المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس التاسع عشر - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس التاسع عشر

‌المجلس التاسع عشر

في الكلام على حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه» وفيه شيء من ترجمة أنس بن مالك رضي الله عنه

قَالَ البُخَارِي:

باب مِنَ الإِيمَانِ (1) أَنْ يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لا يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» .

قوله: «باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه» فاعل يحب مضمر في الفعلين تقديره المكلف أو المؤمن أو الرجل.

«حدثنا مسدد» هذا هو مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماسك بن مستورد الأسدي البصري، الحافظ الثقة، وكان أبو نعيم يقول عند سماع نسبه هذا: رقية للعقرب، وقيل: لو كان في هذه النسبة بسم الله الرحمن الرحيم كانت رقية عقرب، ويقارب هذا النسب في الغرابة: حجدب بن جرعب أبو أصعب الكوفي.

«حدثنا يحيى» هذا هو الإمام الحافظ يحيى بن سعيد القطان التميمي البصري، والإجماع قائم على جلالته وإمامته وعظم علمه وإتقانه وبراعته، أقام عشرين يختم القرآن في كل يوم وليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، ورأى في المنام وعلى قميصه مكتوب بين كتفيه: بسم الله الرحمن الرحيم براءة ليحيى بن سعيد من النار، وبشر قبل موته وله عشرين سنة بأمان من الله من النار يوم القيامة، ولد سنة عشرين ومائة، ومات سنة عشرين ومائتين.

قال إسحاق بن إبراهيم الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند

(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «من الإيمان» قال الكرماني قدم لفظ الإيمان بخلاف أخوته من حيث قال: «إطعام الطعام من الإيمان» إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان.

قلت -أي ابن حجر-: وهو توجيه حسن إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معاً وهو قوله: «باب حب الرسول من الإيمان» فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول صلى الله عليه وسلم فقدمه، والله أعلم.

ص: 389

إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يدية: على بن المديني وسليمان بن داود وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألون عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد: اجلس ولا يجلسون هيبة وإعظاماً.

«عن شعبه عن قتادة عن أنس» هذا هو السيد الجليل أنس بن مالك الأنصاري البخاري البصري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان للنبي صلى الله عليه وسلم خدام كثيرون كربيعه بن كعب صاحب وضوءه، وابن مسعود حامل نعليه، وعقبة بن عامر يقود بغلته، وأيمن بن أم أيمن صاحب مطهرته وغيرهم، ولكن أنس كان ألزمهم لرسول لله صلى الله عليه وسلم كما قال العراقي، فأنس ألزمهم لخدمته صلى الله عليه وسلم، وأمه هي: أم سليم بنت ملحان.

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية قال: وكانت والدتي امرأة أرملة فقيرة، وكان عمري سبع سنين فأخذتني أمي وذهبت بي إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادت السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة أنارت الظلمات وانكشف بك الغمام، لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى إليك هدية، وأنا امرأة ضعيفة ما لي شيء أحب ولا أعز علي من ولدي وقد أهديته لك يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق نبياً اقبل هديتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد قبلناها، وما وقع هدية أقرب إلى قلبي وأحب إليَّ من هديتك يا أمة الله» فقربني رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيء صنعته لم صنعته ولا شيء تركته لم تركته، بل كان يقول:«لو قضى الله بشيء لكان» (1) رواه الترمذي وغيره.

ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد والمغفرة، فقد روى عنه أنه قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول خادمك أنس أدع الله له، فوضع يده المباركة على رأسي وقال:«بارك الله لك في عمرك ونسلك ومالك وغفر لك» فاستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فيما دعا له.

أما في طول عمره فإنه عاش كما قيل: مائة سنة وزيادة، ونقل عن أنه قال: ولقد بقيت حتى سئمت الحياة.

وأما في النسل فقد رزقه الله تعالى مائة ولد قال رضي الله عنه: إن ولدي وولد ولدي

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/368، رقم 2015) وقال: وفي الباب عن عائشة والبراء وهذا حديث حسن صحيح.

والحديث عند مسلم في الصحيح (4/1805، رقم 2309) .

ص: 390

ليعادون اليوم عليَّ نحو المائة، ولقد دفنت بيدي هاتين من ولدي مائة غير اثنين، أو قال مائة واثنين.

وقال الكرماني عنه: ولقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين.

وأما في المال فقد نقل عنه أنه قال: فوالله إن مالي لكثير ما أعلم أحد أصاب من رخاء العيش ما أصبت، وكان له بستان يحمل الثمر كل سنة مرتين، وكان في البستان ريحان يشم منه رائحة المسك.

وأما في المغفرة فقد نقل عنه أنه قال: وأنا أرجوا الرابعة أي: المغفرة فإنها لله تعالى ليست بيد العبد.

فائدة: قال ابن قتيبة ثلاثة من أهل البصرة لم يمت أحد منهم حتى يرى مائة ولد من صلبه: أنس وأبو بكر وخليفة بن بدر.

وكنية أنس: أبو حمزة، وروي له ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بإحدى وسبعين، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، ومناقبه جمة، وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين زمن الحجاج، ودفن في قصره على نحو فرسخ ونصف من البصرة وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.

«وعن حسين المعلم (1)

قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن (2)

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «وعن حسين المعلم» هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة، فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفاً اختصاراً، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة.

وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم، وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقاً أو معطوفاً على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئاً من علم الإسناد.

وأضاف ابن حجر لطيفة في الإسناد فقال: المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها فهو:«لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره» ، وللإسماعيلي من طريق روح عن حسين:«حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير» فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة عن يحيى القطان:«والذي نفسي بيده» ، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «لا يؤمن» أي: من يدعي الإيمان، أحد، ولابن عساكر:«عبد» ، وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان.

فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان.

أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله:«لأخيه المسلم» ملاحظة بقية صفات المسلم.

وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان» ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع.

ص: 391

من أحدكم حتى يحب (1) لأخيه ما يحب لنفسه (2)

»

الحديث محمول على نفي الكمال لا على نفي الصحية، فإن نفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض من كلامهم، والمعنى لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «حتى يحب» بالنصب لأن «حتى» جارة، وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون «حتى» عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبة.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «ما يحب لنفسه» أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضاً.

«والخير» : كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها.

«والمحبة» : إرادة ما يعتقده خيراً، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر.

والمراد «بالميل» هنا: الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضاً أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال.

وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل، لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين.

قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة.

فائدة: قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء، والله أعلم.

ص: 392

لأخيه ما يحب لنفسه أي: من الخير كما جاء ذلك في رواية النسائي.

و «اللام» في قوله: «لأخيه» تدل أيضاً على أن المراد: الخير والمنفعة، وكذلك قوله «ما يحب لنفسه» يدل عليه أيضاً، إذ الشخص لا يحب لنفسه إلا الخير، والخير كلمة جامعة لجميع أنواع البر والطاعات أو المباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات.

وليس المراد بالحديث أنه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب أن يحصل لأخيه عين ما يحصل كما قاله ابن الصلاح، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحملين محال، بل المراد حتى يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا لعينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية.

قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه أي: من الشر ولم يذكره، لأن حب الشيء مستلزم بغض نقيضه، فيدخل تحت ذلك، وإما لأن الشخص لا يبغض خيراً لنفسه فلا يحتاج لذكره، وليس المراد بالأخ في هذا الحديث الأخ في النسب فقط بل المراد كل أخ في الإسلام، رجلاً كان أو امرأة تعميما للحكم، قال الله تعالى ?إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? [الحجرات: 10] شملت الآية كل أخ سواء كان في النسب أو في الله تعالى، أو في الإسلام.

ففي الحديث دليل وحث على أنه للإنسان أن يحب لأخيه المؤمن من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإن فعل ذلك فهو كامل الإيمان، وإن لم يفعله فهو ناقص الإيمان.

وقد ورد بذلك أحاديث أخر: روى الطبراني في معجمه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك، وعليك بتلاوة القرآن، وذكر الله فإن ذلك لك نور في السماوات ونور في الأرض» قال قلت: زدني يا رسول الله قال: «لا تكثر من الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه» قلت: زدني يا رسول الله قال: «عليك بالصمت فإنه مرد للشيطان وعون لك على أمر دينك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «انظر إلي من هو دونك ولا تنظر إلى من فوقك، فهو أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «صل قرابتك ولو قطعوك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «لا تخف في الله لومة لائم» قلت: يا رسول الله زدني قال: «تحب للناس ما تحب لنفسك» ثم ضرب بيده على صدري فقال: «يا أبا ذر لا عقل إلا بالتدبير، ولا ورع إلا بكف النفس، ولا حسب إلا

ص: 393

حسن الخلق، وحصل زادك ليوم معادك» (1) .

وقال في كتاب إيقاظ القارئ والمستمع: وقال لقمان لابنه يا بني إني موصيك بست خصال، ليس منها خصلة إلا تقربك إلى الله تعالى، وتباعدك من سخطه؛ الأولى: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً. الثانية: الرضا بقدر الله تعالى فيما أحببت أو كرهت. الثالثة: أن تحب في الله وتبغض في الله. الرابعة: أن تحب للناس ما تحب لنفسك. الخامسة: كظم الغيظ والإحسان إلى من أساء إليك. السادسة: ترك الورى ومخالفة الهوى.

وكما ينبغي للإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ينبغي له إذا رأى أخاه المؤمن صالحاً مواظباً على الطاعات تاركاً للمعاصي والمنكرات أن يحبه في الله، وإذا رآه تاركاً للطاعات، مصراً على المعاصي والمنكرات، أو مرتكباً لشيء من البدع القبيحات أن يبغضه في الله وينبغي له أن يتخذ له أحباباً وإخواناً صالحين صادقين ناصحين مخلصين في المحبة تحبهم ويحبون في الله لا لعلة ولا لغرض دنيوي، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، جاءت أخبار في فضل الحب الله والبغض في الله، وفي فضل اتخاذ الأحباب والإخوان في الله:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال الحب في الله، والبغص في الله» (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (3) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/157، رقم 1651) عن أبي ذر.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/216) : رواه الطبراني وفيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4/198، رقم 4599) ، والبزار في مسنده (9/461، رقم 4076) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/405، رقم 394) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/355، رقم 1429) جميعاً عن أبي ذر.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4/220، رقم 4681) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/130، رقم 34730) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/239، رقم 1260) ، وفي المعجم الكبير (8/134، رقم 7613) ، وفي المعجم الأوسط (9/41، رقم 9083) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/492، رقم 9021) عن أبي أمامة الباهلي.

وأخرجه أحمد في مسنده (3/440، رقم 15676) عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه بنحوه.

ص: 394

ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (1) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (2) رواه مسلم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (4) رواه مالك الموطأ بإسناد صحيح.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/14، رقم 16) ، ومسلم في صحيحه (1/66، رقم 43) من حديث أنس.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2566) عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/338، رقم 8436) ، وابن حبان في صحيحه (2/334، رقم 574) ، والدارمي في سننه (2/403، رقم 2757) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/232، رقم 20856) .

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (4/597، رقم 2390) عن أبي مسلم الخولاني حدثني معاذ بن جبل

به.

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي الدرداء وابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأبي مالك الأشعري، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثوب.

وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (2/338، رقم 577) ، والحاكم في المستدرك (4/466، رقم 8296) ، والحارث في مسنده (2/991، رقم 1108) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/87، رقم 167) .

(4)

أخرجه مالك في الموطأ (2/953، رقم 1711) عن معاذ بم جبل.

وأخرجه أيضاً: أحمد في المسند (5/233، رقم 22083) ، وابن حبان في صحيحه (2/335، رقم 575) ، والحاكم في المستدرك (4/186، رقم 7314) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد جمع أبو إدريس بإسناد صحيح بين معاذ وعباد بن الصامت في هذا المتن.

ورواه أيضاً: عبد بن حميد (ص 72، رقم 125) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/80، رقم 150) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/322، رقم 1449) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/587) .

ص: 395

ويستحب للإنسان إذا أحب شخصاً في الله أن يعلمه بذلك وأن يقول له: إني أحبك في الله.

روينا في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (1) قال الترمذي حديث حسن صحيح.

ويستحب لمن قال له إنسان: إني أحبك في الله، يقول في جوابه: أَحبَك الذي أحببتني فيه.

وروينا في سنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعلمته؟» قال: لا، قال:«أَعلمه» فلحق به فقال: إني أحبك في الله فقال: أَحبك الذي أحببتني له (2) .

وفي سنن أبي داود والنسائي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذ إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (3) .

وفي المعارف أن أبا مسلم الخولاني قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنهما: إني أحبك في الله، قال: أبشر فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لطائفه من الناس كراسي حول العرش يوم

(1) أخرجه الترمذي في سننه كما في تحفة الأحوذي (7/60) عن المقدام بن معدي كرب.

والحديث عند البخاري في الأدب المفرد (ص 191، رقم 542) ، وأبو داود في سننه (4/332، رقم 5124) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/59، رقم 10034) ، وأحمد في مسنده (4/130، رقم 17210) ، والحاكم في المستدرك (4/189، رقم 7322) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/282، رقم 491) ، وفي المعجم الكبير (20/279، رقم 661) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/393، رقم 2440) .

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4/333، رقم 5125) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/54، رقم 10010) ، وأحمد في مسنده (3/140، رقم 12453) ، وابن حبان في صحيحه (2/330، رقم 571) ، والطبراني في المعجم الأوسط (3/227، رقم 2994) .

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2/86، رقم 1522) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/32، رقم 9937) ، وأحمد في مسنده (5/244، رقم 22172) ، وابن خزيمة في صحيحه (1/369، رقم 751) ، وابن حبان في صحيحه (5/364، رقم 2020) ، والحاكم في المستدرك (1/407، رقم 1010)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (20/60، رقم 110) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/241) جميعاً عن معاذ.

ص: 396

القيامة، وجوهم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «هم المتحابون في الله» (1) .

وينبغي أن يكثر كل من المتحابين المتواخين في الله الدعاء للآخر بظهر الغيب، وأن يقول أحدهم للآخر لا تنسانا من دعائك، فإن دعاء الإنسان لأخيه بظهر الغيب مستجاب.

فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة دعوتهم مستجابة: الإمام العادل، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المظلوم ورجل يدعو لوالديه» (2) .

وأخرج الطبراني في الكبير عن أنس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب» (3) .

وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب» (4) .

(1) لم نقف عليه.

(2)

رواه أبو نعيم في الحلية كما في فيض القدير (1/470) عن واثلة بن الأسقع، ولم نجده بعد طول بحث عن ثوبان.

قال المناوي: وفيه مخلد بن جعفر جزم الذهبي بضعفه، وفيه محمد بن حنيفة الواسطي قال في الميزان: قال الدارقطني: غير قوي،، وفيه أيضاً: أحمد بن الفرج أورده الذهبي في الضعفاء، وضعفه أبو عوف.

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (10/152) عن ابن عباس.

قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وهو ضعيف.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/130) : رواه الطبراني وله شواهد كثيرة.

(4)

أخرجه الخاري في الأدب المفرد (ص 218، رقم 623) عن عبد الله بن عمرو.

وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (2/89، رقم 1535) ، والترمذي في سننه (4/352، رقم 1980) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والأفريقي يضعف في الحديث، وهو عبد الله بن زياد بن أنعم وعبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد بن حميد في مسنده (1/133، رقم 327) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/265، رقم 1328) ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (1/369، رقم 1490) .

ص: 397

وأخرج أحمد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال: آمين، ولك مثل ذلك» (1) .

بل هي أسرع الدعوات إجابة كما ورد ذلك في حديث.

وأما أهل المعاصي والبدع فقد ورد في تجنبهم وبغضهم والإعراض عنهم وترك السلام عليهم أخبار وآثار.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعرض عن صاحب بدعة بغضاً له لله ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن انتهره صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن سلم على صاحب بدعة ولقيه بالبشرى، واستقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (2) .

وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.

قال في نزهة المجالس: وقال عيسى عليه الصلاة والسلام تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتوبوا إلى الله بالتباعد منهم، والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يذكركم الله رؤيته، ومن يزيد في عملكم كلامه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله.

ففي هذا زجر عن صحبته أهل المعاصي والبدع، وعن مجالستهم وحث على صحبته أهل الخير والصلاح ومجالستهم لنفعهم في الدنيا والآخرة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي في النار ما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (3) .

(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/195، رقم 21755) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وأخرجه أيضاً: مسلم في الصحيح (4/2094، رقم 2732) ، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 19، رقم 625) ، وأبو داود (2/89، رقم 1534) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/98، رقم 201) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/133، رقم 3356) .

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/200) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/263) عن ابن عمر.

(3)

لم نقف عليه.

ص: 398

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استكثروا من الإخوان فإن ربكم حييٌ كريم، يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه يوم القيامة» (1) .

وقال علي كرم الله وجهد: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألم تسمع إلى قول أهل النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم.

وقال إمامنا الشافعي رحمه الله:

وأكثر من الأخوان ما اسطعت إنهم

بطون إذا استنجدتهم وظهور

وليس كثير ألف خل وصاحب

وإن عدواً واحداً لكثير

وقال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة، ومن علامة صدق الأخوة والمودة: أن يكون نفس المتآخين كنفس واحدة امتزاجاً وائتلافاً حتى أن كل واحد يجد في فمه لذة ما يأكل أخوه.

فائدة: ذكر بعض الحنفية في كتاب شَرَعَهُ آداباً للمآخاة والصحبة فقال منها: أن لا يؤاخي ويصادق إلا من يثق به وأمانته ويعرف صلاحه وتقواه فإن المرء يكون مع من أحب، ويحشر على دين خليله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (2) ولله در القائل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

إذا كنت في قوم فاصحب خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى

قال ابن جماعة في أنس المحاضرة: قال قس بن محمد لولده يا بني إياك ومصاحبة الأندال فإن مصافاتهم إلى زوال، وهم أهل خلاف واختلاف، وسرعة إقبال وانصراف، إن رأوك بخير كرهوك، وإن رأوك في غبطة حسدوك، ولا تقبل قول واش أي: نمام في حق أخيك، ولا تفش سر أخيك لأحد كما قال الشاعر:

إذ الواشي نعى إليك صديقاً

فلا تجف الصديق بقول واشي

ولا تصحب قرين السوء وانظر

لنفسك من تجالس وتماشي

(1) لم نقف عليه.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4/259، رقم 4833) ، وأحمد في مسنده (2/334، رقم 8398) ، وصححه الحاكم في المستدرك (4/188، رقم 7319) ، والطيالسي في مسنده (ص 335، رقم 2573) ، وعبد بن حميد (ص 418، رقم 1431) ، وأبو هريرة في حلية الأولياء (3/165) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 399

ولا تخبر بسرك كل سر

إذا ما جاوز الاثنين فاشي

ومنها: أن لا يغلو في الحب والبغض فيكون حبه كلفاً، وبغضه تلفاً، بل يكون مقتصداً فيهما.

ومنها: أن ينظر في وجه أخيه حباً له وشوقاً إليه، ففي الحديث:«نظر المؤمن إلى المؤمن عبادة، وتبسم الرجل في وجه أخيه المسلم يحط الخطايا عنهما» (1) .

ومنها: ينبغي أن يحذر كل منهما عما يوجب الفرقة بينهما، ففي الحديث:«ما تحاب اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يصيبه أحدهما» (2) .

ومنها: أن يخلص له الود، ففي الحديث:«ثلاث يصفين لك ود أخيك، تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» (3) .

ومنها: أن يوافق أخاه فيما أباح الشرع، فإن ذلك خير من الشفقة عليه، فإذا قال أخوه في شيء لا، يقول: لا، وإذا قال في شيء: نعم، قال: نعم وقد نظم عبد الله بن المبارك فقال:

وإذ صاحبت فاصحب صاحبا

ذا حياء ووفاء كريم

قوله للشيء لا إن قلت

وإذا قلت نعم قال نعم

وإذا قال له أخوه: قم بنا لا يقول: إلى أين؟ وإذا طلب منه شيئاً من ماله لا يقول له: كم تريد؟ أي شيء تصنع به؟.

ومنها: أن يفرح بما يرى عليه من النعم ويغتم بما يلقى عليه من الكرب والغم، ويسعى في تفريجه عنه.

ومنها: أنه ينبغي أن يستعمل مع أخيه بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وكظم الغيظ، وإسقاط الكبر، وملازمة الحرمة، وقول المعذرة الكاذبة

(1) لم نقف عليه.

(2)

لم نقف عليه.

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/485، رقم 5815) عن شيبة بن عثمان الحجبي عن عمه عثمان بن طلحة.

ووراه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (8/192، رقم 8369) .

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/82) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبد الملك ابن عمير وهو ضعيف.

ص: 400

والصادقة.

ومنها: أن يرى لأخيه من الحق والفضل على نفسه أكثر مما يرى له أخوه.

ومنها: أن يهدي إلى أخيه المسلم مما تيسر عن طيبة نفسه، ويقبل منه ما يهدي إليه وإن قل، ويزد له حباً ويكافئه بخير من ذلك أن وجد ويشكر له ويثني عليه خيراً، ويدعو له ويقول: جزاك الله خيراً، فإنه أبلغ الثناء والدعاء، ولا يكتم صنيعه.

ومنها: أن يزور أخاه المسلم غباً إن خاف سآمته، أو كل يوم إن من ذلك طالباً بذلك جزيل الثواب من الله.

ومنها: أنه إذا أتى باب أخيه استأذن الدخول عليه، ولا يقوم قبالة الباب ويستأذن ثلاثاً يقول: في كل مرة السلام عليكم يا أهل البيت، أيدخل فلان ويمكث بعد كل مرة مقدار يفرغ الأكل والمتوضئ والمصلي بأربع، فإذا أذن له وإلا رجع سالماً، وإذا نودي من داخل البيت: من على الباب لا يقول: أنا، فإنه ليس بجواب بل يقول: فلان.

قال النووي في الأذكار: ويستحب استحباباً مؤكداً زيارة الصالحين والإخوان، والجيران والأصدقاء والأقارب وغيرهم، وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وينبغي أن يكون زيادته لهم على وجه لا يكرهون وفي وقت يرتضونه.

وقد ورد في فضل زيارة الإخوان في الله في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد على مدرجته أي: على طريقه ملكاً قال أين تريد؟ قال: أريد أخاً في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها أي: تحفظها وترعاها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى قال: فإني رسول الله تعالى إليك فإن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (1) .

وفي كتاب الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في لله تعالى نادى مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً» (2) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2567) عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 128، رقم 350) ، وأحمد في مسنده (2/462، رقم 9959) ، وابن حبان في صحيحه (2/331، رقم 572) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/365، رقم 2008) عن أبي هريرة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (1/464، رقم 1443) .

وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 126، رقم 345) ، وأحمد في مسنده (2/344،

رقم 8517) ، وابن حبان في صحيحه (7/228، رقم 2961) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/423، رقم 1451) ، وابن المبارك في الزهد (ص 246، رقم 708) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/493، رقم 9026) .

ص: 401

ويستحب أن يطلب الإنسان من صاحبه الصالح أن يزوره، وأن يكثر من زيارته فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت ?وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ? [مريم: 64] » (1) .

ومن آداب المزور أن يكرم الزائر، ومن مستحباته: أن يكرم الزائر، وأن يلقي السجادة أو نحوها تحته، وأن يقوم بخدمته، ولا ينبغي للزائر أن يرد كرامة المزور عليه، وأن يقول أحدهما للآخر: كيف أصبحت وكيف حالك؟ فيقول له: صاحبه أصبحت مؤمناً أو في خير وعافية والحمد لله رب العالمين، ثم إذا استقر به المكان قدم له ما حضر من طعام أو شراب لله در القائل:

قدم لزائرك الطعام وحيه

حتى يراه كأنه في حيه

والبيت إن لم يلق مأكول به

لا فرق بين الميت فيه وحيه

ومنها: أنه يتهيأ للقاء الإخوان ويتجمل لهم فيلبس من أنظف ثيابه، ويتطيب ويتوضأ وضوء للصلاة، ويتزين لهم ما استطاع ثم يخرج إليهم.

قال صاحب الأنوار في آخر كتاب الغسل، ويستحب لمن يصحب الناس التنظيف بالسواك، وأخذ الشعر، واستعمال الطيب، وقطع الروائح الكريهة، وحسن الأدب معهم، لتزويد المودة والوقار، وأن يتمسك بصحبته الصديق الصدوق.

فقد كان السلف إذا ظفروا بما يصلح للصداقة يتمسكون به ولم يضيعوه، علماً بأن الصديق الصدوق أعز من الكبريت الأحمر.

ومنها: أن يكون أولاد أخيه في الله أولاده فقد كان كثير من السلف الصالح يقوم بكلفة أولاد إخوانهم في الله، ويصرفون إليهم كسيهم كما يصرفونها إلى أولادهم.

كما حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: أتيت بعض البلاد فنزلت في مسجد،

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1760، رقم 4454) عن ابن عباس.

وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (5/316، رقم 3158) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/394، رقم 11319) ، وأحمد في مسنده (1/357، رقم 3365) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/33، رقم 12385) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/116) .

ص: 402

فلما كان وقت العشاء وصلينا أتاني الإمام بعد انصراف الناس، وقال: قم وأغلق باب المسجد، فقلت له: أنا رجل غريب، وهذه الليلة باردة أبيت هاهنا ولك الخير والأجر والثواب، فقال: قم ولا تكثر الكلام، فإن الغرباء يسرقون الحصر والقناديل، فقلت له: أنا إبراهيم بن أدهم فقال: قد أكثرت عليَّ الحديث وعلا على رجلي وقبضها وجعل يجرني على وجهي، حتى مر بي على باب أتون الحمام فدخلت الأتون وإذا أنا بالوقاد يقد النار فقلت: السلام عليك ورحمة الله فلم يرد علي السلام، بل أشار لي أن اجلس فجلست وأنا خائف منه لما رأيته تارة ينظر عن يمينه وتارة ينظر شماله، فلما فرغ من وقوده التفت إلى وعليك السلام فقال لي: يا هذا إنني أجير قوم فخفت أن أسلم عليك فأنشغل بالسلام فآثم وأخون، فقلت: رأيتك تنظر عن يمينك وشمالك أتخاف من أحد؟ قال: نعم قلت: ممن؟ قال: من الموت لا أدري من أين يأتيني أمن يميني أو من شمالي، فهو أكبر همي قلت له: بكم تعمل كل يوم قال: بدرهم ونصف، قلت: وما تصنع به؟ قال: آكل منه النصف وانفق الدرهم على أولاد أخي، قلت: أخوك من أمك وأبيك؟ قال: لا بل أحببته في الله تعالى، ومات وأنا أقوم بأهله وأولاده، فقلت له: عملك هذا عمل المتقين، هل دعوت الله في حاجة فأجابك؟ قال: لي حاجة عنده منذ عشرين سنة أدعوه بها وما قضاها، قلت: وما هي؟ قال: بلغني أن في الغرب رجلاً قد تميز على الزاهدين وفاق العابدين يقال له: إبراهيم بن أدهم دعوت الله عز وجل أن يجمع بيني وبينه حتى أراه وأموت، فقلت له أبشر يا أخي قد قضى الله حاجتك وما رضي أن يأتي بي إليك إلا سحباً على وجهي، قال فوثب من مكانه وعانقني وسمعته يقول: اللهم كما قضيت

حاجتي وأجبت دعوتي فارفعني إليك، قال: فنظرت إليه فإذا هو يرجف فتمدد على الأرض فأتيت إليه فحركته فإذا هو قد مات رحمه الله عليه، وهو مشهور بعبد الله الوقاد.

واعلم أن أنفع الأصدقاء هو الذي يوافق فعله قوله، وألا يكون كمن قال الله فيه ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] أنشد بعضهم:

لا ترض من رجل حلاوة قوله

حتى يصدق ما يقول بفعال

فإذا وزنت فعاله بمقاله

فتوازنا فإخاء ذاك جمال

* * *

ص: 403