المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إثارة الخلافات الدينية: - الاستشراق والتبشير

[محمد السيد الجليند]

الفصل: ‌ إثارة الخلافات الدينية:

‌الدوافع والأهداف

‌مدخل

الدوافع والأهداف:

مما لا ريب فيه أن الحروب الصليبية قد تركت آثارها السيئة على نفسية الغرب، لكنها في الوقت نفسه قد فتحت أعين الغرب على الشرق وما فيه من علوم ومعارف وحضارة، ولقد واكب ذلك ما شهدته أوربا من حركة الإصلاح الديني وموقف الكنيسة من العلم والعلماء، ولقد فرضت هذه الظروف الجديدة على الكنيسة أن تعيد ترتيب أوراقها، وأن تعيد النظر في المفاهيم الدينية التي تتعامل بها مع العلماء، بحيث تعيد تأويل هذه المفاهيم بما لا تتعارض مع العلم، وترتب على هذه النزعة الإصلاحية أن أحس الغرب بحاجته إلى التعرف على المزيد من علوم الشرق وثقافته، ومن هذه المواقف وغيرها كانت الدوافع والأهداف وراء حركة الاستشراق، ونستطيع أن نوجز أهم هذه الدوافع كما أشار إليها المفكرون فيما يلي1:

1 راجع في تفصيلات هذه الأسباب كتاب الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار، د. محمد البهي، الاستشراق والتبشير د. عمر فروخ، الاستشراق والمستشرقين نجيب العفيفي.

ص: 16

1-

‌ إثارة الخلافات الدينية:

لا يمكن إرجاع ظاهرة الاستشراق إلى عامل واحد فقط؛ وذلك نظرا لاتساع نشاطه وتعدد أهدافه، ولكن الذي لا أشك فيه هو سيطرة السبب الديني على سائر أسبابه الأخرى، وفي هذه الدراسة الموجزة من النصوص ما يدل بيقين على صدق ما نقول من سيطرة السبب الديني وهيمنته على الأسباب الأخرى، ولقد سلك المستشرقون وسائل شتى لتحقيق هذا الهدف الديني، لكن كان أخطرها بلا شك التركيز على إثارة القضايا الخلافية في الفكر الإسلامي والعمل على إحياء الآراء الشاذة للفرق المغالية؛ ليشغل المسلمون أنفسهم بها عن التفكير في عظائم الأمور، فعمدوا إلى إثارة الخلافات المذهبية والصوفية، كما ركزوا في دراساتهم على إحياء ألوان معينة من التراث الصوفي للغلاة من الصوفية فتخصص الكثير منهم في تراث ابن عربي وابن سبعين والحلاج وذي النون المصري، وحاول

ص: 16

بعضهم إحياء الخصومات التاريخية بين المعتزلة والأشاعرة أو بين المعتزلة والسلف.

أ- وهذا الهدف قد أعلنه المستشرقون قديما وحديثا ولم يجدوا في ذلك حرجًا ولا عيبًا، ولكن الحرج والعيب من وجهة نظرنا أن يتشكك بعض الباحثين من المسلمين في صدق الهدف ويشككوا فيه، ولقد صرح المفكر الفرنسي "هانوتو" بعد أن احتلت فرنسا الجزائر بما يلي: لقد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية"، وكانت هذه العبارة عنونا لمقال كبير نشر مترجما باللغة العربية في جريدة المؤيد المصرية، ونقل أطرافا منه المرحوم الدكتور محمد البهي في كتابه عن الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، ومما جاء فيه: إنه لا يوجد مكان على ظهر الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرًا وأفواجًا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إليه والتدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه.. إن هذا الدين قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها.. لقد صارت في صدر الإسلام وكبده.. ليس الإسلام في داخلنا فقط بل هو خارج عنا أيضا، قريب منا في مراكش.. قريب منا في طرابلس الغرب.. قريب منا في مصر.. وهو شائع ومنتشر في أسيا.. ولا يزال الهلال

ص: 17

"الإسلامي" ينتهي طرفاه من جهة بمدينة القسطنطينية ومن جهة أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى معانقا بذلك الغرب كله.

ويقول هانوتو: إن هذا الدين قائم في الآستانة حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصاله من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية بعضها عن بعض شطرين، ثم يعلن "هانوتو" صراحة أنه لا بد من العمل على تفكيك تلك الرابطة التي تجمع بين المسلمين شرقا وغربا على سطح المعمورة فتجعل منهم أمة واحدة، وهي رابطة الدين، لا بد من العمل على أضعاف هذه الروح السائدة التي تحرك المسلمين من سباتهم.. إنهم متى اقتربوا من الكعبة، من البيت الحرام.. من ماء زمزم المقدس، من الحجر الأسود.. وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على ترك بلادهم في أقصى مدن العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام اشتعلت جذوة الحمية الدينية في قلوبهم.. إن رابطة الإخاء الجامعة بين أفراد المسلمين كفيلة بأن تجعل المسلم في شرق الأرض يهبُّ لنصرة المسلم في غربها فهي عامل مؤرق لفرنسا في المستعمرات التي تخضع لها.

ومن هنا فإن العمل على إضعاف هذه الرابطة بين المسلمين كانت ولا زالت تمثل غاية وهدفا لنشاط المستشرقين؛ وما كتبه "هانوتو" صرح به غيره، ولقد كتب "كيمون" المستشرق الفرنسي في كتابه بثولوجيا الإسلام عن المسلمين وعن رسولهم صلى الله عليه وسلم بمثل ما صرح

ص: 18

به "هانوتو" وزيادة؛ حيث وصف الرسول والإسلام بصفات يخجل القلم عن تسطيرها.

ب- إذا أضفنا إلى ذلك أن أول من اشتغل بعلوم الشرق بحثا ودراسة كان راهبا وقسيسا ثم بابا لروما فيما بعد، كما أن معظم المشتغلين بعلوم الشرق قديما وحديثا، معظمهم من رجال الكهنوت المسيحي واليهودي، ولا يمكن أن نتصور هؤلاء مجردين عن عواطفهم الدينية، بل إنهم كانوا مدفوعين إلى هذا اللون من الدراسة بدافع الانتصار لدينهم، إن هذه النوايا التي عبرت عنها نصوص أصحابها -وغيرها كثير- تجعلنا نثق في صدق سيطرة السبب الديني وهيمنته على الأسباب الأخرى، ومن هنا فقد تنوعت الدراسات الإسلامية عند المستشرقين وتعددت اهتماماتهم بالإسلام وحضارته، فمن دارس للعقيدة وأصولها، وللفقه وأصوله، وللتاريخ وحضارته، وللقرآن وعلومه، وللحديث ورجاله، واللغة وآدابها، والرسول وغزواته وعلاقته بأهل الكتاب في المدينة، واتبعوا في ذلك منهجا نفسيا ركزوا خلاله على سر قوة المسلم ونقاط الضعف في العالم الإسلامي؛ ليسلبوا المسلم سر قوته؛ ليصبح بعد ذلك لقمة سهلة التناول في أيديهم، يشكلون عقيدته حسب أهوائهم الصليبية، وحسب مكرهم السياسي والمذهبي، ولقد أفصح بعضهم عن هذا الهدف في بعض المؤتمرات بقوله: "

لا نريد أن نرسل إلى الشرق جنودا مسلحين وإنما نريد لهم رسلا مبشرين بالنصرانية".

ص: 19