذاك.

وقوله: «ينال منا وتنال منه» قال البلقينى: هذا فيه دسيسة لأنهم لم ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم قط والذي وقع في أحد أن بعض المقاتلين قتل وكان العزة والنصر للمؤمنين.

«قال ماذا يأمركم قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول أباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» أي: الكف عن المحارم وخوارم المرؤة.

«والصلة» أي: صلة الرحم، وكم أمر الله به أن يوصل بالبر والإكرام والمراعاة ولو بالسلام والترحم، وأشار بقوله:«لا تشركوا، واتركوا» إلى التخلي عن الرذائل، وبقوله:«يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» إلى التحلي بالفضائل، ومحصله أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات.

«فقال» أي: هرقل فرغ من أسألته لأبي سفيان «للترجمان قل له» لأبي سفيان «سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذا الرسل تبعث في قومها» .

يعني يكونون أفضل القوم أشرفهم لأن من شرف نسبه كان أبعد من انتحال الباطل وأقرب الانقياد الناس إليه.

«وسألتك هل قال أحد منك هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل تأسى» وفي رواية «يتأسى» ومعنى كل منهما يقتدي ويتبع بقول قيل قبله.

«وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل» .

معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الإستكانة لا أهل استكبار، الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبي جهل وأشياعه إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد

ص: 261

حين من أراد سعادته منهم، وكذلك أتباع العلماء العاملين هم أهل الاستكانة، لا أهل الذين جعلوا الدنيا نصب أعينهم.

«وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم» .

قال العلماء: وزيادتهم دليل على صحة النبوة لأنهم يرون كل يوم يتجدد فيدخل فيه كل يوم طائفة.

«وسألتك أيرتد منهم أحداً سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب»

فإن الإيمان لا يدخل قلباً فيخرج منه فإنه يظهر نوراً، ثم لا يزال حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وغيرها.

لطيفة: حكى الإخباريون أنه كان في زمن فرعون امرأة ماشطة مؤمنة بموسى في الباطن، فبينما هي تمشط جارية من جواري فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعساً لفرعون ومن يعبده، فقالت لها الجارية: يا هذه ما هذا الكلام الذي سمعت؟ فقالت: هو كما سمعت، فقالت الجارية لها: فكلامك هذا يدل على أن ربك غير فرعون، فقالت: ورب الكعبة الله ربي وربك ورب فرعون ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون، قالت الجارية: وأين يكون ربك هذا؟ قالت: في السماء قدرته وفي الأرض سلطانه، قالت لها الجارية: فأنا أخبر فرعون بهذا، قالت الماشطة: دونك وفرعون فأخبريه بما شئت، فدخلت الجارية على فرعون وخرت له ساجده وقالت له: إن فلانة الماشطة تزعم أن لها رباً غيرك فغضب فرعون وبعث إلى زوجها وقال: ما هذا الذي تقول زوجتك؟ قال: وما الذي تقول؟ قال فرعون: تزعم أن لها رباً سواي، قال زوج الماشطة: صدقت، الله ربنا وربك ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا الله هو رب العرش العظيم، فاشتد غضبه من كلامه، وقال: لئن لم تنهيا عن هذا الكلام لأغلين لكما الزيت ولأطرحنكما فيه، قال: دونك فأصنع ما أنت صانع، فأمر فرعون بإحضار قدرة ثم ملئت زيتا ثم غلي الزيت، فلما نظرت المرآة إلى غليانة أيقنت بالهلاك والموت، فأقبلت على فرعون وقالت له: إن لي عندك حاجة فقال لها: تقضى، فقالت: إن كان ولابد من عذابنا فقدم أولادي أمامي وفعلت ذلك ليعظم أجرها بصبرها، فأمر فرعون بأولادهم في الزيت وهي تنظر إليهم، فنادها الولد الصغير: يا أماه العجل العجل فإنك على الحق وفرعون على الباطل، وهو من يعبده في النار،

ص: 262

فألقت نفسها على أثر أولادها، ثم تبعها أبو أولادها (1) .

فانظر إلى هذا الثبات على الإيمان والصبر على العذاب لحصول النعيم االأبدي.

«قال هرقل لأبي سفيان وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر» .

أي: لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، وبخلاف من طلب الآخرة فإنه لا يرتكب غدراً ولا غيره من القبائح.

«وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف» .

ثم قال هرقل بعد فراغه من الأسئلة وأجوبتها «فإن كان ما تقول يا أبا سفيان حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين» .

أي: بيت المقدس وأراد الشام وفي مسلم: «فإن يك ما يقوله حقاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج فلم أكن أظن أنه منكم معاشر العرب» (2) كأنه استبعد أن يتنبأ من العرب.

فإن قيل: من أين كان يعلم بخروج المصطفي صلى الله عليه وسلم حتى قال: كنت أعلم أن خارج؟

فالجواب: أن الكرماني قال في هذا: اعلم أن كل الذي قاله هرقل مأخذه إما من القرائن العقلية، وإما من الأحوال العادية، وإما من الكتب القديمة.

وقال ابن الملقن: إنما علم ذلك من التوراة والإنجيل.

وقال المازري (3) : هذه الأشياء الذي يسأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة إلا أنه يحتمل أنه كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه، لأنه قال: وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم.

ثم قال هرقل «فلو أني أعلم أني أخلص إليه» أي: أصل إليه «لتجشمت لقاؤه» أي: لتكلفت لقاؤه على خطر ومشقة، وحملت نفسي على الارتحال إليه لو كنت أتيقن الوصول إليه، لكني أخاف أن يعوقني عائق فأكون قد تركت ملكي، ولم أصل إلى خدمته.

«ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه» أي: مبالغة في العبودية والخدمة، واقتصاره على غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذ وصل إليه ولاية، ولا منصباً وإنما

(1) هذا مشهور بماشطة وله ألفاظ متقاربة فأخرجه أحمد في مسنده (1/309، رقم 2822) ، وابن حبان في صحيحه (7/163، رقم 2903) ، والحاكم المستدرك على الصحيحين (2/538، رقم 3835) ، وأبو يعلى (4/394، رقم 2517) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/450، رقم 12279) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/243، رقم 1636) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/275، رقم 288) عن ابن عباس.

(2)

انظر: رواية الإمام مسلم للحديث في صحيحه (3/1393، رقم 1773) .

(3)

المازري هو: محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، أبو عبد الله، محدث، من فقهاء المالكية مولده سنة: 453 هـ، نسبته إلى «مازر» بجزيرة صقلية، ووفاته بالمهدية له: المعلم بفوائد مسلم في الحديث، وهو ما علق به على صحيح مسلم، حين قراءه، ومن كتبه: التلقين في الفروع، والكشف والانباء في الرد على الإحياء للغزالي، وإيضاح المحصول في الأصول، وكتب في الأدب، وكانت وفاته سنة: 536هـ.

ص: 263

يطلب ما يحصل البركة.

قال العلماء: ولا يحكم بإيمانه بقوله هنا: إني أخاف أخلص إليه لتجشمت لقاؤه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولا بقوله فيما سيأتي، حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروجه صلى الله عليه وسلم وأنه نبي، ولا بقوله: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، وإنما لم يحكم بإيمان بذلك لأنه ظهر منه ما ينافيه حيث قال: قلت: مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فعلمنا أن ما صدر منه لم يصدر عن التصديق القلبي والاعتقاد الصحيح، بل لامتحان الرعية، بخلاف إيمان ورقة بن نوفل فإنه صحيح لأنه لم يظهر منه ما ينافيه.

وقال النووي: لا عذر له في قوله: لو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاؤه» لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما شح بالملك ورغب بالسياسة، وآثرها على الإسلام كما ورد في هذا الصحيح، ولو أراد الله لوفقه كما وفق النجاشي ومازالت عنه الرئاسة.

وقال الخطابي: إذا تأملت معاني استقراؤه من أوصافه تبينت قوة إدراكه، فلله درة من رجل ما كان أعقله لو ساعد معقوله مقدوره.

وقال شيخ الإسلام ابن حجر: يقوي أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين.

ويدل على عدم إيمانه أيضاً ما رواه ابن حبان في صحيحة أنه قارب الإجابة ولم يجب (1) .

وورد أيضاً في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب بل هو باق على نصرانيته» (2) .

(1) لم نقف عليه عند ابن حبان بهذا اللفظ وسيأتي في تخريج الحديث الآتي لفظ آخر عند ابن حبان، وربما رواه في غير الصحيح، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (1/37) وعزاه إليه من حديث أنس بن مالك قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضاً من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب.

(2)

لم نقف عليه في مسند أحمد وأورده أيضا الحافظ في الفتح (1/37) ، إلا أننا وقفنا على رواية لابن حبان بمعناه (10/357، رقم 4504) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينطلق بصحيفتي هذه الى قيصر وله الجنة» فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟ قال: «وإن لم تقتل» فانطلق الرجل به فوافق قيصر، وهو يأتي بيت المقدس قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره، فرمى بالكتاب على البساط وتنحى فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه ثم دعا رأس الجاثليق فأقرأه فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك فنادى قيصر: من صاحب الكتاب فهو آمن، فجاء الرجل فقال: إذا أنا قدمت فأتني فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا ينادي ألا إن قيصر قد اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم وترك النصرانية فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا بقصره، فقال لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترى إني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديا فنادى ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما خبركم لينظر كيف صبركم على دينكم، فارجعوا فانصرفوا وكتب قيصر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسلم وبعث إليه بدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ الكتاب: «كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية» وقسم الدنانير.

ص: 264

وورد أيضاً بطريق ضعيف كما قاله الطبراني أنه قال: أعرف أنه كذلك، أنه نبي ولكن لا أستطيع أن أفعل أن أبايعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم (1) .

قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : لو تفطن لقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.

وأما قول صاحب الاستيعاب: «آمن» فمحمول على أنه أظهر الإيمان لكنه لم يستمر عليه، وشح بملكه وخاف أن يقتله قومه وآثر الفانية على الباقية والله الموفق.

وقال أبو سفيان «ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث» أي: أرسله «مع دحية إلى عظيم بصرى» أي: أميرها «فدفعه إلى هرقل» .

قال العلماء: يجوز في دال دحية الفتح والكسر، ويقال له دحية الكلبي وهو دحية بن خليفة، وكان رضي الله عنه من أجمل الصحابة وجهاً ومن كبارهم وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا على صورته (3) .

(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/225، رقم 4198) عن دحية الكلبي.

ورواه أيضاً: الأصبهاني في دلائل النبوة (ص 153، رقم 168) .

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/306) : رواه الطبراني وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف.

(2)

انظر: فتح الباري (1/37) .

(3)

حديث إتيان جبريل في صورة دحية الكلبي أخرجه النسائي (8/101، رقم 4991) والبزار (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفي المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة.

وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر جميعاً بلفظ: «كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي» .

ص: 265

وذكر السهيلي عن ابن عبد السلام في قوله تعالى ?أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا? [الجمعة: 11] قال: كان اللهو ونظرهم إلى وجه دحية لجماله.

وروي أنه كان إذا قدم الشام لم تبق امرأة مخدرة إلا خرجت تنظر إليه، أسلم قديماً ولم يشهد بدراً وشهد المشاهد بعدها، وبقي إلى خلافة معاوية وسكن «المزة» قرية بقرب دمشق.

«فأخذ هرقل الكتاب فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله» إنما قال: عبد الله تعريضاً ببطلان ما تقوله النصارى من أن المسيح هو ابن الله، لأن حكم الرسل كلهم واحد في كونهم عباد الله، وقال: عبد الله ورسوله ولم يعكس من باب الترقي.

«إلى هرقل عظيم الروم» إنما قال صلى الله عليه وسلم عظيم الروم، ولم يقل ملك الروم لأنه معزول عن الملك بحكم دين الإسلام، ولا سلطنة لأحد إلا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يُخْلِه صلى الله عليه وسلم من نوع الإكرام في المخاطبة، ليكون أخذ بأدب الدين في تليين القول لمن يدعوه إلى دين الحق، فلهذا قال: عظيم الروم، أي: الذي تعظمه الروم ولم يقل إلى هرقل فقط وقد أمر الله بتليين القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [الإسراء: 125] .

«سلام على من اتبع الهدى» لم يقل صلى الله عليه وسلم: سلام عليك، إذ الكافر لا سلام عليه دون لأنه مخزي في الدنيا بالحرب والقتل والسبي، وفي الآخرة معذب بالعذاب الأبدي، وفيه إشعار بأنه إذا اتبع الهدى كان من أهل السلامة.

فائدة: قال العلماء: لا يجوز للمسلم أن يسلم على الكافر لأنه صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك بقوله «لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام» (1) .

وليس المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «على من اتبع الهدى» التحية بل معناه: سلم من

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1707، رقم 2167) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 380، رقم 1111) ، والترمذي في سنن الترمذي (4/154، رقم 1602) ، وأحمد في مسنده (2/266، رقم 7606) جميعاً عن أبي هريرة.

ص: 266

عذاب الله لمن أسلم، فلو سلم على من لم يعرفه فبان ذمياً أُستحب أن يسترد سلامة بأن يقول: استرجعت بسلامي تحقيراً له، نعم يجوز للمسلم أن يحيي الذمي بغير السلام بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك، ولو سلم الذمي على المسلم وجب أن يرد عليه ولم يزد في الرد على قوله وعليك لخبر الصحيحين «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (1)، وفي هذا الصحيح «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا وعليك» (2) .

«أما بعد» يجوز في دال أما بعد أربعة أوجه الضم والفتح والرفع مع التنوين والنصب معه أيضاً، واختلف العلماء في أول من نطق بها على أقوال: فقيل: داود، وقيل: قس بن ساعده، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها في خطبة وشبهها روى ذلك عنه عدة من الصحابة.

«فأنا أدعوك بدعائه الإسلام» أو بدعوة الإسلام، أي: آمرك بكلمة التوحيد وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي يدعى إليها الأمم.

وفي هذا الصحيح في الجهاد: «أدعوك بدعاية الإسلام» أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام «أسلم تسلم» أي: إن أسلمت تبق سالماً وهذا من محاسن الكلام وبليغة وإيجازه واختصاره، وفيه نوع من البديع وهو الجناس فهو كقوله تعالى ?وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ? [النمل: 44] .

«يؤتك الله أجرك مرتين» جواب ثاني للأمر إن أسلمت تسلم يؤتك الله أجرك مرتين عند الإسلام، كونه كان مؤمناً بعيسى ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال البرماوي آخر كتاب النكاح: «فائدة: قال العلماء: في قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه إلى قيصر: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» هذا يدل على أن قيصر كان على دين عيسى عليه السلام حين كان حقاً قبل التبديل والنسخ، وإلا فلم يكن له أجره مرتين لو أسلم» .

ويدل على أنه وأصحابه أهل كتاب لأنه خاطبه بيأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ويحتمل أنه يكون تضعيف الأجر له مرتين من جهة إسلامه ومن

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2309، رقم 5903) ، ومسلم (4/1705، رقم 2163) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

انظر: صحيح البخاري (5/2309، رقم 5902) رواه البخاري عن ابن عمر.

ص: 267

جهة أن إسلامه يكون سبباً لدخول اتباعه في دين الإسلام.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن توليت» أي: أعرضت عن الإسلام «فإن عليك إثم الأَرِيسِيِّينَ» أي: الأكارين وهم الفلاحون، وأرد صلى الله عليه وسلم أن عليك إثم جميع رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، وإنما اقتصر على الزارعين منهم لأنهم كانوا هم الأغلب فيهم، لأنهم أسرع في الانقياد، فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، حذره صلى الله عليه وسلم إذا كان رئيساً متبوعاً مسموعاً أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمله، قال عليه الصلاة والسلام:«من عمل سيئة كان له إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» (1)

وتقديم لفظ عليك على اسم أن مفيد للحصر أي: ليس أثمه إلا عليك.

قال شمس الأئمة الكرماني: فإن قلت: فكيف يكون إثم غيره عليه وقال تعالى ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الزمر: 7] قلت: المراد إثم الإضلال عليه والإضلال أيضاً كالضلال على أنه معارض لقوله تعالى ?وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ? [العنكبوت: 13] .

قال ابن حجر: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو فإن عليك مع إثمك إثم الأَرِيسِيِّينَ لأنه إذا كان إثم الأتباع عليه بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر، فلأن يكون عليه إثم نفسه.

ثم قال صلى الله عليه وسلم ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ? وهو عطف على بسم الله الرحمن الرحيم ?تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? [آل عمران: 64] .

والحكمة في تخصيص هذه الآية بالإرسال إلى هرقل دون غيرها من الآي أنه نصراني، والنصارى جمعت هذه الأمور الثلاثة عبدوا غير الله وهو عيسى، وأشركوا بالله فقالوا إنه ثالث ثلاثة، واتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، قال الله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ? [التوبة: 31] .

قال أبو سفيان «فلما قال» يعني هرقل «ما قال» أي: من الأسئلة والأجوبة

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2059، رقم 1017) عن جري بطرف: «من سن سنة

» .

وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/43، رقم 2675) ، والنسائي في سننه (5/75، رقم 2554) ، وابن ماجه (1/74، رقم 203) ، وأحمد في مسنده (4/361، رقم 19223) ، والدارمي في سننه (1/141، رقم 514) .

ص: 268

«وفرغ من قراءة الكتاب» أي: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، «كثر عنده» أي: عند هرقل، «الصخب» أي: اللغط وهو أصوات مختلفة مبهمة لا تفهم، فلا أدري ما قالوا، «وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي: أخرجنا» أي: من مجلسه «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة» هذا جواب لقسم محذوف تقديره: والله قد أمر أي: أعظم أمر أبن أبي كبشه أي: أمر محمد.

وأختلف العلماء في أبي كبشه الذي نسبه إليه أبو سفيان هنا فقيل كان رجلاً من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وكان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك، فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوه ابناً له لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشه.

وقيل: أبو كبشة جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه من الرضاع، وقيل: من قبل أمة وإنما نسبوه إلى هذا الجد تحقيراًٍ له بنسبته إلى غير نسبه المشهور، فإنه كان من عادة العرب إذا انتقضت أحداً نسبه إلى جد غامض.

فائدة: لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم بيده قط أحداً سوى أبي بن خلف قاله في البرهان في شرح السيرة، ولما طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طعنني ابن أبي كبشة قاله ابن الملقن.

ثم قال أبو سفيان «إنه يخافه ملك بني الأصفر» أي: ملك الروم وسمى الروم الأصفر فقيل: لأن جدهم روم بن غيص بن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، وقيل لأولاده بنو الأصفر، وقيل: لهم بني الأصفر لأن جيشًا من الحبشة غلب على ناحيتهم في وقت، فوطئ نساءهم فولدن أولادًا صفرًا من سواد الحبشة وبياض الروم.

قال أبو سفيان «فمازالت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام» وتقدم أنه أسلم ليلة الفتح، قال بعضهم: لم يسلم ليلة الفتح إلا في الظاهر فلهذا أظهر النفاق بعدها في غزوة حنين، ثم حسن إسلامه في الطائف، وإيمانه رضي الله عنه صحيح خلافاً لما يقع في بعض التواريخ، وتقدم أن أبا سفيان كان يسمى بصخر، وكان يسمى أبوه حرب، وكان جده يسمى بأميه بن أبي الصلت، وكان أميه شاعراً وكان شعره مشتملاً على الوحدانية والبعث، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم شعره فقال:«لقد كاد أن يسلم» قال ذلك لما سمع قوله:

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا

فلا شيء أعلا منك حمداً وأمجدا

وكان أبوه قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية، وكان يعلم بأمر صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه

ص: 269

فطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصرفت النبوة عن أميه حسده وكفر وأنزل في حقه كما قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ? [الأعراف: 175] ، وأما ولده حرب جده معاوية فإن الجن قتلوه بمفازة وأنشدوا فيه.

وقبر حرب بمكان فقر وليس قرب قبر حرب قبر

ولقتله سبب ذكره الكمال الدميرى في الغراب.

قال الإمام النووي رضي الله عنه: اعلم أن هذه القطعة أي: من قصة هرقل مشتملة على جميل من القواعد ومهمات من الفوائد:

منها: جواز مكاتبة الكفار وقد كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ستة من ملوك الكفار غير هرقل كما سنذكرهم في محلهم إن شاء الله تعالى.

ومنها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم.

ومنها: استحباب تصدير الكتب بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافراً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر قبل نزول البسملة يصدر كتابه باسمك اللهم على طريقة قريش حتى نزلت ?بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا? [هود: 41] فكتب بسم الله حتى نزلت ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ? [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت ?إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? [النمل: 30] فكتبها.

ومنها: أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن بيد الكتاب بنفسه فيقول من فلان إلى فلان، وإن كان المرسل إليه أعظم من المرسل كما عليه الأكثر، قال الربيع بن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يكتبون إليه مبتدين بأنفسهم وهم مقتدون في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه بدأ بنفسه لما كاتب هرقل وغيره فقال: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.

وروى: أن هرقل لما أخرج كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأه فرأى أخو هرقل أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بنفسه فأخذ الكتاب ليمزقه فأخذه هرقل وقال: أنت أحمق صغير وأحمق كبير ، وقرأه.

ومنها: أن فيه دلالة على جواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوشة فيها بسم الله للضرورة، ونقل عن مالك الكراهة.

ومنها: أن فيه دلالة على جواز مسافرة المسلم إلى أرض الكفار.

ومنها: أن فيه دلالة على جواز بعث آية من القرآن ونحوها إليهم، نعم لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الكفر، وكذلك لا يجوز المسافرة بحمله منه خوفاً من وقوعه

ص: 270

في أيدي الكفار، وعليه يحمل النهي عن المسافرة بالقرآن إلى بلاد العدو.

ومنها: أن فيه دلالة على أن العدو لا يؤمن أن يكذب على عدوه.

ومنها: وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا لما بعثه مع دحية وحده، وذلك بإجماع من يعتد به.

ومنها: أن فيه دلالة على جواز مس الجنب أو الكافر ما في الكتاب وغيره إذا كان غير القرآن أكثر.

ومنها: أنه لابد من استعمال الورع في الكتابة، فلا يفرط ولا يفرط، ولهذا قال له: هرقل عظيم الروم.

ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز، وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله: أسلم تسلم في نهاية الاختصار والبلاغة وجمع المعاني.

ومنها: أن من أدرك نبيين متبعاً لهما فله أجره مرتين.

ومنها: أن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلاماته كان معلوماً لأهل الكتاب علماً قطعيًا، وإنما ترك الإيمان منهم من تركه عنادًا وخوفًا على فوات مناصبهم.

ومنها: أن من كان سببًا للضلالة أو منع هداية كان إثما.

ومنها: استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات ونحوها.

فائدة: ذكر بعض شراح البخاري أن دحية لما قدم على هرقل قال له: يا قيصر أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله خير منه ومنك، فاسمع بذل وأجب تنصح، فأنك إن لم تذل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف، قال: هات، قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم، قال فأني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من خلق السماوات والأرض، والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى وبشر به عيسى بن مريم بعده، وعندك من ذلك آثار من علم يكفي من العيان، ويشفي من الخبر، فإن أحببت كان لك الدنيا والآخرة وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، اعلم أن لك رباً يقصم الجبابرة ويقرر النعم، فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينه ورأسه وقلبه، ثم قال: والله ما تركت كتاباً إلا قرأته ولا عالماً إلا سألته، فما رأيت إلا خيراً فأمهلني حتى انظر من كان المسيح يصلي له، وأنا أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غداً ما هو أحسن منه، فأرجع عنه فيضرني ولا ينفعني، أقم حتى انظر فلم يلبث أن أتته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خاتمة: روي أن هرقل وضع كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في قصعة من ذهب تعظيماً

ص: 271

له، وأنهم لم يزالوا يتوارثون كابرًا عن كابر في أرفع صوان وأعز مكان.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين المنصوري قال: أرسلني ملك الإفرنج في شفاعة فقبلها وعرض على الإقامة عنده فقال: لأتحفنكم بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقًا مصحفًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب فأخرج منه كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، مازلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا أباؤنا عن أبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصاري ليدوم الملك فينا.

ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جواب هرقل قال: «ثبت ملكه» (1) .

قال ابن حجر: ثم قال البخاري «وكان ابن الناظور» روي بالطاء المهلمة وبالظاء المعجمة ومعناه: حافظ الزرع والناظز إليه، وهو معطوف على وأخبرني عبيد الله، والتقدير: عن الزهري، وأخبرني عبيد الله

فذكر الحديث، ثم قال الزهري:«وكان الناظور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام» ، وهرقل مجرور بالعطف على إيلياء أي: كان ابن الناظور صاحب إيلياء وصاحب هرقل أسقفًا.

قال الكرماني: ولفظ الصاحب هذا بالنسبة إلى هرقل حقيقة فإنه بمعني الصديق وبالنسبة إلى إيلياء مجازًا إذا المراد الأحكام فيه، وإرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد باستعمال واحد جائز عند الشافعي، وإما عند غيره فهو مجاز بالنسبة إلى المعنيين باعتبار معنى شامل لهما، ومثله يسمى بعموم المجاز، ويجوز في صاحب النصب على الاختصاص أي: على الحال، والرفع على أنه مبتدأ محذوف، وقوله «يحدث» خبر «كان» .

فائدة: النصارى جمع نصراني سمو بذلك لنصره بعضهم بعضاً، أو لأنهم نزلوا موضعاً يقال له نصرانه أو ناصره، أو لقوله تعالى ?مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [الصف: 14] والمعنى: أن هرقل لما وصل إلى بيت المقدس، وكان إذ ذاك ببيت المقدس حاكم يقال له ابن الناظور وكان صاحب هرقل وكان أسقفاً على نصارى الشام أي: عالمهم وقاضيهم ومقتداهم «وكان يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء» أي: في الأيام التي انتصرت جنوده على جنود فارس وأخرجهم من بلاده ، «وأصبح يوماً خبيث

(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/177، رقم 18386) من قول الشافعي.

ص: 272

النفس» أي: رديء النفس غير طيبها أي: أصبح ما غير نشط ولا منبسط «فقال له بعض بطارقته» أي: خواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم «قد استنكرنا هيئتك» أي: أنكرنا حالتك أي: رأيناها مخالفة لسائر الأيام «قال ابن الناظور: وكان هرقل حَزَّاءً ينظر في النجوم» يحتمل أن يكون خبراً ثانياً لكان لأنه ينظر في الأمرين، ويحتمل أن يكون تفسيراً لحزاء، فإن الكهان تارة تستدل إلى اللقاء الشيطان الشياطين، وتارة يستفاد من إحكام النجوم، وكان كلاً من الأمرين في الجاهلية شائعاً ذائعاً، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأبطأ الشرع الاعتماد عليهم.

وقال لهم هرقل حين سألوه أي: عما استنكره منه «إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان» أي: رأيت الطائفة الذين يقطعون الجلدة التي فوق الحشفة «قد ظهر» أي: غلبوا وملكوا يعني له نظره في النجوم، أن الملك ينتقل عنهم إلى الطائفة الذين يختتنون، فإن النصارى لا تختتن، وكان أدرك ذلك وحصله من حساب المنجمين، فإنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهم يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة، فكان في ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيىء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر ومكة ظهور الإسلام، وعندهم أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون وكان دليلاً على انتقال الملك للعرب.

فإن ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية قول المنجمين والاعتماد على ما يدل أحكامهم.

فالجواب: أنه قصد أن يبين أن البشارات بالنبي جاءت من طريق، وعلى كل لسان رفيق من كاهن أو منجم محق أو مبطل.

ثم سأل هرقل «فمن يختتن من هذه الأمة» أي: من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز «قالوا: ليس يختتن إلا اليهود» والحصر في قوله «إلا اليهود» بمقتضي علمهم لأن اليهود كانوا بإيليا تحت الذل مع النصاري بخلاف العرب، ثم قالوا:«فلا يهمنك شأنهم» أي: هم أحقر من أن تهتم لهم أو تبالي بهم «واكتب مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم» أي: في هذه المشورة أبي هرقل برجل أرسل إليه به أي: صاحب بصرى واسمه الحارث بن أبي شمر هلك على كفره، وكان من ملوك اليمن سكنوا الشام «يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل» أي: سأله عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره عنها قال:

ص: 273

«اذهبوا به» أي: بالرجل المخبر «فانظروا أمختتن أو لا» أي: أمختونا هو أم لا «فنظروا إليه فحدثوه انه مختتن» .

قال الكرماني: وهذا صحيح وصريح في أن العرب قبل البعثة كانوا يختتون.

«وسأله عن العرب فقال: هم يختتون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة» أي: ملك أهل العرب قد ظهر، «ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية» ويجوز فيها تخفيف الياء وتشديدها كما ضبطه الكرماني بذلك؟

وقال ابن الملقن: رومية بضم الراء تخفيف الياء مدينة معروفة بالروم وكانت مدينة رياستهم، ويقال: إن روماس بناها.

قال البلقيني (1) : اسم صاحبه برومية ضغاطر الأسقف الرومي، وقيل: بقاطر آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل بين يدي هرقل أي: كتب إليه من بيت المقدس يسأله عن هذا الأمر «وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص» يفارقها حتى «أتاه كتاب من صاحبه» أي: الذي برومية «يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي» .

قال شيخ الاسلام ابن حجر: هذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم لكن هرقل لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه، «فأذن حينئذ هرقل لعظيم الروم في دَسْكَرَةٍ له بحمص» والدسكرة بفتح الدال والكاف والراء وسكون السين بينهما بناء كالقصر حواليه بيوت ومنازل للخدم والحشم، والمعنى: أذن هرقل لعظماء الروم في دخول الدسكره، وكانه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها بعد دخولهم ثم أطلع عليهم كما صرح بذلك بقوله «ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم أطلع» أي: خرج من حرمه وظهر للناس «فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح» أي: في الفوز «والنجاة والرشد» أي: الخير «أن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي» هكذا أكثر الأصول في البيعة، وفي بعضها «فتتابعوا» من المتابعة، وهو الاقتداء «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ» أي: نفروا حين سمعوا منه هذا الكلام وكروا راجعين نفرة الوحوش، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل، وعدم الفطنة بل هم أضلوا حتى وصلوا إلى الأبواب فوجدها قد غلقت «فلما رأى» أي: هرقل «وأيس من الإيمان» أي: إيمانهم لما أظهروه، وايمانه أنه كان شح بنفسه بملكه، وكان يحسب أن يطيعوه فيستمر ملكه «قال: ردوهم علي فقال: إني قلت مقالتي الساعة» ويجوز فيه المد وهو الأكثر الأشهر ويجوز القصر «اختبر بها شدتكم

(1) البلقيني هو: صالح بن عمر بن رسلان البلقيني الشافعي شيخ الاسلام، مولده سنة: 791 هـ، قاض، من العلماء بالحديث والفقه، مصري، تفقه بأخيه عبد الرحمن بالقاهرة، وناب عنه في الحكم، ثم تصدر للافتاء والتدريس بعد موته سنة 824 هـ، وولي قضاء الديار المصرية سنة من سنة 825 إلى 827، وعزل وأعيد ست مرات، وتوفي وهو على القضاء، من كتبه: ديوان خطب، والغيث الجاري على صحيح البخاري، والجوهر الفرد فيما يخالف فيه الحر العبد، وهي رسالة، وتتمة التدريب، أكمل به كتاب أبيه، والتجرد والاهتمام بجمع فتاوي الوالد شيخ الإسلام، والتذكرة، والقول المقبول فيما يدعى فيه بالمجهول، توفي بالقاهرة سنة: 868 هـ.

ص: 274

على دينكم» أي: امتحن فيها رسوخكم في دينكم «وقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له ورضوا عنه وكان ذلك آخر شأن هرقل» أي: في حال النبي صلى الله عليه وسلم وقصته.

وقد ذكر البخاري حديث هرقل في كتابه في عشر مواضع والله أعلم (1) .

قال ابن رجب: قوله «وكان آخر شأن هرقل» الظاهر أنه من كلام الزهري ومراده: أن هذا آخر ما بلغه من خبره والله اعلم بالحال وإليه المرجع وإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

* * *

(1) بالإستقراء وجدناه في أحد عشر موضعاً:

الأول: هاهنا، والثاني:(1/28، رقم 51)، والثالث:(2/952، رقم 2535)، والرابع:(3/1032، رقم 2650)، والخامس:(3/1074، رقم 2782)، والسادس:(3/1087، رقم 2816) والسابع: (3/1158، رقم 3003)، والثامن:(4/1657، رقم 4278)، والتاسع:(5/2230، رقم 5635)، والعاشر:(5/2310، رقم 5905)، والحادي عشر:(6/2632، رقم 6771) وهو في هذه المواضع مسنداً في بعضها بتمامه وفي أكثرها بأجزاء منه. ورواه معلقاً في ثلاثة مواضع:

الأول: (1/116) باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت

وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم و ? يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة

? الآية.

الثاني: (1/135) باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء وقال بن عباس حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدق والعفاف.

والثالث: (6/2742) باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها

وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه.

ص: 275