المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد ‌ ‌مدخل … الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد: إن حياة - الاستشراق والتبشير

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ ‌الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد ‌ ‌مدخل … الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد: إن حياة

‌الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد

‌مدخل

الفكر الإسلامي بين الأصالة والتقليد:

إن حياة الأمم وتقدمها رهن بقيمة تراثها وأصالته؛ فإن الأمة التي لا تراث لها لا ماضي لها ولا تاريخ لها تعتز به، والشعوب التي تعيش بلا تاريخ ليست إلا كتلًا بشرية لا قيمة لها في ميزان الأمم، والتاريخ في جوهره ليس إلا تسجيلا أمينا للجهود البشرية المتطورة والمتطلعة نحو الكمال، والأمة العربية أشد الأمم في هذه الآونة من التاريخ احتياجا إلى الدفاع عن تراثها وماضيها؛ ذلك أن الهجمات عليه قوية ومتوالية ومحكمة، ولم نقرأ في تاريخ الإنسانية كلها أن ثقافةً هوجمت بمثل العنف والشراسة اللذين هوجمت بهما الثقافة العربية والإسلامية بصفة خاصة، فمنذ أن فتح الاستعمار أعينه على منطقة الشرق العربي لم تكد تنقطع حملات التشكيك والتشهير بالفكر الإسلامي ورجاله؛ ذلك أن الثقافة العربية بخصائصها وروحها القوية كانت سياجًا قويًّا وحصنًا أمينًا ضد الغزوات الفكرية التي تعرضت لها هذه المنطقة على مر التاريخ، لما حل الاستعمار الحديث بهذه المنطقة مع ما تميز به من أساليب استعمارية امتازت بذكائها ودهائها استطاع أن يدخل على المسلم المعاصر ويلبس عليه الأمور من ناحية التشكيك في أصالة ما لديه من تراث وقيم.

ولقد بدأت هذه الحملات المسعورة على الفكر الإسلامي أبان القرن التاسع عشر حيث أشيع في تحامق وتعصب أن تعاليم الإسلام

ص: 58

تتنافى مع النظر العلمي الحر، وأنها لم تأخذ بين العلم، ولم تنهض بالفلسفة العقلية ولم تنتج الثقافة الإسلامية إلا انحلالا موغلا واستبدادا ليس له نهاية، وكان من أخطر هذه الدعاوى قضية المفاضلة بين الأجناس، ولقد ظهرت هذه القضية في القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الفرنسي رينان في كتابه "تاريخ اللغات السامية" الذي صرح فيه بأن الجنس السامي أقلُّ ذكاء ومرتبة من الجنس الآري، وأخذت هذه المفاضلة عند رينان تضفي على العرب أوصافا لم يقم عليها دليل من بحث أو دراسة.

وكذلك الأمر بالنسبة لديبور؛ فإنه لا يمل من تكرار هذه الدعوى القائلة بأن الفلسلفة الإسلامية ليست إلا صورة مشوهة للفلسفة اليونانية بعد أن امتزجت بآراء الأفلاطونية المدحثة وليس للعرب في ذلك فضل يذكر سوى أن نقلوا علوم اليونان وفلسفتهم إلى العصر الوسيط بأوربا المسيحية.

ونستطيع أن نلخص الدعاوى التي قال بها هذان المستشرقان حول هذه القضية في أمور محددة:

1-

إن العقلية الآرية أفضل من العقلية السامية.

2-

إن العقلية العربية تنزع بطبعها إلى رؤية الأشياء متباعدة؛ فهي تدرك الجزيئات ولا تدرك الأمور الكلية.

3-

إن الفلسفة الإسلامية ليست إلا تكرارًا مشوها لآراء أفلاطون وأرسطو.

ص: 59

4-

إن العقلية العربية عاجزة عن الابتكار وليس لها في عالم الفكر من فضل يستحق أن يذكر.

وقد يكون الأمر سهلا ومقبولا لو أن هذه الاتهامات كانت قاصرة على المستشرقين وحدهم، إلا أن بعض الدارسين قد أخذ هذه الدعاوى وآمن بها واعتبرها غير قابلة للنقاش أو الرفض.

ولقد تردد صدى هذه الدعاوى في كثير من المؤلفات الحديثة وعلى صفحات الصحف اليومية والأسبوعية، وهذا في حد ذاته يعتبر هدفًا مقصودًا لحملات التشكيك الموجهة ضد الثقافة الإسلامية وتراثها، ونودُّ أن ننبِّهَ هنا إلى حقيقة مهمة جدًّا:

إننا لو فتشنا نحن في الثقافة الغربية وتاريخها وحاولنا أن ننقدها بنفس المقاييس التي تناول بها المستشرقون علماءنا وأسلافنا لما نجا منهم واحد، وهذا أرسطو أعظم فلاسفة اليونان والغرب وقع في كثير من الأخطاء التي كانت أوربا تدين بها على أنها مسلَّمات بديهية حتى اكتشف خطأه في القرن الخامس عشر، فلقد رفض أرسطو المذهب القائل بأن أصل الوجود هو الذرة، وأخذ بنظرية العناصر الأربعة القائلة بأن أصل الأشياء هو الماء والهواء والنار والتراب، وهذه النظرية قد رفضها مفكرو اليونان قبل أرسطو؛ لظهور فسادها، وقال أرسطو بأن الجسمين المختلفي الثقل إذا سقطا من شاهق؛ فإن سرعتهما في السقوط تتناسب مع ثقلها تناسبًا رأسيًّا، ومعنى ذلك أننا إذا ألقينا من شاهق حجرين وزن أحدهما كيلو جرام ووزن الأخر

ص: 60

نصف الكيلو، فإن الحجر الأول يصل إلى الأرض في نصف المدة التي يستغرقها الحجر الثاني، وهذا قد ثبت بطلانه كما هو معروف في علوم الطبيعة والرياضيات من قانون الثقل النوعي ومقاومة الماء والهواء للأجسام.

وهذا لا يعيب أرسطو، كما لا يعيب بعض مفكري الإسلام إذا وقعوا في أخطاء، فإذا أخذ المستشرقون على العرب أخطاء ومآخذ، فهذا شيء لم تخل منه أمة من الأمم حتى تخلو منه الأمة العربية، وأما إذا كانت مآخذ المستشرقين على الثقافة العربية بهدف إنكار أصالتها وسلب فضلها على مسار الحضارة الإنسانية، فمن واجبنا أن نكشف النقاب عن جهود علمائنا وعن فضل الثقافة العربية على النهضة الحديثة، وسوف تكون هذه الدعاوى التي وجهها المستشرقون إلى الثقافة العربية هي مدخلنا إلى توضيح ما للفكر الإسلامي من أصالة وما له من دور هام في حمل لواء الحضارة الإنساية في وقت كانت أوروبا منغمسة في جهالة القرون الوسطى مكبلة بقيود التقليد الأعمى للحضارات السابقة.

ص: 61