المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تبشير أم تنصير: - الاستشراق والتبشير

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌تبشير أم تنصير:

‌سياسة التنصير في العالم الإسلامي:

‌تبشير أم تنصير:

من الأفضل أن نسمي الأشياء بأسمائها الصحيحة، ولذلك فإننا نرى أن استعمال كلمة التنصير هي الأكثر دلالة على المطلوب من كلمة التبشير التي استعملها بعض الكتاب للتعبير بها عن ذلك الجهد الذي يبذله المتخصصون من النصارى في بث تعاليم الإنجيل بين المسلمين وغيرهم بهدف تنصيرهم وتحويلهم من الإسلام إلى النصرانية واتباع تعاليم الإنجيل بدلا من القرآن والولاء للكنيسة بدلا من المسجد.

وقد يكون مفيدًا للدارسين لهذه القضية أن يعلموا أن سياسة التنصير والعمل على بث تعاليم الإنجيل بين المسلمين ليست جديدة، وإنها ليست وليدة هذا العصر، بل هي قديمة قدم الإسلام نفسه، ويمتد تاريخها إلى عصر النبوة ثم عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية، ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

وأقدم وثيقة سجلت لنا تاريخ الحوار المسيحي الإسلامي هو القرآن الكريم وما جاء فيه من آيات سجلت لنا ما كان يدور بين الرسول وأهل الكتاب في المدينة المنورة، وهذا الحوار كان يشتد أحيانا ليأخذ شكل الصراع الذي يذهب إلى مستوى الكيد والتدبير؛ لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يهدأ في بعض الأحيان فيأخذ شكل الحوار العقلاني، ولقد سجلت لنا سورتان كريمتان من سور القرآن الكريم ما كان يجري من حوار بين الرسول وأهل الكتاب وهما:"سوررة آل عمران، وسورة المائدة" والذي يتدبر آيات الحوار

ص: 96

الواردة في هاتين السورتين يقف على حقيقة هذا الصراع، وحقيقة القضايا العقدية التي كانت تمثل موضوع هذا الحوار، وكيف فضح القرآن سرائر النصارى حين بدلوا وحرَّفوا ما أنزل الله على عيسى النبي، وبين أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، واستمرت موضوعات هذه القضية موضوع الحوار الديني خلال عصور الإسلام المتوالية، تصدى لها علماء الإسلام عبر هذه القرون العديدة، فوضع الجاحظ رسالته في الرد على النصارى، وكتب القاضي عبد الجبار كتابه في دلائل النبوة، ونبه كل منهما على أساليب النصارى ومنهجهم في بث الدعاوي الإنجيلية بين المسلمين.

كما تصدى لنفس القضية ابن حزم في كتابه العظيم "الفِصَل" والشهرستاني في كتابه "المِلَل والنِّحَل" وعلي بن ربن الطبري في رسالته "الرد على النصارى"، وابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح"، وابن القيم في كتابه "هداية الحيارى في الرد على النصارى"، وكذلك القرافى في كتابه "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام".. وكثير من الرسائل التي لا تكاد تحصى في هذا الغرض.

وفي العصور المتأخرة كتب رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي كتابه "إظهار الحق" الذي يعتبر من أهم الكتب الحديثة التي عرضت لهذه القضية بأسلوب رصين ومنهج علمي رائع أفاد من كتب السابقين. وأخذت هذه القضية تحتل مكانا بارزا في

ص: 97

اهتمامات المفكرين المعاصرين وفي الأقسام الأكاديمية للفسلفة الإسلامية والعقيدة في الجامعات العربية والإسلامية، ولعلها تمثِّل الآن أهم قضايا الحوار القائم بين المسيحية والإسلام في المؤتمرات المعتمدة التي احتلت بؤرة الصراع القائم بين أهل الديانتين عبر التاريخ، وتحولت لغة الصراع إلى لون جديد من الحوار كمظهر جديد من مظاهر العلاقة بينهما.

وسوف نجعل هذه الدراسة ترتكز في مقدماتها ونتائجها على نصوص المبشرين أو القائمين على سياسة التنصير أنفسهم وكذلك على التوصيات التي يوصون بها في مؤتمراتهم المتعددة ليكون كلامه شاهدا لنا بما نريده من دراسة هذه القضية من حيث الغاية والهدف من جانب وليكون في نفس الوقت ردا علميا على الذين يرددون كلامهم ويتشيعون لمنهجهم تحت ستار المدنية والحضارة وما إلى ذلك من مسمياتهم الكثيرة التي يتسترون خلفها لبثِّ أفكارهم بين المسلمين من جانب آخر.

ولقد نشطت المؤسسات التنصيرية في العالم الإسلامي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين مما لفت أنظار المفكرين المسلمين أن يتنبهوا لخطورة هذه القضية وسوء عاقبتها مما دعا البعض إلى رصد هذه المؤسسات وتتبع تاريخ هذا النشاط التنصيري في القرنين الأخيرين.

وتكاد تتفق معظم المؤلفات الحديثة على أن أول من مارَسَ هذه المهمة في العالم الإسلامي الحديث هو "ريمول لول 1299-1300"

ص: 98

المفكر الأسباني الذي استطاع أن يحصل على إذن الملك يعقوب صاحب أرغونة؛ ليقوم بمهمة التبشير في مساجد برشلونة بين صفوف المسلمين محتميا بالسلطة المسيحية في أسبانيا1. وذلك بعد أن فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أحلام الغرب ودعودة بيت المقدس إلى السلطة المسيحية وانتزاعه من أيدي المسلمين.

وكان قبل ذلك قد تأسس في سوريا وبلاد الشام جماعة "الإخوة الكرملية" أسسها أحد الصليبيين 552هـ سنة 1157م وأطلق عليها اسم جبل الكرمل.

وفي أوائل القرن الثالث عشر تأسست مدرسة الآباء الفرنسيسكان والدومينيكان، وأنشأت كل منهما لنفسها فروعها المختلفة في أنحاء سوريا وبيروت.

وفي أعقاب الحروب الصليبية كتب أسقف "دومينكاني" وهو "وليم الطرابلسي" رسالة بشئون المسلمين يوصى فيها باستخدام المرسلين "يعني المنصرين" بدلا من الجنود؛ لاستعادة البلاد المقدسة2.

ولقد أشار فيليب حتى إلى هذه الوثيقة الخطيرة في كتابه عن تاريخ سوريا وفلسطين، وأوضح القول في العلاقة المتبادلة بين

1 راجع التبشير في منطقة الخليج، ص201/ 203، الحنجي.

2 فيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين 2/ 263، دار الثقافة بيروت، نقلا عن أ. د. عبد العظيم الديب، التعبئة الثقافية، بحث نشر في ندوة الثقافة العربية، جامعة قطر، سنة 1993م.

ص: 99

الاستشراق والتنصير وأن هدف الفريقين واحد، وإن اختلفت الوسائل، فالمبشرون يستفيدون من دراسات المستشرقين لخصائص البلاد وأحوالهم وعاداتها وإمكاناتها للتقرب إلى أهلها بأيسر السبل، والتعاون قائم بين الفريقين لاستقطاب أهل الرأي في المنطقة للسيطرة عليها بكل الوسائل المتاحة.

ولقد ركزت حملات التنصير في العصر الحديث على أطراف العالم الإسلامي والمناطق النائية في شرق وجنوب شرق آسيا، وبصفة خاصة في أندونيسيا ووسط أفريقيا والمناطق الاستوائية، مستعينين في ذلك بالخدمات الاجتماعية التي يقدمونها لأهالي هذه المناطق كالمعونات الاقتصادية والخدمات الطبية ودور الأيتام وكبار السن وتأسيس المدارس بمراحها المختلفة، ومما يلفت النظر حقا أنه رغم كل هذه الجهود المضنية فإن النتائج التي حصلوا عليها كانت مخيبة لآمالهم مما دعاهم إلى معاودة النظر في الأسلوب والوسيلة مرات ومرات، ولعل أبرز ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر كلورادو سنة 1978م هو محاولة خلق البيئة النلائمة للنسلن الذي يراد تنصيره فبدلا من التركيز على تنصير الفرد أخذوا يركزون على تنصير البيئة والجماعة كوحدة متكاملة يراد تنصيرها حتى لا يشعر الفرد بالغربة أو العزلة إذا ترك دينه منفردًا، أما إذا كانت الجماعة كلها محور العمل التنصيري فإن الفرد لا يحس فيها بالغربة أو العزلة، لأنه حينئذ سيكون فردًا في جماعة متكاملة، وهذا ما سعى المنصرون؛ لتحقيقه في كثير من المناطق النائية الآن، ولعل من أبرزها ما يجري في أندونيسيا وأفريقيا.

ص: 100