الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصل في بيان حصول الاختلاف علي القول بهذا الخبر بين الصحابة ثم رجوعهم عن ذلك
، وقول من قال ذلك من التابعين ثم اتفاق الفقهاء من بعد علي ترك الفتوى بهذا الخبر:
قال البخاري رحمه الله في الصحيح:
" باب غسل ما يصيب من فرج المرأة ".
ثم أورد حديثين:
أولهما: حديث زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: " يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره ".
قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال زيد: فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك.
وثانيهما: حديث أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟
قال: " يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي ".
قال البخاري: الغسل أحوط، وذلك الآخر، وإنما بينا لاختلافهم.
قال ابن حجر: قوله " الآخر " أي آخر الأمرين من الشارع أو من اجتهاد الأئمة.
ثم قال الحافظ: وقوله " لاختلافهم " اللام تعليلية، أي حتى لا يظن أن في ذلك إجماعاً، ثم قال: واستشكل ابن العربي كلام البخاري فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري، وحكمه بأن الغسل مستحب. وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين. . .
ثم قال ابن العربي: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: " الغسل أحوط " أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، وهو أشبه بإمامة الرجل. انتهى كلام ابن العربي.
قال الحافظ معقباً: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة، كما استدل به على إيجاب الوضوء فيما تقدم.
ثم قال الحافظ: وأما نفي ابن العربي الخلاف فمعترض، فإنه مشهور عن الصحابة ثبت عن جماعة منهم. انتهى كلام الحافظ.
قلت: نعم ثبت هذا عن بعض الصحابة، لكن ثبت رجوع كثير منهم عن هذا القول، وربما رجع جميع من كان قال بذلك، فعندها يصح قول ابن العربي.
فقد أخرج الترمذي من حديث أُبي بن كعب قال: " إنما كان الماء من الماء " رخصةً في أول الإسلام ثم نهي عنه.
وأخرجه أبو داود بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود: يعني " إنما الماء من الماء ".
وفي لفظ آخر لأبي داود: إن الفتيا التي كانوا يفتون: " إنما الماء من الماء " كانت رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد "، وبنحوه لفظ ابن ماجه.
وهذا حديث حسن صحيح كما قال الترمذي، وهو مفهم أن كثيراً منهم إنما قال ذلك في أول الإسلام ثم رجع عن ذلك.
وقد صرح بذلك زيد بن ثابت في حق أبي في الموطأ فقال: " إن أُبيّ بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن جماعة من الصحابة اختلفوا في ذلك وقال الأنصاريون:" الماء من الماء "، فذهب هو لعائشة رضي الله عنها فسألها عن ذلك، فأخبرته بوجوب الغسل فأخبرهم.
فيبعد بعد هذا أن يكونوا بقوا على قولهم، والله أعلم، سيما وقد أخرج عبد الزراق بسند صحيح عن سهل بن سعد: إنما كان قول الأنصار: " الماء من الماء " رخصة في أول الإسلام ثم أخذنا بالغسل بعد ذلك إذا مس الختان الختان ".
ثم قال الحافظ: وادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضاً، فقد ذكر الخطابي من التابعين الأعمش وتبعه عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره.
قال الحافظ: وهو معترض أيضاً، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح.
قلت: وثبت في الموطأ أيضاً أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قد سئل عائشة عن ذلك فأخبرته بالصواب ووجوب الغسل، وعنَّفته، فلعله رجع عن ذلك، كما هو مشهور عنه في غالب ما كان يسأل عنه عائشة رضي الله عنها.
ثم قال الحافظ: وجاء هذا القول عن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح.
قلت: قول هشام في الخبر غير بيّن، ولفظه فيه:"لقد أصبت أهلي فأكسلت، فلم أنزل فما اغتسلت ".
فهذا محتمل لا مؤكد، لأنه ربما حكى واقعة حال كانت منه، لا أنه ذهب ذلك المذهب، وقد رأيت وضع عبد الرزاق لهذا الأثر، في موضع مناسب تماماً، يدل على عظيم توخيه فإنه أورد الأثر بين أحاديث الغسل من التقاء الختانين، وبين أحاديث الماء من الماء، حيث أنه لم يفصل بين الأحاديث بباب، وأوردهم جميعاً في باب واحد. مما يدل على توقفه - والله أعلم - في معرفة مذهب هشام بهذا الخبر، وهذه نكتة لطيفة عجيبة، كان الحافظ يتوقف عند أمثالها في الفتح.
ومعلوم أن علم هشام من أبيه عروة في غالبه، وكذا غالب علم عروة من عائشة، وجاء الحديث عن عائشة من رواية عروة عنها، كما عند ابن شاهين، والحازمي وغيرهما (وأنه كان يفتي بفتواها)، فاستبعدنا أن يكون مذهب هشام على الأمر المنسوخ، أو أنه قال بذلك ثم تراجع، فحكى واقعة حالٍ سابق له كما قدمنا.
ثم قال الحافظ: وقال عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريج عن عطاء أنه
قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس حتى آخذ بالوثقى.
قلت: فيه أن مذهبه مذهب الجماعة، وأما إثبات الخلاف فقد قدمنا الكلام عليه.
ثم قال الحافظ: وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث " الماء من الماء " ثابت، لكنه منسوخ، وقد خالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل.
قال الحافظ: فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب، والله أعلم.
انتهى كلام الحافظ.
قلت: حيث لم يذكر الشافعي مخالفه، فإننا ما اعتدينا بخلافه، لاحتمال كونه ممن لا يعبأ بخلافهم.
ولهذا فقد يصح - ولا نجزم بذلك - إطلاق من أطلق أن الإجماع منعقد بين الصحابة على إيجاب الغسل، كما نقله ابن عبد البر عن بعضهم ونقلناه من قبل عن ابن العربي، وكان أجمل ما فصلناه فقال:" فإن الصحابة اختلفوا فيها، ثم رجعوا عنها ".