الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والعشرون
في توريث المولى الأسفل معتقه
اعلم هدانا الله وإياك لفصل الخطاب، وتحقيق الصواب، أننا إنما قلنا الأسفل فيما ترجمنا به تبعاً للمدققين من أصحاب المعرفة في تبين المراد.
فالمولى كلمة تطلق على المعتق - بكسر التاء، والمعتق - بفتحها - فكانت مبهمة، فقيدوها بالأسفل لبيان المراد، وأن المقصود بالمولى: المعتق - بفتح التاء - لا سيّده الذي أعتقه.
واعلم أن هذا الحديث مسألته خاصة، ولا تعلق لها بغيرها من المسائل التي يوردها بعض العلماء في باب واحد من غير تفريق، وهو خطأ محض، ويقع الشراح في ذكر الفتاوى فيها في أخطاء لعدم التفرقة والتمييز بين المسائل.
فأكثر ما يقع الاشتباه بين هذه المسألة في توريث المولى الأسفل من سيده، وبين مسألة توريث الرجل ممن أسلم على يديه.
فخلط في هاتين المسألتين الشوكاني في النيل، والسندي في حاشية ابن ماجه، ومن المعاصرين إن شئت قلت سائرهم إلا قليلاً جداً.
وأما أهل التحقيق من المحدثين والفقهاء فكلامهم فيه بيّن جداَ مفصّل، في تقسيم الأبواب، وفي نقل مذاهب العلماء، كعبد الرزاق، وابن أبي شيبة وابن ماجه، وابن حزم، والبيهقي، وابن حجر وغيرهم.
والذي أوقع من ذكرناهم في هذا، إنما هو إيراد هذه الأحاديث من بعض المحدثين دون تفريقها تحت باب ميراث ذوي الأرحام، كما يفعل أبو داود وغيره، فوقع الوهم عند من لم يتدبر.
فأما مسألة توريث الرجل ممن أسلم على يديه، ففيها حديث تميم الداري، وأبي أمامة وغيرهما، ولفظ حديث تميم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الرجل: من أهل الكفر يسلم على يدي الرجل من المسلمين، ما السنة فيه ، قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته.
ولفظ حديث أبي أمامة: " من أسلم على يديه رجل فهو مولاه ".
في الباب عن عمر عند إسحاق بن راهويه، وسعيد بن منصور، وعن عمرو بن العاص عند الطبراني، وعن راشد بن سعد مرسلاً، عند مسدد وسعيد بن منصور.
وفيه آثار أيضاً.
وهذه المسألة هي التي ينقل أهل العلم، أن الجمهور على خلاف هذه الأحاديث كما في المغني لابن قدامة فإنه قال: فإن أسلم الرجل على يدي الرجل لم يرثه بذلك، في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن والشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقد روي عن أحمد رواية أخرى أنه يرثه، وهو قول إسحاق، وحكي عن إبراهيم أن له ولاءه ويعقل عنه، وعن ابن المسيب:" إن عقل عنه ورثه، وإن لم يعقل عنه لم يرثه ".
وعن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أنه يرثه وإن لم يواله.
لما روى راشد بن سعد قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلم على يديه
رجل فهو مولاه يرثه ويدي عنه " رواه سعيد، وقال:
حدثناه عيسى بن يونس ثنا معاوية بن يحيى الصدفي عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أسلم على يديه رجل فله ولاؤه ".
وروى بإسناده عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ فقال: " هو أولى الناس بمحياه ومماته " رواه أبو داود والترمذي وقال: لا أظنه متصلاً.
قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الولاء لمن أعتق " ولأن أسباب التوارث غير موجودة فيه، وحديث راشد مرسل، وحديث أبي أمامة فيه يحيى، وحديث تميم تكلم فيه الترمذي، انتهى.
قلت: وليس الأمر عند الحنفية على إطلاقه هنا، فلهم فيه شروطا ذكروها.
والحاصل هنا أن هذا الحديث على غير شرطنا لكثرة القائلين به، وأننا قد ميزنا بينه وبين حديث ابن عباس وهو الآتي في توريث العبد من سيده.
ذكر حديث ابن عباس الذي على شرطنا وليست الفتوى عليه.
وله طريقان:
الأولى: عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدع وارثاً إلا عبداً هو أعتقه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه.
أخرجها عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار فذكره بلفظ: " إن رجلاً مات ولم يدع أحداً يرثه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ابتغوا، فلم يجدوا أحداً يرثه، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه إلى مولى له أعتقه الميت، هو الذي
له الولاء، هو الذي أعتق.
وأخرجها عن ابن عيينة:
أحمد عنه، باللفظ الأول.
وعبد الرزاق عنه، مثل أحمد.
وابن ماجه عن إسماعيل بن موسى عنه، مثلهما.
والترمذي عن ابن أبي عمر عنه، مثلهم.
والبيهقي من طريق ابن المديني عن سفيان به، مثلهم.
وشيخه الحاكم من طريق الحميدي عن سفيان مثلهم وغيرهم.
وأخرجها عن حماد بن سلمة: أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد، باللفظ الأول والبيهقي عن شيخه الحاكم من طريق يزيد بن هارون عن حماد به، كذلك.
الثانية: عن عمرو بن دينار عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، بنحو اللفظ الثاني أخرجها الحاكم في مستدركه قال: أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد الخياط، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، أنبأ ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن عكرمة فذكره.
قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، إلا أن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، روياه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس. انتهى.
وقد قال البيهقي أيضاً بعد إيراد هذه الطريق: " وهو غلط لا شك فيه.
قلت: وهو الحق الأبلج، لأن الثقات عن ابن جريج ذكروه على الاستقامة كالطريق الأولى، فأخرجه أحمد عن روح عنه بالطريق الأولى، وكذا عبد الرزاق عنه.
ثم لو فرضنا صحته عن ابن جريج من جميع الوجوه، لما أمكننا القول بصحة هذه الطريق لمخالفة ابن جريج لمن هو أوثق منه كابن عيينة، وموافقة حماد لابن عيينة.
فرجع الحكم على الحديث من جهة الطريق الأولى حسب.
وهي ضعيفة من وجهين:
الأول: الكلام في عوسجة.
الثاني: عدم سماع عمرو من عوسجة.
أما الكلام على عوسجة، فلما ذكر أبو حاتم والنسائي، قالا: ليس بمشهور وقال الذهبي: مجهول.
وذكره العقيلي في الضعفاء، وساق له هذا الخبر وقال: لا يتابع عليه.
قلت؛ وهو كلام لا يفيد ضعفاً، لأن عدم الشهرة غير كافية للراوي في رد خبره، وجهالة الذهبي له مردودة، وقد عرفه غيره، بل ووثقه جماعة منهم أبو زرعة، وابن حبان، وذكر له ابن عدي غير حديث من طريق عمرو عنه.
نعم، هذا ينزل بالخبر عن الصحة إلى الحسن لو صح سائره، لكن بقيت العلة الثانية التي ذكرها البخاري.
العلة الثانية:
قال الإمام البخاري: روى عنه عمرو بن دينار ولم يصح.
وهنا أسجل مسألة عبد الرحمن لأبيه عن هذا الخبر، قال: سألت أبي عن حديث رواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس أن رجلاً توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثاً إلا مولى هو أعتقه. . . الحديث.
فقلت: إن ابن عيينة، ومحمد بن مسلم الطائفي يقولان: عن عوسجة
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اللذان يقولان: ابن عباس، محفوظ؟
فقال: نعم، قصر حماد بن زيد.
قلت لأبي: يصح هذا الحديث؟
قال: عوسجة ليس بالمشهور. انتهى.
قلت أنا أبو عبد الله: فظاهر مسألة عبد الرحمن أن في نفسه من رواية الإرسال شيء، التي هي من طريق حماد بن زيد، وقد أخرجها البيهقي وغيره، وكذلك ذكره مرسلاً روح بن القاسم، فتابع حماد بن زيد، والرواية عند البيهقي أيضاً. وأنه قد خطر عنده إعلاله برواية الإرسال، فلم يوافقه أبوه.
فإني منفصل هنا على أن الخبر لا يصح.
وصل في أن الفتوى ليست علي هذا الخبر، والجواب عنه:
قال ابن حزم في " المحلّى ":
مسألة: والعبد لا يرث، ولا يورث ماله كله لسيده، هذا ما لا خلاف فيه، وقد جاء به نص نذكره بعد هذا إن شاء الله، وروينا عن بعض الصحابة أنه يباع فيعتق فيرث، وهذا لا يوجبه قرآن ولا سنة فلا يجوز القول به. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني: " ولا يرث المولى من أسفل معتقه في قول عامة أهل العلم، وحكي عن شريح وطاووس أنهما ورثاه لما روى سعيد عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلاً. . . الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وروي عن عمر نحو هذا.
قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الولاء لمن أعتق " ولأنه لم ينعم عليه فلم يرثه كالأجنبي، وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قضية عين يحتمل أن يكون وارثاً بجهة غير الإعتاق، وتكون فائدة الحديث أن إعتاقه له لم يمنعه ميراثه.
ويحتمل أنه أعطاه صلة وتفضلاً ". انتهى.
وبمثل جواب ابن قدامة الأخير، أجاب القاري، فقال: وهذا الجعل
مثل ما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها في الذي أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته بطريق التبرع لأنه صار ماله لبيت المال. انتهى.
وقول المباركفوري مثله في شرح الترمذي وكذا السندي على ابن ماجه. قلت: وحديث عائشة أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه، والنسائي في الكبرى والبيهقي في السنن، وغيرهم.
ومثل هذا حديث بريدة في الذي توفي من الأزد فلم يجدوا له وارثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادفعوا ماله لأكبر خزاعة "، خرجه أحمد وأبو داود وغيرهما.
فقد ذكر أهل العلم أن هذه وقائع عين، يتخير فيها الإمام في صرف هذا المال على هذا النحو، وذهب بعضهم لظاهره.