الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
حول الفكر الإسلامي وأصالته:
ولقد أثار المستشرقون شبهات أخرى كثيرة حول الإسلام ورسوله، وحول العقيدة والوحي، وحول الفلسفة الإسلامية وأصالتها، والتصوف وأصوله، وحول السنة وعلومها.
أ- فالمستشرق "شاخت" وضع كتابه "في أصول الشريعة المحمدية"، ولعله أشهر كتاب له، جعله طعنًا في كتب السنة الصحيحة ومسانيدها، وقال: إن الأحاديث الفقهية وغيرها ظهرت في القرن الثالث الهجري، وأن الفقه ومسائله لم يظهر في عصر محمد ولا في عصر الصحابة، وإنما ظهر بعد هذا الجيل، واستدل بذلك على كذب الأحاديث النبوية، ومع ما في هذه الدعوى من مغالطات وأكاذيب تاريخية، فإن هذا المستشرق لم يكلف نفسه عناء البحث؛ ليعرف أن أقوال الرسول وأفعاله كانت تقوم بين جيل الصحابة مقام كتب الفقه بين الأجيال المتأخرة فضلا عن أن أحاديث الفقه كغيرها من الأحاديث الأخرى رواها المحدثون بسندها المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمحدثين في ذلك منهج في التوثيق أفاد منه إلى حد كبير علماء المناهج المعاصرون، ووصفوه بالدقة، والموضوعية، وقوة الضبط، وسلامة النقل، وسار على نفس المنهج في التشكيك في كتب السنة آخرون أمثال "منتوجمري واط" المستشرق الإنجليزي، و"مارجليوث" و"جولد تسهير" وغيرهم، والأدلة التي يذكرها الواحد منهم على صحة دعواه تجدها مكررة عند غيره كأنهم قد تواصوا بذلك فيما بينهم وتوارثوها جيلا بعد جيل.
ب- أما في مجال الفلسفة الإسلامية فقد تواطأ كثير من المستشرقين على أكذوبة أن العقل العربي ليس من طبيعته التفلسف، أو حب الفلسفة؛ لأنه ساذج بطبعه يميل إلى الأخذ بالجزئيات، ولا يعرف التعامل مع القضايا العامة أو الكلية، صرح بذلك "رينان" في كتابه عن اللغات السامية، و"ديبور" في تاريخه للفلسفة الإسلامية، و"بينز" في كتابه عن "مذهب الذرة عند المسلمين".
يقول ديبور في مقدمة كتابه عن مصادر الفلسفة الإسلامية: لم يكن للعقل السامي قبل اتصاله بالفلسفة اليونانية في الفلسفة غير الأحاجي والأمثال والحكم، وكان هذا التفكير يقوم على نظرات في الإنسان ومصيره، وإذا عرض للعقل السامي ما يعجز عن إدراكه لم يشقَّ عليه أن يرده إلى إرادة لا تدرك مداها.
ج- ونفس الفكرة صرح بها رينان قبل ديبور، ولا شك أن هذا الحكم خاطئ من أساسه؛ لأنه يتنبأ فكرة مسبقة، وهي تفوُّق الجنس الآري على الجنس السامي، فالفلسفة الإسلامية ما دامت تنتمي إلى جنس سامي فهي ليست بأصلية، ولا تشتمل على عناصر جديدة؛ لأن الأصالة والجدة من خصائص الجنس الآري فقط كما يزعمون، وقد يكون هذا الحكم مدعاة إلى طرح سؤال مهم، وهو إذا كانت هذه الفلسفة ليس أصيلة ولا جديدة وخالية من عنصر الابتكار، فلماذا شغلتم أنفسكم بها إلى هذا الحد الكبير..؟ وإجابة ديبور على ذلك تطلعنا على قضية أهم وأخطر، حين تقرأ قوله: فإن هذا البحث له شأن عظيم؛ إذ يتيح لنا فرصة لمقارنة المدنية
الإسلامية بغيرها من المدنيات، والفلسفة ظاهرة فريدة نشأت في بلاد اليونان في ظروف غير خاضعة لنشأة المدنيات، ولا يمكن تعليلها بأسباب خارجة عنها، إن ذلك يرينا أول محاولة للتغذي بثمرات الفكر اليوناني تغذيًا أبعد مدى وأوسع حرية مما كان عليه الأمر في نشأة العقائد أن تتبع أفكار اليونان وامتزاجها في مدينة الشرق الكثيرة العناصر لكثير الفائدة عند ديبور؛ لأنه يجعل ذلك بداية التمدن الحقيقي في بلاد الشرق، وديبور لم يبحث الفلسفة الإسلامية بهدف بيان أصالتها أو مكانتها في مسيرة الحياة الفكرية للإنسانية ككل، ولم يكن تأريخه لها لذاتها ولا حبًّا فيها، ولا حتى بوصفها واسطة بين الفلسفة اليونانية والأوربية الحديثة كما يزعم البعض.. لا.. لم يكن هذا هدفا مقصودًا لديبور ولا لغيره ممن أرخوا للفلسفة الإسلامية أو كتبوا عنها، مثل هنر كوربان، وماسينيون، إن ما يهتم به المستشرقين من وراء ذلك التاريخ هو العمل على تكملة وإتمام تاريخ ذلك النهر الفكري في أوربا، ذلك النهر الذي بدأه فلاسفة اليونان، ما زال عطاؤه متدفقا إلى يومنا هذا في أوربا، فإذا انحرف مسار ذلك النهر عن طريقه الطبيعي، وخرج إلى جنس آخر غير آرى كالجنس العربي مثلا؛ فإنما ليأخذ بيد شعوبه إلى مسار المدنية والحضارة، ثم ما يلبث أن تعود مياهه إلى مجراها الطبيعي بأوربا، فدراسة الفلسفة الإسلامي عند المستشرقين يقصدون من ورائها إلى أمور محددة تتصل بحياتهم الفكرية.
1-
ذلك أن دراسة الفلسفة الإسلامية تمكنهم أولا من تتبع دخول أفكار اليونان وتأثيرها في مدينة الشرق، وهذا يعني عندهم مواصلة التأثير والعطاء للفلسفة اليونانية، وهي من نتاج الجنس الآري الأوربي.
2-
ودراستها تمكنهم ثانيا من مقارنة المدنية الإسلامية بالمدنية اليونانية مقارنة توضح لهم بجلاء أن الفلسفة لم تظهر في المدنية الإسلامية من داخلها وإنما وفدت إليها عندما احتكت بالجنس الآري، وهذا في حد ذاته يكون برهانا لهم على أن الفلسفة اليونانية ظاهرة فريدة خاصة بالجنس الآري فقط، ولم تظهر خارجه، وبالتالي فهي لا تدين لآية حضارة أخرى سابقة عليها.
3-
ودراستها تمكنهم ثالثا من التعرف على أول محاولة للتأثر بثمرات العقل اليوناني من جهة، ومن الوصول إلى أن هذه الفلسفة ارتبطت بها أول نهضة عربية لبيان فضل الفلسفة "الآرية" على الجنس العربي.
إن هذه الأمور الثلاثة أصبحت مؤكدة لدى دارس الفلسفة الإسلامية من المستشرقين؛ ليؤكدوا بذلك أمرين:
1-
فوقية الجنس الآري على ما عداه من أجناس أخرى.
2-
الإلحاح على فكرة المركزية الأوربية بالنسبة للعالم؛ فكرًا وثقافة وحضارة ومدنية، وهذا ما يهدف إليه ديبور وغيره من المستشرقين، إنهم -إذن- لم يدرسوا الفلسفة الإسلامية لذاتها،
وإنما لاستكمال فهمهم للفلسفة اليونانية وللفكر الأوربي بصفة عامة، والقصد من ذلك هو محاولة إقناع العالم بأوربة الفكر الإنساني كله، والقول بأوربة الحضارة الإنسانية بصفة عامة. فعل ذلك "بيتز" في كتابه مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهند، ولقد ظهر هذا الكتاب في الثلاثنيات من هذا القرن وهو يحمل العنوان السابق الذي يدل لأول نظرة على مقصده ومضمونه، ويدور الكتاب في معظم فقراته على سلب العقلية العربية كل خصائص الأصالة والابتكار لينسبها إما إلى الهند مرة، وإما إلى اليونان في معظم الأحوال، فهو مرة يرجع أصول مقالات المتكلمين في الجوهر الفرد إلى أصول هندية، ومرات يرجع أصول رأي الرازي في نفس المشكلة إلى آراء أفلاطون وديقريطس، وقد يتساءل المرء: ولماذا الإصرار على إرجاع كل مصادر القول بالذرة عند علماء الكلام إلى أصل هندي؟، والجواب: أن الهنود ليسوا جنسًا ساميًا، أما العرب فهم ساميون لا يصلحون للابتكار، ومعنى هذا أن المستشرقين يقبلون أن يكون للهند مذهب مستقل في الجوهر الفرد، ولا يرضون ذلك للعرب، وهل تستطيع أن تجد لهذا التحكم من تبرير عقلي سوى التعصب لفكرتهم عن تفوق العقل الآري على بقية الأجناس، ولخطورة هذه الدعوى أود أن أخصصها بشيء من الرد التفصيلي عن أصالة الفكر الإسلامي واستقلاله عن الفلسفة اليونانية.