الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرد على "رينان
":
أولا: أما عن قول رينان بأن العقلية العربية أقل شأنا من العقلية الآرية فهذه دعوى تفتقر إلى الدليل البرهاني، ولا يملك رينان في دعواه هذه إلا التعصب للجنس والثقافة، وما أشبه هذه الدعوى بأكذوبة إسرائيل في وقتنا الحاضر بأنهم شعب الله المختار الذي يجب أن يسود العالم، ولعل هذه الدعوى الأخيرة امتداد لسابقتها، وما أسهل على المرء أن يرسل الدعاوى العامة على علاتها بلا دليل؛ لكي ينفس بها عن رغبة ملحة أو هوى مكبوت، والمنهج العلمي الصحيح يرفض تماما أمثال هذه الدعاوى، ومن الخطأ الفاحش أن يظن رينان أن الفلسفة الإسلامية وليدة الفكر العربي وحده، أو العقلية العربية وحدها؛ فلقد أسهم فيها مفكرون من شعوب أخرى مختلفة الجنس واللون من فرس وهنود وأتراك وسوريين ومصريين وبربر وأندلسيين.
ثانيا: الإسلام قد حث أبناءه على المعرفة وطلب العلم ولم يقف في وجه طالب العلم أيا كان هذا العلم -عكس دعوى رينان- بل أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وقال لأبنائه اطلبوا العلم ولو بالصين، وكلمة العلم ينبغي أن تفهم هنا بعناه العام المطلق الذي يشمل العلم الديني والدنيوي معًا، وليس كما يدعيه بعض الباحثين بأن الإسلام لا يعرف العلم، إلا بالمعنى الديني فقط، ولو كان المراد بالعلم هنا معناه العلم الديني فقط لما حثهم الرسول على الترحال في طلبه إلى الصين في الوقت الذي كان هو موجودا بين أظهرهم وهو مصدر كل علم ديني للمسلمين.
ثالثا: وإذا كان الجزء الأول من دعوى رينان يدل على تعصبه لجنسه فإن الجزء الأخير من هذه الدعاوى يدل على جهله بروح الإسلام وموقفه من العلم والنظر والتأمل الفكري المنزه عن
الهوى والغرض إلا لطلبه الحق، فما كان الإسلام، وكتابه المقدس يدعو إلى التأمل في آفاق السموات والأرض؛ ليضيق الخناق على أبنائه ويمنعهم من النظر والتأمل في هذا الكون وما فيه من آيات.
رابعًا: على أن رينان قد تناقض مع نفسه في موقفه من الفكر الإسلامي، فهو حين ينكر الفلسفة الإسلامية ويجحد أصالتها في كتابه تاريخ اللغات السامية يعود في كتابه عن ابن رشد ومذهبه، فيقرر أن هناك فلسفة إسلامية مستقلة يجب أن نتلمسها في مظانها الخاصة بها، وأن العرب قد عرفوا كيف يخلقون لأنفسهم فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة بهم، وإن الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تتلمس في مذاهب المتكلمين، وهذا الموقف المضطرب إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدل على أن أحكام رينان على الفلسفة الإسلامية ليست مؤسسة على النظرة العلمية النزيهة، ولا على معرفة تامة بالفلسفة الإسلامية وتراثها.
خامسا: وأما اتهام رينان وديبور للتفكير العربي بأنه يهتم بالجزئيات المتباعدة فذلك شيء ينبغي أن يحمد للعرب كما قال بذلك أستاذنا المرحوم محمود قاسم؛ لأن المنهج العلمي الحديث يقوم أساسًا على خطوات محددة، وأول هذه الخطوات هي ما يسمى بمرحلة البحث، وفيها يقوم الباحث بجمع الملاحظات والتجارب في العلوم الطبيعية والإنسانية على سواء، وجمع الملاحظات ليس إلا ملاحظة الأشياء الجزئية المتباعدة، ثم يحاول الباحث أن يربط بين هذه الملاحظات الفردية بما يتخيله من علاقات ومناسبات تجمع بين المتباعد منها، وبهذا وحده يمكن للباحث أن يفسر الظواهر والوقائع التجريبية، فكيف يعد ذلك اتهاما وهو ركيزة من ركائز العلم التجريبي في القرن العشرين.