الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
في مناهج العلوم:
لعل من أحدث الدراسات التي يعنى بها الآن دراسة المناهج للعلوم المختلفة وتطبيقاتها، وإذا كان المختصون بدارسة مناهج البحث في العلوم يولون أهمية كبرى لما يجدونه من تحديد دقيق لهذه المناهج لدى مفكري أوروبا المحدثين، فمن الأجدر بهم أن يبحثوا عن أصول لهذه المناهج في تاريخ الفكر الإسلامي حتى ينسبوا الفضل إلى أهله، ولقد قام المرحوم الدكتور محمود قاسم بإلقاء بحث عن دور العرب في تحديد مناهج العلوم الإنسانية، كشف فيه زيف ما يدعيه المستشرقون من أن العرب ليس لهم فضل يُذكَر في هذا المجال.
ولا يتسع المجال هنا لعرض تفاصيل ما قام به العرب من دور هام في تحديد مناهج العلوم؛ لأن هذه المناهج كانت مطبقة فعلا في العلوم العربية والإسلامية فالإمام الشافعي قد عرف القياس والاستقراء وطبقهما في مذهبه الفقهي، وكذا علماء الفقه والأصول واللغة فضلا عما قام به علماء الحديث في هذا المجال، ويكفي أن نشير هنا إلى نموذجين مختلفين من مفكري الإسلام كابن تيمية وابن خلدون لنرى أن عناصر المنهج العلمي الحديث كانت واضحة لديهما تمام الوضوح.
أولا: أما ابن تيمية فإنه يعكس في تراثه كله العقلية المنهجية بوضوح كامل رغم تشدده مع خصومه من الفلاسفة وعلماء الكلام والصوفية، ولقد هاجم هذا المفكر الفلسفة الأرسطية المتمثلة في تراث الفارابي وابن سينا كما هاجم الغزالي والرازي في كثير من كتبه، لكنه كان يعتمد في موقفه من هؤلاء وأولئك على الاستقراء الكامل لرأي مخالفيه في المشاكل الفلسفية المتعددة فيجمع العناصر الفرعية لآرائهم كل على حدة، ثم يربط بينها ويستنتج منها الحلول والأحكام التي يصدرها على هؤلاء، وهذا المنهج الذي طبقه ابن تيمية قد هداه إلى اكتشاف أوجه النقص في المنهج اليوناني في منطق أرسطو بالذات، ووضع لكشف أخطاء المنطق الأرسطي كتابين هما "نقض المنطق، والرد على المنطقيين"، وكشف ابن تيمية في هذين الكتابين عن قواعد منهجية كبرى وجدناها مطبقة لدى مفكري أوروبا في القرن السابع عشر، فمثلا نقض ابن تيمية الفكرة التي سادت في أوربا عصورا طويلة وهي القائلة بأن منطق أرسطو هو الأداة أو المنهج العلمي الذي يجب تحصيله كشرط ضروري لكسب المعرفة في مختلف فروع الدراسة، ويقول ابن تيمية:"إن الحاذقين في العلوم الطبيعية والطبية لم يستعينوا بالمنطق وأبو الطب أبقراط له كلام مقبول من جميع الأطباء، وقد وجدنا مصدق قوله بالتجارب، ومع ذلك لم يستعن بشيء من هذه الصناعة "المنطق".
كذلك فطن ابن تيمية إلى أن منطق أرسطو ليس في الحقيقة إلا تحصيل حاصل بمعنى أنه لا يضيف جديدًا من المعارف إلى من يأخذ به، وأحسن ما يقدمه المنطق أنه يستخدم في عرض المعلومات التي تكون قد اكتسبت بخبراتنا السابقة.
ويقرر ابن تيمية أن علماء الطب والحساب والنحو وأهل العلوم المختلفة لا يستعينون في مؤلفاتهم بالحدود المنطقية، وأن القياس المنطقي الذي وضعوه وحددوه لا يُعلم بمجرده شيء من العلوم الكلية الثابتة في الخارج، وينتهي ابن تيمية إلى تقرير حقيقة منطق أرسطو حين يقول:"أما بعد؛ فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به الغبي، ولكني كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيته من صدق الكثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه".
وإذا تركنا موقف ابن تيمية من منطق أرسطو لنرى ما يقول ديكارت في القرن السابع عشر عن هذا المنطق لم تجد لديه أكثر مما قال ابن تيمية قبل ذلك بثلاثة قرون، لقد قال ديكارت إن القياس يستخدم بالأحرى؛ لكي يفسر المرء للآخرين الأشياء التي يعلمونها بدلا من أن يكشف لهم عن تلك التي يجهلونها، ولذلك فمن واجب المفكرين أن يقلعوا عن استخدام القياس على النحو الذي كان يفعله أتباع أرسطو حتى القرن السابع عشر، وأوجست كونت كان يرد في القرن الماضي ما قاله ابن تيمية عن منطق أرسطو، أما في القرن الثالث عشر الذي كانت علوم العرب تغزو فيه أوروبا فإننا نجد
روجر بيكون يدعو معاصريه ألا يصبوا لعناتهم على الرياضة والملاحظة والتجارب بدعوى أنها علوم عربية وإسلامية، بل عليهم أن يفسحوا المجال لها إيمانا منه بأن ذلك هو الطريق إلى منهج جديد وروجر بيكون هذا هو الذي لقبه رينان بأنه الأمير الحقيقي للفكر الأوروبي في القرن الثالث عشر1.
ثانيا: أما ابن خلدون فبالإضافة إلى أنه أول من أسس علم الاجتماع على منهج علمي سليم قائم على استقراء أحوال البلاد وظروفها الطبيعية فإنه قد اهتدى إلى أن هناك نوعين من الاستقراء أحدهما فطري والآخر علمي، وهذه الفكرة وجدناها عند كلود بارنارد في القرن التاسع عشر وشرح كل من هذين المفكرين لهذين النوعين من الاستقراء يكاد يكون واحدًا، فرغم اختلاف الاستقراء الفطري عن الاستقراء العلمي في الدرجة إلا أن كلا منهما طريق صحيح لكسب المعلومات الجديد التي لا يمكن الوصول إليهما عن طريق القياس اليوناني، وابن خلدون يشرح الاستقراء الفطري بأنه عبارة عن المعاني التي يستخدمها المرء في التطبيق العلمي دون أن يشعر بها؛ لأنها من المعاني التي اكتسبها عن طريق الخبرة الزمنية، وهذه المعاني لا تبعد عن الشعور ولا يلتفت إليها المرء؛ ليتعمق فيها، يقول ابن خلدون: "
…
بل كلها تدرك بالتجربة وبها تستفيد؛ لأنها
1 عبقرية العرب: عمر فرج، ص64.
معانٍ جزئية تتعلق بالمحسوسات وصدقها وكذبها يظهر قريبًا من الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها.
وفي هذا النص نجد أن خطوات المنهج الاستقرائي الفطري محددة وواضحة حيث يجمع المرء الوقائع الجزئية عن طريق التجارب اليومية، ثم يضع فروضًا تكاد تكون غير شعورية ثم يتحقق من صدقها أو كذبها بالواقع.
وما سماه ابن خلدون بالاستقراء الفطري هو ما أطلق عليه كلود بارنارد بالخبرة العلمية غير الشعورية التي يكتسبها المرء بمباشرة الأشياء، ومع ذلك فمن الضروري أن تكون هذه المعرفة المكتسبة بهذا الطريق مصحوبة بتفكير تجريبي غامض يتم بطريقة غير شعورية يقوم بها الإنسان دون أن يدري، وفرَّق ابن خلدون بين الاستقراء الفطري والعلمي، فإن الاستقراء العلمي يتم بطريقة شعورية للوصول إلى غاية محددة، وذلك بأن ينتقل الباحث بطريقة مقصودة من دراسة الأمثلة الجزئية حتى يصل إلى القاعدة العامة.
هذه بعض النماذج التي ذخر الفكر العربي بالكثير منها في وقت كانت أوروبا تقف فيه من هذا التراث موقف التلميذ المتلقي، ولا أدلّ على ذلك مما كتب في دائرة المعارف البريطانية1.
لا يستطيع أحد أن ينكر ما اتصف به التفكير الغربي في العصور الوسط من البعد التام عن العلوم وعن النقد. إن وجود شخص واحد مثل روجر بيكون في عصر ما لا يبرئ ذلك العصر من تهمة الجهل: "ولقد أبدى بيكون إعجابه في أكثر من موقف من الرجل الذي يريد أن يبحث في الفلسفة دون أن يعرف اللغة العربية2، وهذا يعتبر اعترافا صريحا من روجر بيكون بقيمة الزاد الحضاري الذي أمكن أن تقدمه هذه اللغة في تراثها، ولا يخفى أن هذا المفكر نفسه قد أفاد من هذه اللغة وتراثها بحيث اعتبره الأوروبيون أبا للفكر الحديث.
1 ج17/ 410 ط11.
2 انظر فروخ 115 "46 ADDISON".