الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والعشرون والخامس والعشرون
في النهي عن التمتعِ بالحج، أو النهي عن العمرة قبل الحج، والآخر في النهي عن القِران
وكلاهما أخرجه أبو داود في سننه:
الحديث الأول:
قال: حدثنا أحمد بن صالح، أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب، " أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قضي فيه ينهي عن العمرة قبل الحج ".
وقد أخرجه البيهقي وغيره من هذه الطريق، ولا أعرف له غيرها.
وهي معلولة من وجوه:
الأول: الاختلاف في سماع سعيد من عمر بن الخطاب، فمن مقتضى قبول هذا الخبر إثبات صحة سماع سعيد من عمر، ولو لم يكن الحديث عن عمر.
الثاني: الاختلاف في عبد الله بن القاسم، فهو وإن وثقه ابن حبان، فقد قال ابن القطان فيه:" مجهول "، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. يعني إذا توبع، وليس هو متابع في هذا الخبر.
الثالث: الاختلاف في أبي عيسى، فهو كذلك عند ابن حبان وابن القطان، وابن حجر.
ولذلك قال ابن القيم في شرح أبي داود:
" وهذا حديث باطل، ولا يحتاج تعليله إلى عدم سماع ابن المسيب من عمر. . . وقد قال أبو محمد بن حزم: هذا حديث في غاية الوهي والسقوط، لأنه مرسل عمن لم يسمّ، وفيه أيضاً ثلاثة مجهولون: أبو عيسى الخراساني، وعبد الله بن القاسم وأبوه، ففيه خمسة عيوب، وهو ساقط لا يحتج به من له أدنى علم.
وقال عبد الحق: هذا منقطع ضعيف الإسناد ". انتهى.
قلت: قوله: " مرسل عمن لم يسمّ " وإعلاله بذلك، غير مقبول، لأنه صرح بصحبته، فلا تضر جهالة الصحابي.
وقوله: " وأبوه " لا معنى للقول بمعرفته أو جهالته، إذ المقصود ولده، لا هو، إلا أن يكون وقع في بعض طرق الحديث:" عن أبيه " ولم أقف على ذلك.
فرجعت الخمسة التي ذكرها ابن حزم إلى الثلاثة التي أوردناها.
وقد اكتفى البغوي في شرح السنة بقوله: " في إسناده مقال ".
وهو قول أبي الطيب شمس الحق محمد.
وأعله المنذري بالعلة الأولى، تبعاً لسائر القائلين بعدم صحة السماع، فهؤلاء جميعهم يضعفون الخبر بهذا.
الحديث الثاني:
قال أبو داود: حدثنا موسى أبو سلمة، أخبرنا حماد عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي، حَيْوان - أو خيوان - بن خلدة، ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة، أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم.
قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟
فقالوا: أما هذه فلا.
قال: أما إنها معهن ولكنكم نسيتم ".
وأخرجه أحمد في المسند قال: ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال فذكره ولفظه فيه: " وتعلمون أنه نهى عن المتعة " - يعني متعة الحج - قالوا: اللهم لا.
ثم أخرجه عن محمد بن جعفر قال: ثنا سعيد، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أنه شهد معاوية فذكره ولفظه في آخره: " وتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع بين حج وعمرة؟
قالوا: اللهم لا.
قال: فوالله إنها لمعهن.
ومن هذه الطريق أخرجه البيهقي.
وله طريق آخر أخرجه النسائي في الكبرى، بعد أن كان ساق له طرقاً كثيرة في الصغرى والكبرى ليس في شيء منها ذكر المتعة.
قال: أخبرنا أبو داود قال: ثنا يزيد بن هارون قال: أنا شريك، عن أبي فروة عن الحسن قال: خطب معاوية الناس فذكره وفيه: " وسمعته ينهي عن المتعة، قالوا: لم نسمع.
قال: بلى، وإلا فصمت ".
وأما سائر الطرق لهذا الخبر فليس فيها ذكر المتعة، وإنما فيها النهي عن لبس الذهب والحرير وركوب المياثر وجلود النمور.
وقد أخرج جميعها النسائي.
فمرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن أبي حمّان أن معاوية.
ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن أخيه حمان عن معاوية.
ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن حمّان عن معاوية.
ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن ابن عمر.
فاختلف النقل عنه كثيراً. وذكر المنذري هذا وزاد.
ولذلك أطال ابن القيم الكلام في رد هذا الخبر فقال.
" وقال عبد الحق: لم يسمع أبو شيخ من نعاوية هذا الحديث، وإنما سمع منه النهي عن ركوب جلود النمور، فأما النهي عن القِران فسمعه من أبي حسان عن معاوية. ومرة يقول: عن أخيه حمان ومرة يقول: حمان، وهم مجهولون،.
فلت: قوله أنه سمع النهي عن ركوب جلود النمور دون المتعة، بعيد جداً، ولا يوافقه نقل ولا عقل، أما النقل فالمثبت في الرواية ذكر المتعة دون واسطة بين أبي شيخ ومعاوية، وعكسه الحاصل، وجود الواسطة عند عدم ذكر المتعة.
وأما العقل فبعيد جداً عند ذوي الحجى أن يكون سمع الخبر هو بنفسه، ثم بواسطة حمان أو غيره بزيادة ذكر المتعة، فيروي الذي سمعه هو بذكر الواسطة، ويطرحها إذا روى الزيادة التي من طريق الواسطة.
ثم كيف يصح أن يكون سمع الخطبة هو، ثم يخبره غيره بما لم يسمع منها، لا سيما مع المناقشة والسؤال الحاصل بين معاوية والناس، وبالأخص مع رفض الناس لسماع ذلك. والسؤال عن المتعة إنما هو بعد السؤال عن لبس الذهب والحرير والجلود، فاستبعدنا أن يكون حضر بعد السؤال عن المتعة، وليس بين السؤال عن هذه المسائل ما يتيح المغادرة، فهو مستبعد جداً، والتحكم والقطع في مثل هذا لا يدرك بما هو مستبعد الحصول، وهو محتاج لبراهين، لا لتخامين.
وأما قوله: وهم مجهولون، فيحتاج لأن يذكر معه توثيق ابن حبان.
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
" وقال ابن القطان: يرويه عن أبي شيخ رجلان، قتادة ومطرف لا يجعلان بين أبي شيخ ومعاوية أحداً. ورواه عنه بيهس بن فهدان، فذكر سماعه من معاوية، ولفظ النهي عن ركوب النمور خاصة، وقال النسائي: ورواه عن أبي شيخ يحيى بن أبي كثير، فأدخل بينه وبيه معاوية رجلاً اختلفوا في ضبطه، فقيل: أبو حماز، وقيل: حمان، وقيل: جمان، وهو أخو أبي شيخ ".
قلت: فأشارا للخلاف، على رأي من يعل الخبر بالاختلاف مطلقاً، أو على رأي من يتوقف في الاختلاف الكثير. والجمهور على أن هذا غير قادح عند إمكان الترجيح ومعرفة من حفظ ممن لم يحفظ، والنسائي يذكر الاختلاف في سننه كثيراً مع قوله بصحة الخبر.
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
" وقال الدارقطني: القول قول من لم يدخل بين أبي شيخ ومعاوية فيه أحداً، يعني قتادة ومطرفاً وبيهس بن فهدان ".
قلت: وهو الصواب البين جداً، المنبلج مداً، فمخالفة هؤلاء الأساطين لا تقوم برواية يحيى الذي مرة يوافق ومرة يخالف.
ثم قال ابن القيم:
" وقد رواه النسائي في سننه - فذكر طريق الحسن التي قدمناها - ثم قال: فهذا أصح من حديث أبي شيخ، وإنما فيه النهي عن المتعة، وهي -
والله أعلم - متعة النساء، فظن من ظن أنها متعة الحج، فرواه بالمعنى، فأخطأ خطأ فاحشاً ".
قلت: هذا التأويل من ابن القيم رحمه الله باطل من وجهين:
الأول: أنه خلاف سائر الروايات التي فيها ذكر التصريح بمتعة الحج، وهو الذي فهمه سائر الرواة، بل وأصحاب السنن كأبي داود وغيره، فأورده في المناسك، وكذا سائر من اعتمد على هذا الخبر، وحتى لو سلمنا بصحة رواية النسائي، فالمقرر عند سائر علماء الأصول حمل المبهم على المفسر، لا على نقيض المفسر من غير قرينة في نفس الخبر.
الثاني: أننا لو سلمنا بصحة قول ابن القيم، فكيف يكون الجواب عن قول من حضر من الصحابة:" أما هذه فلا ".
فإنه لا يصح أن يكون السؤال عن متعة النساء ثم يقولوا: " أما هذه فلا ".
فتبين ضعف تأويل الشيخ.
ثم كيف هو قوله: " فهذا - يعني طريق الحسن - أصح من حديث أبي شيخ ".
وحديث أبي شيخ الذي في طريق أحمد الأولى رجاله رجال الشيخين، غير أبي شيخ وقد وثقه ابن حبان، وابن سعد من قبله، والعجلي وغيرهم.
وحديث الحسن فيه أبو فروة وهو مسلم بن سالم ضعيف!.
وصل في معرفة المراد من الخبرين:
قال ابن القيم:
" وقع في بعض نسخ أبي داود " نهى أن يفرق بين الحج والعمرة " بالفاء والقاف.
قال ابن حزم: هكذا روايتي عن عبد الله بن ربيع، وهكذا في كتابه وهو - والله أعلم - وهم، والمحفوظ يقرن ".
قلت: فلا خلاف في أن المراد من ظاهر خبر معاوية وجهان:
فأما على ما وقع في سنن أبي داود فالنهي إنما هو عن القران كما في ظاهر الخبر. وكذا في رواية محمد بن جعفر عند أحمد.
وأما رواية أحمد الأخرى، فالنهي فيها عن التمتع.
ولكن يمكن حمل رواية محمد بن جعفر على التمتع، لأنه أطلق الجمع بينهما، ولم يعين قِراناً ولا تمتعاً، وأما حمل رواية أبي داود على ذلك ففي ذلك تعسف لا يخفى، لأنه صريح بلفظ القران، إلا أن تعتبر من تصرف الرواة.
هذا عن حديث معاوية.
وأما حديث الصحابي الذي لم يسمّ، فإنه قال فيه:" نهي عن المتعة قبل الحج " وهذا عندي له صور:
الأولى: أن يكون المراد مطلقاً تقديم العمرة على الحج، كأن يعتمر في عام من الأعوام قبل أن يكون سبق له أن حج، ثم يحج بعد عام أو نحوه.
والثاني: أن يقع له الاختيار بين الحج والعمرة، وهو لا يكون إلا في أشهر الحج، فيختار العمرة على الحج.
والثالث: أن يتمتع عن عام واحد قبل أشهر الحج، ثم إذا جاءت أشهره حج.
والرابع: أن يتمتع في أشهر الحج بالعمرة أولاً، ثم يحج عن نفس العام، وهو المشهور بالتمتع.
فتحصل من معنى الحديثين خمسة أقوال. سائر الفقهاء على خلافها، إلا الصورة الثانية عن حديث معاوية في النهي عن العمرة في أشهر الحج وتركه، فهذا مما لا يختلف العلماء في النهي عنه أكان نهي كراهة أو نهي تحريم، هذا مع أن اشتقاق هذه الصورة عن معنى الخبر فيه كلام لا يخفى.
وصل آخر في ذكر من كان يفتي بالنهي عن التمتع المشهور عند الفقهاء:
اعلم أن الفقهاء اتفقوا على جواز التمتع، واستقر عليه الإجماع من بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان الخلاف في هذا بين الصحابة حسب.
وقد وقع النهي عن ذلك عن جماعة من الصحابة يظن من لم يتحر أنه مبطل لشرطنا في ذكر هذا الخبر، بل ربما جنح للقول بمقتضاه.
والصواب أن النهي قد جاء عن عمر رضي الله عنه أولاً، لكن على وجه لا يراد منه الكراهة ولا المنع لمن تأمله وكذا مثله عن عثمان، وكذا جاء النهي عن أبي ذر، لكن له عنده معنى خاص أراده كما سيأتي، ولم يثبت النهي عن أحد من الصحابة على مطلق المنع فيما علمت إلا عن معاوية وأما عبد الله بن الزبير فلعل نهيه كنهي أبي ذر.
فأما خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النهي عن ذلك فقد أخرجه أحمد في المسند وغيره عنه قال: " أتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، وحصنوا فروج هذه النساء ".
ولفظ سعيد بن منصور: " أن عمر نهى عن متعة النساء ومتعة الحج "، ونحوه لفظ الطحاوي وغيره.
ثم صرح عمر بسنية التمتع وأبدى عذره في المنع، فأخرج مسلم في صحيحه وغيره عنه أنه قال: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا مع النساء تحت الأراك، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم.
وفي رواية أن أبا موسى كان يفتي بهذه الفتوى، ثم إنه ذكر بعد قول عمر:" هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أخشى أن يعرسوا. . . ".
وبيّن عبد الله مراد أبيه من النهي فيما أخرجه أحمد وغيره، أن ناساً قالوا له: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟ فيقول لهم عبد الله: ويلكم، ألا تتقون الله، إن عمر كان نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة. . .
ثم قال: إن عمر لم يقل لكم إن العمرة في أشهر الحج حرام، ولكنه قال: أتم للعمرة أن تفردوها عن أشهر الحج.
وأخرج مالك في الموطأ ما يشهد لهذا.
ثم ذكر الحسن أن عمر تراجع عن ذلك بعد حجاج مع أبي بن كعب، فيما أخرجه الإمام أحمد إن صح الخبر.
قلت: فليس لقائل أن يقول: إن عمر كان يفتي بمقتضى الخبر الذي أوردناه.
وأما خبر عثمان في النهي فأخرجه مسلم والنسائي وغيرهما، وفيه
عندهم أنه رجع عنه، رواه سعيد بن المسيب قال: حج علي وعثمان، فلما كنا ببعض الطريق، نهى عثمان عن التمتع، فقال على: إذا رأيتموه قد رحل فارتحلوا، فبقي علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم أخبر أنك تنهى عن التمتع؟ قال: بلى، قال له على: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟! -
قال - يعني عثمان -: بلى.
قلت: فظاهر هذا أنه كان ينهي عن ذلك على نحو ما كان ينهي عمر.
وقد جاء في البخاري عن عمران بن الحصين: " تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن، وقال رجل برأيه ما شاء ".
فقال الحافظ: في الحديث ما يعكر على عياض وغيره من جزمهم بأن المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحج إلى العمرة، لا العمرة التي يحج بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها متعة الحج.
قلت: نعم هو الصواب، والذي قال بالنهي عن فسخ الحج إلى عمرة، وأن ذلك كان للنبي وأصحابه في حياته صلى الله عليه وسلم، هو أبو ذر رضي الله عنه.
وأصرح ألفاظه في هذا، ما أخرجه الدارقطني في سننه وغيره قال: لم تكن متعة الحج لأحد أن يهل بحجة، ثم يفسخها بعمرة، إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخبر ابن الزبير أخرجه مسلم وغيره باختصار، لكن فسره الإمام أحمد في روايته قال: خرج علينا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فنهى عن
التمتع بالعمرة إلى الحج، وأنكر أن يكون الناس صنعوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: وما علم ابن الزبير بهذا، فليرجع إلى أمّه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، فليسألها إن لم يكن الزبير قد رجع إليها حلالاً وحلّت.
فبلغ ذلك أسماء فقالت: يغفر الله لابن عباس، والله لقد أفحش، قد والله صدق ابن عباس، لقد حلوا وأحللنا، وأصابوا النساء ".
قلت: ظاهر كلامها أن الزبير قد حل مع من حلوا، وليس كذلك، ففي مسلم أن الزبير كان قد ساق الهدي، فلم يحل، وأما أسماء فلم يكن معها هدي فحلت، فقال لها الزبير: قومي عني، فقالت: أتخشى أن أثب عليك.
وأما خبر نهي معاوية فأخرجه الترمذي وأحمد عن ابن عباس قال: " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية ".
قلت ففي هذا فوائد، منها أن عمر وعثمان لم يكونا ينهيان عنها كما قدمنا، وإنما لهما في ذلك التأويل الذي قدمناه.
وقال النووي: كان عمر وعثمان ينهيان عن ذلك نهي تنزيه لا تحريم. وقال أبو الطيب في شرح الترمذي: ويمكن الجمع بين فعلهما ونهيهما، بأن الفعل كان متأخراً لما علما الجواز، ويحتمل أن يكون الفعل لبيان الجواز.
قلت: فبهذا يجاب عن قول ابن عباس بأن معاوية أول من نهى عن ذلك، أي أن نهيه، إنما كان للتحريم، ونهي من قبله لم يكن كذلك.
ولا ينقضي عجبي، كما لم ينقض عجب ابن عباس له، كما في لفظ أحمد لخبر ابن عباس المتقدم وفيه: قال ابن عباس: " وقد حدثني - يعني معاوية - أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ". وإنما كان التقصير لعمرة قطعاً، أو في حجته.
فأما في العمرة فلا وجه لعجب ابن عباس.
وأما في الحج، فمع اختلافهم في كونه صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، أو قارناً، أو تمتعاً - على عبارة من يطلق التمتع على القِران مجازاً - فإنهم لم يختلفوا أنه لم يتحلل بعد إحرامه إلى أن قضى حجه، وقال:" لولا أني سقت الهدي لأحللت ".
فعرف من هذا أيضاً أن تقصير معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته، ليس للتمتع. وصرح أبو داود في روايته أنه في الحج.
فالعجب من عجب ابن عباس!
ثم حديث معاوية في التقصير، لولا أنه في البخاري ومسلم، وتأبى هيبة الصحيح الكلام عليه، لقالوا بانه لم يكن في حجته تقصير منه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو حلق يوم النحر، ليس قبله تقصير ولا بعده، إلا أن يكون الخطأ في رواية أبي داود.
ومما يقوي أنه كان في عمرة، رواية للنسائي صرح فيها بذلك.
وفي أخرى للنسائي: قال قيس - أحد رواة الخبر -: والناس ينكرون هذا على معاوية.
لكن لعل ابن عباس كان يرى في قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع: التمتع الذي فيه إحلال، حتى يصح تعجبه.
فهذا والله أعجب منه، مع سعة علمه وتحريه في المسائل. والله أعلم، ويا ليتنا نقطة في بحره.
الخلاصة:
وملخص ما تقدم أن القول بظاهر الخبر الذي أوردناه، لا يثبت إلا عن معاوية رضي الله عنه، وعن ابن الزبير احتمالاً.
الوصل الأخير في ذكر من ذكر أن الإجماع على خلاف الخبرين وجواب أهل العلم عنها:
قال البغوي: أجمع العلماء على جواز تقديم العمرة على الحج، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العمرة قبل الحج، وفي إسناده مقال. وإن ثبت فيحتمل أنه أراد على طريق الاختيار أمر تقديم الحج، لأنه أعظم الأمرين وأهمهما ووقته محصور، وأيام السنة كلها وقت للعمرة. انتهى.
وقال النووي: وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران من غير كراهة، وإنما اختلفوا في الأفضل. انتهى.
وقال ابن القيم: وأبو شيخ راوي الخبر ولو كان حافظاً لكان حديثه هذا معلوم البطلان، إذ هو خلاف المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله، فإنه أحرم قارناً، رواه عنه ستة عشر نفساً من أصحابه، وخير أصحابه بين القران والإفراد والتمتع، وأجمعت الأمة على جوازه.
ولو فرض صحة هذا عن معاوية، فقد أنكر الصحابة عليه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فلعله وهم، أم اشتبه عليه نهيه عن متعة النساء بمتعة الحج، كما اشتبه على غيره. انتهى.