المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلس السادس مشتمل علي شيء من ترجمة الإمام مالك وبقية الأئمة - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌ ‌المجلس السادس مشتمل علي شيء من ترجمة الإمام مالك وبقية الأئمة

‌المجلس السادس

مشتمل علي شيء من ترجمة الإمام مالك وبقية الأئمة الأربع

وترجمة عائشة وغيرها

والكلام على الحديث الذي سأله الحارث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول كيف يأتيك الوحي، يأتي في المجلس السابع.

قَالَ البُخَارِي:

«حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها

» .

قوله: «قال حدثنا عبد الله بن يوسف» هذا هو أبو محمد التنيسي، أصله من دمشق، وكانت وفاته سنه سبع وثمان عشرة ومائتين.

ويجوز في يوسف ست لغات ضم السين وفتحها، وكسرها مع الهمزة تركها، وهذه اللغة جارية في يونس أيضاً.

«أنبأنا مالك» هذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الأصبحي المدني، الإمام المجتهد أحد الأعلام الذي سارت به الركبان، ولد في خلافة الوليد بن عبد الملك، سنه أربع، وقيل: سنه ثلاث وتسعين، ومناقبه جمة أفردت بالتأليف، وثناء الناس عليه مشهور معروف، ولو سكتوا لأثنت عليه الحقائب، أخذ الرواية من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائه من التابعين وستمائة ممن تابعهم ممن اختاره وارتقى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وسكنت النفس إليه، ومن مناقبه بل أجلها: أنه العالم

ص: 148

الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ينقطع العلم فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة» رواه

الترمذي وغيره (1) .

وحديث آخر: «ليس على ظهر الدنيا أعلم منه، فتضرب الناس إليه أكباد الإبل» .

وفي لفظ آخر «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة» (2) .

فالمراد بعالم المدينة في الأحاديث المذكورة هو الإمام مالك كما قاله التابعون وتابعوهم، ولم يعرف أن أحداً ضربت إليه أكباد الإبل مثل ما ضربت إليه.

قال أبو مصعب (3) : كان الناس يزدحمون علي باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام لطلب العلم.

وقال يحيى بن شعبة: دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومائة ومالك أسود الرأس واللحية، والناس حوله سكوت لا يتكلمون هيبة له، ولا يفتي أحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، فجلست بين يديه، وسألته فحدثني فاستردته فزادني، ثم غمزني أصحابه فسكت.

وقال مالك: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني مرضاة لذلك.

ومن مناقبة ما حكاه محمد بن رمح قال: حججت مع أبي وأنا صبي لم أبلغ الحلم

(1) هذا اللفظ ليس عند الترمذي وإنما اللفظ الذي عند الترمذي الآتي بعده بطرف: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل

» ، وأما هذا الطرف «ينقطع العلم

الحديث» لم نقف عليه بهذا اللفظ.

(2)

رواه الترمذي في سننه (5/47، رقم 2680) عن أبي هريرة.

قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس، وقال إسحاق بن موسى سمعت ابن عيينة يقول: هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد، وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق هو مالك بن أنس، والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب.

وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (2/489، رقم 4291) ، والحاكم في المستدرك (1/168، رقم 307) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والحميدي في مسنده (2/485، رقم 1147) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/306) .

(3)

أبو مصعب هو: أحمد بن القاسم أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، أبو مصعب الزهري المدني، ولد سنة 150هـ، شيخ أهل المدينة في عصره وقاضيهم ومحدثهم، لزم الإمام مالكاً وتفقه به، وروى عنه «الموطأ» ومات وهو قاض سنة 242هـ.

قال الدارقطني: أبو مصعب ثقة في الموطأ، وقال ابن حزم: آخر ما روي عن مالك: موطأ أبي مصعب، وموطأ أبي حذافة، وفيهما زيادة على الموطآت نحو مائة حديث.

ص: 149

فنمت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروضة بين القبر والمنبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد خرج من قبره فقمت فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: يا رسول الله أين أنت ذاهب؟ فقال: أقيم لمالك الصراط المستقيم، فتنبهت وأتيت أنا وأبي فوجدت الناس مجتمعين علي مالك وقد أخرج الموطأ وكان أول خروجه.

ومن مناقبة الجليلة: أن امرأة غسلت امرأة بالمدينة في زمنه رضي الله عنه فوضعت الغاسلة يدها علي فرج الميتة، وقالت: طال ما عصى هذا الفرج ربه، فألتصقت يد الغاسلة في فرجها، فسألوا علماء المدينة عن أمرها، فبعضهم قال: تقطع يد الغاسلة، وبعض آخر قال: يشق فرج الميتة، وبعض آخر تحير في أمرها، فاستفتي الإمام مالك فقالوا: اسألوا الغاسلة ما قالت في حق الميتة لما وضعت يدها على فرجها؟ فسألوها فقالت: طالما عصى هذا الفرج، فقال مالك: هذا قذف اجلدوها ثمانين جلدة تتخلص يدها، فجلدوها فتخلصت يدها فمن ثم قيل: لا يفتى ومالك في المدينة.

ولما اشتهر رضي الله عنه بالعلم انتشر وصفه وذكره في البلاد، وحملت إليه الأموال لانتشار علمه فكان يفرقها على أصحابه، وأصحابه يفرقونها في وجوه الخير موافقة لفعله، وما كان يدخرها.

وكان يقول: ليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه.

وكان يقول أيضاً: ما كان رجل صادقاً في حديثه لا يكذب إلا متعه الله بعقله ولم تصبه عند الكبر عند الهرم آفة ولا خرف.

وكان يقول أيضاً: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير.

ومن مناقبة ما نقله في الحلية لأبي نعيم عن مالك أنه قال: ما بت ليلة إلا ورأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .

ومن مناقبة ما قاله عبد الله بن المبارك (2)

قال: كنت عند مالك، وهو يحدثنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تفرق الناس عنه قلت يا أبا عبد الله لقد رأيت اليوم منك عجب قال: نعم صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يحب أن يعظم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحدث بشيء من أحاديثه في الطريق أي: وهو قائم مستعجل، وكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك علي جلسائه، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ما

(1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/317) .

(2)

هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التميمي، المروزي، أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار الحفاظ، روى عن إبراهيم بن طهمان، وأسامة بن زيد وغيرهما، وروى عنه: إبراهيم بن شماس السمرقندي، وبقية بن الوليد، وسعيد بن عمرو الأشعثي، وغيرهم.

أمه خوارزمية، وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل من بني حنظلة، خرج إلى العراق سنة (141هـ)، كان طالباً ومحباً للعلم حتى قال عنه أحمد بت حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.

له مؤلفات منها: كتاب الرقائق، وكتاب الجهاد، توفى رحمه الله سنة (181هـ) .

انظر: تهذيب الكمال (1/466، ترجمة رقم: 303)، الوفيات (ص: 143) ، حلية الأولياء (8/162) ، الكاشف (2/123، ترجمة: 2975) .

ص: 150

ترون.

وعن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: رأيت على باب مالك دوآباً من فراس خراسان جاءته هدية مني إليك، وقيل: من مصر ما رأيت أحسن منها، فقلت له: ما أحسن هذه الدوآب فقال: هي هدية مني إليك دع لنفسك منها دآبة تركبها، فقال: إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم بحافر دآبة حملت به أمه ثلاث سنوات، وكان يمنع من الصلاة بعد العصر فدخل يوماً الجامع فقال له: قم فاركع ركعتين، فقام وصلى، فقيل له: كيف خالفت مذهبك؟ فقال: خشيت أن أكون من الذين قيل لهم: اركعوا ولا يركعون، وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل.

ولما حضرته الوفاة تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائة بالمدينة، عن خمس وثمانين سنة، ودفن بالبقيع وهو أحد الائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة المشهورة.

وثانيهم إمام الأئمة الإمام الشافعي اسمه: محمد بن إدريس، أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم:«عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً» (1)

، كما قاله العلماء من المتقدمين وغيرهم لأنه

(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2/637، رقم 1522) عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ: «لا تسبوا قريشاً، فإن علم عالمها يملأ الأرض علماً» .

وأخرجه الطيالسي (ص: 39، رقم 309) وفيه زيادة في آخره، وكذا أخرجه الشاشي في مسنده (2/169، رقم 728) .

والحديث ضعيف فيه: النضر بن حميد الكندي يرويه عن أبي الجارود عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، ترجم له العقيلي في الضعفاء (4/289، ترجمة 1883) وروى حديثه هذا.

ولكن للحديث شواهد كلها تؤكد أنه حديث حسن فقد رواه أحمد بصيغة التمريض تحرزاً من ضعفه كما نقل عنه ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/339) قال: روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً قلت: فيها يقول الشافعي لأنه إمام عالم من قريش وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علماً» وروى أحمد بن حنبل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ولا يتصور أن الأمام أحمد بجلالته في الحديث أن يستشهد بحديث موضوع، وقد ناقش هذه القضية العجلوني في كشف الخفا (2/69) وقال: قال الحافظ العراقي: ليس بموضوع كما زعم الصغاني إذ كيف يذكر الإمام أحمد حديثاً موضوعاً يحتج به، أو يستأنس به للأخد في الأحكام بقول شيخه الإمام الشافعي، وإنما أورده بصيغة التمريض احتياطاً للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو عن ضعف.

وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه: «لذة العيش في طرق الأئمة من قريش» وبه يعلم أنه حسن وصرح بذلك الترمذي ونقله النجم عن المدخل للبيهقي عند أحمد بلفظ: «عالم من قريش يطبق الأرض علماً» ثم قال: ورواه الحاكم والأبدي كلاهما في المناقب عن علي بلفظ: «لا تؤموا قريشاً وأئتموا بها ولا تقدموا على قريش وقدموها، ولا تعلموا قريشاً وتعلموا منها، فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة اثنين من غيرهم، وإن علم عالم قريش يسع طباق الأرض» وفي رواية الأبدي: «فإن علم عالم قريش مبسوط على الأرض» .

ورواه القضاعي عن ابن عباس بلفظ: «اللهم اهد قريشاً فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض، اللهم أذقت أولها نكالا فأذق آخرها نوالاً» ورجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن مسلم ففيه مقال.

وللحديث شواهد أخرى وكلها تنطبق كما قال العجلوني نقلاً عن الإمام أحمد تنطبق على إمامنا الشافعي.

قال البيهقي وابن حجر: طرق هذا الحديث إذا ضمت بعضها إلى بعض أفادت قوة وعلم أن للحديث أصلاً. انظر: كشف الخفا (2/69) .

ص: 151

لم يكن في الأئمة قريشي قبل الشافعي، ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ولا بعده فهو العالم المبعوث في رأس المائة الثانية.

المشار إليه في حديث أبي داود «ويبعث الله على كل رأس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» (1) فإنه مات سنه أربع بعد مائتين.

وكان رضي الله عنه يختم القرآن في كل يوم مرة، وكان يختم في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان بقول: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وخالفها في قلبه فقد

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/109، رقم 4291) عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (4/567، رقم 8592) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/323، رقم 6527) ، وأبو عمرو المقرئ في السنن الواردة في الفتن (3/742، رقم 364) ، والديلمي في الفردوس (1/148، رقم 532) .

قلت: وأما قول المصنف: إن إمامنا الشافعي هو المشار إليه بهذا الحديث، فقد ورد ذلك عن أفاضل العلماء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد (2/62) من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي رضي الله عنه.

وقال الذهبي في السير (17/195) : قال ابن الصلاح والشيخ أبي حامد تأول بعض العلماء هذا الحديث فكان الشافعي على رأس المئتين.

ص: 152

كذب، وكان يقول أيضاً: ما حلفت بالله في عمري لا كذاباً ولا صادقاً.

وسئل مرة عن مسألة فسكت، فقيل له: لم لا تجب؟ فقال: حتى أعلم الفضل في السكوت أم في الجواب.

وأما سخاؤه فقد روى الحميدي أن الشافعي رضي الله عنه خرج إلى اليمن في بعض أشغاله ثم انصرف إلى مكة ومعه عشرة آلاف درهم، فضرب خيمته خارج مكة فكان الناس يأتونه، فما راح من مكانه حتى فرقها جميعها، وخرج يوماً من الحمام وقد أتى بمال كثير فدفعه إلى الحمامي.

وسقط سوط من يده وهو راكب فرفعه إليه إنسان فأعطاه خمسين دينار.

وكان عفيفاً عن اللغو والكلام الفاحش، مر يوماً برجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن سماع الخنا كما تنزهوا ألسنتكم عن النطق به فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أحب شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لشقي رادها كما يشقي قائلها.

ومن كلامه: أظلم الظالمين لنفسه الذي ارتفع جفاء أقاربه، وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف، وتكبر علي ذوي الفضل.

قال بعضهم للشافعي ثلاث كلمات لم يسبق إلى واحدة منهن قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقوله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلى حرف منه، وقوله: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق علي يديه.

وله شعر كثير يحتوي علي حكم ومواعظ، وله أدعيه كثيرة روى عبد الله بن مروان قال: كنت أجلس في حلقة العلم عند الإمام الشافعي، وأكتب ما أفهمه منه فآتيته سَحراً، فوجدته في المسجد وهو قائم يصلي فلبثت حتى فرغ من صلاته، ثم دعا بدعوات حفظتها منه فكان من جملة ذلك: اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السنة، وارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، وامنن علينا بكل ما يقربنا إليك مقروناً بالعافية في الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين، قال: فلما فرغ من دعائه خرج من المسجد وخرجت خلفه فوقف ينظر إلى السماء ثم أنشد فقال:

بموقف زلي عند عزتك العظمى

بمخفي لا نحيط به علما

بإطراق رأسي باعترافي بزلتي

بمد يدي أسقط الجود والرحما

ص: 153

بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها

لعزتها تستغرق النثر والنظما

بعهد قديم من ألست بربكم

بمن كان مجهولاً فعلمته الأسما

أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقى

محباً شراباً لا يضام ولا يظما

قرأ بعضهم عنده يوماً قوله تعالى ?هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ? [المراسلات: 35، 36] فتغير لونه واقشعر جلده واضطربت مفاصله وخر مغشياً عليه، فلما أفاق قال: أعوذ بك من مقام الكاذبين، وإعراض الغافلين، اللهم خضعت لك قلوب العارفين، وذلت لهيبتك المشتاقون، إلهي هب لي جودك بسترك، واعف عني في تقصيرى بكرمك، يا ذا الجلال والإكرام.

كان هذا خوف الشافعي مع علمه ويح للجاهلين الغافلين، أعمارهم تنهب، وآثامهم تكتب.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يعظم الشافعي ويذكره كثيراً ويثني عليه، وكانت له ابنة صالحة تقوم الليل وتقوم النهار، وتحب أخبار الصالحين الأخيار، وتود أن ترى الشافعي لتعظيم أبيها له، فاتفق مبيت الشافعي عند أحمد ففرحت البنت في ذلك طمعاً أن ترى أفعاله وتسمع، فلما كان الليل قام الإمام أحمد إلى وظيفة صلاته، وذكره والإمام الشافعي مستلق علي ظهره والبنت تراقبه إلى الفجر فقالت: لأبيها يا أبت أنت تعظم الشافعي وما رأيت في هذه الليلة منه لا صلاة ولا ذكراً ولا ورداً، فبينما هو في الحديث إذ قام الإمام الشافعي، فقال له الإمام أحمد: كيف كانت ليلتك فقال ما بت ليلة أطيب منها ولا أبرك ولا أربح، فقال: وكيف ذلك؟ قال: لأني رتبت في هذه الليلة مائة مسألة، وأنا مستلق علي ظهري كلها في منافع المسلمين ثم ودعه ومضى، فقال أحمد لابنته: هذا عمله الليلة وهو نائم أفضل من الذي عملته وأنا قائم.

كانت حركاتهم وسكناتهم لله دافعاً لهم، وأقوالهم لله وذكرهم وفكرهم في الله، فقيامهم طاعة، ونيامهم صدقة، وذكرهم تسبيح، وسكونهم فكر، وعلمهم شفاء ورحمة للأمة لا جرم أن الله ذكرهم ومنحهم ومدحهم وجعلهم أئمة الإسلام وقدوة الأنام.

وكان مولد الشافعي بغرة، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن سنه خمسين ومائة وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأذن له مالك ابن أنس في الفتوى وهو ابن خمس عشرة سنة وكانت وفاته رحمة الله تعالى يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين كما تقدم، بمدينة مصر ودفن في الفسطاس، وله قبة عظيمة هناك، وأسف على موته أحمد بن حنبل، وكان لأحمد ولد يقال له: عبد الله

ص: 154

قال لأبيه يوماً يا أبت أراك تكثر الثناء والمدح للإمام الشافعي وتكثر الدعاء، أي رجل كان الشافعي؟ فقال: يا بني إن الشافعي كالشمس للنهار، كالعافية للناس، فانظر هل لهذين خلف أو عنهما عوض.

عن تلميذه الربيع (1) قال رأيت الشافعي في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع بك قال: أجلسني على كرسي من ذهب وتبر على لؤلؤ الرطب رحمه الله.

وثالث الأئمة أرباب المذاهب: الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، وكان إمام أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً.

قال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أروع ولا أعلم من أحمد بن حنبل، وكان يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، ودعا إلى الخلق، القول بخلق القرآن وإمكان الرؤية فامتنع، ضرب وسجن وهو مصر على الامتناع، وزلزلت الأرض يوم ضرب.

قال الهلال بن العلاء: مُنَّ على هذه الأمة بالشافعي تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس.

ومن مناقبة العظيمة الجليلة ما حكاه ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن سلمه بن شيب قال كنا عند أحمد ابن حنبل فجاءه رجل فدق الباب أولاً وثانياً فقال أحمد: ادخل قال فدخل فسلم، وقال: أيكم فأشار بعضنا إليه قال: جئت من البحر من مسيرة أربعمائه فرسخ أتاني آت في منامي فقال: آت أحمد بن حنبل وسل عنه، فإنك تدل عليه، وقل له: إن الله عنك راض وملائكة سماواته عنك راضون، وملائكة الأرض عنك راضون، قال: ثم خرج فما سأله عن حديث ولا مسأله.

وسيأتي في مناقب سفيان الثوري شيء من مناقبة، وكانت وفاته سنة إحدي وأربعين ومائتين عن سبع وسبعين سنة.

قرأ على الإمام الشافعي كان إذا ركب الشافعي يمشي معه في ركابه أدباً، وكان كل منهما يزور الآخر فأنشد الشافعي في هذا المعنى:

قالوا يزورك أحمد وتزوره

قلت لفضائل ما تعدت منزله

إن زارني أو زرته فبفضله

فلفضله فالفضل في الحالين له

ورابعهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه وكان من التابعين فإنه رأى أنس هكذا قيل، لكن قال ابن حجر في التهذيب: لم يثبت أنه رأى أحداً من الصحابة، وهو فقيه العراق، وإمام أهل الرأي قال فيه مالك: رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن

(1) هو: أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء، المصري، صاحب الإمام الشافعي وراوي كتبه، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، ولد سنة: 174هـ في مصر، كان مؤذناً، وفيه سلامة وغفلة ووفاته كانت أيضاً بمصر سنة: 270هـ.

ص: 155

يجعلها ذهباً بحجته.

وقال ابن المبارك: ما رأيت رجلاً في الفقه مثله.

وقال الثوري: هو أفقه أهل الأرض.

وقال أبو نعيم: هو صاحب غوص في المسائل.

وقال الشافعي: الناس عيال علي أبي حنيفة في الفقه.

وقال أسد بن عمرو: صلى أبو حنيفة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة، وكان يسمع بكاؤه في الليل حتى ترحمه الجيران.

وطلبه ابن هبيرة ليالي القضاء فأبى، فضربه مائه سوط وعشرة أسواط في كل يوم سبعين ألف مرة.

ومن مناقبة: أن امرأة جاءته وهو في الدرس فألقت له تفاحة نصفها أحمر ونصفها أصفر فأخذها وكسرها، وأعادها إليها ففهمت المرأة الجواب، فسئل عن ذلك فقال: قالت إنها ترى الحمرة والصفر فمتى اغتسل؟ فقلت لها: حتى ترى الطهر الأبيض كباطن التفاحة.

ونقل ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن علي بن ميمون قال: سمعنا الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم يعني زائراً، فإذا عرضت له صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضي.

وكانت وفاته سنه إحدي وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة وهو وأحمد بن حنبل مدفونان ببغداد فهؤلاء الأربعة الأعلام أئمة الإسلام، اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة.

قال بعض الصالحين رأيت في المنام أني دخلت الجنة فرأيت في وسطها عموداً من نور، ورأيت أربعة يجرونه بأربعة سلاسل وهو ثابت لا يتغير من مكانه، فقلت: يا لله العجب، وهؤلاء من جهة واحدة لكان أسهل عليهم، فسألت بعض الملائكة عن ذلك فقال: هذا العمود هو دين الإسلام وهؤلاء الأربعة الذين يجرون هم أئمة الإسلام الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك رضي الله عنهم، فاتفاقهم حجة قاطعة وقولهم حق، واختلافهم رحمة للمسلمين.

هذه والله صفات العلماء الذين تبكي على فقدهم الأرض والسماء، فهم العلماء الزهاد، وأهل الإخلاص والسداد، حنت إليهم القلوب، وانقادت إليهم النفوس، وزلت لهم الصعاب، وخضعت لهم الرؤوس، فهم في الأقطار كالأقمار والشموس، لا جرم

ص: 156

صار ذكرهم مكتوباً باقي القرون، وأما من تصنع بالرياء، وعمل لأجل الدنيا، وغرته أمانيه، ويشتهي أن يمدح بما ليس فيه، فذلك من أهل الأذهان المعكوسة، والأفكار المولوسة، نشد بعضهم في الأربعة فقال:

فالشافعي له علوم نشرت

بين الورى وله ثناء يعبق

ولمالك نشرت علوم مالها

حد كبحر زاخر يتدفق

ولأحمد تعزى العلوم لأنه

يروي في الحديث وصدقه يتحقق

وأبو حنيفة سابق فلأجل ذا

وآثاره وعلومه لا تستبق

فهم الأئمة خصهم رب العلى

بالفضل منه فثناؤهم لا يلحق

قوله: «عن هشام بن عروة عن أبيه» أما هشام فهو تابعي، ولد سنة إحدى وستين وتوفي ببغداد في ولاية المنصور سنة ست أربعين ومائة، وأما أبوه عروة فهو: أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويله بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي المدني التابعي الجليل، المجمع على إمامته، وتوثيقه ووفور علمه، وهو أحد فقهاء المدنية السبعة، وهم سعيد بن المسيب (1) ، وعروة بن الزبير (2) ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (3)

، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (4) ، وسليمان بن يسار (5) ، وخارجه بن زيد بن ثابت (6) ، وأبو بكر بن عبد الحارث بن هشام (7)، وقد جمعهم بعض الفضلاء فقال:

ألا إن من لا يقتدي بأئمة فقسمته

ضيزي عن الحق خارجة

فخذهم عبيد الله عروة وقاسم

سعيد أبو بكر سليمان خارجة

فائدة: قال شيخ الإسلام كمال الدين الدميرى: من الفوائد المستغربه ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة الذين كانوا بالمدينة المشرفة إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح لا يسوس ما دامت الرقعة فيه.

قال: وأفاداني بعض أهل الخير والتحقيق أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس، وذكرت عليها أزالت الصداع العارض لها.

وأم عروة هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجمع عروة الشرف من وجوه فرسول الله صلى الله عليه وسلم صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته.

وقيل: كان عروة بحراً لا يدركه الدلاء.

وقال ولده هشام: صام أبي الدهر وما مات إلا وهو صائم.

(1) هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، ولد سنة: 13هـ، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءاً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سمي راوية عمر. توفي بالمدينة سنة: 94هـ.

(2)

هو: عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي أبو عبد الله، ولد سنة بن الزبير 22هـ، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان عالماً بالدين، صالحاً كريما، لم يدخل في شيء من الفتن، وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر فتزوج وأقام بها سبع سنين وعاد إلى المدينة فتوفي فيها سنة: 93هـ، وهو أخو عبد الله بن الزبير لأبيه وأمه، و «وبئر عروة» بالمدينة منسوبة إليه.

(3)

هو: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، مفتي المدينة، وأحد الفقهاء السبعة فيها، من أعلام التابعين، له شعر جيد أورد أبو تمام قطعة منه في: الحماسة، وأورد أبو الفرج كثيراً منه في الأغاني، وهو مؤدب عمر بن عبد العزيز.

قال ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً كثير الحديث والعلم بالشعر، وقد ذهب بصره. مات بالمدينة سنة: 98هـ.

(4)

هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ولد فيها سنة 37هـ، وتوفي «بقديد» بين مكة والمدينة حاجاً أو معتمراً سنة: 107هـ، وكان صالحاً ثقة من سادات التابعين، عمي في أواخر أيامه، قال ابن عيينة: كان القاسم أفضل أهل زمانه.

(5)

هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب، مولى ميمونة أم المؤمنين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت يقول له: اذهب إلى سليمان فإنه أعلم من بقي اليوم، ولد في خلافة عثمان سنة: 34هـ، وكان أبوه فارسياً، قال ابن سعد في وصفه: ثقة عالم فقيه كثير الحديث، وكانت وفاته سنة: 107هـ.

(6)

هو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو زيد، من بني النجار، ولد سنة: 29هـ، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وأحد التابعين، أدرك زمان عثمان وتوفي بالمدينة سنة: 99هـ.

(7)

هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام المخزومي القرشي، ولد في خلافة عمر، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان من سادات التابعين، وكان مكفوفاً، ويلقب براهب قريش توفي في المدينة سنة: 94هـ.

ص: 157

ومن فضائله: أنه وقع له واقعة ومحنة عجيبة فلقاها بالصبر والرضا، وذلك أنه وقعت له أكلة في رجله فأمر الطبيب بقطعها فقال له: لا فعل لأن هذا شرفني الله به بل أصبر، فلما ارتفعت إلى الساق قيل له: إن ارتفعت إلى الركبة قتلتك، فأجاب إليه قطعها خوفاً من الله لئلا يكون قتل نفسه، فقال له الطبيب: اشرب دواء حتى لا تحس بالألم، فقال: لا امنع نفسي أجراً ساقه الله لي، فقيل لو أمسكك بعض أولادك، فقال: الرضا بقضاء الله يمنعني من ذلك فقطعها الطبيب، وهو يهلل ويكبر فلما رأى قدمه مع الطبيب خذها وقبلها، وقال: اللهم إنك تعلم أني ما مشيت في معصيتك، ثم بعد ساعة قيل له: أعظم الله أجرك فقال: إن كان في رجلي فقد احتسبتها عند الله، فقيل له: في ولدك فقال: اللهم إن كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحد وأبقيت لي ثلاثة.

وكان مولده سنه عشرين، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين.

قوله: «عن عائشة» هذه الصديقة بنت الصديق والحبيبة بنت الحبيب أبي بكر عثمان بن عامر عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمية.

كنيتها: «أم عبد الله» كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير وقيل: بسقط لها (1) .

(1) قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 25) : يروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بابن أختها عبد الله (انتهى) .

قلت: والرواية التي فيها أنه كان لها سقط من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/313) بلفظ عن عائشة أنها قالت: «أسقطت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطاً فسماه عبد الله وكناني به» ، وأخرجه أيضاً: الرافعي في في التدوين (1/464) .

قال ابن حجر في التلخيص (4/147) : في إسناده داود بن المحبر وهو كذاب، وجزم بعدم صحة الخبر المناوي في فيض القدير (4/112) .

ويؤيد عدم صحة الخبر ما أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/54، رقم 7117) عن عائشه وفيه أنها قالت: «فما زلت أكني به وما ولدت قط» أي: عبد الله ابن أختها.

وبما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/42، رقم 19858) ، ومن طريقه أحمد في المسند (6/151، رقم 25222) ، والطبراني في المعجم الكبير (23/18، رقم 35) عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت يا رسول الله كل نساءك لهن كنية غيري، فقال لها:«اكتني أنت أم عبد الله» ، فكان يقال لها: أم عبد الله حتى ماتت ولم تلد قط.

وبما أخرجه أبو داود (4/293، رقم 497) ، وأحمد في المسند (6/151، رقم 26285) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: كل صواحبي لهن كنى، قال:«فاكتني بابنك عبد الله» يعني ابن أختها. قال عبد الله بن الزبير: فكانت تكنى بأم عبد الله حتى ماتت.

قال ابن حجر في التلخيص (4/148) سنده صحيح.

وبما أخرجه الطبراني في الكبير (23/18، رقم 34) عن عائشة قالت: «كناني النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله ولم يكن لي ولد قط» .

وبما أخرجه الطبراني أيضاً: (23/19، رقم 39) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ولم يولد لها» .

وبمجموع هذه الروايات والأحاديث التي يشد بعضها بعضاً بان لنا بطلان من يقول أن لها سقط وكنيت به استناداً إلى رواية داود بن المحبر، قال ابن حجر في التلخيص (4/148) وهذا كله يضعف رواية داود بن المحبر، وقد سبق أن الحافظ قال: إنه كذاب.

ص: 158

تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبيل الهجرة سنتين وهي بنت ست ستين في شوال وبنى بها في المدينة بعد منصرفه من بدر في شوال أيضاً سنة ستين من الهجرة، وقيل: بعد سبعة أشهر من الهجرة، وهي بنت تسع سنين.

والأحاديث في فضلها كثيرة مشهورة وعائشة تقرأ بالهمز، وقال الزركشي وعوام المحدثين: تقرأ بياء صريحة، مأخوذة من العيش، ويقال في لغة فصحية: عيشة، وكنية أمها أم رومان بفتح الراء وضمها، واسمها: زينب، وكان لعائشة أخ يقال له: عبد الرحمن.

ولها فضائل وخصائص منها: أنها صورت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عقده عليها، فقد ورد أن خديجة لما ماتت رضي الله عنها اغتم النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل كما في الترمذي بصورتها في خرفة حرير خضراء، قال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة (1) .

وقيل: جاءه بورقة من الجنة منقوش عليها صورة عائشة، وقال يا أحمد الجبار يقرئك السلام ويقول: إني زوجتك البكر التي تشبه هذه الصورة في السماء، فتزوجها أنت في الأرض، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة وقال: هل تعرفين في مكة بكر تشبه هذه الصورة، قالت: نعم بنت أبي بكر تشبه هذه الصورة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وقال: إن

(1) رواه الترمذي في سننه (5/704، رقم 3880) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمرو بن علقمة، وقد روى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد مرسلاً، ولم يذكر فيه عن عائشة، وقد روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا.

وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (16/6، رقم 7094) .

ص: 159

لك بنتاً تسمى عائشة زوجني الله بها في السماء، وأمرك أن تزوجني بها في الأرض قال: إنها صغيرة فقال: لو لم تكن صالحة ما زوجنيها الله، فعقد النكاح ورجع أبو بكر إلى منزله وأرسل مع عائشة طبقاً من التمر وقال: قولي له: هذا الذي سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أدري هل يصلح فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال يا عائشة: قبلنا ثم قبلنا.

ومنها: أنها قالت يا رسول الله أدع الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر فرفع يده حتى رأت بياض إبطيه وقال: «اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنباً ولا تكسب بعدها خطيئة ولا إثماً» ثم قال: «يا عائشة» قلت: إي والذي بعثك بالحق فقال: «والذي بعثني بالحق ما خصصتك بها من بين أمتي، وإنها لصلاتي في الليل والنهار، لمن مضى منهم ومن بقي إلى يوم القيامة، فأنا أدعو لهم والملائكة يؤمنون على دعائي» (1) .

ومن فضائلها كما قاله في نزهة المجالس: ما روي عن النعمان بن بشير قال: جاء أبو بكر يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له في الدخول، فوجد عائشة رافعة صوتها فغضب وقال: يا بنت أم رومان ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد ضربها، فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتراضاها ويقول: ألا ترين قد حلت بينك وبينه، ثم عاد أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يتراضاها ويضاحكها فقال

(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/47، رقم 7111) عن عائشة بلفظ: «أنها قالت: لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طيب نفس قلت: يا رسول الله ادع الله لي فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك، فقال صلى الله عليه وسلم: والله إنه لدعائي لأمتي في كل صلاة» .

ورواه أيضاً: البزار كما في مجمع الزوائد (9/244) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة.

ووقع عند ابن أبي شيبة في المصنف (6/390، رقم 32285) أن الذي طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء أبويها وهو من رواية أبو بكر بن حفص قال: جاءت أم رومان وهي أم عائشة وأبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ادع الله لعائشة دعوة نسمعها فقال عند ذلك: «اللهم اغفر لعائشة ابنة أبي بكر مغفرة واجبة ظاهرة وباطنة» .

ورواه الديلمي في الفردوس (1/498، رقم 2032) عن عائشة بلفظ: «اللهم اغفر لعائشة مغفرة ظاهرة وباطنة واسعة محللة لا تغادر دنساً ولا تكتسب بها إثماً» .

ص: 160

رسول الله: أشركاني في سلمكما، كما أشركتماني في حربكما.

ونقل النسفي أن عائشة قالت: للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً ما في بيتك شيء يؤكل، فغضب وخرج من البيت فأرادت مصالحته فسبقها بالخروج، فوضعت خدها على التراب وتضرعت إلى الله بالبكاء، فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم رجله على باب المسجد وأراد الدخول جاء جبريل يطبق من الحلوى فقال: إن الله تعالى يقول: كان الصلح منا وطعام الصلح علينا.

وهي أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي لها من الأحاديث ألفاً حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة عشر وسبعين حديثاً، وانفرد مسلم بثمانية وستين، والبخاري بأربعة وخمسين.

ومما اجتمع لها من الفضائل: أنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت خليفته رضي الله عنه وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ورأسه في صدرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهو في فراشها بخلاف غيرها، وخلقت طيبة ووعدت مغفرة، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها، وكان صلى الله عليه وسلم يقيم لها ليلتين وليلة سوده بنت زمعه لأنها وهبتها ليلتها لما كبرت، ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور علي نسائه ويختم بعائشة.

ومن فضائلها: أن الله أنزل برأتها من السماء لما تكلم في حقها أهل الإفك وقذفوها حيث قال ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ....? إلى آخر الآيات العشرة [النور: 11-20] ، وقذفها بعد نزول برأتها كفر، لأنه مكذب للقرآن.

ورد في بعض الأخبار عن ابن عباس أنه قال: لم يكن لنبي امرأة زانية.

وقال عروة: كانت عائشة أعلم الناس بالقرآن وبالحديث وبالشعر.

وقال أبو موسى الأشعري (1) : ما أشكل علينا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً، واستقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعثمان فمن بعدهم.

وماتت رضي الله عنها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين، وهي بنت ست وستين سنة، ودفنت بالبقيع ليلاً وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه أقامت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أعوام وخمسة أشهر وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة.

(1) أبو موسى هو: أبو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزمه وجاهد معه، وأرسله مع معاذ بن جبل رضي الله عنه والياً على شعب من اليمن، توفي رضي الله عنه سنة (44هـ) .

انظر: غاية النهاية (1/442) ، وحلية الأولياء (1/256) ، والطبقات الكبرى (7/302) ، وتهذيب الأسماء للنووي (2/298) .

ص: 161

ونقل شيخنا الجلال السيوطي في الخصائص: أن في معاني الآثار للطحاوي قال أبو حنيفة: كان الناس لعائشة محرماً فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم، وليس لغيرها من النساء ذلك (1) .

وقول البخاري عن عائشة أم المؤمنين وصفها بأم المؤمنين مقتبس من قوله تعالى ?وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? [الأحزاب: 6] المراد: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المدخول بهن وغير المدخول بهن يقال لهن: أمهات المؤمنين.

والقصد من تسميتهن بأمهات المؤمنين تحريم نكاحهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب احترامهن وطاعتهن، كما يحرم نكاح الأمهات، ويجب احترامهن وطاعتهن، وليس المقصود من تسميتهن بذلك أنه يجوز الخلوة بهن والنظر إليهن كما يجوز النظر والخلوة إلى الأمهات، بل كان نظر الأجنبي إليهن حراماً، وخلوته بهن كذلك، وكان نكاح بناته له جائز.

والحكمة في تحريم نكاحهن بعده صلى الله عليه وسلم على أمته حتى لا يكن يوم القيامة تحت غيره، فإن المرأة تكون مع آخر زوج لها على خلاف في ذلك سيأتي.

ويقال لهن: أمهات المؤمنين أيضاً على الراجح قاله ابن حجة.

وهل يقال لرسول الله: أبو المؤمنين كما يقال لنسائه أمهات المؤمنين؟ الأصح الجواز قال البغوي (2) : إنه صلى الله عليه وسلم كان أباً للرجال والنساء وأما قوله تعالى ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أحد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ? [الأحزاب: 40] فالمراد منه: ما كان أبا أحدكم لصلبه، بل كان في الحرمة قال النووي: ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا بأيهن أجداد المؤمنين، ولا لأماتهن جدات المؤمنين، ولا لأخواتهن أخوال المؤمنين ولا لأخواتهن خالات المؤمنين.

ويختلف العلماء في عدد نسائه صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهن، فقال القرطبي: جملتهن ثنتا عشرة فارقهن قبل الدخول وخطب بنساء من غير عقد عليهن، وكان له أربع سراري.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلها للناس، وقد جاء عن عائشة في ذلك الكثير الطيب.

وزوجاته أفضل نساء العالمين، وأفضل زوجاته خديجة وعائشة واختلف العلماء فيهما ورجح جماعة من المتأخرين أن خديجة أفضل من عائشة، والذي يدل على أن

(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (2/116) .

(2)

البغوي هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة (436هـ) من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة (516هـ) .

انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) .

ص: 162

خديجة أفضل: أن عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها.

وهل فاطمة أفضل أم عائشة؟ قال شيخنا الجلال السيوطي تبعاً للسبكي قلنا: الصواب القطع بتفضيل فاطمة، وذهب بعضهم إلى أن عائشة أفضل لأنها يوم القيامة في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم في درجته التي هي أعلى الدرجات بخلاف فاطمة.

قال السبكي (1) : وهذا القول ساقط مردود ضعيف لا سند له من نظر ولا نقل.

وهل هي أفضل أم أمها خديجة؟ قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به: أن فاطمة أفضل ثم أمها خديجة ثم عائشة، واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فاطمة بضعه مني» (2) ولا أعدل ببضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً.

وفي آخر: «فاطمة بضعه مني يربني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها» (3) .

ويدل علي تفضيلها أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم لما ساورها ثانية عند موته قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة» .

وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» (4) .

وهل مريم أفضل أم فاطمة؟ قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: لم يتعرض أحد للتفضيل بين مريم وفاطمة، والذي نختاره بمقتضى الأدلة تفضيل فاطمة عليها.

فقد روى النسائي عن خديجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي، وبشرني أن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة» (5) .

وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء

(1) السبكي هو: أبو نصر، تاج الدين عبد الوهاب بن على بن عبد الكافي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري، الشافعي، السبكي، فقيه أصولي، مؤرخ، أديب، ناظم، ناثر، ولد بالقاهرة سنة (727هـ) وقيل:(728هـ) من تصانيفه: طبقات الشافعية الكبرى، والفتاوى، وكانت وفاته سنة (771هـ) .

انظر: معجم المؤلفين (2/343) .

(2)

انظر تخريج الحديث الآتي بعده.

(3)

متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2004، رقم 4932) ومسلم في صحيحه (4/1902، رقم 2449) عن المسور بن مخرمة.

(4)

متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم في صحيحه (4/1905، رقم 2450) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5/80، رقم 8298) بلفظه عن حذيفة بن اليمان.

أخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (22/402، رقم 1005) .

ص: 163

عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» (1) .

وهل مريم أفضل أم خديجة؟ قال السبكي: مريم، واختلف في نبوتها، فإن كانت نبية فهي أفضل، وإن لم تكن فالأقرب أنها أفضل أيضاً، لذكرها بالقرآن، وشهادته بصديقتها.

وأفاد شيخنا العلامة الجلال السيوطي: أن علم الدين العراقي قال: إن فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق، ونقل عن مالك أنه قال: لا أفضل على بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم أحد، وأفضل نسائه بعدها خديجة وعائشة وزينب كما قاله الشيخ برهان الدين الحلبي.

لكن ظاهر الكلام السبكي أن حفصة أفضل بعد عائشة فإنه قال بعد ذكره فاطمة وخديجة وعائشة، وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه المرتبة، وان كن خير نساء هذه الأمة بعد هؤلاء الثلاثة، وهن متقاربات في الفضل، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله، لكن نعلم بحفصة بنت عمر من الفضائل تعتبر فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة.

(1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة (زوائد الهيثمي)(2/909، رقم 990) عن هشام بن عروة عن أبيه.

ص: 164