الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومحاولة تحقيق هذا الغرض هو ما يطلق عليه لفظ التبشير، الذي يعني عند النصارى "العيش والعمل والحديث من أجل المسيح".
ومهمة التنصير بين المسيحيين ضرورية، ولا بد أن يتعاون للنهوض بها الأفراد والمؤسسات، وبلغ اهتمامهم بها حدا كبيرا جعل بعضهم يعلن صراحة عن طبيعة المبشرين بقوله:"لقد أرسلناه لا للوعظ الاجتماعي؛ ولكن للخلاص، ولا للحديث عن الاقتصاد؛ بل للتبشير، ولا للتقدم؛ بل للنصح، لا للنظام الاجتماعي الجديد؛ بل للمولد الجديد، لا للثورة؛ بل للانبعاث الروحي.. لا للتغني بالديمقراطية؛ بل للإنجيل، لا للحضارة؛ بل للمسيح؛ إننا سفراء ولسنا سياسيين".
ويتفق المسيحيون على أن التبشير ركن أساسي من أركان الكنيسة الحديثة، وله النصيب الأكبر من الميزانية السنوية في أموال الكنيسة.
أهداف التبشير ومناهج المبشرين:
من الممكن أن تترك هذه النقطة دون إشارة إليها لولا أن بعض المشتغلين بالكتابة يحاول أن يحمل أعمال المبشرين في العالم العربي على أنها أمور اجتماعية، الغرض منها المساعدة المالية والاجتماعية للفقراء والمرضى واليتامى، ويدَّعى أن هذه أعمال إنسانية ولا ينبغي التشهير بها أو حملها على غير مراد أصحابها، وهذا ما دعاني إلى التعرض لهذه النقطة لِنُبَيِّن أغراض المبشرين من كتاباتهم هم ومن على ألسنتهم دون تدخل منها للتفسير أو التأويل.
يقول الدكتور "إرهاس" طبيب الإرسالية التبشيرية في طرابلس: فإنه يجب على طبيب الإرسالية التبشيرية ألا ينسى أبدا لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك.
ولقد خطب القسيس "هاريك" في جموع المبشرين مبيِّنًا لهم كيفية التعامل مع المسلمين قائلا: إن ترجمة الإنجيل وكتب التبشير إلى اللغات الإسلامية أكثر فائدة وأتمّ نفعا؛ لأنه بمجرد شراء المسلمين لكتب المبشرين ومطالعتهم لها تتبدد أوهامهم القديمة عن المسيحية، وأما الجدل والمناظرة فيبعدان المحبة التي لها وقع كبير على قلوب الغير وتأثير مضاد على نشر النصرانية، فالمحبة والمجاملة هما آلة المبشر؛ إن طريق الاعتقاد غايته دائما القلب، ويجب على المبشر أن يتحلى دائما بمبدأ المسيحية قبل أن يتغنى بالأمور النظرية، كما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست عقيدة دينية ولا دستورًا سياسيًّا بل هي الحياة كلها.. إنها تحب العدل والطهر، وتمقت الظلم والباطل، ونفتح للمسلم مدراسنا ونتلقاه في مستشفياتنا، ونفرض عليه محاسن لغتنا، ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر ونتعلق بأهداب الأمل؛ إذ المسلم هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجهل، وبهذه الطريقة فقط يمكن للمبشر أن يدخل إلى قلوب المسلمين1.
وسبق أن قلنا إن أهداف الاستشراق قد تلتقي مع أهداف التبشير في كثير منها لكن ذلك لا يعفينا من التنبيه إلى أهم أهداف التبشير في العالم الإسلامي عموما وفي منطقة الخليج بصفة خاصة.
1 الخالدي: ص104-106.
1-
تحويل أهل الجزيرة العربية عن الإسلام إلى المسيحية، ويتضح هذا الهدف من برنامج عمل الإرسالية الأمريكية التي تأسست سنة 1889م فقد جاء فيه ما يلي: "نحن الموقعين أدناه قد عزمنا على القيام بنشاط تبشيري رائد في البلاد الناطقة باللغة العربية وبخاصة من أجل المسلمين والعبيد مقرين بالحقائق التالية: إن الحاجة بالغة لهذا العمل التبشيري وضرورة تشجيعه في العصر الحالي.. ولذلك فقد اقترحَت اللجنة المؤسسة لها ضرورة البدء السريع في هذا العمل، وأن يكون ميدانها الجزيرة العربية وأعالي النيل.
2-
ومما يقوِّي الهدف السابق ما يدعيه "زويمر" أحد مؤسسي الإرسالية السابقة من وجود حق تاريخي للنصرانية في الجزيرة العربية، وأن إعادتها إلى النصرانية كسابق عهدها أمر غير مستحيل، وقد أكد ذلك "زويمر" في قوله:"إن للمسيح حقًّا في استرجاع الجزيرة العربية، وقد أكدت الدلائل التي جمعت لدينا في الخمسين سنة الأخيرة، على أن المسيحية كانت منتشرة في البلاد في سابق عهدها، وهناك دلائل أثرية واضحة على وجود الكنيسة المسيحية هنا، ولهذا فإن واجبنا أن نعيد هذه المنطقة إلى أحضان المسيحية7. وكان لسقوط الأندلس في أيدي الصليبيين وانتهاء عهد المسلمين بها أثر في تفكير "زويمر" في الدعوة إلى استرجاع هذه المنطقة إلى أحضان المسيحية.
1 التبشير في منطقة الخليج، عبد الملك التميمي، ص246.
3-
الالتفاف حول المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، وهذا الهدف قد أعلنه كثير من المبشرين في مؤلفاتهم، فلقد أعلن "هانوتو" أن هذه الرموز المقدسة هي رموز وحدة المسلمين وسر قوتهم، وأن المسلمين حين يلتقون حولها في الكعبة أو في المدينة يجددون نشاطهم ويستعيدون قوتهم الروحية التي يستمدون منها معنى التحدي على مواجهة المشكلات.
ولم ينسَ رؤساء المؤسسات التبشيرية أن يعلنوا صراحة أهدافهم التبشيرية على مسامع الأفراد المسلمين الذين يتعاملون معهم في المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات التي أنشأوها في البلاد الإسلامية لهذا الغرض، تحت ستار نشر التعليم الحديث بين أبناء الشرق، فلقد أقيمت الجامعة الأمريكية في بيروت 1865م؛ ليكون مديرها مبشرًا وجميع المدرسين بها من المبشرين كذلك، وكان من مبادئ تولى التدريس بالجامعة أن يقسم المدرسون بها على أن يوجهوا جميع أعمالهم نحو هدف واحد هو التبشير، ولم يقبل منهم أن يكونوا نصارى فقط، بل يجب عليهم أن يقوموا بمهمة التبشير أيضا، وكانت تحرص الجامعة أن تظهر أساتذتها بمظهر المبشرين وكانت تجبرهم الجامعة أن يحضروا مؤتمرات المبشرين، ولما أحست الجامعة بنوع من الحرج في مواجهة الدولة العثمانية في أوائل هذا القرن ألغت مبدأ القسم المطلوب من الأساتذة.
ولقد قرر مؤتمر القدس المنعقد 1935، أن يستغل كل درس علمي في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم، كالتاريخ وعلم
النبات1، وكان دخول الكنيسة عملا إجباريا على كل تلميذ بالجامعة، ولما احتج أولياء أمور الطلاب على ذلك اجتمع مجلس الجامعة وأصدر منشورا بهذا الخصوص جاء في مادته الرابعة ما يلي:
إن هذه كلية مسيحية، أسست بأموال شعب مسيحي، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وأنشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يساندها هؤلاء وكل هذا قد فعلوه؛ ليوجدوا تعليما يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ، وهكذا نجد أنفسنا ملزمين أن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ.. وأن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقا ماذا يُطلب منه، ثم أعلن مجلس الأمناء للكلية: أنها لم تؤسس للتعليم العلماني.. ولكن من أول غاياتها أن تعلن الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزا للنور المسيحي، وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على الناس وأن توصيهم به.
وهذه المؤسسة التعليمية ببيروت قد تأسس لها نظائر في سائر البلاد الإسلامية والعربية على وجه الخصوص، فهناك الجامعة الأمريكية بمصر، وجامعة غوردون بالخرطوم، وكذلك في إستامبول بتركيا، بالإضافة إلى المدارس اليسوعية التي لا حصر لها في البلاد العربية وقراها، ولا يخفى على من يراجع المناهج التعليمية في هذه المؤسسات أن التبشير هو مركز الدائرة في كل أنشطة هذه المؤسسات.
1 الخالدي، ص104-16.
والدور التبشيري الذي قامت به الجامعة الأمريكية في بيروت التي أسست سنة 1865 قامت به جميع الكليات التبشيرية الأخرى التي أسست لنفس الغرض وفي شتى بقاع العالم الإسلامي، ويستوي في ذلك الجامعة الأمريكية في وسط القاهرة، والجامعة الأمريكية في إستامبول، والكلية الفرنسية في لاهور، والجامعة الأخيرة قامت بدور خطير جدًّا في جنوب شرق آسيا.
وتحت ستار نشر التعليم والثقافة في بلدان العالم الثالث حول المبشرون دور التعليم بمراحله المختلفة وكذلك المؤسسات الثقافيية المختلفة إلى حقول خصبة لزرع تعاليم الإنجيل ونشر تعاليم المسيحية بين أبناء المسلمين من سن الطفولة في دور الحضانة، وانتهاء بالتعليم الجامعي حيث أسسوا مدارس ومعاهد تعليمية لكل هذه المستويات وزرعوها زرعا في معظم البلاد الإسلامية.
وكذلك المؤسسات الثقافية والإعلامية كانت بمثابة منابر يعملون من خلالها على نشر تعاليمهم، ولم يجدوا غضاضة في الإفصاح عن ذلك صراحة حتى إن واحدا منهم يعلن صراحة "أن المبشرين استغلوا الصحافة المصرية بصفة خاصة للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر منها في أي بلد آخر، حيث ظهرت مقالات كثيرة في الصحف المصرية إما مأجورة في أغلب الأحيان أو بلا أجر في أحوال نادرة1.
1 البهي ص429، الخالدي وفروخ ص207.