الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
موقفهم من النبي والقرآن الكريم:
يرتبط موقف المسشرقين من القرآن الكريم بموقفهم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يقفون من النبي موقف الإنكار المطلق، وقد ينكر بعضهم أصل النبوة أساسا ولا يعترف بها إطلاقا، لأي من أنبياء الله ورسله، وهذا الإنكار يترتب عليه القول بأن محمدا ليس نبيا وبالتالي فإن القرآن حسب زعمهم لا يكون وحيًا من السماء، وإنما هو من عند محمد ومن وضعه هو، وليس كتابا إلهيًّا ولا وحيًا سماويًّا.
ومعلوم أن الإيمان بالنبي والنبوة أصل من أصول الاعتقاد التي لا تقبل الشك يؤمن بها كل مسلم إيمانا جازما كإيمانه بالله وهي المفتاح الحقيقي لتقبل كل ما جاء به الوحي والإيمان به.
والنبوة في جوهرها إنباء الله عبدًا من عباده بشرع ما، فإن أمره بتبليغ هذا الشرع إلى الناس كان رسولا نبيا، وإن لم يأمره بالتبليغ كان نبيا فقط، والنبوة في جوهرها اصطفاء ووهب وعطاء من الله، وليست كسبا ولا اجتهادا كما يرى بعض الفلاسفة، وما بلغته الرسل من الله نزل به الروح الأمين على قلب محمد وغيره من الرسل ليكونوا من المنذرين به، فنزل القرآن بالعربية، والإنجيل بالسريانية، والتوراة بالعبرية؛ تحقيقا لمعنى قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وهذا الوحي ليس فيضًا من العقل الفعال كما تدعى الفلاسفة، وليس إلهامًا ولا إبداعًا لعبقرية محمد كما يقول بعض المستشرقين، إنما هو وحي من الله على قلب الرسل بواسطة ملك الوحي جبريل عليه السلام فهو من عند الله بلفظه ومعناه.
والمستشرقون يرون القضية عكس ذلك تمامًا؛ فهم أولا لا يؤمنون بنبوة محمد ولا يعترفون بها.
1-
فهو عند البعض أحد عباقرة العالم العشرة.
2-
وعند البعض الآخر أحد الأبطال العظماء.
3-
وعند آخرين ناقل ذكي من كتب الأولين.
4-
أو متعلم من رهبان النصارى قد أجاد في تعلمه عنهم.
5-
أو أحد المشعوذين وطلاب الرياسة والزعامة.. وهكذا يقولون في حق نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وإذا أرادوا شيئا من الإنصاف قالوا: إنه جاء ليدعو إلى الاشتراكية وليس إلى عقيدة دينية جديدة.
أ- يقول هويرت جريمي "مستشرق ألماني" في كتابه: "محمد"1: لم يكن محمد في بادئ الأمر يبشر بدين جديد بل إنما كان يدعو إلى الاشتراكية، ثم يقول: فالإسلام في صورته الأولى لم يكن يحتاج إلى أن نرجعه إلى ديانة سابقة تفسر لنا تعاليمه، بل هو محاولة للإصلاح الاجتماعي تهدف إلى تغيير الأوضاع الفاسدة، وعلى الأخص إزالة الفوارق الصارخة بين الأغنياء والفقراء، لذلك نراه يفرض ضريبة معينة لمساعدة المحتاجين، وهو يستخدم فكرة الحساب في اليوم الآخر كوسيلة للضغط المعنوي وتأييد دعوته.
1 ص3،141، 592، 565.
ب- بينما يرى المستشرق الإنجليزي "جب" في كتابه: "المذهب المحمدي" أن محمدًا ككل شخصية مبدعة قد تأثرت بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به من جهة ثم هو من جهة أخرى قد شق طريقا جديدًا بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدوائر في المكان الذي نشأ فيه.. ومحمد نجح؛ لأنه كان واحدًا من المكيين، ومعارضة المكيين له لم تكن من أجل تمسكهم بالقديم، أو بسبب عدو رغبتهم في الإيمان وإنما كانت لسبب سياسي أو اقتصادي فالمستشرق "جب" يفسر موقفه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فيرى أن الظروف المكية هي التي جعلت من محمد زعيمًا سياسيًّا، وأعطته الفرصة لكي يظهر في وسط قومه المكيين بهذه الصورة وإن يتلف حوله فقراء مكة طلبًا للإنصاف من الأغنياء.
ج- وهناك نمط آخر من المستشرقين يرون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد حلت به حالة نفسية أدت به إلى نوع من التأمل الذاتي في السماء وما فيها من نجوم، وساعد على تألق هذا النوع من التأمل وعالمه الطبيعي الموحش من الجبال وما حولها، وما تثيره في النفوس من حالات الهلع والتأمل الذاتي.
وعلى مثل هذا النحو من الفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقف المستشرقين من النبي فهم ينكرون رسالته جملة
وتفصيلا، وهذا بالطبع سوف ينسحب على موقفهم من القرآن الكريم ومن مصدره الإلهي.
يقول غوستاف لوبون: يجب اعتبار محمد من فضيلة المتهوسين من الناحية العلمية كأكبر مؤسسي الديانات، ولا تعجب لذلك؛ فلم يكن ذوو المزاج البارد من المفكرين هم الذين ينشؤون الديانات، ويقودون الناس، وإنما أولو الهوس هم الذين مثلوا هذا الدور وهم الذين أقاموا الأديان وهدموا الدول.. وقادوا البشرية.
ولقد وضع هذا المستشرق كتابه عن "حضارة العرب" وصرح فيه بآراء وأفكار تدل على جهله بالوحي والنبوة وطبيعة الحضارة الإسلامية، وبطبيعة الحياة الخاصة للرسل فهو يتهمه بالشهوانية في حياته الزوجية، ويترتب على هذا الإتهام مجموعة من الأحكام التي تدل على جهله بخصوصيات الرسول، ويجعل القرآن دليلًا على عبقرية الرسول وإبداعه أو يضعه في مكانة أدنى من كتب الهندوس الدينية، ويرى أنه كتاب مؤقت بعصره لا يحقق حاجات الناس في عصور لاحقة بل يجعله السبب في تخلف المسلمين.
د- أما جولد تسيهر فقد وضع كتابه عن "مذاهب التفسير الإسلامي"، ونسب فيه المعرفة التي تلقاها محمد عن مصدرين؛ إذ يقول: فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثرا عميقا والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة
دينية صادقة، وهذه التعاليم التي أخذها عن تلك العناصر الأجنبية، كانت في وجدانه ضرورية لإقرار لون من الحياة في اتجاه يريده الله؛ ولقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا عميقا، وأدركها بإيحاء التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا.
هـ- ويسير في نفس الاتجاه "بلاشير" في كتابه: "معضلة محمد"؛ حيث يرى أن التشابه الواقع بين قصص القرآن وقصص التوراة والإنجيل كان سببًا في القول بأن محمدًا أخذ القرآن عن هذين المصدرين.
و أما نيكلسون فقد ركز اهتمامه على دراسة التصوف الإسلامي؛ ليثبت به أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن عن مصادر متعددة، لكن أهمها هي المسيحية، ويتهم القرآن بالتناقض والتضارب الذي لم يستطع أهل مكة اكتشاف ما فيه من تناقض؛ لسذاجتهم وعدم قدرتهم، يقول نيكلسون: والقارئون للقرآن من الأوربيين لا تعوزهم الدهشة من اضطراب مؤلفه، وهو محمد، وعدم تماسكه في معالجة كبار المعضلات، وهو نفسه -محمد- لم يكن على علم بهذه المعضلات، كما لم تكن حجر عثرة في سبيل صحابته، الذين تقبل إيمانهم الساذج القرآن على أنه كلام الله، كما يتهم الرسول في هذا الكتاب -الصوفية في الإسلام- بأنه حرف النصرانية وأساء فهمهما.
هذه هي نظرة المستشرقين للقرآن من ناحية مصدره، فالقرآن عندهم ليس إلهيا ولا ربانيا، وإنما هو بشري من صنع محمد، وإن ما جاء فيه من قصص توافق ما جاء في التوراة والإنجيل فإنه قد أخذها عن هذين المصدرين بتحريف وإساءة فهم.
ومعلوم لدى كل مسلم أن الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود أصل من أصول الاعتقاد، ولا ريب في ذلك لدى كل مسلم، وأنه بلفظه ومعناه من الله، نزل به الروح الأمين على قلب النبي حسب الحوادث وما تحتاجه من حلول لما أشكل فيها.
مناقشة هذه الآراء:
أولا: ليست الدعاوى التي يفتريها المستشرقون في حق نبي الإسلام وفي حق القرآن الكريم بجديدة على المثقف المسلم، ولا أريد في هذه الدراسة الموجزة أن أتعرض بالرد التفصيلي على ما أثاره المستشرقون من شبهات وشكوك حول الإسلام، كما أن المعاندة أو المجادلة بقصد الغلبة ليست هدفا مقصودا لنا في هذه الدراسة؛ لأن ديننا ونبينا الذي يفترون عليه كذبا وبهتانا ينهَوْن عن ذلك، ويأمرون أن نقول للناس حسنى، وألا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأن نؤمن بأن الأنبياء جميعا دينهم واحد وأمهاتهم شتى كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا فإننا ننبه إلى عقيدة كل مسلم في نبي الله عيسى وموسى وجميع الأنبياء، فينبغي ألا نقول في حق نبي الله عيسى إلا كما قال القرآن الكريم.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .
ولا تتكلم في حقه عليه السلام بأفضل مما تكلم هو في حق نفسه حيث قال:
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [سورة مريم: 30-33] .
وأنه {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى} [النساء: 171] .
وأنه {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172] .
هذه هي عقيدة المسلمين في نبي الله عيسى، وكذلك يؤمن المسلمون بأن ما نزل على عيسى من ربه هو الحق، ولا نقول في حقه إلا كما قال القرآن على لسان عيسى حين قال: إني عبد الله أتاني الكتاب {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران: 48] ، وأن هذه الكتاب الذي أنزل على عيسى قد صدقه القرآن وبين أنه وقع فيه التحريف على أيدي النصارى، وأن الكتب التي بأيدي النصارى اليوم وما يتعبدون به لا تمت بسبب إلى الكتاب الذي نزل على عيسى عليه السلام، وسوف نبين ذلك بالبراهين القاطعة فيما بعد.
وكذلك يعتقد جميع المسلمين بعفاف مريم وطهارتها، وأنها صديقة اصطفاها الله تعالى كما قال ربنا:{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] .
وكما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .
هذا هو اعتقاد كل مسلم في حق عيسى في حق وأمه البتول الطاهرة. وفي حق الكتاب الذي أنزل عليه، ولا يصح إيمان المسلم إلا بذلك، وأن الكتاب الذي أنزل على عيسى جاء مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وأن هذا النبي قد ذكرته التوراة باسمه صراحة وأن الإنجيل قد ذكره بوصفه في أكثر من موضع.
هذا أصول اعتقادية يؤمن بها كل مسلم ولا يفرق في ذلك بين أحد من أنبياء الله ورسله، ولا يقبل من المسلم إيمانه إلا بذلك.
ونحن كمسلمين يفرض علينا ديننا أن نعلن براءتنا مما افتراه اليهود في حق عيسى عليه السلام، ونعلن براءتنا مما افترته اليهود في حق أمه مريم وأن اتهام اليهود لمريم بهتان عظيم نبرأ إلى الله منه؛ لأن الله قد طهرها، واصطفاها على نساء العالمين، والإيمان بطهارتها وعفتها عقيدة إسلامية.
وبعد هذه الأصول الاعتقادية التي كان لا بد من بيانها. أرى ضروريا أن نضع أمام طلبة العلم الأصول الوثنية التي انحرفت إليها
أناجيل النصارى؛ لنبين أن ما نزل على عيسى ابن مريم شيء وأن ما يدين به النصارى اليوم شيء آخر؛ فإن ما أنزل على عيسى عليه السلام هو الحق من ربه، وما يتعبد به النصارى اليوم لم ينزل به وحي ولم ينطق به نبي، وإنما هو من تحريف علمائهم، وإن الطقوس والشعائر التي يتعبدون بها الآن إنما هي من نراث الوثنيات السابقة على النصرانية المعاصرة لها، وقد نبه إلى ذلك مفكرون كبار أمثال الإمام ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وتلميذه ابن القيم في كتابه هداية الحيارى في الرد على النصارى.
كما ألف بعض المهتدين من النصارى مؤلفات مستقلة نذكر منهم في هذا المقام محمد بن طاهر البيروتي في كتابه العقائد الوثنية في الديانة النصرانية "الذي طبع أكثر من مرة"1.
وجاء الفصل السابع من هذا الكتاب كاملا في المقارنة بين النصوص التي تصور عقيدة الهنود في بوذا وكريشنا وعقيدة النصارى في عيسى عليه السلام، وأوضح ما يقول به النصارى في حق عيسى عليه السلام من أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وأن عقيدة التعميد والعشاء الأخير وغيرها من عقائد النصارى مأخوذة من العقائد الوثنية السابقة على عقيدة النصارى، ولا بد أن نشير ههنا إلى جهود علمائنا السابقين أمثال ابن حزم في كتابه العظيم "الفصل في الملل والنحل" وابن تيمية في الجواب الصحيح. وما كتبه القرافى في
1 طبعه أخيرا زميلنا الفاضل أ. د/ محمد الشرقاوي طبعة محققة ومنضبطة.
كتابه "الأجوبة الفاخرة" وابن القيم في هداية النصارى، وغيرهم من العلماء الذين أسسوا في ذلك منهجا مستقبلا في البحث هو منهج النقد الداخلي للنص فدرسوا نصوص الأناجيل دراسة نقدية وبينوا ما في هذه الأناجيل من تناقض يفضح تزييفها وتحريفها مما ينأى بها أن تكون هي مما نزل على عيسى عليه السلام وإنما هي بقايا من وثنيات الأديان السابقة.
وإن الصليبية المعاصرة لا تمت إلى روح الديانة النصرانية بسبب لا من قريب ولا من بعيد، فالصليبية شيء وروح النصرانية التي بشَّر بها عيسى بن مريم شيء آخر، فالصليبية حقد وكراهية والنصرانية حب ورحمة، والصليبية استكبار وفساد وسفك للدماء، والنصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام ود وتراحم وتواضع كما قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] .
وسوف أضع بين يدي القارئ اعتقاد الوثنيين في بوذا وفي كريشنا واعتقاد النصارى في عيسى عليه السلام؛ ليعرف القارئ مدى التحريف الذي أصاب النصرانية وأن عقيدتهم في أصولها وفروعها مأخوذة من الوثنيات السابقة وأنها لا تمت بسبب إلى ما نزل على عيسى عليه السلام.
أولا: عقيدة الهنود في كريشنا
كريشنا هو المخلص والفادي والراعي وابن الله والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس؛ وهو الأب والابن والروح القدس.
كان كريشنا من سلالة ملوكانية ولكنه ولد في غار بحال الذل والفقر.
عرف الناس ولادة كريشنا من نجمه الذي ظهر في السماء.
لما ولد كريشنا سبحت الأرض وأنارها القمر بنوره، وترنمت الأرواح، وهامت السماء فرحا وطربا، ورتَّل السحاب بأنغام مطربة.
ومات كريشنا ثم قام من بين الأموات كريشنا الألف والياء وهو الأول والوسط وآخر كل شيء. كريشنا هو براهما العظيم القدوس بالناسوت سر من أسراراه العجيبة الإلهية.
ثانيا: عقيدة البوذية
كان يجد بوذا بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا.
ولد بوذا ابن العذراء مايا التي حل فيها الروح القدس يوم عيد الميلاد "25 كانون الأول" وقد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه نجم المسيح.
لما ولد بوذا فرحت السماء ورتلت الملائكة أناشيد المجد.
بوذا الألف والياء ليس له ابتداء ولا انتهاء.
وقد عمّد بوذا المخلص وحين عمادته بالماء كانت روح الله حاضرة وهو لم يكن الإله العظيم فقط بل روح القدس الذي في سارا تجسد كوتاما لما حل على العذراء مايا قال بوذا إنه لم يأت لنقض الناموس كلا بل أتى؛ ليكمله.
عقيدة النصارى في عيسى:
يسوع هو المخلص والفادي والمفدي والراعي وابن الله والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، وهو الأب والابن والروح القدس كان يسوع من سلالة ملوكانية ولكنه ولد في حالة الذل والفقر بغار "إنجيل مريم".
كان تجسد يسوع المسيح بواسطة حلول الروح القدس على العذراء مريم.
ولد يسوع ابن العذراء مريم التي حل فيها الروح القدس يوم الميلاد.
وقد دل على ولادة يسوع نجم ظهر في المشرق وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس قبل ولادته.
لما ولد يسوع المسيح رتل الملائكة فرحًا وسرورًا، وظهر من السحاب أنغام مطربة: لله المجد في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.
ومات يسوع ثم قام من بين الأموات يسوع الألف والياء والوسط وهو آخر كل شيء.
يسوع هو مهده العظيم القدوس، وظهوره في الناسوت سر من أسراره العظيمة الإلهية ويوحنا عمّد يسوع بنهر الأردن وكانت روح الله حاضرة، وهو لم يكن الإله العظيم بل والروح القدس الذي تم تجسده عندما حل على العذراء مريم، فهو الأب والابن والروح القدس.
وقال يسوع: لا تظن إني جئت لأنقض الناموس؛ ما جئت لأنقض بل لأكمل1.
وعلى القارئ أن يقارن بين هذه العقائد الثلاثة: عقيدة الهنود في بوذا وفي كريشنا، وعقيدة النصارى في عيسى عليه السلام؛ ليدرك التحريف الكبير الذي أصاب المسيحية من الوثنيات السابقة.
ومن يقرأ نصوص المستشرقين وأقوالهم عن القرآن، ودعوى أنه بشري المصدر، ويقارن بين هذه الاتهامات وما حكاه القرآن الكريم عند مشركي مكة قديما، وعن موقفهم من الرسول والقرآن لا يجد شيئا جديدًا عند المستشرقين؛ فإن رأيهم ودعواهم في القرآن قد سبق إليها مشركو مكة وأهل الكتاب في المدينة، ولقد بلغ حرص النصارى على هذه الاتهامات وتكرارها من جيل إلى جيل أن بعضهم
1 راجع هذه الاقتباسات كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية تأليف محمد بن طاهر البيروني ص185-200 وبعدها.
وقد أفردها بمؤلفات مستقلة، كما فعل يوحنا الدمشقي وبولص الأنطاكي في رسالته عن النصرانية والإسلام.
وقديما قال المشركون عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24، 25] .
وقالوا عنه: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] .
وقالوا عن الرسول: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] .
وقالوا له: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ} [الحجر: 6] .
وقالوا له: لست مرسلا.. قالوا غير ذلك الكثير عن القرآن وعن الرسول مما حكاه القرآن عنهم، فلا غرابة -إذن- أن تردد هذه الاتهامات على ألسنة أحفادهم في كل جيل من المستشرقين والمبشرين بالنصرانية ومن دار في فلكهم من أبناء ملتنا.
وكذلك الذين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه عبقري أو أحد العظماء العشرة في العالم، أو أنه طالب رياسة وزعامة، أو مصلح اجتماعي
…
أو
…
أو، ولا نجد لديهم جديدًا عما حكاه القرآن عن أهل الكتاب بالمدينة أو مشركي مكة، ولا يتسع المقام لتفصيل القول في ذلك لكن نود الإشارة إلى أمور:
أولا: لقد قال المشركون عنه: إنه معلم، وشاعر، وساحر، وأن القرآن إفك افتراه، ولعل مجيء القرآن مشتملا على هذه الاتهامات، ذاكرا لها أكبر دليل على أن القرآن الكريم ليس من عند محمد ولا من بنات أفكاره.
فإن من له صلة بالقرآن وتلاوته يدرك تماما سقوط هذه الدعاوى الظالمة، ويعلم يقينا أن القرآن كان أمينا في عرض هذه الاتهامات على ألسنة المشركين وأمينا في الاحتفاظ بها تتلى ضمن آياته، ويتعبد بها المسلم كما يتعبد بتلاوة غيرها من الآيات؛ ليكون القرآن نفسه حاملا معه أدلة نفي هذه الاتهامات الكاذبة، وحاملا معه دلائل مصدره الإلهي؛ فإن مَن له حظ من العقل والحكمة يعلم تماما أن هذا القرآن لو كان من عند محمد لجاء خاليًا تمامًا من ذكر هذه الاتهامات الموجهة إليه، ولكان أولى له أن يأتي بشهادات تأييده وصدقه، بدلا من ذكر الاتهامات التي وجهها المشركون إليه في أول عهدهم بالدعوة، إن تسجيل القرآن الكريم لهذه الاتهامات يدل على أمرين مهمين جدًّا في شأن الدعوة الإسلامية.
الأمر الأول: دلالته على صدق النبي وأمانته في النقل عن ربه؛ لأنه ليس من صالح أصحاب الرسالات أن ينقلوا إلينا هذه الاتهامات التي تحمل معنى التكذيب والافتراء بل كان الأولى بهم لو لم يكونوا رسلا صادقين أن يخفوا ذلك تماما عن الأتباع، ولجاءوا بدلًا منها بشهادات تأييد وتصديق، كما يحدث في عهدنا هذا في كثير
من المناسبات، ولكنهم الرسل، وحاشا لواحد منهم أن يكون غير ذلك فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
أما الأمر الثاني: فهو دلالة هذا النص القرآني على ألوهية مصدره ودلالته على أنه من عند الله وليس من قول البشر، والذي له صلة بالقرآن يعلم تماما أن ذلك هو حق اليقين.
ثانيًا: إن القرآن يشتمل على كثير من مواقف اللوم والعتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في أمور كان يتصرف فيها الرسول من واقع بشريته الخالصة، فكان ينزل القرآن معاتبا للرسول على ما فعل، حدث ذلك في موقفه صلى الله عليه وسلم مع ابن أم مكتوم، حين انصرف عنه الرسول إلى غيره، فنزل قوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}
…
إلخ الآيات [عبس: 1-4] .
وحدث ذلك في شأن أسرى بدر، حين أوشك الرسول أن يأخذ الفدية من الأسرى ويطلق سراحهم، فنزل الوحي مخالفا لرأي الرسول ومعاتبا له بقوله:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67] .
وجاء مثل ذلك في سورة الكهف حين اهتم الرسول ببعض وجهاء مكة أملا في إسلامهم، وأعرض عن بعض أتباعه، فنزل قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سورة الكهف: 28] .
وحدث نظير ذلك في مواقف عديدة ذكرها القرآن الكريم حين قالت قريش للرسول: أقبل على بعض أمرنا، ونحن نقبل على بعض أمرك، فنزل قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [سورة الإسراء: 73-74] .
ونظائر ذلك في القرآن كثير يتلوها المسلم ويتعبد بها كما يتبعد بتلاوة الأوامر والنواهي، فهل يكون ذلك اللوم وذلك العتاب من عند محمد؟.. أليس من الأولى لو كان القرآن من عند محمد كما زعموا أن يكون خاليا من مثل ذلك اللوم الموجه إلى شخصه، وهل يكون القرآن من عند محمد، ويكون مشتملا على مثل قوله تعالى:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} إن القرآن نفسه قد احتوى على ألوهية مصدره كجزء ذاتي فيه وليس خارجا عنه من ذلك مثلا:
1-
ما أشرنا إليه آنفا وهو إشارته لمواقف العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور التي كاد يتصرف فيها بمقتضى بشريته، والتي ذكرنا أمثلة منها.
2-
إشارته إلى مواقف المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لألوهية مصدره ودعواهم أنه من عند محمد تارة أو أنه قد اتخذه من أهل الكتاب أو
…
أو
…
إلخ.
3-
إشارته إلى اتهام المشركين لمحمد بأنه "ساحر أو شاعر أو معلم أو مجنون"؛ إذ كان من عند محمد لما جاء مشتملا على هذه الاتهامات، وكان أولى به أن يأتي بشهادات تؤيد صدقه.
وينبغي أن نعلم القرآن الكريم عندما ذكر هذه الإشارات لم يذكرها إلا مقرونة بدليل إبطالها وبيان فسادها، فأحيانا يذكر الفرية، ثم يتبعها بقوله: إن يتبعون إلا الظن؛ لينفي أن يكون معهم دليل على كذبهم كما في قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ، وقوله:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}
…
إلخ؛ ليبين أن كلامهم متهافت في ميزان المنطق؛ لافتقاد دليل صدقه، وأحيانا يذكر الفرية ثم يتبعها بالقضية الجازمة بأن القرآن من عند الله، كما في قوله تعالى:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، وأحيانا ينفي عنهم صفة العلم أصلا بمستوياته المختلفة كما في قوله تعالى:{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] ، ولعل القرآن كان يلفت نظر المسلمين إلى جنس هذه الافتراءات وأن أدعياءها لا يملكون دليلا
على صحة دعواهم، وإن هي إلا ظنون وأوهام أنبتتها بذور الحقد والكراهية لهذا الدين ولنبيه.
ثالثا: ومن معجزات القرآن الكبرى أنه صالح لكل زمان ومكان، وأن أدلته وبراهينه التي تحدى بها كفار مكة وأهل الكتاب في المدينة هي بعينها ما زالت مصدرا للتحدى لكبار المستشرقين ومن سار في فلكهم؛ ذلك أن أهل الكتاب بالمدينة وقبلهم مشركو مكة لما قالوا: إن القرآن من عند محمد وأنه إفك افتراه تحداهم القرآن على لسان الرسول بحجة سهلة وميسورة لكل عربي، فقال لهم: إذا كنتم عربا ومحمد عربي مثلكم، وقد أتى بهذا القرآن من عند نفسه، فأتوا بآية من مثله، أو بسورة، أو بعض سورة مثله مفتريات، وهذه حجة في غاية الإقناع والإقحام في نفس الوقت أنها ملزمة للخصم فهو إما أن يأتي بمثل القرآن إن كان بشريًّا تصديقا لدعواه، أو يسلم بأنه من عند الله فيؤمن به، فإذا أصر على موقفه بعد ذلك فإنه بذلك يكون خارجا عن مجال الحوار العلمي إلى مجال العناد والاستكبار، وهذا هو شأن المشركين قديما والمستشرقين حديثا، كما قال القرآن حاكيا عنهم:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنغام: 33] .
ومن تمام نعم الله على عباده ومن كمال حجته على خلقه أن آيات النبوة وبراهين الرسالة الخاتمة معلومة لكل الخلق، وفي استطاعتهم العلم بها، وقد يكون عند بعضهم من دلائل نبوته ما لا يوجد
عند البعض الآخر، وقد يظهر لكل قوم من الآيات والدلائل النفسية والأفقية ما يتبين به أن القرآن حق، وإذا ظهرت هذه الدلائل ووضحت وأعرض الإنسان عنها أو أعرض عن النظر الحق الموجِبِ للعلم بها، كان موقفه عنادًا واستكبارًا، وكان في شقاق مع الله ورسوله.
ثالثًا: والله تعالى قد شهد للقرآن بنفسه تارة وبملائكته تارة وبآياته البينات تارة، وأخبر عن هذا القرآن بقوله:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، وقد أخبر الرسول بذلك في أول أمر الدعوة في مكة، وأخبر الرسول عن هذا وبهذا النفي العام الشامل للإنس والجن فيه آيات لنبوته؛ لأن مثل هذا الخبر لا يقدم عليه من يريد من الناس أن يصدقوه، إلا وهو واثق كل الثقة أن الأمر كذلك في نفسه، ولو كان عنده شك في ذلك لجاز أن يظهر كذبه في هذا الخبر، ويفسد عليه قصده، وهذا لا يقدم عليه حكيم ولا عاقل.
رابعا: ولم يثبت أن واحدا من العرب عارض القرآن، والذي حاول ذلك منهم أتى بأشياء فضحت أمره بين قومه، ومعلوم أن توفر الدواعي المعارضة للقرآن كانت موجودة لدى المشركين، ولما عجزوا عن معارضته مع توفر الدواعي عندهم، ومع الحرص الشديد على محاربته وإبطاله بكل وسيلة ممكنة، دل ذلك على
العجز المطلق، وهذا في حد ذاته برهان تام على صدق القرآن، وصدق أنه آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه آية ظاهرة وباقية إلى يوم القيامة، وليس القصد هنا الحديث عن إعجاز القرآن؛ فإن ذلك له مجال آخر، ولكن الذي أود الإشارة إليه أن دلائل ألوهية المصدر القرآني متنوعة ومتعددة، وكلها من أوجه إعجاز القرآن، وكل وجه منها دليل على صدق النبي، وفي نفس الوقت دليل على أن القرآن من عند الله، ولما قص القرآن علينا موقف مشركي مكة ودعواهم الكاذبة في أن القرآن من عند محمد قال لهم:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [النساء: 166] أي: كفاك يا محمد أن الله وملائكته يشهدون بما أنزل إليك، ثم أعاد التحدي في المدينة مع أهل الكتاب بعد الهجرة، فقال في سورة البقرة:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ثم قال {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24: 23] ، فدلت الآية على أمرين؛ الأول قوله:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} يعني إذا لم تفعلوا فقد علمتم أنه حق، وينبغي أن تعترفوا بذلك وتؤمنوا به.
الثاني قوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} و"لن" تفيد تأكيد النفي في المستقبل فثبت بالخبر أن البشر لن يأتوا بمثله فيما يستقبل من الزمن، فكان القرآن بذلك قد أخبر بعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو تعاون على ذلك أهل الأرض قاطبة.
وكان كفار في مكة من أحرص الناس على إبطاله ومعارضته مجتهدين في ذلك بكل الوسائل، تارة يسألون أهل الكتاب عن أمور غيبية؛ ليسألوا عنها محمدا؛ ليظهروا بذلك عجزه، كما سألوهم عن قصة يوسف، وأهل الكهف، وذي القرنين، وحاولوا أن يختبروا الرسول في ذلك.
وتارة يجتمعون المرء بعد المرء؛ ليتفقوا على أمر يسألون عنه محمدًا بقصد إعجازه، فكان ينزل القرآن بالإجابة الشافية لأمراضهم، فإذا كان هذا شأنهم معه، حرصٌ تامٌّ على المعارضة المرة تلو المرة ولو كانوا قادرين عليها لفعلوها؛ لأنه إذا وجدت الدواعي التامَّة وامتنعت الصوارف وكانت القدرة حاصلة، وجب وجود المطلوب، وهذا شأننا مع المستشرقين الآن، وهذا التحدي من أبلغ المواقف القرآنية التي يتحدى بها أهل الأرض قديمًا وحديثًا، وكل من ادعى بشرية القرآن فعليه أن يأتي بمثله آية، أو سورة، أو عشر سور، فإن لم يستطع أحد أن يفعل ذلك فعليه أن يؤمن به، ومعلوم لدى أهل العلم بالقرآن وعلومه أن أوجه الإعجاز القرآني من جهة معانيه وإخباره
عن الغيوب الماضي منها والمستقبل أكثر من جهة إعجازه اللفظي، ولكن أردنا بذلك أن نضع بين يدي القاريء نماذج منها على وجه التمثيل فقط وليس على وجه الاستقصاء أو الحصر؛ لأنه من ذا الذي يستطيع حصر أوجه إعجاز القرآن؟! ومن أراد تفصيل القول في ذلك فليراجع كتب علوم القرآن، كالاتقان في علوم القرآن للسيوطي أو دقائق التفسير لابن تيمية خاصة الجزء الأول منه "مقدمة في إعجاز القرآن".
خامسا: ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن الذين تأملوا القرآن بعين الإنصاف من المستشرقين لم يلبثوا أن أعلنوا إسلامهم واعتناقهم للإسلام دينا وللقرآن دستورًا، وأعلنوا ندمهم الشديد على ماضي أيامهم التي قضوها على الكفر والعناد، يقول موريس بوكاي الطبيب الفرنسي الذي أسلم وألف كتابه "القرآن الكريم والتوارة والإنجيل والعلم": لقد أثارت دهشتي هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن والتي كانت مطابقة تمامًا للمعارف العلمية الحديثة، ولقد درست هذه النصوص بروح متحررة تماما من كل حكم سابق وموضوعية تامة، بيد أني لا أنكر تأثير التعاليم التي تلقيتها في شبابي، حيث لم تكن الأغلبية تتحدث عن الإسلام، وإنما عن المحمديين لتأكيد الإشارة إلى أن هذا الدين أسسه رجل، وبالتالي فهو ليس بدين
سماوي فلا قيمة له عند الله، وكان يمكن أن أظل محتفظًا بالكثير من هذه الأفكار الخاطئة عن الإسلام، وهي شديدة الانتشار، ولما تحدثت مع بعض المستنيرين من غير المتخصصين، عرفت أني كنت جاهلا قبل أن تعطي لي صورة صحيحة تختلف عن ذلك التي تلقيتها في الغرب عن الإسلام، وكان هدفي هو قراءة القرآن ودراسة نصه آية آية
…
وانتهيت إلى دقة الإشارات الخاصة بالظواهر الطبيعية ومطابقتها المفاهيم التي نملكها اليوم، والتي لم يكن لمحمد ولا لأي إنسان في عصر محمد أن يكوِّن عنها أدنى فكرة
…
وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية فادحة، فإننا لا نجد في القرآن أي خطأ.. وقد دفعني ذلك إلى أن أتساءل لو كان مؤلف القرآن إنسانا بشرًا فكيف استطاع في القرن السابع المسيحي أن يكتب ما اتضح اليوم أنه يتفق مع العلم الحديث ففي مجال القضايا التي تخضع للملاحظة، مثل تطور الجنين يمكن مقابلة مختلف المراحل الموصوفة في القرآن مع معطيات علم الأجنة "الحديث".
هذه شهادة مستشرق هداه الله للإسلام؛ لأنه بحث عن الإسلام، وفي الإسلام بمنهج علمي متحرر من العصبية، بروح متجردة إلا من البحث عن الحقيقة، وصدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} . [النساء: 82]