المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أوروبا والمسيحية: وإذا ألقينا نظرة سريعة على حقيقة موقف أوروربا من - الاستشراق والتبشير

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ ‌أوروبا والمسيحية: وإذا ألقينا نظرة سريعة على حقيقة موقف أوروربا من

‌أوروبا والمسيحية:

وإذا ألقينا نظرة سريعة على حقيقة موقف أوروربا من الدين، فإننا نجد ما يدعو إلى الدهشة والعجب؛ لأن موقف حكومات أوروبا يختلف تماما عما يشاع عنها في منطقة الشرق والعالم الإسلامي بصفة خاصة، ولم نجد في العالم الإسلامي كله -وهو الهدف المقصود من هذه الحملة- حكومة تخطط وتعد البرامج؛ لتنفيذ خططها؛ لنشر دينها وحمايته مثلما عملت حكومات أخرى في أوروبا.

وسوف أضع أمام القارئ بعض المواقف لبعض دول أوروبا من هذه القضية؛ ليعرف مدى ما وصل إليه دعاة هذه الأكذوبة من تضليل وتزييف في دعواهم أن أوروبا نفضت يدها من الأديان عموما.

أولا: لا يشك معاصر في تقدم الشعب الإنجليزي ولا في تحضره، ورغم ذلك فإنه على المستوى الحكومي من أكثر الشعوب

ص: 88

الأوربية حفاظا على دينه ومعتقداته، ولقد أثير في الثلاثينات من هذا القرن خلاف كبير حول قضية استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح وروحه، وهذه المسألة معروفة في الدين المسيحي، فاليمينيون يرون أنه بمجرد تقديس الكاهن على المذبح ينقلب الخبز إلى جسد المسيح وينقلب الخمر إلى دمه بناء على أن المسيح قد قال في العشاء الأخير لحوارييه: إن هذا الخبز جسدي وإن هذه الخمر دمي، وقدم لهم الخبز والخمر معا. فالكاثوليك والمحافظون يقولون أنه كلما قدس الكاهن على الخبز والخمر ودعا بالدعاء الذي قاله المسيح ينقلب الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه، وأما الوسط واليساريون فيرون أن هذه الاستحالة غير معقولة؛ لأنها مخالفة للعلم، والخبز لا يكون جسدًا للمسيح ولا الخمر دمًا له بالمعنى الحقيقي، وأنه يقدس كل يوم ألوف الكهنة، ولا نرى هذا التحول حقيقة، ولا يكون كلام المسيح في ذلك إلا رمزا بحيث إذا قدس الكاهن يتذكر الناس جسد المسيح ودمه، واحتدم الخلاف بين اليسار واليمين حول هذه المشكلة في انجلترا واستدل اليسار بما في كتاب الصلاة الذي يمثل عقيدة الكنيسة الإثكليكانية، وفي هذا الكتاب ما يدل على أن كلام المسيح ليس إلا رمزا فقط وليس حقيقة، واعترض اليمين على النص المقدس وطلبوا تعديله أو حذفه من كتاب الصلاة، ولا يجوز تعديل أو حذف أي نص من كتاب الصلاة إلا بعد الرجوع إلى مجلس العموم البريطاني ومن هنا دخلت هذه المشكلة إلى مجلس العموم ومجلس

ص: 89

اللوردات، وشكلت الحكومة البريطانية لذلك مجلسا مؤلفا من كبار المطارنة؛ لحسم هذه المشكلة، ولكن هذا المجلس المؤلف قد انقسم على نفسه، ولم يتفق على رأي موحد إلا بعد نقاش طويل حيث استقر رأيهم أخيرا على أن هذه الاستحالة حقيقية، وطلب المجلس تعديل كتاب الصلاة فيما يتعلق بهذه النقطة، وعند ذلك عرضت الحكومة هذه القضية على مجلس اللوردات وبعد مناقشات عنيفة قرر المجلس تنفيذ قرار الأباطرة الذي كان يرأسه رئيس أساقفة كنتربري أكبر أساقفة انجلترا، ولما كان لا بد لتعديل كتاب الصلاة من مواقفة مجلس العموم دخلت إليه القضية مرة أخرى، ووقف وزير الداخلية البريطاني، معترضا على قرار التعديل في الكتاب المقدس، فكتاب الصلاة هو دستور كنيسة انجلترا ولا يمكن تعديل شيء منه إلا بعد رأي الأمة بأسرها، وعند التصويت على هذه القضية كانت الأكثرية رافضة لقرار التعديل في كتاب الصلاة.

فهذه مسألة دينية صرفة كانت محور هذه المناقشات الطويلة في مجلس الشيوخ والنواب في أعظم دول وأعلاها كعبة في المدنية والتحضر، فهل كانت انجلترا رافضة للدين حين شغلت نفسها بهذه المشكلة؟

ثانيا: لقد وضعت بلجيكا في برنامج حكومتها الرسمي العمل على تنصير زنوج مستعمراتها في الكونغو، وتم لها ما أرادت فأصبح أكثر من نصف سكان الكونغو يدينون بالمسيحية بعد

ص: 90

أن كانوا يعيشون حياة البداوة، وذلك يجهد المبشرين بالمسيحية الذين أوفدتهم بلجيكا لتنفيذ برنامجها هناك.

ثالثًا: نجد إيطاليا بعد أن غلب عليها حكم الفاشية أعادت إلى المدارس الحكومية التعليم الديني الخاص الكاثوليكي وأقامت الصلبان في المدارس، وعدلت قوانين البلاد تعديلا موافقا لمبادئ الكنيسة، وأعلنت أنها دولة مسيحية كاثوليكية وأرسلت القساوسة والمبشرين إلى مستعمراتها، وزادت على غيرها من حجور أمهاتهم في ليبيا؛ لكي تنصرهم على الكاثوليكية في إيطاليا نفسها، ولم تعبأ بما في ذلك من الاعتداء على أقدس حرية بشرية وهي حرية العقيدة وهذا شيء قد سجله التاريخ، وهو خير شاهد على ذلك.

وجميع الدول البروتستانية في أوروبا تعلن كلها أنها دول مسيحية، وأن ثقافتها إنجيلية، وكثيرا ما أعلنت هذه الدول في برامج حكوماتها أمام المجالس النيابية أنها ملتزمة بالثقافة الإنجيلية وتعاليمها، ولا يخفى على من يقرأ تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب أن وزير معارف هولندا افتتح مؤتمر المستشرقين في ليدن سنة 1931 بخطاب صرح فيه بأن هولندا لم تذهب إلى الشرق لأجل التجارة؛ وإنما لنشر الدين المسيحي "كما صرح "شترزمان" وزير خارجية ألمانيا في كثير من خطبه أمام "الريخستاج" أن ثقافة ألمانيا

ص: 91

قائمة على الدين المسيحي، وفي فبراير سنة 1933 قدر هتلر رئيس الحزب القومي الاشتراكي الألماني -عندما تولى رئاسة الوزارة- برنامجا لوزارته صدق عليه جميع وزراء ألمانيا المشتركين في الوزارة، وبدأه هتلر بقوله:"أن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو العمل لأجل الوحدة الروحية وإحياء العقيدة النصرانية في الأمة والتقاليد الجيدة الماضية"، وهناك كتاب يسمى "الأديان في ألمانيا" ينبغي أن يقرأه أؤلئك الذين يتزعمون عن جهل -دعوى فصل الدين عن الدولة؛ ليعلموا ما للدين من قوة في ألمانيا وكيف يقترن التعليم الديني بالتعليم المدني في مدارسها.

والمصلح المسيحي "كلفين" كان أساس برنامجه الاصلاحي هو "أن الدولة المسيحية رأسها هو الله"، ولأجل أن يكون الإنسان تابعا لهذه الدولة ينبغي له عدم الحيدة عن خطة الإنجيل، والمواطنة على إقامة الشعائر المسيحية، ويتناول القربان أربع مرات في العام؛ ذلك أن الاشتراك في المائدة الإلهية هو عبادة الله رأس الدولة المسيحية واليسوع المسيح رأس الكنيسة، فهاتان السلطتان الدنيوية والروحية باتحادهما معا من شأنهما تنفيذ إرادة الباري رأس الدولة، فالسلطة السياسية بيدها السيف ولها حق القصاص إن لزم، كما أن السلطة الروحية لها حق الوعظ والتحليل والتحريم، وكلا نوعي الأحكام الزمنية والروحية يجب أن يبنى على الكتاب المقدس، والملك الذي لا ينشر مجد الله فليس بالذي يقيم مملكة وإنما يقيم لصوصية، وعلى

ص: 92

الحاكم أن يقبل مراقبة رجال الدين ويوطد التعاون معهم نظام دولته لا النظام المدني فقط، بل الديني أيضا".

وفرنسا قد اتفقت مع الفاتيكان على تحديد نوع العلاقة بين الدولة والكنيسة، وبمقتضى هذه العلاقة أعلنت فرنسا أنها حامية المسيحية في الشرق ولا سيما المذهب الكاثوليكي، ومن يقرأ تاريخ الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا يعلم حقيقة موقف فرنسا من الدين المسيحي وجهودها الدائبة لنشره، ولا يخفى على أحد أيضا ما فعله الكردينال "لا فيجري" والآباء اليسوعيون في الجزائر وتونس والمغرب وبلاد النيجر، فلقد تحولت مساجد كثيرة إلى كنائس علقت فيها الصلبان، وتحول الكثير من البربر إلى كاثوليك بفعل الآباء، وتعمدت فرنسا إلغاء الشريعة الإسلامية في الجزائر على يد المسيو "لوسيان سان" الذي دعا إلى عقد مؤتمر ديني كبير للكاثوليك نتج عنه حظر التجول للفقهاء المسلمين في البلاد، ومنع حفظة القرآن الكريم ومشايخ الطرق الصوفية، كما منع زعماء البربر من إرسال أبنائهم إلى العواصم لحفظ القرآن أو تعلم العقيدة الإسلامية وذاكرة التاريخ لا تنسى شيئًا من ذلك، ولا أريد أن استطرد في ذكر العديد من النماذج الأوروبية التي يحلو للبعض أن يقارن الشرق بها، ولكن أصبح من المؤكد الآن أن الذي دعت إليه فرنسا في الجزائر والمغرب هو بعينه ما يدعو إليه هؤلاء العلمانيون من إبطال العمل بالقانون الإسلامي، وفصل أمور السياسة عن أمور الدين. وما أردت بذكر هذه الأمثلة أن أضع أمام حكومات العالم الإسلامي وأمام القارئ حقيقة الموقف

ص: 93

ليعلم الكل كم يخدعه هؤلاء المضللون في زعمهم بأن أوروبا قد نفضت يدها من قضايا الدين وأنها لا تعنى بالمسيحية في شيء وأن النشاط الديني لا يبارح الكنيسة.

وأول من نادى بهذه الضلالة وروَّج لها في الشرق هو مصطفى كمال أتاتورك رئيس تركيا، وكان وراء ذلك جهد كبير وجهاد مستمر من الاستعمار الذي غذى هذه الأكذوبة وعمل على شيوعها في هذه المنطقة؛ لكي يمكن لنفسه من خيراتها، وكانت الخلافة وذلك لا يمكن إلا بالتخلص من العقيدة الإسلامية باقتلاعها من نفوس أصحابها بوسيلة أو بأخرى وفي سبيل ذلك أشاعوا كذبا وبهتانا أن الدين ضد المدنية والتحضر، وأن تأخر الشرق يرجع إلى تمسكه بالدين و

و

هذه الأكاذيب والأضاليل التي استأجروا للترويج لها أقلاما ورجالا ما زلنا نسمع صوتهم إلى اليوم، وإذا كان أتاتورك قد سلخ تركيا عن العقيدة الإسلامية بقانون وبرنامج وُضِعت خطواته في أندية أوروبا، فإن الشعب التركي لم لبث أن عاد وسريعا إلى العمل على بناء ما تهدم وتعمير ما خرب، وأصبح يجتذب إليه أنظار العالم الإسلامي كله فيعقد المؤتمرات الدولية باسم الإسلام ويكوِّن الأحزاب الإسلامية التي وجدت لها مكانا في السلطة السياسية، وأصبح ما فعله أتاتورك بتركيا عملا سجله التاريخ في كتبه ولم يؤثر في عقيدة المسلم التركي في واقع الأمر، والقضية كلها أصبحت قضية تاريخية ولا واقع لها.

ص: 94