الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
في نهي الوالي عن قتل القاتل
وهذا الحديث يروى عن غير واحد من الصحابة.
الوصل الأول: في بيان ألفاظ هذه الأحاديث وأنها صحيحة:
أ - وأصحها حديث وائل بن حجر الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه فقال: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب، أن علقمة بن وائل حدثه، أن أباه حدثه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة.
فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي.
فقال رسول الله ": أقتلته؟ فقال - الرجل أخو المقتول -: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة.
فقال - القاتل -: نعم، قتلته.
قال - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قتلته؟ قال - القاتل -: كنت أنا وهو نختبط من شجرة، فسبني فأغضني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من شيء تؤديه عن نفسك.
قال: مالي مال إلا نسائي وفأسي.
قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك.
فرمى إليه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم بنسعته وقال: دونك صاحبك.
فانطلق به الرجل - أخو المقتول - فلمّا ولّى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله.
فرجع فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله، وأخذته بأمرك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ قال: يا نبي الله - لعله قال - بلى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن ذاك كذاك.
قال فرمى بنسعته، وخلى سبيله.
ثم قال الإمام مسلم: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، أخبرنا إسماعيل بن سالم عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل رجلاً آخر، فأقاد ولي المقتول منه، فانطلق به، وفي عنقه نسعة يجرها.
فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القاتل والمقتول في النار.
فأتى رجل الرجل فقال له مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلّى سبيله.
قال إسماعيل بن سالم: فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابت فقال: حدثني ابن أشوع أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سأله أن يعفو عنه فأبى.
وأخرج أبو داود في سننه من طريق مسلم الأولى التي عن سماك، نحو لفظ مسلم.
وإننا إنما نكتفي بإخراج مسلم للحديث، للقطع له بالصحة ما لم يكن عليه اعتراض مشهور من العلماء.
ولكن حيث ثبت للحديث ألفاظ أخرى وروايات، لزمنا إخراجها لمعرفة وجه الحديث، وتحقيق مناطه، والجواب عنه.
فمن هذه الروايات ما أخرجه النسائي قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية، قال حدثنا إسحاق - هو الأزرق - عن عوف الأعرابي، عن علقمة بن وائل المغربي عن أبيه قال: جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء به ولي المقتول.
فقال له رسول الله ": أتعفو؟
قال: لا.
قال: أتاخذ الدية؟
قال: لا.
قال: القتل؟
قال: نعم
قال: اذهب.
فلما ذهب دعاه وقال: أتعفو؟
قال: لا.
قال: أتاخذ الدية؟
قال: لا.
قال: أتقتل؟
قال: نعم
قال: اذهب.
فلما ذهب قال: " أما أنك إن عفوت عنه، فإنه يبوء بإثمك وإثم
صاحبه ".
فعفا عنه، فأرسله.
قال: رأيته يجر نسعته.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات محتج بهم.
وقد رواه أبو داود السجستاني في السنن بإسناده. ومن طريق أبي داود رواه البغوي في شرح السنة من حديث عبيد الله بن عمر بن ميسرة عن يحيى بن سعيد عن عوف به، لكنه جعل حمزة أبا عمر العائذي بينه وبين علقمة.
لكن بمثل هذا لا يعل الخبر، لأن عوفاً قد حدث عن حمزة وعلقمة كليهما، فيكون سمعه من حمزة أولاً، ثم من علقمة، فعلا بإسناده.
ولفظهما مثل لفظ النسائي.
ثم إن النسائي نفسه قد أخرج طريق أبي داود، والبغوي، عن محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد فذكره.
وكذا من طريق محمد عن يحيى قال: حدثنا جامع بن مطر الحبطي عن علقمة به.
فتابع جامعٌ حمزة وعوفاً فيه.
وله طرق عنده أخرى، وألفاظ، لا تخرج عما تقدم من الألفاظ، فأغفلنا ذكرها.
ب - ومنها حديث أنس بن مالك.
وهذا الحديث تفرد به ضمرة عن عبد الله بن شوذب، عن ثابت البناني عن أنس. قال النسائي في الصغرى والكبرى: أخبرنا عيسى بن يونس قال حدثنا ضمرة عن عبد الله بن شوذب عن ثابت عن أنس بن مالك: أن رجلاً أتى بقاتل وليَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اعف عنه ".
فأبى.
قال: " خذ الدية ".
فأبى.
قال: " اذهب فاقتله فإنك مثله ".
فذهب، فلُحِق الرجلُ فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقتله فإنك مثله " فخلى سبيله، فمر بي الرجل وهو يجر نسعته.
وهذا إسناد رجاله ثقات، وهو حديث حسن لأجل ضمرة. فهو صدوق يهم قليلاً.
وأخرج الحديث ابن ماجه من طريق عيسى بن محمد النحاس، وعيسى بن يونس، والحسن بن أبي السري العسقلاني، ثلاثتهم عن ضمرة بن ربيعة به.
وقال في آخره: قال أبو عمير في حديث - هو عيسى بن محمد -: قال ابن شوذب عن عبد الرحمن بن القاسم: فليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: " اقتله فإنك مثله ".
قال ابن ماجه: هذا حديث الرمليين ليس إلا عندهم.
قلت: نعم، هو كما قال ابن ماجه، لأن الحديث من أفراد ضمرة، وهو فلسطيني، قليل الطلب، فاقتصر على روايته أهل الرملة.
وقد ذكر أبو نعيم هذا الخبر في الحلية قال: حدثنا عبد الله بن جعفر ثنا إسماعيل بن عبد الله، ثنا الحسين بن رافع ثنا ضمرة به.
ثم قال أبو نعيم: قال ابن شوذب فذكرت ذلك لعبد الله بن القاسم فقال: ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال أبو نعيم: تفرد به عن ابن شوذب ضمرة. انتهى.
قلت أنا أبو عبد الله: هذا هو الصواب عبد الله بن القاسم، فهو المذكور في كتب الرجال في الرواية عنه، دون عبد الرحمن.
ولما صح لنا هذا الحديث، وكان شاهده عند مسلم، ولم نر له من
الروايات ما يعلّه، ضربنا على الباقي.
الوصل الثاني: في بيان عدول الأئمة عن القول بظاهر هذا الخبر:
ولسنا نعني بظاهره القول بأن ليس للوالي، أو القاضي، الطلب من ولي المقتول العفو، فهذا سائغ، متفق على العمل به.
وإنما المقصود ترك الفتوى بظاهره، هو ما في قوله صلى الله عليه وسلم:" القاتل والمقتول في النار، كما في لفظ مسلم، وبقوله " إن قتله فهو مثله ". فإن في هذين اللفظين من الزجر الشديد عن اختيار ولي المقتول للقتل، خلاف سائر الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة في أن المقتول له: هو بخير النظرين، بين الإرش والقتل. كما سياتي ذكر ذلك في سبب ترك الفقهاء القول بظاهر هذا الخبر. بل إن في هذا الحديث في أوله، ذكر التخيير، فتناقض آخر هذا الخبر مع أوله.
وقد استقرينا فتاوى الفقهاء فوجدنا أن الجميع على جواز القود، والعمل بالتخيير.
الوصل الثالث: في ذكر حججهم التي أفتوا بها، وجوابهم عن الحديث:
فأول ما احتجوا به قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى).
وقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إمّا أن يودى، وإما أن يقاد ".
فأجمع العلماء لهذه النصوص على أن ولي الدم مخير بين القصاص، وبين أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية - واشترط بعضهم لهذا موافقة القاتل - وبين أن يعفو الولي مجاناً.
وبعد أن حكى النووي في شرح مسلم نحو هذا، حاول الجواب عن حديث الباب فقال:" وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن قتله فهو مثله " فالصحيح في تأويله، أنه مثله في أنه لا فضل ولا منّة لأحدهما على الآخر، لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفى عنه، فإنه كان له الفضل والمنة وجميل الثناء في الدنيا، وجزيل الثواب في الآخرة.
وقيل: فهو مثله: في أنه قاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لا سيما وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه العفو.
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه، لإيهام مقصود صحيح، وهو أن الولي ربما خاف، فعفا، والعفو مصلحة للولي والمعقول في دينهما، لقوله صلى الله عليه وسلم:" يبوء بإثمك وإثم صاحبك "، وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه من العقل.
فلما كان العفو مصلحة توصَّل إليه بالتعريض.
وقد قال الضمري وغيره من أصحابنا وغيرهم: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود. . .
ثم قال النووي: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " القاتل والمقتول في النار "، فليس المراد به في هذين، فكيف تصح إرادتهما، مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل المراد غيرهما، وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما في المقاتلة المحرمة، كالقتال عصبية ونحو ذلك، فالقاتل والمقتول في النار، والمراد به التعريض كما ذكرناه، وسبب قوله ما قدمناه لكون الولي يفهم منه دخوله في معناه، ولهذا ترك قتله، فحصل المقصود، انتهى.
قلت أنا أبو عبد الله: جوابه عن اللفظ الأوّل مقبول، وأما جوابه عن الثاني فظاهر الفساد والبطلان، وقد كنت أربأ بالنووي عن أمثال هذا، فالعجب العجب!.
وأغرب الخطابي، فأدخل هذا الحديث في حديث آخر فيه أن رجلا قتل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه ولي المقتول للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال القاتل: يا رسول الله ما أردت قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقاتل: أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار، قال: فخلى سبيله.
قال الخطابي: يحتمل وجهين أحدهما أنه لم ير لصاحب الدم أن يقتله، لأنه ادعى أن قتله كان خطأ أو شبه العمد، فأورث ذلك شبهة في وجوب القتل، الآخر أن يكون معناه إذا قتله كان مثله في حكم البواء فصارا متساويين لا فضل للمقتصّ على المقْتَصّ منه. انتهى.
قلت: الوجه الثاني، هو قول مسلم الأول وقد حسَّناه من جواب، وأما إدخاله حديثاً في آخر في وجهه الأول، فهو مردود، لاختلاف السياقين، والتصريح الوارد في رواية مسلم بعكس الذي في حديث أبي هريرة، فإنه قال في رواية مسلم " فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه "، وهذا لا يمكن أن يكون من شبه العمد، أو الخطأ إجماعاً.
ثم لو كان صح ما ادعاه الخطابي، لما كان أمكن النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الولي من التخيير بين القتل والدية، لأن التخيير لا يكون إلا بعد ثبوت القتل العمد.
وهذا الوجه الذي أنكرته على الخطابي، رأيت ابن حزم يقول به في المحلّى.
والذي قدمناه يرد هذا الادعاء من وجه.
والثاني: وهو أنه ليس ما يدل على أن كلا الخبرين واحد، وذكر النسعة في الخبرين غير كاف. فكيف يحصل الجزم على ما هو بعيد الاحتمال!.
الثالث: إن صح جوابكم هذا عن سبب إرادته العفو، فما الجواب عن اللفظين الواردين، وما المراد بالقاتل والمقتول، وفي القصة إن ثبت العمد: قاتلان ومقتولان.
وستأتي مناقشة هذا الوجه الثالث بعد.
وأما الجواب الذي أورده الإمام مسلم عن ابن أشوع كما تقدم، من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سأله أن يعفو عنه فأبى.
فقد رأيت ابن حزم أجاب عنه فأجاد حيث قال: " إنه تفسير فاسد، لا يجوز ألبتة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يخلو في سؤاله ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون شافعاً في العفو، وإما أن يكون آمراً به.
فإن كان شافعاً، فليس الممتنع من إسعاف شفاعته صلى الله عليه وسلم عاصياً لله تعالى، كما فعلت بريرة، إذ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خيرها بين البقاء مع زوجها أو فراقه، فاختارت فراقه، فقال: لو راجعته فإنه أبو ولدك، فقالت: أتامرني يا رسول الله قال: لا إنما أنا شافع، فقالت: لا أرجع إليه أبداً.
فلا خلاف بين أحد من الأمة أن بريرة لم تكن عاصية بذلك.
فإن كان عليه الصلاة والسلام شافعاً في هذا القاتل، فليس الممتنع عاصياً، فإذا كان ليس عاصياً فليس في النار، ولا هو مثل القاتل الظالم.
وإن كان صلى الله عليه وسلم آمراً فهو بيقين لا يأمر إلا بواجب فرض، ومن الباطل أن يأمر عليه الصلاة والسلام بشيء، ويطلق على خلافه، ولا يمنع من الحرام الذي هو خلاف أمره، وهذا هو القضاء بالباطل وقد أبعده الله تعالى عن هذا.
فإن قالوا: هو أمر الندب.
قلنا: لا راحة لكم في هذا، لأن من ترك قبول الأمر بالندب الذي ليس فرضاً، فليس في النار، ولا هو مثل القاتل الظالم، فبطل تفسير ابن أشوع، انتهى.
ثم إن ابن حزم، عاد لذكر جوابه الأول الذي تابعه الخطابي عليه، ولكن قصره هنا على الحكم في المسألة. وهو الصواب الذي لا يمكن أن يعدوه إن صح الجواب - ثم حاول الإجابة عن الألفاظ الواردة فيه فقال: " فإن قيل: هذا وجه الجمع بين حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله في ذلك، فما وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بأن القاتل والمقتول في النار، وأنه مثله، وكيف يكون من قتل غير مريد للقتل في النار؟ قلنا - وبالله التوفيق -: هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بغيب أعلمه الله تعالى إياه، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقول ألبتَّة إلا الحق، ولا يقول بالظن قصدا إلى ذلك، ومن قال هذا عليه ونسبه إليه فهو كافر.
فنقول: إن ذلك القاتل الذي لم يعمد القتل، كان فاسقاً من أهل النار بعمل له غير هذا القتل أطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم على عاقبته فيه، ولم يكن دمه يحل لهذا المستقيد لأنه لم يعمد قتل أخيه، فلو قتله على هذا الوجه
لكان قاتلاً بغير الحق، ولاستحق النار ولكان ظالماً كالمقتول إذ ليس كل ظالم يستحق القتل ". انتهى.
قلت أنا أبو عبد الله: وهذا الذي جنح إليه ابن حزم في الآخر من جعله من خصائصه صلى الله عليه وسلم وما أطلعه الله عليه، هو الذي تطمئن إليه النفس وتسكن، من الأجوبة المتقدمة، وهو معنى قول عبد الله بن القاسم المتقدم رحمه الله حيث قال كما قدمنا في روايته:" ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثله ". مع قولي بضعف قول ابن حزم: " لكان قاتلاً بغير الحق " لأنه لا يكون كذلك، ولو لم يكن القاتل قاتلاً ما دام هو لا يعرف ذلك.
ولكني لا أحصر هذا التخصيص بهذا الخبر في ذكر اللفظ - كما يقول ابن حزم وهو ظاهر قول ابن القاسم - ولكني أعتبره في حكم هذا الخبر ولفظه سواء بسواء، حتى يصح لنا ترك القول بهذا الخبر، ومعرفة الجواب عنه بما هو غير متعقب. فإن جميع ما أوردناه من الأجوبة ومما هو في بطون الكتب مما لم نذكره متعقب.
فإن قال قائل: ولكن القول بالتخصيص، لا يجب المصير إليه عند الاحتمال، ولا بد عليه من دليل، وإلا بطلت سائر أحكام الشريعة بحجة التخصيص.
قلت - وبالله المستعان -: الجواب عن هذا، هو بعينه ذكر الدليل القاطع على أنه لا يصح جواب عن الحديث إلا الجواب الذي ارتضيناه من القول بالتخصيص.
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم " القاتل والمقتول في النار ".
فإنك إذا تأملت هذه العبارة وجدت قبل قتل القاتل حالة، وبعده حالة. ورأيت أن انصرات الحديث للحالة الثانية هو الأقرب كما يدل عليه السياق، إلا أننا نجيب عنهما جميعاً لنبيّن المراد: فإننا إن سلمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم " القاتل والمقتول في النار " أراد به الحالة التي قبل قتل القاتل. فإن معرفة كون المقتول من أهل النار، لا تتم إلا عن طريق الوحي، والوحي من خصائصه صلى الله عليه وسلم ".
وإن سلمنا أن المراد من قوله ما بعد قتل القاتل فاللفظ منصرف إلى ثلاثة احتمالات لا رابع لها:
الأول: أن يكون المراد بالقاتل والمقتول، ما قصد في الحالة الأولى، وقد أجبنا عنها.
الثاني: أن يكون المراد بالقاتل ولي المقتول، وبالمقتول القاتل أولا، فإن كان هذا، فهو أيضاً لا يمكن معرفته في حق ولي المقتول أنه في النار إلا عن طريق الوحي، سيما وأنه لم يمت بعد، والتوبة مفتوحة له على رأي الجمهور القائلين بصحة توبة القاتل. فهو كالأول.
الثالث: أن يكون المراد بالقاتل ولي المقتول، وبالمقتول الأول، وجواب هذا منتزع من الأول والثاني.
فتبين من هذا وجوب الحكم على الحديث بأنه من الخصائص، ولم نفرق فيه بين اللفظ والحكم، لأن القصة واحدة، واللفظ كما قدمنا، والحكم عرفنا تخصيصه من مخالفته لسائر النصوص عنه الصحيحة الصريحة المستفيضة، والله أعلم.