المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثامن عشر - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ١

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثامن عشر

‌المجلس الثامن عشر

في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»

الحمد لله المنفرد بالكمال والكبيراء والجلال، والبقاء والعز الذي لا نفاد له، الملك الكريم الذي يغفر لمن استغفره، ويقبل من استقاله، ويجيب من سأله الجميل، الذي غمر العباد ببره فبحار عطائه سائلة، الغفور الذي ستر عباده عند المسألة، القريب الذي قرب أحبابه فوجدوا لذة المعاملة، فقلوبهم لذكره حاضرة، وعيونهم في خدمته ساهرة، وأبدانهم من مخافته ناحلة، العزيز الذي قطع المبعدين عن بابه، وأذابهم بأليم حجابه، السعيد من قربه المولى الكريم، والطريد من أبعده الملك الحكيم، والقلوب بسر تدبيره جاهله، استوى على العرش من غير تكييف، علو عظمته وقهره، وكيف يحمل العرش حامله، القلوب تعرفه بصفته، والرقاب خاضعة لعزته، والعقول في تعظيمه حائرة ذاهلة، صفاته قديمة وتخيلات المشبهين والمعطلين باطلة، لا يرد أفعاله كم ولا كيف، ولا ينسب شيء من أحكامه إلى حين، فاقطع لسان الاعتراض وكف كف المجادلة، فكلما تصوره وهمك فهو حادث مخلوق، وكيف يشبه المفعول فاعله، أحمده على ما أسبغ علينا من نعمه الكاملة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله ضمن الربح الجزيل لمن عامله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي أوضح كل مشكل، وبين حكم كل نازلة، فأضحت شمس الإيمان مشرقة، ونجوم البهتان آفلة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابة صلاة دائمة متواصلة وسلم.

قَالَ البُخَارِي:

باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (1)

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ (3) ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله «باب» سقط من رواية الأصيلي وكذا أكثر الأبواب، وهو منون ويجوز فيه الإضافة إلى جملة الحديث لكن لم تأت به الرواية.

وقوله: «المسلم

» استعمل لفظ الحديث ترجمة من غير تصرف.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي إياس» اسمه ناهية بالنون وبين الهاءين ياء أخيرة، وقيل اسمه: عبد الرحمن.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي السفر» اسمه سعيد بن يحمد، وإسماعيل مجرور بالفتحة عطفاً عليه، والتقدير: كلاهما عن الشعبي.

ص: 369

«الْمُسْلِمُ (1) مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (2) .

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ (3) : حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ

(1) قال ابن حجر في الفتح (123) : قوله: «المسلم» قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملاً، ويجاب: بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان.

قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين.

وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/125) : هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، بخلاف جميع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة، على أن مسلماً أخرج معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحاً:«المؤمن من أمنه الناس» وكأنه اختصره هنا لتضمنه لمعناه، والله أعلم.

(3)

قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/125) : قوله: «وقال أبو معاوية حدثنا داود» هو ابن أبي هند، وكذا في رواية ابن عساكر عن عامر وهو الشعبي المذكور في الإسناد الموصول.

وأراد بهذا التعليق بيان سماعه له من الصحابي، والنكتة فيه رواية وهيب بن خالد له عن داود عن الشعبي عن رجل عن عبد الله بن عمرو، حكاه ابن منده، فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذلك عن عبد الله، ثم لقيه فسمعه منه.

ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في روايته هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه، والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريقه ولفظه:«سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده» فعلم أنه ما أراد إلا أصل الحديث.

والمراد بالناس هنا: المسلمون كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقة عند الإطلاق، لأن الإطلاق يحمل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين، ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال، لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم، والله سبحانه وتعالي أعلم.

ص: 370

عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قوله: «عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما» هذا هو الزاهد العابد الصحابي أبي عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، كنيته أبو محمد على الأصح، أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشر سنة، وقيل: إحدى عشر سنة، قالوا: ولا نعرف أحداً بينه وبين هذا القدر غيره، وكان غريزاً في العلم مجتهداً في العبادة وكان أكثر حديثاً من أبي هريرة لأنه كان يكتب، وأبو هريرة لا يكتب، ومع ذلك فالذي روى له قليل بالنسبة إلى ما رواه أبو هريرة.

روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائه حديث، اتفقا منهما على سبعة عشر وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وكان رضي الله عنه أحمر عظيم البطن، وعمي في آخر عمره، واختلفوا في أي مكان توفى، فقيل: بمكة، وقيل: بالطائف وقيل: بمصر في شهر ذي الحجة سنة خمس وستين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين عن ستين وسبعين سنة

«عن النبي صلى الله عليه وسلم» اشتمل هذا الحديث على جملتين الأولى قوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» واختلف العلماء في معنى هذه الجملة فقيل: معناها المسلم الكامل من سلم المسلمون من لسانه ويده، فتكون الألف واللام في المسلم للكمال نحو زيد الرجل الكامل في الرجولة، فإن إثبات الشيء للشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، فقد صرح سيبوية بأن الجنس إذا أطلق محمولاً على الكامل ويسقط ما استشكل منه إذا المفهوم من الحديث: أن من لم يسلم المسلمون من لسانه لا يكون مسلماً، نعم يخرج عن الإسلام الكامل إذا لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، ولم يخرج عن أصل الإسلام.

وقيل: معنى الحديث والمراد به الإشارة إلى حسن معاملة العبد ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فالأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التثنية بالأدنى على الأعلى.

فإن قيل: إن قوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» يقتضي ويفهم أنه لا يحب الكف عن الكفار في تحصيل الإسلام الكامل بل يحصل له الإسلام الكامل إن لم يكف لسانه ويده عنهم وليس كذلك.

والجواب: أن هذا الحديث خرج مخرج الغالب أن يكف مفهوم له، وخص المسلمون بالذكر لأجل أنه يتأكد على المسلم أن يكف الأذى عن أخيه المسلم، لا لأجل أنه لا يجب الكف عن الكافر.

ص: 371

أو يقال في الجواب: الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه فصح الاحتراز عنهم بالمسلمين.

فإن قيل: قوله «المسلمون» بصيغة جمع التذكير يقتضي أنه لا يجب الكف عن المسلمات في تحصيل الإسلام الكامل، وليس كذلك بل ولابد وإن يكف لسانه ويده عن المسلمين والمسلمات ليحصل له الإسلام الكامل.

جوابه: أن الإتيان بجمع التذكير هنا للتغليب فالمسلمات يدخلن في ذلك.

فائدة: إنما خص صلى الله عليه وسلم اللسان واليد بالذكر مع أن الأذي قد يحصل بغيرهما إلا أن الإيذاء باليد واللسان أكثر من غيرهما، فاعتبر الغالب أيضاً.

وخص اللسان لأنه يعبر عما أضمره الإنسان في نفسه، وخصت اليد بالذكر لأن سلطته الأفعال إنما تظهر باليد إذ بها البطش والقطع والأخذ والمنع والإعطاء ونحوه.

وقال أبو ذر ابن الشيخ برهان الدين المحدث في شرحه: وإنما جمع بينهما صلى الله عليه وسلم ولم يقتصر على أحدهما لأن كف اليد قد يكون بسبب الضعف والبعد، فإذا انضم إليه كف اللسان علم أن كف اليد كان للإسلام قاله السخاوي.

وأفاد الشيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر في الفتح هنا مناسبة لطيفة فقال (1) : في ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكته وهي لأجل أن يدخل فيها اليد المعنوية، فإن اليد على قسمين: يد الجارحة، وهي معلومة، واليد المعنوية وهي الاستيلاء على حق الغير بغير حق فإنه يقال: وضع فلان يده على مال فلان أي: استولى عليه باليد المعنوية، فعلى هذا يشترط في تحصيل الإسلام الكامل سلامه المسلمين من لسانه ويده أعم من تكون يد الجارحة أو يد المعنى، فمن استولى على أموال الناس بغير حق يصدق عليه أنه لم يسلم المسلمون من يده فلا يكون مسلماً كاملاً، وإن لم يؤذهم بلسانه ويد الجارحه.

فائدة أخرى: إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اللسان على اليد لأن أذى اللسان أعم من أذى اليد، واللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بخلاف اليد فإنها تختص بالموجود.

قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : نعم يشارك اللسان في ذلك الكتابة، وإن أثرها في

(1) انظر الفتح (1/124) .

(2)

انظر الفتح (1/124) .

ص: 372

ذلك عظيم فإنه يمكن أن يؤدي الإنسان بكتابة الماضين والموجودين والحادثين كما يؤدي بلسان ذلك.

وهذا الذي قاله رضي الله عنه أخذه من قولهم المشهور: القلم أحد اللسانين، بل ربما يترتب على الكتابة من الضرورة والنكاية عظيم ما يترتب على النطق باللسان، كما يقع ذلك من شهود الزور، ومن دواوين الملوك، ومن الموقعين عند القضاء، أما الشهود فهم قوم غالب المعاش وحقوق الناس متعلقة بكتابتهم، فإذا كتب الشاهد على شخص مسطور بمبلغ من الدراهم مثلاً لشخص آخر، والحال أنه ليس عليه من ذلك الحق شيء، بل زود عليه كثير من الفساق الذي يبيع دينه بدنيا غيره فقد ضره وآذاه بشهادته، وكتابته الزور ضرراً أعظم من ضرر النطق باللسان فكيف مثل هذا الشاهد المزور القيامة بين يدي الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وقد نص العلماء على أن قول الزور من الكبائر والكتابة قائمة مقام ذلك قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ? [الفرقان: 72]، وجاء في حديث:«لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار» (1) قال العلماء: شاهد الزور ارتكب ذنوباً:

أحدها: الكذب والافتراء على من شهد عليه والله تعالى يقول في كتابه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ? [غافر: 28] .

وثانيها: أنه ظلم الذي يشهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرض روحه للهلاك.

وثالثها: أنه ظلم الذي شهد له، بأن ساق له المال الحرام فأخذه ووجبت له النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قضي له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه، فإنما اقتطع قطعة من النار» .

ورابعها: أنه أباح ما حرم الله ومعصيته من المال والدم والعرض وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» (2) متفق عليه.

وقد ذم الشهود جماعة من الصالحين ونظموا فيها أبياتاً: قال سفيان الثوري: الناس

(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/39، رقم 5672) ، والطبراني في المعجم الأوسط (8/191، رقم 8367) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/264) عن ابن عمر.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/336) : في إسناده محمد بن الفرات وهو كذاب.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/939، رقم 2511) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

ص: 373

كلهم عدول إلا العدول.

وقال عبد الله بن المبارك: الشهود هم السفلة.

وقال بعض الفضلاء فيهم:

قوم إذا غضبوا كانت رماحهم

بث الشهادة بين الناس بالزور

هم السلاطين إلا أن حكمهم

على السجلات والأملاك والدور

وقال آخر:

إياك أحقاد الشهود فإنما

أحكامهم تجري على الحكام

أقوم إذا خافوا عداوة فادر

سفكوا الدماء بأسنة الأقلام

وقال آخر:

احذروا نية الشهود

الأخسرين الأرذلينا

قوم لئام يسرقون

ويحلفون ويكذبونا

وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:

شهود ولكن آبين عن الهدى

عدول عن الحق المبين عدول

وقال ابن السبكي: ومن سلك من الشهود أمر به، واجتنب ما نهى عنه، فهو محمول مأجور غير أنه غلب على أكثرهم التسارع إلى تحمل الشهادة من غير تأمل وتحرير لما يشهد به، وذلك مذموم.

وأما أخذ الشاهد من الأجر على الشهادة عند القاضي فهو حرام، وإنما يستحق الأجرة على تحمل الشهادة، وكتابة السطور، وأما قسمته ما يتحصل للشهود في الحانوت، فهي غير جائزة لأنها شركة أبدان، وأما دواوين الملوك ودواوين نوابهم فمن حقهم الواجب عليهم إذا وقف أحد إلى الملك في واقعة ان يتلطفوا ويواصلوا تلك الواقعة إلى ذهن الملك، ويكرروها عليه ليفهمها، وإلا فمتى ظلم الملك واحداً في واقعة لعدم فهمه، ككثير من هؤلاء الأتراك وكان كاتب السر والموقع هو الذي قرأ عليه القصة في تلك الواقعة، كان شريكاً له في ذلك الظلم، ومن حقهم أيضاً أن يحترزوا عن الكتابة في قطع الأرزاق، فإن يقطع أحد رزق أحد بلسانه وقلمه ما أفلح قط، خصوصاً في أرزاق أهل العلم الشريف، وما أحسن ما نقشه بعض الدواوين على دواته حيث قال:

حلفت من يكتب بي

بالواحد الفرد الصمد

ص: 374

أن لا يمد مده

في قطع رزق لأحد

وللشيخ تاج الدين السبكي بيتان قريبان من هذين البيتين نقشهما بعض الأمراء على دواته فقال:

حلفت من يكتب بي

بالله رب العالم

أن لا يمد مد

تؤلم قلب عالم

وأيضاً يقال: إنما قدم صلى الله عليه وسلم اللسان على اليد لأن نكايته أعظم وأشد تأثيراً في القلب من نكاية اليد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«أهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل» (1) وقال الشاعر:

جراحات السنان لها التأم

ولا يلتأم ما جرى اللسان

وقد ورد في شؤم اللسان، وفي فضل كفه، وفي الأمر بإمساكه، وفي النهي عن التكلم به بما لا يفيد أحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين روينا في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها –أي: ما يتفكر في أنها خير أم لا-، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» (2) .

وروينا في هذا الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً، رفع الله بها درجات» أي: يرفع الله بها درجاته أو يرفعه الله بها درجات «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم» (3) .

وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجة عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت: يا

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/38، رقم 3582) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/238، رقم 20895) عن عائشة بطرف: «اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل» .

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6112) ، ومسلم في صحيحه (4/2290، رقم 2988) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6113) عن أبي هريرة.

وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/164، رقم 16442) ، وفي شعب الإيمان (4/246، رقم 4955) .

ص: 375

رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا» (1)

. قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (2) .

وروينا أيضاً عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك وليسعك بينك، وأبك على خطيئتك» (3) قال الترمذي: حديث حسن.

روينا فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي: تخضع له فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإذا اعوججت اعوججنا» (4) .

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2410) وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي، والنسائي في السنن الكبرى (6/458، رقم 11489) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3972) .

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/413، رقم 15454) ، والحاكم في المستدرك (4/349، رقم 7874) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (3/221، رقم 942) ، والطيالسي في مسنده (ص 171، رقم 1231) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/222، رقم 1584) ، والطبراني في المعجم الكبير (7/69، رقم 6396) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2406) وقال: هذا حديث حسن.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (4/148، رقم 17372) ، والروياني في مسند (1/146، رقم 157) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/239، رقم 4930) جميعاً عن عقبة بن نافع.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2411) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2407) عن شيخه محمد بن موسى، ثم ساق اسناداً عقبه فقال حدثنا هناد، حدثنا أبو أسامة عن حماد بن زيد نحوه، ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث محمد بن موسى، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد، وقد رواه غير واحد عن حماد بن زيد ولم يرفعوه حدثنا صالح بن عبد الله حدثنا حماد بن زيد عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري قال أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/95، رقم 11927) ، وأبو يعلى في مسنده (2/403، رقم 1185) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 302، رقم 979) ، الطيالسي في مسنده (ص 293، رقم 2209) .

ص: 376

قال الغزالي: معناه والله أعلم أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخزلان والله اعلم.

هذا المعنى ما حكي عن مالك بن دينار أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهنا في بدنك، وحرمانا في رزقك، فاعلم أنك قد تكلمت بما لا يعنيك.

وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجة عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل كلام ابن آدم عليه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله تعالى.

وروينا في هذا الصحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» (1) .

وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقاه الله شر ما بين لحيية وشر ما بين رجليه دخل الجنة» (2) قال الترمذي حديث حسن.

وروينا في كتاب الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سئلت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟» قالت: بلى قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم تلى ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ

? حتى بلغ ?يَعْمَلُونَ? [السجدة: 16، 17] ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال:«رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» قلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه قال: «كف عليك هذا» فقلت: يا نبي الله وإنا المؤاخذون بما

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2376، رقم 6109) ، والترمذي في سننه (4/606، رقم 2408) ، وأحمد في مسنده (5/333، رقم 22874) ، وأبو يعلى في مسنده (13/548، رقم 7555) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/235، رقم 913) عن سهلا بن سعد.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/606، رقم 2409) عن أبي هريرة، قال الترمذي: أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية، وهو كوفي وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعيد هو أبو حازم الزاهد مدني، واسمه سلمة بن دينار وهذا حديث حسن غريب.

ص: 377

نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (1) . قال الترمذي: حديث حسن.

وحصائد الألسن ما حصلة الإنسان واكتسبه من الإثم بالكلام فيما لا ينفع، وهذا الكلام استفهام إنكاري تقديره: ما يكب الناس إلا حصائد ألسنتهم.

فإن قيل: هذا الحديث يقتضي أن كل من يكب في النار فسبب كبه فيها اللسان مع أن بعض الناس يكب في النار بعمله لا بلسانه؟

فالجواب: أنه عام قيد خاص.

فائدة: قال ابن القيم في كتابه أقسام القرآن: فإن قيل: ما الحكمة في جعل الله سبحانه وتعالى اللسان عضواً لحمياً لا عظم فيه ولا عصب؟

ثم أجاب بإذن الله خلقه كذلك لتسهل حركته، ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه، فأي عضو من الأعضاء حركته كما يحرك اللسان لم يطاوعك كما يطاوعك اللسان، بل لابد أن يحصل التعب والملل إلا اللسان فلو كان عظماً لم ينتهي منه الكلام التام ولا الذوق التام.

ثم قال فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى جعل على اللسان علقين أحدهما الأسنان والثاني الشفتان، وجعل على العين غطاء واحد ولم يجعل على الأذن غطاء، ثم أجاب بأنه سبحانه وتعالى جعل ذلك إشارة إلى أن آفة الكلام أكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع، فجعل الأكثر آفات طبقتين لخطره وشرفه، وخطر حركاته، وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وجعل، للمتوسط طبقة واحدة، وجعل الأقل آفة بلا طبقة فتبنه لهذه اللطيفة الإلهية والحكمة الربانية.

وقال ابن جماعة في شرح الأربعين فإن قيل: لم تعددت العين والأذن والأنف والخد دون اللسان.

(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/11، رقم 2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/428، رقم 11394) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3973) ، وأحمد في مسنده (5/231، رقم 22069) ، والحاكم في المستدرك (2/447، رقم 3548) ، والطيالسي في مسنده (ص 76، رقم 560) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 68، رقم 12) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/73، رقم 137) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/38، رقم 2806) ، وهناد في الزهد (2/529، رقم 1090) ، والديلمي في الفردوس (4/341، رقم 6986) .

ص: 378

ثم أجاب: بأن الله صنع ذلك إشارة إلى مطلوبية قلة الكلام.

قال العلماء: في الحديث دلالة على التحذير من أذى اللسان ومن آفاته، وآفاته كثيرة لا تنحصر، وأكثر معاصي ابن آدم فيه من أقبحها وأضرها للناس وأفحشها الغيبة.

والغيبة: أن يذكر الإنسان غيره بما يكرهه وإن كان فيه، حتى أن قلت عن طويل: فلان طويل أو عن قصير: فلان قصير، وكان يكره ذلك فإنه حرام ويعد غيبة، وهي حرام سواء بلقبك أو لسانك أو خطك أو إشارتك بعين ورأس أو نحوها، وسواء كان في ماله أو ولده أو زوجته أو نحو ذلك.

والذي يدل على إنها محرمة الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى ?وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ? [الحجرات: 12] .

?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 36] .

واختلف العلماء رضي الله عنهم فيها: هل هي من الكبائر أو من الصغائر فقال صاحب «العدة» وأقره الرافعي: أنها من صغائر الذنوب لعموم البلوى.

وقال القرطبي في تفسير القرآن: إنها من الكبائر بلا خلاف، قال الزركشي: وقد ظفرت بنص الإمام الشافعي على إنها من الكبائر فالقول: بأنها صغيرة ضعيف أو باطل.

لكن قال القاضي زكريا: يمكن حمل نص الشافعي على ما إذا أصر على الغيبة، فإنها تصير من الكبائر بلا خلاف، وكذا لو اغتاب عدلاً.

قال الشيخ ولي الله تقي الدين الحصيني: وقد يحتقر الشخص بالكلمة الواحدة من الغيبة، لكثرة إدمانه عليها، وتعود لسانه بها ومخالطته من الاعتناء له بحفظ أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا سيما المتفقهة والصوفية، فإن غيبتهم غالباً تكون في المساجد، والربط المبنية لذكر الله تعالى وعبادته، فيرتكبون مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في أطهر البقاع مع علمهم بأن الكلمة الواحدة من الغيبة عظيم أمرها، فقد صح في الحديث أن عائشة رضي الله عنها اغتابت ضرتها صفية وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية إنها كذا أي: يكفيك منها إنها امرأة قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم: «قلت كلمة لو مزجت

ص: 379

بماء البحر لمزجته» (1) أي: خالطتة مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها. رواه الترمذي وحسنه وصححه.

فهذا حديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة إذا كان هذا شأن كلمة هي في المقول فيها، فإن عائشة قالت عنها: إنها قصيرة وكانت قصيرة، فكيف حال من يتكلم في غيره بكلمة مفتراه فيه، إنا لله وإنا إليه راجعون من كلمة توقع الإنسان في الهلاك.

وجاء في حديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (2) رواه أبو داود.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» (3) رواه مسلم.

قال العلماء: وسامع الغيبة شريك المغتاب فكما تحرم الغيبة يحرم استماعها، ويجب إنكارها إن لم يخف ضرراً وإن خاف ضررا فارق ذلك المجلس، فإن لم يقدر على المفارقة بذكر أو غيره لا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع، فيجب على كل من سمع غيبة أخيه أن يرى باباً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من فعل ذلك فقد فار فوزاً عظيما، فقدر ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» (4)

رواه الترمذي وقال حديث حسن.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/269، رقم 4875) ، والترمذي في سننه (4/660، رقم 2502) ، وأحمد في مسنده (6/189، رقم 25601) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/301، رقم 6721) عن عائشة.

(2)

أخرجه أبو داود فس سننه (4/269، رقم 4878) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/224، رقم 13364) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/7، رقم 8) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/299، رقم 6716) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/430، رقم 5319) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (6/265، رقم 2286) .

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه (4/1986، رقم 2564) ، والترمذي في سننه (4/325، رقم 1927) ، وابن ماجه في سننه (2/1298، رقم 3933) ، وأحمد في مسنده (2/277، رقم 7713) ، والبيهقي في السنن الكبرى (6/92، رقم 11276) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (4/327، رقم 1931) عن أبي الدرداء وقال: هذا حديث حسن.

وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/449، رقم 27576) ، والحارث في مسند (2/836، رقم 881) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/110، رقم 7634) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/258) .

ص: 380

وإن لم يرد غيبة أخيه، أو كان من عادته عدم اعتنائه بالدين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا وأمثاله قد وقعوا في شر عظيم، يوجب غضب الله تعالى وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.

وذكر العلماء: أن الغيبة تباح بل تجب في صور منها الفاسق المجاهر بالفسق، والمبتدع المجاهر ببدعة كشارب الخمر المجاهر به، فيجوز غيبة تلك العصبة دون غيرها إلا كان لجواز ذكره بغيرها سبب آخر.

قال في الإحياء: إلا أن يكون المجاهر بها عالما يقتدى به فتمتنع غيبته لأن الناس إذا اطلعوا على زلته تٍساهلوا في ارتكاب الذنب، وغيبة الكافر محرمة أيضاً إن كان ذمياً لأن فيها تنفير لهم عن قبول الجزية وتركاً لوفاء الذمة، ومباحة إن كان حربياً لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حسان أن يهجوا المشركين.

ومنها: أن الإنسان إذا استشار في امرأة يريد أن يتزوجها أو امرأة في رجل تريد أن تتزوجه فيجب عليه ما ذكر فيها أو فيه من الغيبة، وليس ذكر هذا من باب الغيبة، بل من باب النصيحة، فيشترط للرجل إذا استشير في ذلك أن يذكر للخاطب أو للمخطوبة ما فيها أو فيه، على وجه النصيحة لا الوقيعة، فإن الدفع يمجرد قوله لا نفعل هذا أو لا تصلح لك فلانه، أو قال لها: لا يصلح لك فلان، أو خير لك فيه أو نحوه، ولم تجز الزيادة بذكر باقي عيوبه، وإذا استشير في أمر نفسه بالنكاح فإن كان فيه ما ثبت الخيار فيه وجب ذكره للزوجة، وإن كان فيه ما يعدل الرغبة عنه ولا يثبت الخيار كسوء الخلق والشح استحب، وإن كان فيه شيء من المعاصي وجب عليه التوبة في الحال وستر نفسه.

وتجوز الغيبة في صور أخرى غير ما ذكر، وقال حجة الإسلام الغزالي: من لم يصن لسانه وأكثر الكلام يقع لا محال في غيبة الناس كما قيل: من كثر لغطه كثر سقطه.

والغيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعة على ما قيل: إن مثل من يغتاب الناس مثل من نصب منجنيقاً لحسنات فهو يرمي بها شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً.

وبلغنا عن الحسن رضي الله عنه أنه قيل: له يا أبا سعيد إن فلاناً اغتابك فبعث إليه بطبق فيه رطب، وقال: بلغني أنك اهديت إليَّ حسناتك فأحببنا أن نكافئك.

وذكروا: فات بعض الصالحين قيام الليل فعزته زوجته فقال: إن أقواماً صلوا الليل البارحة، فلما أصبحوا نالوا مني فتكون صلاتهم يوم القيامة في ميزاني.

قال سفيان الثوري: لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك.

ص: 381

وقال آخر: لا تبسط لسانك فيفسد عليك شأنك.

وقال ابن المبارك: احفظ لسانك إن اللسان سريع إلى المرء في قتله، وإن اللسان دليل الفؤاد يدل الرجال على عقله.

وقال آخر:

لسان المرء ليث في كمين

إذا خلى عليه له إغارة

فصنه عن الخنا بلجام صمت

يكن لك من بليته ستارة

وقال آخر:

احفظ لسانك أيها الإنسان

لا يلدعنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه

قد كانت تهاب لقاءه الشجعان

لطيفة: ذكر ابن الجوزي أبو نعيم عن الشعبي أنه قال: مرض الأسد فعادته السباع خلا الثعلب، فنم عليه الذئب وقال له: إن جميع السباع عادوك إلا الثعلب فقال: إذا حضر فأعلمني، فلما حضر عليه فعاتبه في ذلك فقال: كنت في طلب الدواء لك، قال: أي شيء أصبت؟ فقال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج فضرب الأسد مخالبه في ساق الذئب فمر به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر إلى ما يخرج من رأسك.

قال أبو نعيم: يقصد الشعبي من هذا سوي ضرب المثل تعليم للعقلاء وتنبيه الناس وتأكيد الوصية في حفظ اللسان في تهذيب الأخلاق والأدب بكل طريق، وفي ذلك قيل:

احفظ لسانك لا تقل فتبتلى

إن البلاء موكل بالمنطق

قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أنت أيها المتكلم لا يخلوا إما أن تتكلم بكلام حرام كالغيبة، أو مباح من فضول الكلام الذي لا يعنيك، فإن تكلمت بكلام حرام كأن وقعت بين المسلمين ففيه عذاب الله تعالى الذي لا طاقة لك به، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليلة أسري بي نظرت في النار قوماً يأكلون الجيف، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» (1) .

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/257، رقم 2324) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/550، رقم 544) عن ابن عباس رضي الله عنه.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/92) : رواه أحمد وفيه قابوس وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 382

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «اقطع لسانك عن حملة القرآن وطلاب العلم، لا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار» (1) .

روى أبو قلابة رضي الله عنه: إن في الغيبة خراب القلب من الهدى، فنسأل الله العصمة بفضله وكرمه قال.

وإن تكلمت بكلام غير مباح ففيه أربعة صور:

أحدها: شغل الكرام الكاتبين بما لا خير فيه ولا فائدة، وحق للمرء أن يستحي منهما فلا يؤذيهما قال تعالى ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 8] .

والثاني: إرسالهم كتاب إلى الله عز وجل من اللغو والهذر، فليحذر العبد من ذلك، وليخش الله عز وجل.

وذكر أن بعضهم نظر إلى رجل تكلم بالخنا فقال: يا هذا إنما تملي كتاباً إلى ربك سبحانه فانظر ماذا تملي.

الثالث: قراءته بين يدي الملك الجبار جل جلاله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بين الشدائد والأهوال، وأنت جوعان عطشان عريان منقطعاً عن الجنة محبوساً عن النعمة.

والرابع: اللوم والتعيير بقول الله: يا عبدي لما قلت كذا وكذا فتقطع حجته، ويحصل له الحياء من رب العزة جل جلاله، ولهذا قيل: إياك والفضول فإن حسابه يطول.

وقال الإمام الشافعي لصاحبه الربيع: يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا

(1) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/38، رقم 59) ضمن حديث طويل روي عن معاذ رضي الله عنه فيه أن رجلاً قال حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «يا معاذ» قلت له: لبيك بأبي أنت وأمي قال: «إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلق السماوات فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بواباً عليها

الحديث» .

قال المنذري: رواه ابن المبارك في كتاب الزهد عن رجل لم يسمه عن معاذ، ورواه ابن حبان في غير الصحيح والحاكم وغيرهما، وروي عن علي وغيره وبالجملة فآثار الوضع ظاهرة عليه في جميع طرقه وبجميع ألفاظه.

ص: 383

تكلمت بالكلمة ملكتك ولا تملكنا.

فقال: بعضهم اللسان كالسبع إن لم توثقه أكلك.

وقال الغزالي في الإحياء: كان أبو بكر رضي الله عنه يضع في فمه حجراً ليمنع نفسه من الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.

وقال ابن مسعود: والذي لا إله إلا الله هو ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.

وقال لقمان: قال لي سيدي: اذبح هذه الشاة وائتنا بأطيب ما فيها، فجاء بالقلب واللسان، وقال له مرة أخرى إذبح شاة وائتنا بأخبث لحمها، فأتى بالقلب واللسان، فقيل له في ذلك فقال: ليس في الجسد مضغتان أطيب منها إذا طابا، ولا أخبث إذا خبثا.

ونقل عن إمامنا الشافعي أنه قال: المؤمن إذا أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه.

وقال أيضاً: ثلاثة تزيد في العقل مجالسة العلماء أو مجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعنيه.

وقال معروف الكرخي: الكلام فيما لا يعنيك خذلان من الله.

وقال وهب بن منبه: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت، واحدة في الهرب من الناس.

ولقد أحسن من قال:

وكم ساكن طال المنى بسكوت

وكم ناطق يجني عليه لسان

قال سليمان عليه السلام: إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.

فائدة: روى قس بن ساعده وأكتم بن صيفي اجتمعنا فقال أحدهما لصاحبه: وجد في ابن آدم من عيب فقال: عيوب ابن آدم أكثر من أن تحصى، الذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجد خصلة إن استعملها ستر العيوب، كأنه قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يا لسان قل خيراً تغنم أو أسكت تسلم من قبل أن تندم.

قيل: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء تقوله من عندك أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ص: 384

قال: بل سمعته يقول: «إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه» (1) .

لطيفة: قال رجل لنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لا أزيد على الصلوات الخمس ورمضان، وليس لي مال أتصدق به ولا أحج، أين أنا إن مت؟ قال:«في الجنة» ، قال: معك تبسم وقال «نعم إن حفظت قلبك من الحسد، ولسانك من الكذب، وعينيك من النظر إلى محارم الله، وأن لا تزدري بها مسلماً، دخلت الجنة معي على راحتي هاتين» (2) وينبغي للإنسان الحلم والصفح عن عثرات الإخوان، فإذا بلغه عن أحد أنه تكلم في حقه بكلام فاحش أن يعفو عنه، ولا يقابله بإسأته، بل يسكت أو يقابله بحسن الخلق، ولين الكلام ?وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] .

وورد في الحديث: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفو يعزكم الله» (3) .

وجاء في حديث آخر عن ابن عباس أنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم «أؤنبئكم بأشراركم» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «إن أشراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «من يبغض الناس ويبغضونه أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال:

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/197، رقم 10446) ، والشاشي في مسنده (2/82، رقم 602) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/107) ، وابن المبارك في الزهد (ص 128، رقم 378) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/240، رقم 4933) ، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/458) جميعاً عن عبد الله رضي الله عنه.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/300) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(2)

لم نقف عليه.

(3)

رواه ابن عدي في الكامل (2/34، ترجمة 470 الحسن بن عبد الرحمن بن عباد بن الهيثم) المعروف بالاحتياطي وضعفه ابن عدي وقال في آخر ترجمته: لا يشبه حديثه حديث أهل الصدق.

والحديث أورده أبو الفرج ابن الجوزي في صفوة الصفوة (1/214) ضمن أحاديث ساقها في جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

وأفاد العجلوني في كشف الخفاء (1/384، رقم 1028) أنه جزء من حديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله» وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب فقال: عن محمد بن كثير العبدي بزيادة: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم» .

ص: 385

«من لا يرجى خيره ولا يؤمن من شره» (1) .

وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من العرش ثلاثة أصوات يا معشر الموحدين لله قد عفا الله عنكم فليعف بعضكم عن بعض» (2) .

وحكي عن علي رضي الله عنه كان له غلام فدعاه فلم يجبه فدعاه ثانياً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً قال: ما حملك على ترك جوابي؟ قال: آمنت من عقوبتك فقال: أنت حر لوجه الله.

ونقل عن زين العابدين من ذرية الحسين بن علي أن رجلاً اغتابه فقال له: إن كنت صادقاً في قولك فغفر لله لي، وإن كنت كذاباً في قولك فغفر الله لك.

وخرج يوماً إلى الجامع فسبه رجل، فأقبل عليه فقال: ما خفي عليك من أمرنا أكثر ثم قال له: ألك حاجة فاستحى الرجل فدفع إليه زين العابدين ألف درهم وألقى عليه ثوبه فذهب الرجل وهو يقول: إنني أشهد أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونقل بعضهم: أن الله أوحى إلى موسى عليه السلام أتحب أن يدعو لك كل شيء طلعت عليه الشمس والقمر؟ قال: نعم، قال: اصبر على خلقي كما صبرت على من كفر ويعبد غيري.

وقال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أخالط الناس أم أعتزلهم؟ فقال: خالط الناس واحتمل أذاهم.

ونقل عن عمر بن الخطاب أو غيره أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: يا ابن الخطاب تمنى عليّ، فسكت فقال في الثانية: يا ابن الخطاب أعرض عليك ملكي وملكوتي وأقول لك تمنى عليَّ وأنت إلى ذلك تسكت؟ فقلت: يا رب شرفت الأنبياء بكتب أنزلتها عليهم فشرفني بكلام منك بلا واسطة فقال: يا ابن الخطاب من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً، ومن أساء إلى من أحسن إليه فقد بدل نعمة الله كقراً.

ويُرجى من كرم الله وفضله أن يكفر ما وقع من اللسان من الآفات، بما يقع منه

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/318، رقم 10775) ، وأحمد في كتاب الزهد (ص 295) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/183) : رواه الطبراني وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك.

(2)

لم نقف عليه.

ص: 386

من الفوائد.

فتكفر الغيبة ونحوها بذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة القرآن وغيرها من فوائد اللسان، فإن كرم الله واسع وحلمه عظيم.

فائدة: ينبغي لمن هو فاحش اللسان أن يلازم الاستغفار فقد ورد في الحديث: شكى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذرب اللسان فقال: «أين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (1) .

لطيفة: حكي عن الشبلي رحمه الله تعالى قال: مات رجل من جيراني، فرأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: يا شبلي مرت بي أهوال عظيمة، وذلك أني ارتج عليَّ عند السؤال فقلت في نفسي من أين أوتي عليَّ، ألم أمت على الإسلام، فنوديت هذه عقوبة إهمالك للسانك في الدنيا، فلما أتاني الملكان حال بيني وبينهما رجل جميل الوجه طبيب الرائحة، فذكرني حجتي فذكرتها فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا شخص خلقت لكثرة صلاتك على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرت أن أنصرك في كل كرب. ذكره ابن بشكوال.

فتأمل رحمك الله تعالى بركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونفعها في وقت الحاجة والشدة.

ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى علي َّفي اليوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا» (2) أخرجه ابن منده.

ولقد أحسن من قال:

يا من أتى ذنباً وقارف زلة

ومن يرتجي الرحماء من الله والقربى

تعاهد صلاة الله في كل ساعة

على خير مبعوث وأكرم من نبا

فتكفيك هماً أي هم تخافه

وتكفيك ذنباً جئت أعظم به ذنباً

ومن لم يكن يفعل فإن دعائه

يجد قبل أن يرقى إلى ربه حجبا

(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/117، رقم 10282) ، وأحمد في مسنده (5/396، رقم 23410) ، والحاكم في المستدرك (1/691، رقم 1882) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في شعب الإيمان (1/439، رقم 643) عن حذيفة رضي الله عنه.

(2)

رواه البيهقي في شعب الإيمان (3/111، رقم 3035) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 387

عليك صلاة الله ما لاح بارق

وما طاف بالبيت الحجيج وما لبى

لطيفة أخرى: يروى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على مريض من الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تب» فلم يقدر، فحال بطرفه نحو السماء، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال:«لما لم يعمل بلسانه أومئ بقلبه نحو السماء وندم قال الله تعالى: يا ملائكتي عبدي عجز عن التوبة بلسانه فندم بقلبه، أشهدكم أني قد غفرت له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر» (1) .

في قوله صلى الله عليه وسلم «من سلم المسلمون» من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق كما في «أسلم تسلم» (2)، وأما الجملة الثانية أعني قوله صلى الله عليه وسلم «والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه» فقد اختلف معناها فقيل: معناها أن مكة لما فتحت وانقطعت الهجرة وفواتها على من يدركها من الصحابة، فطيب قلوبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بأن حقيقة الهجرة تحصل بهجر ما نهى الله عنه.

وقيل في معناها: أن هذه الهجرة على ضربين ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن.

وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلموا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن المهاجر الكامل من هجر وترك ما نهي الله عنه، مع مفارقته الوطن، وليس المهاجر الكامل من فارق وطن فقط.

قال ابن الملقن: اشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام وفي الحديث: الحث على ترك أذى المسلمين، بكل ما يؤذي، ليكون الإنسان بذلك حسن التخلق مع العالم، ومعدوداً من الأبرار، وقد فسر الأبرار بأنهم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون بالشر.

(1) لم نقف عليه.

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/124) : قوله: «والمهاجر» هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان. والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييباً لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام.

ص: 388