الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
بين الاستشراق والاستعمار:
يعبر الاستشراق من أهم الوسائل التي مهدت للاستعمار العسكري وغزو الشرق ثقافيا وعسكريا والاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، وعاداتها وتقاليدها، وأفضل الوسائل للسيطرة عليها بأقل يدر ممكن من التكاليف، والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين "وهما أكثر القرون في النشاط الاستعماري" يعلم مدى الصلة القوية بين الاستعمار والاستشراق، ومن هنا فإننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمار مستشرقين عاملين بها، ويقع على عاتق هؤلاء المستشرقين مهمة الاتصال بالعقول المفكرة في البلاد التي يريدون السيطرة عليها ثقافيًّا أو عسكريًّا، وكذلك الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في مجالات الثقافة والإعلام والتعليم العام والجامعي، ولا تنفصهم الوسائل المناسبة في محاولة احتواء هذه
الشخصيات عن طريق الصداقة أو المشاركة في أعمال ثقافية أو تقديم الخبرة لهم، أو
…
أو
…
إلخ، وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ خططهم في غزو البلاد فكريًّا ثم عسكريًّا إذا اقتضى الأمر، وقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية فكريًّا وثقافيًّا عن هذا الطريق، كما استطاع أن ينفذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم؛ ليكونوا هم الأداة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد.
وبلغ الأمر مبلغا خطيرا، حتى إن كثيرا من المشتغلين بالثقافة جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في توزيع أفكارهم والدعوة إلى تبني آرائهم في الفكر الإسلامي وقضاياه، فهذا مندوب عن ماركس والشيوعية، وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيين، وثالثهم مندوب الوجودية والوجوديين، وآخر يدعو إلى القول بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان
…
إلخ، وامتلأت المؤسسات الثقافية في مصر والشام وشمال أفريقيا بوكلاء معتمدين؛ لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بمفاهيمهم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية والنهضوية
…
إلخ.
ولقد عمد هؤلاء إلى إثارة الفتنة حول بعض القضايا الخلافية في الفكر الإسلامي وعملوا على إحياء الخلافات حولها.
فلقد أثاروا فتنة كبيرة حول ما أسموه بقضايا المرأة في الإسلام، مثل قضية الطلاق، وتعدد الزوجات، والعصمة، وتعدد
زوجات الرسول
…
إلخ، ونقلوا إلى العالم الإسلامي مشكلات دخيلة لا وجود لها أصلا في الإسلام وإنما هي موجودة في الغرب بحكم ثقافته وديانته، وشغل المسلمون أنفسهم بهذه المشكلات، وبالبحث عن حلول لها، كان هذا مجالًا واسعًا للفرقة والتعصب والتحزب للرأي ضد الرأي الآخر، وما زال المسلمون يكتبون بنار هذه الفرقة إلى الآن.
وكان من الآثار الخطيرة التي ترتبت على إثارة هذه القضايا أن فريقا كبيرا من المثقفين العرب قد انقادوا وراء هذه الضجة وأخذ البعض يتولى نيابة عن المستشرقين -إثارة هذه الفتن بين صفوف المسلمين، ويتبنى آراءهم ويدعو إلى الأخذ بأفكارهم، وبدلا من أن يكون الخلاف دائرا بين المسلمين كوحدة متماسكة والمستشرقين كجبهة مضادة انتقلت المعركة إلى أرض المسلمين أنفسهم لتفرق صفوفهم وتمزق وحدتهم، فأصبحوا جبهات متعارضة بين مؤيد ومعارض، بين رافض للفكر الاستشراقي وموقفه من الإسلام، ومؤيد ومبر
ر له تحت دعوى التبرير والتقدمية، وهذه الفرقة في الصف الإسلامي هي في حد ذاتها تمثل هدفا وغاية سعى المستعمر لتحقيقها خلال جهود المستشرقين في ذلك، وكان شغل المسلمين بعضهم بعضا حول هذه الخلافات التافهة واستنفاد وقتهم وجهدهم في ذلك وانشغالهم عن قضايا مستقبل أمتهم الذي يعبث غيرهم به؛ كان ذلك كله تحقيقا لأهداف سعى المستشرقون من ورائها إلى السيطرة على عقول نخبة كبيرة من المشتغلين بالثقافة العربية في بلادنا واستطاعوا من خلال
السيطرة على هذه العقول أن ينفثوا سمومهم في حاضر الثقافة العربية بالتشويه أحيانا وبالتشكيك أحيانا أخرى، وسوف أعرض بإيجاز شديد لبعض النماذج الفكرية التي تبنت هذا الفكر الاستشراقي ودعت إليه.
1-
ففي مطلع هذا القرن نادى سلامة موسى بوجوب التخلص من الغيبيات حتى نستطيع أن ننهض كما نهضت أوروبا".. أي النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية التي ليس وراءها غاية تخدم، وأننا نحن البشر يجب شأن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمت بأي صلة إلى الغيبيات، إن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها، وألا نزهد فيها إيثارا عليها للعالم الثاني كما هي النظرة الغيبية.. والنهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى لا تعني شيئا آخر غير ذلك1.
ثم يصرح في موضع آخر بضرورة التخلص من العقائد الدينية والاعتماد كليًّا على العقل: "
…
إذًا ليس في الكون كله ما يُعتمد عليه سوى العقل، وليس للإنسان خلاف هذا العالم عالم آخر يمكنه أن يطمع في تحقيق سعادته فيه.. وأن الانحطاط لم يعنِ في القرون الوسطى، وهو لا يعني الآن في الشرق أو الغرب سوى قصر الذهن البشري على خدمة ما وراء الطبيعة ونشدان السعادة والهناء في غير هذه الأرض"2.
1 سلامة موسى، ما هي النهضة، ص15 بتصرف.
2 نفس المرجع، ص16.
ولا يألو سلامة موسى جهدًا في تكرار القول بوجوب محاكاة الحضارة الأوروبية حتى نحيا حياة كريمة: "إذ لا يمكن لأمة أن تحيا إذا خالفتها.. ولا أستطيع أن أتصور نهضة عصرية لأمة شرقية ما لم تقم على المبادئ الأوروبية للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية الموضوعة للكون"1.
2-
وكتب قاسم أمين قبل ذلك كتابه عن تحرير المرأة أثار فيه مشكلات لا وجود لها إلا في ذهن المستشرقين، ونادى فيه بوجوب أن تحذو المرأة المسلمة حذو المرأة في أوروبا وفرنسا بالذات شبرًا بشبر، وأن ترفع صوتها رافضة قضية تعدد الزوجات، وحقها في الطلاق
…
إلخ.
3-
أما علي عبد الرازق، فألف كتابه عن "الإسلام وأصول الحكم"؛ ليعلن فيه أن الإسلام دين لا دولة. عقيدة لا شريعة، وحْي لا دستور، وليس في الإسلام نظام لسياسة الدولة2، والكتاب من أوله إلى أخره يعرض الآراء التي استقاها المؤلف من كتابات المستشرقين عن الدين دون أن يدركوا الفوارق الأساسية بين مفهوم كلمة الدين المسيحي كما عاشوا في أوروبا والدين الإسلامي كما هو في الكتاب والسنة، وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة بين علماء الأزهر الشريف، حيث قرر الأزهر منع تداول الكتاب وعدم طباعته، وفصل صاحبه من سلك القضاء الذي كان يعمل به.
1 نفس المرجع، ص90.
2 راجع الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، القاهرة سنة 1925م.
4-
كما سار على نفس النهج طه حسين في كتبه عن "الشعر الجاهلي" الذي حاول فيه أن يطبق مقاييس منهج ديكارت في الشك على نصوص القرآن الكريم، وطبقا لهذه المقاييس النقدية فإنه لا يكون هناك شيء مقدس فوق النقد ومن خلال تطبيقه لهذا المنهج النقدي، قال بأن قصة إسماعيل الذبيح الذي ينتمي إليه العرب، قصة خيالية حيث "كانت قريش مستعدة لقبول هذه الأسطورة وأمر هذه القصة واضح قبل الإسلام واستغلها الإسلام؛ لسبب ديني وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي".
كما صرح بما هو أخطر من ذلك حيث يقول: ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، فلو كان كذلك لما فهموه ولما وعوه، ولا آمن بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر".
كما صرح طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" بضرورة محاكاة الغرب فننام كما ينامون
…
ونأكل كما يأكلون، ونتكلم بلغتهم كما يتكلمون. وهذا ما نادى به سلامة موسى وغيره
…
وهذه قضية كبيرة لا تحتاج في مقامنا هذا إلى تفصيل، ولكن أردت من ذكر هذه النماذج أن أضعها أمام القراء حتى لا نخدع أنفسنا بشعارات زائفة تحت شعار التنوير والتقدمية.
وهناك نماذج أخرى كثيرة لم يكن لديها قدر كافٍ من المعرفة الدقيقة بالثقافة الإسلامية وخصائصها؛ لأنه بدأ حياته على موائد
الغرب الثقافية، واكتفى بعضهم بأن يكتب -ساخرا- عن تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الحدود في السارق والزاني وشارب الخمر، ويقول على سبيل السخرية: من الذي يتولى قطع يد السارق الجزار أم رئيس الجمهورية؟ وحاولوا من خلال مراكزهم الاجتماعية في وسائل الإعلام أن يكتبوا المسرحيات والمسلسلات التليفزيونية التي تسخر من رجل الدين ورجال اللغة العربية، وتنال منهم كَرُمُوز للفكر الإسلامي والقائمين على حراسته، وكم من مسرحيات أو مسلسلات كتبها أصحابها لهذا الغرض وكان أثرها في نفسية المجتمع أشد وأعظم من وقع الحسام على الرقاب، وترتب على ذلك أن تغيرت نظرة المجتمع إلى معلِّم الدين ومعلم اللغة العربية وتراجعت مكانة كل منهم عن الصدارة الاجتماعية؛ ليحل محلها الرجل "المودرنيزم" الذي صنعه الاستشراق على عينه، وتعهده وكلاء الاستشراق في بلادنا بالمناصب القيادية المؤثرة في توجيه الرأي العام في المجتمع؛ ليقول الناس: ما أريكم في وسائل إعلامكم إلا ما أرى.
ولقد كان للبلاد الإسلامية نصيب موفور في هذا الشأن، وكانت الوسائل الاستعمارية التي نادى بها الاستشراق في العالم الإسلامي تهدف كلها إلى إضعاف الروح الإسلامية بين الشعوب، وتعمل على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد؛ ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها كما روَّج المستشرقون كذلك لبعض القضايا التي كانت لها أخطر النتائج في ازدياد عوامل الفرقة بين صفوف المسلمين، فمن ذلك مثلا:
1-
العمل على إحلال العاميات محل اللغة الفصحى في مصر
وغيرها بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، وكان أول من نادى بها في مصر المستشرق الألماني "ولهلم سبيتا"، وكان يعمل مديرا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووضع كتابه "قواعد اللغة العامية في مصر" سنة 1880م مَجَّد فيه للغة القبطية في مصر، ودعا العالم العربي إلى الأخذ بالعاميات بدلا من الفصحى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى من الخطر على الإسلام ولغة القرآن.
ثم تابع نفس القضية "اللورد دوفرين" في تقرير وضعه سنة 1882م أعلن أن العامية هي سبيل النهوض والتقدم في مصر، وجاء بعده المستشرق الألماني "كارل فولرس" مدير دار الكتب المصرية بعد "ولهلم"، فوضع كتابه "اللهجة العامية الحديثة" دعا فيه إلى هجر الفصحى وحث العرب على استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، ثم تتبع القضية في مصر سلامة موسى النصراني في مطلع هذا القرن، وما زلنا نسمع صداها إلى الآن ونقرأ ذلك في كتابات بعض المشتغلين بالشئون الثقافية والتربوية.
2-
أما القضية الثانية: تتلخص في تلك المحاولة التي يقوم بها المستشرقون ومن تأثر بهم، حيث يقولون أن سبب تأخر الشرق الإسلامي ماديًّا علميًّا يرجع إلى تمسكهم بالدين الإسلامي وتعاليمه، ولا مناص للشعوب الإسلامية إذا أرادوا أن يتغلبوا
على هذا التخلف الحضاري إلا أن يتخلصوا من تعاليم دينهم أولا، وأن ينحوا الإسلام بعيدا عن شئون حياتهم اليومية؛ ليكون قضية شخصية يمارس الإنسان طقوسه وشعائره إذا أراد ذلك في بيته أو في المسجد وكفى، ويقارن هؤلاء بين تقدم العرب وتأخر الشرق، ويطرحون على الشباب هذه المقارنة الظالمة؛ ليبينوا فيها أن تقدم العرب كان سببه هو التخلص من الدين عمومًا والتمسك بمنطق العلم فقط وليس أمام الشرق إلا أن يسلك مسلك الغرب في ذلك؛ لأنه النموذج الأفضل للتقدم ومواكبة وعلوم العصر، وهذه القضية من أخطر القضايا المطروحة الآن في الساحة الثقافية وهي بؤرة الحوار أو الصراع بين العلمانيين والإسلاميين.
ولقد جند المستشرقون كثيرا من حملة الأقلام وسخَّروهم للترويج لهذه الأكذوبة في البلاد الإسلامية، وأصبح يتولى عبء الدفاع عن هذه القضية -للأسف الشديد- بعض المحترفين للكتابة من المسلمين نيابة عن الاستعمار، فعل ذلك بعض حملة الأقلام في مصر، والشام، والعراق، وتونس، والجزائر، والمغرب، كما شغلت الدعوة لهذه القضية كثيرا من وقت أجهزة الإعلام صحافة وإذاعة وتلفازًا، وعقدت من أجلها الندوات، وأقيمت المؤتمرات والمناظرات، ووصل الأمر بها أن تسلك إلى بعض قاعات الدرس الجامعي تحت ستار التنوير، والمعاصرة، واستغل بعضهم الوضع المتردي للمسلمين؛ ليفهم الشباب أن سبب هزائمهم المتكررة هو التمسك بالإسلام.
وتناسى هؤلاء أن للنصر أسبابه وللنهضة أسبابها، وأن للهزيمة أسبابها، وللتأخر أسبابه كذلك، وأن إقحام الدين في ذلك تضليل وافتراء، ولا يحتاج الأمر في توضيح هذه الأسباب إلى عناء كبير.
لماذا لم يقارنوا بين نظم الحكم في الغرب ونظيرها في الشرق؟!
لماذا لم يقارنوا بين ما يتمتع به الغرب من حرية وديمقراطية، وما هو واقع في الشرق من استبداد في الحكم لا نظير له في أي بلد في العالم؟!
إن أسباب التقدم تكمن في احترام هذه الأسباب وضرورة الأخذ بها واحترام العلماء الذين أفنوا أعمارهم في الكشف عنها والتنبيه إليها، ولقد نبه ابن خلدون إلى ذلك قديما كما نبه إليه المفكرون حديثا، وإن السنن الكونية لا تتخلف آثارها إذا ما وجدت الأسباب سواء تعلق ذلك بالأفراد أم تعلق بالجماعات والأمم، فللنصر أسبابه وللهزائم أسبابها؛ كما أن لقيام الحضارات أسبابها ولانهيار الحضارات أسبابها، وتلك سنن الله في كونه لا فرق فيها بين أمة مسلمة وأخرى كافرة.
والقضية كلها تتمثل عندي في أسئلة محددة:
1-
هل حقيقةً أن أوروبا قد نفضت يدها من قضايا الدين فلم تعبأ به؟
2-
وهل حقيقة أن رفضها للدين كان سببا في تقدمها؟
3-
وهل حقيقة أن سبب تأخر الشرق العربي يرجع إلى تمسكه بالإسلام وأخذه به؟
4-
قبل الإجابة على هذه الأسئلة أجد هناك سؤالا لا بد من طرحه: هل الإسلام يتعارض مع لأخذ بأسباب التقدم العلمي والحضاري؟
وفي رأيي أن وضع القضية كلها في هذا الشكل يكون أكثر تحديدا وموضوعية بدلا من التلاعب بالألفاظ بوضعها في غير موضعها الحقيقي، وبهذا التحديد نستطيع أن نضع النقاط فوق الحروف.
ولعل الإجابة على السؤال الأخير تعطينا المفتاح الحقيقي للإجابة على الأسئلة السابقة؛ فإن الأخذ بالمفاهيم الدينية الصحيحة لا يتعارض مع الأخذ بأسباب التقدم؛ لأن العلاقة بينهما ليست علاقة تضاد أو تناقض حتى نظن أو نتوهم أن التمسك بالدين الصحيح سبب تأخر أهله، وإنما هي علاقة اشتمال وتداخل أو ما يسمى في عرف المَنَاطقة بعلامة العموم والخصوص والمطلق، فكل ما هو دين صحيح لا بد وبالضرورة أن يكون فيه تقدم للبشرية وأمن وأمان، وكلمة "صحيح" هنا مقصودة بذاتها، حتى لا يعد من الدين ما ليس منه وحتى لا يُرتكَب باسم الله ما لا يمت إليه بسبب، كما أن التقدم الذي ينشده الدين لأهله ليس هو تقدم الأشياء في ذاتها فتكون الحضارة الناتجة عن هذا اللون من التقدم حضارة مادية أو هي حضارة شيئية لا تعني بصانع الأشياء قدر عنايتها بالأشياء في ذاتها؛ ذلك أن هذا
اللون من التحضر يوجه كل اهتمامه إلى الوسائل فيجعلها غايات في ذاتها ويهمل الغايات الحقيقية التي يجب أن يتوجه لخدمتها كلها يتبع منها كل ألوان التقدم والتحضر.
والأديان كلها خلاف ذلك تماما، فهي تجعل الإنسان غاية في ذاته لكل تقدم مقصود وما عدا الإنسان في هذا العالم يعتبر وسيلة له، ومن هنا نجد الأديان كلها قد وجهت عنايتها إلى الإنسان أن يهمل الوسائل باعتبارها مرآة وجوده وعنوان تحضره، وهذا هو الفرق الدقيق بين موقف الأديان من معنى التحضر وموقف أولئك الرافضين للدين بدعوى أنه يعوق التقدم، فإن أولئك يهتمون بتقدم الأشياء في ذاتها على حساب التقدم الإنساني؛ فإن تقدم الإنسان في ذاته شيء وتقدم الأشياء المحيطة به شيء آخر، وهم بذلك يهتمون بالوسائل على حساب الغاية، وهذا عكس الموقف الديني الذي يهتم بالغاية في ذاتها ولا يهمل الوسائل.
ولعل بوادر الإفلاس لبعض الحضارات المادية قد بدت واضحة في معظم دول أوروبا، حيث ظهرت حركات التمرد التي تعبر عن روح الشباب الثائر على كل شيء أمامه؛ لأنه لم يجد فيه ما يبعث روح الأمن والأمان اللذين هما غاية الإنسان وأمله في حياته.
وأوروبا لم يتقدم لأنها أهملت الدين أو نفضت يدها منه كما يزعم هؤلاء، بل تقدمت أوروبا؛ لأنها أخذت بأسباب التقدم وملكت ناصيته، كما أن الشرق لم يتخلف بسبب تمسكه بالدين أو أخذه بمفاهيمه، وإنما يرجع تأخر الشرق؛ لأنه أهمل الأخذ بأسباب التقدم ولم يسْعَ إليها، وهذا قانون إلهي عام في جميع الأمم ينطبق على الأمة الإسلامية كما ينطبق على الأمم الكافرة، فمن يأخذ بالأسباب يصل ضرورةً إلى النتائح إذا توافرت العوامل المساعدة، ومن يهمل الأساباب لا يمنى نفسه بالوصول إلى نتائج، فالدين مفترى عليه في هذه المقارنة، وينبغي أن نتلمس أسباب تقدم الغرب وتأخر الشرق بعيدا كل البعد عن هذه الأكذوبة المقصودة