الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: في بيان الشروط التي ذكرها أهل العلم للعمل بخبر الواحد
اعلم رحمك الله، وفتح عليك أنواع المعارف، أن أهل العلم قد ذهبوا مذاهب، وسلكوا مسالك، ووصفوا شرائط للعمل بخبر الواحد.
وهذه الشروط لمن تأملها تنقسم إلى نوعين، نوع يدخل في أصول علم الحديث، وآخر في أصول الفقه.
والحق أن النوع الأول المذكور في مصطلح الحديث، ليس من مباحث أصول الفقه أصلاً، وليس هو من أبوابه.
ولذلك تجد المصنفين في الأصول مضطربين في ذكر هذا النوع الأول، الذي يجعلونه في مباحث شروط الراوي للخبر.
كاشتراطهم فيه:
أ - الإسلام.
ب - والبلوغ.
خ - والعدالة.
د - والصدق.
هـ - والضبط والإتقان.
و- وأن لا يكون فاسقاً.
ز - ولا مبتدعاً.
ح - ولا متساهلاً في الرواية.
ط - ولا مشهوراً بجرح.
ي - ولا مدلساً.
أو كالذي يذكرونه من مباحث:
أ - عدد المزكين له.
ب - وتعارض الجرح والتعديل.
ج - وإتقان العربية.
د - وروايته للخبر الواحد، لا يعرف له غيره.
هـ - وألفاظ التحمل في الرواية.
وغير ذلك من المباحث التي يطرقونها في هذا الباب.
فترى كلاً منهم يقتصر من هذه المباحث على بعض دون بعض، ويشترط من ذلك أشياء دون أخرى، ومنهم من لا يطرق شيئاً من ذلك أصلاً.
ونحن لم نطرق شيئاً من مباحث هذه الأبواب، لأننا رأيناه من غير مبحثنا، ولا قصدنا، ولمعرفتنا بأن الخوض في مثل هذا يوجب استيعاب سائر علم مصطلح الحديث وقواعده ومباحثه، وإلا فلا معنى لبحث بعض فصوله دون الأخرى، ولأننا قد سلمنا أصلاً، وقلنا بالشرط الأول للعمل بالحديث وهو الصحة أو الحسن، وهذا مشتمل على سائر هذه المباحث وغيرها، مما تقتضيه سائر شروط تصحيح الحديث وتحسينه المقررة في أصول الحديث.
وسائر الأصوليين مقلّدون لأئمة الحديث في الحكم على صحة النص، فلا معنى لاشتراط الشرائط المنقوصة عليهم، وما هم ليسوا له بمحققين.
فأهل الأصول وإن اشترطوا الإسلام أو البلوغ أو العدالة أو غير ذلك من الشرائط المتوجبة في الراوي، فإنهم غير قادرين على إثباتها فيه إلا عن طريق أهل الحديث والخبر، فهم مقلدون لهم فيه أولاً وآخراً.
والقول بعدالة الراوي وصدقه إنما مردها لأئمة أهل الحديث أهل الجرح والتعديل، ولا دخل للفقهاء والأصوليين فيه، وقصارى أمرهم أن يجتهدوا في الترجيح بين ألفاظ أهل الجرح والتعديل، ومعرفة مرادهم الذي حكوه في هذه الألفاظ، التي توجب التحري الواسع في تحديد مقاصدهم.
فهذا ابن سيرين يقول في رجل: " هو كما يعلم الله "، ويقول في آخر:" هو كما يشاء الله "، فإذا هو قد جرح الأول وعدّل الثاني.
وهذا البخاري الإمام يقول في الرجل: " فيه نظر " فاختلف الناس في مراده بهذا، وما يزالون مختلفين إلى الساعة، ونحو هذا أشياء.
ومعرفة علل الحديث قام بها أطباء هذا العلم وجهابذته، قد اقتصرت عليهم، بل وغاب الدليل على معرفتها عندنا في غير حديث، بل في جملة وافرة، وما حرر أحد في شيء من قواعدها، ولا يمكن أن يحرر، ومعرفة ذلك كما قال بعض السلف: يحسبها الجاهل كهانة، فإذا رأيت الاثنين والثلاثة والأربعة يعلّون هذا الحديث الواحد بالعلة الواحدة، التي لا تراها، علمت أنهم إنما يعلون بالموجود الواقع.
والحاصل أن مثل هذا في الحكم على الأحاديث يطول ذكره، وهو مسلّم لأهله، فلنبدأ الشروع في النوع الآخر الذي هو من مقاصد هذا الكتاب، وفيه شروط:
1 -
الشرط الأول: في عدم عمل الراوي بخلاف ما يرويه:
أ - في بيان قصدهم بالراوي:
والذي عناه الأصوليون بقولهم " الراوي " إنما هو الصحابي راوي الخبر، لا من دونه في السند، فإنه لا عبرة بعمله بخلاف الحديث.
وهذا الحصر لا بد منه، ما دام المسندون للحديث لا ينقطعون إلى قيام الساعة، فالقول بغير هذا يقضي إلى أن كل الأحاديث قد تبطل حجتها إن لم نقل بهذا التقييد.
ب - في القائلين بهذا الشرط:
وهذا الشرط قد قال به الحنفية إلا قليلاً منهم وخالفهم سائر الأصوليين فيه.
ج - في ذكر ما احتجوا به ومناقشتهم، وبيان ضعف دليلهم. واحتجوا فقالوا: لما كان الصحابي راوي الخبر قد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان أعرف بمقاصده، وما كان له أن يخالف الذي رواه إلا وهو له ما يعتمد عليه.
والجواب عنه هذا: إن المقتضي للعمل الذي هو الخبر المروي قائم صحيح، والمعارض الموجود من مخالفة الراوي أمر محتمل، لأنه قد يكون تمسك بالمخالفة بما
ظنه دليلاً، مع أنه ليس كذلك، أو كان يكون نسي ما رواه، فلا يصلح هذا أن يكون معارضاً.
فإن قلت: إن الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل.
قلنا: نعم، إن دينه يمنعه عن الخطأ العمد، لا عن السهو وما ليس بعمد، والمرء يصيب ويخطئ، فلما لم يتبين لنا وجه دليله، لم يكن عندنا من العلم، ونحن مطالبون بما بلغنا من العلم المقطوع بنسبته للشارع، لا بالمظنون، وما قد لا يكون حجة أصلاً.
ومثال هذا الشرط: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب " وله ألفاظ أخرى كثيرة.
وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة موقوفاً، وكذا الطحاوي، أنه كان يغسل من ولوغه ثلاث مرات.
فحمل الحنفية رواية السبع على الاستحباب، والثلاث على الوجوب. وقد تعقب عليهم في هذا الفرع بالذي تعقبناهم به في الأصل، فقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع، ولا التتريب، واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور منها، كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث
غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع، وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك - أو فعله - لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، وأيضاً فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعاً، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد، ومن حيث النظر.
أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير
…
" انتهى.
وقد أوردت هذه التتمة الباقية للحافظ في هذه المسألة للإشارة إلى أن الفتوى أو العمل المنقول عن الراوي في مخالفة الخبر، قد يكون له مخالف آخر للفتوى، وموافقة للخبر، في رواية موقوفة عنه أخرى، لم تبلغنا.
وهذا جائز جداً، لأن فتاوى الصحابة لا تتطلب، ولا يحرص على نقلها، كما هو الحال في رواية الخبر المرفوع، فأبطلنا العمل بعمل الصحابي أو فتواه المخالفة لما روى لأجل هذه العلة الثالثة المحتملة.
فإن قلت: قد يكون صلى الله عليه وسلم قال وفق فتوى الصاحب أو عمله أيضاً ولم يقع ذلك في النقل عنه صلى الله عليه وسلم، كما هو على ما احتملت في محل الصاحب.
قلنا: هو احتمال مردود، لأن النصوص عن الشارع قد ضمن حفظها وبقاؤها في سائر العصور كما هو مقرر، بخلاف عمل الراوي فإنه ليس كذلك، فوقع الاحتمال في فتوى الراوي، وبطل في الثاني.
فوجود هذه الاحتمالات غير المدفوعة يبطل هذا الاستدلال، لما تقرر عند أهل العلم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل في الاستدلال. والله أعلم.
2 -
الشرط الثاني: أن لا يكون الحديث مما تعم به البلوى، ويكثر وقوعه:
أ - في بيان مقصدهم:
فمرادهم أن حديث الواحد يجب أن لا يكون موضوعه فيما يتكرر حدوثه، وتعمّ به البلوى، إذ أن ما يكون كذلك فالواجب إتيان الحكم فيه عن طريق التواتر أو الشهرة لا الآحاد، لأن الدواعي متوفرة على نقله، فحيث انفرد به الواحد، دل على شك في صحة ذلك، ومثله لو كان الحادث في الخبر المهم.
كما لو انفرد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق، أو طروء حادثة في البلاد منعت من إقامة صلاة الجمعة.
ومثال الذي تعم به البلوى كخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل، وخبره في رفع اليدين في الركوع ". ونحو هذا.
فإنهم قالوا: لا يعمل بخبر الواحد في مثل هذه الوقائع بهذه الأحكام المروية آحاداً.
ب - في ذكر القائلين بهذا الشرط:
وقد تفرد الحنفية من بين المذاهب بالقول بهذا الشرط
ج - بيان ما احتجوا به، وفساد احتجاجهم:
قالوا: إن ما تعم به البلوى، أو يجب اشتهاره وإشاعته، لا يمكن أن يقتصر به على رواية الآحاد، أو مخاطبته صلى الله عليه وسلم للآحاد به، بل يلقيه على عدد متواقر مبالغة في إشاعته ونشره، لكثرة الحاجة إليه، فحيث لم ينقله لنا سوى الواحد دل على كذبه!!
فالوضوء من مس الذكر مما يتكرر في كل وقت، فلو كانت الطهارة تنتقض به، لوجب إشاعته في الرواية.
والجواب عن ما زعموه حجة وليس كذلك من أربعة أوجه:
أ - الأول: عن طريق النص:
وقد قدمنا من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة قبل عند ذكر دليل الاحتجاج بخبر الواحد، ولم يقع التفريق في واحد من هذه النصوص بين ما تعم به البلوى، وبين ما لا تعم، فقامت الحجة بخلاف هذا الشرط، إذ أن المقرر عند علماء الأصول وسائر أهل العلم قاطبة أن التخصيص لا يكون إلا بدليل نص، وهو هنا مفقود، كما هو في مسألة الإطلاق، فإن التقييد لا يكون إلا بما هو مثل حكم الإطلاق.
فالاستدلال بالمعقول في معارضة المنقول باطل، لأن أحسن أحوال المعقول أن يكون معروفاً بالقياس الجلي، والقياس الجلي أو غيره لا يمكن له أن يدفع النصوص أو يخصصها أو يقيدها، لأن القياس باطل في معرض النص، فتبين أن دلالة النص على العموم أقوى من القياس القاضي بالتخصيص.
وهذا القول يفضي للإجابة على شرط آخر قال به بعض الناس وهو أن لا يخالف الخبر القياس، على ما سيأتي بيانه والجواب عنه إن شاء الله تعالى في الشرط التالي.
ب - الثاني: عن طريق الحوادث التي بلغتنا في العمل من الصحابة
بهذه الأخبار دون اعتبار الشرط المذكور. وبعض أهل العلم يجعل الإجماع قائماً بين الصحابة في هذا، فيحتج بالإجماع.
أقول: وحيث أن المخاطب بهذا الرد هم الحنفية، وهم يحتجون بخبر الآحاد من حيث الأصل فإن الواجب عليهم التسليم إن صحت هذه الأخبار، لا إلزاماً بالحكم بالقضية الواردة في خبر الواحد هذا، ولكن ببيان أن الصحابة عملوا بالخبر دون اعتبار هذا الشرط، ثم يكون إلزامهم من بعد بترك الشرط، والعمل بهذه الأخبار.
فمن ذلك حديث رافع بن خديج في المزارعة عند الشيخين وغيرهما.
ففي رواية عند الشيخين: أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدراً من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه وأنا معه، فسأله، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم ابن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها.
وفي رواية لمسلم: " كنا لا نرى بالخبر بأساً، حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه من أجله ".
وللحديث ألفاظ كثيرة جداً يطول ذكرها.
فها هو ابن عمر وغيره - كما في اللفظ الآخر - يرجعون لخبر الواحد في الأمر الذي تعم به البلوى، هذا مع كونهم كانوا قبل معرفته على خبر آخر، وهو نقيضه.
فكيف لو لم يكونوا على خبر أصلاً.
ومن ذلك حديث تحويل القبلة الذي قدمناه في دليل الاحتجاج بخبر الواحد.
وكذا حديث توريث الجدة الذي رجع له أبو بكر وعمر، وذلك فيما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم، من حديث قبيصة بن ذؤيب، أنه قال:" جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، فقال: " مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس ".
فسأل الناس.
فقال المغيرة بن شعبة: " حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس ".
فقال أبو بكر: " هل معك غيرك ".
فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة.
فأنفده لها أبو بكر.
قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها ".
والحاصل أن في الباب أمثلة غير قليلة تتطلب من مظانها.
ج - الثالث عن طريق المعقول.
وهو وجهان:
أحدهما: أن الراوي عدل ثقة، وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه، وذلك يغلب على الظن صدقه، فوجب التصديق كخبره الذي لا تعم به البلوى.
ثانيهما: أن العمل بالقياس صحيح في المسائل التي تعم بها البلوى، فكان إعمال النص فيها أولى من إعمال القياس، على فرض وقوع مسألة قياسية في مثل هذه المسائل.
وبعض الفقهاء يعبر عن هذا الوجه بقوله: " أنه يغلب على الظن صدق خبر الواحد، فكان الواجب الاتباع كالقياس. لأن المسألة ظنية، فكان الظن فيها حجة ".
د - الرابع عن طريق الإلزام:
فإنه لما كان الحنفية هم القائلون بهذا، كان يلزمهم أن لا يقولوا بحديث مسح الرقبة في الوضوء، ولا بالقهقهة في الصلاة أنها تبطل الوضوء، ولا بوجوب الغسل من غسل الميت، ولا بحديث إفراد الإقامة، وغيرها، وقد جاءت هذه الأحاديث آحاداً، بل وكثير منها ضعيف مع إفراده، كحديث مسح الرقبة، والقهقهة، وغير ذلك.
فلما قال الحنفية بمثل هذه الأحاديث الآحادية الضعيفة الإسناد، لزمهم أن يقبلوا خبر الواحد من غير شرطهم هذا.
3 -
الشرط الثالث: في عدم مخالفة الخبر للقياس:
أ - بيان ذكر القائلين بهذا الشرط، وبيان مقاصدهم في ذلك:
اعلم رحمك الله أن الفقهاء يعنون بالمخالفة تفصيلات وأموراً:
الأول: أن يكون كل من الخبرين معارضاً للآخر معارضة تامة من كل وجه، كأن يكون أحدهما مثبتاً لحكم والآخر نافياً، أو كان يكون الخبر محللاً، والقياس محرماً، أو العكس.
فذهب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء إلى تقديم النص على القياس، وهو مذهب أبي حنيفة على كل حال وكذا من تقدم.
وذهب بعض المالكية إلى تقديم القياس.
وقال عيسى بن أبان الحنفي: إذا كان الراوي ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه، قدم خبره على القياس، وإلا فهو موضع اجتهاد.
وكذا فرق بعض الحنفية بين الحديث الذي رواه الفقيه، وبين الذي لا يرويه الفقيه.
الثاني: في علة القياس:
فقال أبو الحسين البصري: علّة القياس الجامعة إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة: فإن كانت منصوصة، فالنص عليها - يعني أنه يقدم القياس - لأنه إما أن يكون مقطوعاً به أو غير مقطوع.
فإن كان مقطوعاً به، وتعذر الجمع بينهما، وجب العمل بالعلة، لأن النص على العلة، كالنص على حكمها، وهو مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، فكانت مقدّمة.
وأما إن لم يكن النص على العلة مقطوعاً به، ولا حكمها في الأصل مقطوعاً به، فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن، أو اختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة، بخلاف النص الدال على العلّة، فإنه يدل على الحكم بواسطة العلة.
وأما إن كان حكمهما ثابتاً قطعاً فذلك موضع الاجتهاد.
وأما إن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتاً بخبر الواحد أو بدليل مقطوع به، فإن كان ثابتاً بخبر واحد، فالأخذ بالخبر الأولى، وإن كان ثابتاً قطعاً فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس " انتهى.
فمعنى قوله أنه يجتهد في هذا الأخير.
وتوقف القاضي أبو بكر الباقلاني.
وقال أبو الحسين الصيمري: لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة.
قلت: كذا قال، وهو مردود بما قدمنا.
الثالث: أن يكون أحد الخبرين مخصصاً للآخر. واختلافهم في هذا يشبه اختلافهم في الأول.
الرابع: في القياس الظني والقياس القطعي.
وهو يشبه الثاني، لكن لما كان بعضهم يطلق هذه التسمية دون الأخرى أفردناها هنا. فيمكن مراجعة أقوالهم هناك.
ويزاد هنا قول أبي بكر الأبهري الذي قال: إن كانت المقدمات قطعية قدم القياس، وإن كانت ظنية قدم الخبر.
ب - بيان فساد الشرط المذكور.
وهو مردود بوجهين نقلي وعقلي:
أما الوجه النقلي:
فإن فيه أحاديثاً كثيرة جدا قد تقدم منها بعضها، كما في تصريح عمر برد الرأي وتركه عند وجود النص، وكذا غيره ممن قدمنا ذكرهم.
وهذا إنما أخذه عمر وغيره من قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأما في كتاب الله تعالى ففيه قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
وقوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
وقوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
وهذا الأمر في نحو من بضعة وثلاثين قولاً في كتاب الله تعالى.
وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
ففي هذه الآيات وغيرها كثير، تقديم النظر في أمر الله ورسوله من النصوص، ولا يجوز النظر للمسألة بالرأي والقياس، في مسألة جاء الحديث نصاً فيها.
ولذلك أجمع الفقهاء على بطلان القياس في معرض النص، فلم يعد للاستثناء لهذا الآحاد من جملة هذه الأحاديث معنى، ولا دليل، ما دامت قد ثبتت لها الصحة.
إنما القياس كما قال بعض السلف كالميتة، لا يعمل به إلا عند الاضطرار.
ولذلك مدح الله تعالى مطيعي الرسول، وذم مخالفيه وتوعدهم فقال جل ذكره:(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . .).
وقال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. . .).
وأي خيانة أعظم من مخالفة أمره الثابت الصريح عنه. الذي بلغ به عن ربه عظم عزه.
وقد قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
والعمل على غير حكمه باطل، كما قال تعالى:(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33).
والآيات في هذا المعنى من الكتاب كثيرة جداً.
وأما ما جاء من هذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فأشهره حديث معاذ قال: يا رسول الله، بم أقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم أجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم أجد؟ قال: استدق الدنيا، وتعظم في عينيك ما عند الله، واجتهد رأيك فيسددك الله للحق ".
وله ألفاظ أخرى بنحو هذا.
وقد تنازع الناس في صحة هذا الخبر.
والذي قدمناه يستغني به عن هذا الخبر، وعن مؤونه الجزم بصحته.
فإن قال قائل: نحن نقر بجميع هذا الذي ذكرت، ولكن لا نسلم بأن القياس الذي حكمنا به ليس هو من العمل بالسنة لأنه آتٍ منها.
فإن الجواب ها هنا هو الوجه العقلي.
ذكر الوجه العقلي:
إن الخبر يحتاج إلى النظر في ثلاثة أمور:
أ - صحة الحديث ومتعلقات ذلك.
ب - دلالة الخبر على الحكم.
ج - توفر شروط العمل به - عند من له شرط لذلك -.
وأما القياس فيحتاج إلى النظر في سبعة أمور:
أ - منها الثلاثة الأول.
ب - إمكان تعليل الحكم في الأصل ووصف التعليل.
ج - نفي المعارض له في الأصل.
د - وجود العلة في الفرع.
هـ - نفي المعارض في الفرع.
ومعلوم عقلاً أن ما يفتقر في دلالته إلى النظر في ثلاثة أمور لا غير، أيسر في الضبط والإتقان، وأبعد عن الخطأ عما يحتاج النظر فيه من سبعة أوجه.
ولتأكيد هذا الذي حكمنا به، نورد ما سقط فيه القياسيون من التناقضات والأخطاء، وبيان ما قالوه في بعض الأحكام الثابتة: إنه مخالف للقياس مع حكمهم بهذه الأحكام!!.
" ملحق أول " في تناقض القياسيين في أصول القياس:
فإن الواجب معرفته هنا أن القياسيين قد اضطربوا في تحديد المقبول من أنواع القياس وأسسه، مما يدل على انتفاء الضبط، وقلة الاحتياط.
فغلاة الفقهاء يحتجون بقياس العلة،، وقياس الدلالة، وقياس الشبه، وقياس الطرد، مما أدى بهم إلى مخالفة سائر الفقهاء في أحكام لم يتنازع فيها غيرهم، كمسألة التطهر بالمائعات.
وطائفة يحتجون بالثلاثة الأول حسب.
ثم إن القائلين بقياس العلة اختلفوا أيضاً: فطائفة لا تثبت العلة إلا بالنص. وأخرى تثبتها بالنص والنظر. ثم اختلف القياسيون بمحل القياس. فقالت طائفة: لا يثبت القياس في الأسماء.
وقالت أخرى: بلى هو ثابت. ثم اختلفوا في تحديد مناطه. فأجراه جمهورهم ولم يقيد. واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط.
وثالثة منعت منهما مع الأسباب.
(ملحق آخر) في تناقض القياسيين في مسائل مخصوصة.
فقد أجاز الحنفية الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه.
فإن كان صح قياسهم، فلم تركوه في القول الآخر.
وإن كان باطلاً فلم أعملوه في القول الأول.
وفي مسألة الطهارة من سؤر الكلب. منعت طائفة من القياس على الكلب. وطائفة قاست عليه الخنزير وحده. وثالثة قاست عليه البغل والحمار! أفصح القياس أم لا؟! أم كيف يصح قياس الخنزير دون الذئب!! وكيف صح قياس بعض ما هو أدنى منهما دون بعض!! وتناقضوا في مسألة العمد والنسيان فقاسوهما في الصلاة على بعضهما، وتركوا قياسهما في الصوم وترك التسمية على الذبيحة، بل وعلى آخر الصلاة!!
فكيف صح لهم قياسهم في أول الصلاة، ثم لم يصح معهم في آخرها، فأبطلوه!! محتجين على الفارق بخبر واهٍ، مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة التي جعلت تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم.
فواعجبي من اشتراط هؤلاء الشروط للحديث الصحيح الصريح، وترك قبول الأساطين، مع تلقفهم واهي المنقول، وسفساف ما ينسب للعقول، وما هو منها!!.
وقد ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله في " الأعلام " أشياء من هذا كثيرةً جداً نحيل عليها.
4 -
الشرط الرابع: في وجوب عرض الخبر على الكتاب:
قد ذكر هذا الشرط بعض من صنف في الأصول، دون أكثرهم.
والصواب إهمال ذكره هنا، كما هو فعل الأكثر، لأنه ليس من مباحث قبول خبر الآحاد كما هو ظاهر.
فإن الواجب في كل حديث عرضه على النصوص الثابتة في المسألة من الكتاب أو السنة الصحيحة.
فإن كان للخبر مثله فعندها تصير المسألة في إحدى هذه المباحث.
أ - الناسخ والمنسوخ.
ب - العام والخاص.
ج - المطلق والمقيد.
د - تحقيق المناط أو تنقيحه.
ويزاد على هذا إن كان النص الآخر من القرآن مسألة جواز نسخ القرآن أو تخصيصه أو تقييده بالسنة أم لا، كما هو مذكور في مسائل القرآن العظيم.
فبهذا يعرف أن الشرط المحكي ليس من مباحثنا. ولكن نبهنا عليه.
5 -
الشرط الخامس: أن لا يخالف عمل أهل المدينة:
أ - المقصود بعمل أهل المدينة:
اعلم رحمك الله ووفقك أن المقصود بعمل أهل المدينة أنواع وأقسام، يدخل بعضها في بعض، وأنه لا يصح إطلاق هذه الأنواع دون تبيينها لمعرفة مذاهب الناس في قبولها واعتبارها، أو تركها وإهمالها.
فوجب من هذا، التعريف بأن عمل أهل المدينة على أربع مراتب:
أ - المرتبة الأولى:
في المنقول طبقة بعد طبقة، من العلماء والعوام، ولا يعرف له مخالف بينهم عمل بخلافه.
2 -
المرتبة الثانية:
العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
3 -
المرتبة الثالثة:
العمل الجاري في المدينة ساعة طلب الحكم، الذي تعارض فيه دليلان أو شبههما.
4 -
المرتبة الرابعة:
العمل المتأخر بالمدينة.
ب - بيان ذكر من احتج بعمل أهل المدينة:
أما المرتبة الأولى فإن المشهور بين العلماء قبولها كما أطلق شيخ الإسلام في " صحة أصول مذهب أهل المدينة " وقال: هو حجة باتفاق!!
وهذا الإطلاق منه عجيب جداً، لأنه لا يعدو كونه إجماعاً لأهل المدينة، والمعلوم عند سائر علماء الأصول أن إجماع أهل المدينة ليس بحجة عند الجمهور إلا المالكية الذين قالوا به.
حتى قال الشافعي في " اختلاف الحديث ":
قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحداً ذكر قوله إلا عابه، وإن ذلك عندي معيب.
وقال الجرجاني: " إنما أراد مالك بالإجماع الفقهاء السبعة وحدهم ".
والذي أراه أن الإتفاق الذي أورده شيخ الإسلام ابن تيمية، إنما هو صحيح فيما لو اقتصر على مسائل مخصوصة كالحكم في المقادير المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم عندهم في معرفة مقدار المد والصاع ونحوهما، أو كمعرفة حدود مسجده، وروضته، ومكان المنبر، والأذان، وأشياء من هذا مخصوصة، فإنه لم يذكر تحت هذا الباب إلا مسألة الصاع والمد، ومسألة صدقة الخضروات، وتعريف أحباس بعض الصحابة.
فهذا الذي من الواجب حصر كلامه فيه، حتى لا يلزم الخطأ.
وقد بسطت القول على معرفة المراد من إجماع أهل المدينة في أول " تقريب المدارك " بما لا يوجد في غيره.
وأما المرتبة الثانية:
فهي حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي كما يذكر
ابن تيمية رحمه الله، ويقول: قال الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء، فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق.
قال شيخ الإسلام: وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنَّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد: كل بيعة بالمدينة فهي خلافة نبوة.
ثم قال شيخ الإسلام: والمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة. وانتهى.
قلت: لكن الواجب هنا التفرقة بين احتجاج مالك والشافعي، واحتجاج أحمد وأبي حنيفة، فالأولان أرادا عمل أهل المدينة، والآخران أراد عمل الخلفاء.
هذا وليعلم أنه قد خالفهم من أتباعهم في هذا غير قليل.
وأما المرتبة الثالثة:
فقد ذهب مالك والشافعي، إلى جواز الترجيح بها، ومنع من ذلك أبو حنيفة، واختلف فيه أصحاب أحمد على الوجهين.
وأما المرتبة الرابعة:
فلم يجعلها أحد من أهل العلم حجة شرعية، إلا ما ذكر عن بعض أهل المغرب من المالكية، وإلا فإنه لا يحتج أحد من أصحاب المذاهب الأربعة ولا أتباعهم بها إلا من ذكر.
وذلك لأن القول بهذه المرتبة يفضي لحمل سائر الناس، على مذهب أهل المدينة في سائر المسائل. وهو محال.
استلحاق:
والحاصل أن المرتبة الأولى يمكن إحالتها على مسائل الإجماع، وأن الثانية لا أثر لها لأنه لا يكاد يعرف عمل قديم لأهل المدينة قد عمله الخلفاء وهو مخالف للسنة، وأن الثالثة، لم تعد حجة بذاتها، ويكون العمل للخبر، وأن الرابعة غير معتبرة.
فلم يعد عندنا من شرط واجب الحصول في هذا الباب، فليتأمل.
ولذلك تركنا ذكر الدليل والجواب عنه. والله أعلم.
6 -
الشرط السادس: أن لا ينكر الشيخ رواية الفرع عنه: وظاهر هذا الشرط أنه من مسائل أصول مصطلح الحديث، لكنه غير مذكور في مصنفاتهم الحديثية الاصطلاحية عند أكثرهم، والصواب ذكره.
أ - بيان هذا الشرط وذكر القائلين به: فصورة هذا الشرط أن يتحدث الشيخ بالحديث، ثم يسمع من حدثه يحدث به عنه، فيزعم أنه ما حدث به، منكراً أو جاحداً، أو مكذباً، أو ناسياً، أو متوقفاً، أو محتملاً.
ومذهب مالك والشافعي وأحمد فيه - في أصح الروايتين عنه - ومذهب أكثر المتكلمين جواز العمل بالحديث، وعدم اعتبار هذا الشرط للعمل بالخبر.
خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب أحمد. هذا في الصورة الغالبة كما سيأتي.
ب - بيان أن ليس للقائلين بالشرط حجة، وأن الحجة مع من خالفهم: قال الشيخ الآمدي في " الإحكام ": الإنكار لا يخلو، إما أن يكون إنكار جحود وتكذيب للفرع، أو إنكار نسيان وتوقف.
فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر - لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، ولا بد من كذب أحدهما، وهو موجب
للقدح في الحديث، غير أن ذلك لا يوجب جرح واحدٍ منهما على اليقين، لأن كل واحد منهما عدل، وقد وقع الشك في كذبه والأصل العدالة، فلا تترك بالشك.
وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحدٍ منهما في غير ذلك الخبر - وهذا نادر جدا - وأما إن كان الثاني فاختلفوا فيه - على ما تقدم، وهو الموجود -.
ودليل الجواز: الإجماع والمعقول:
أما الإجماع فما روي أن ربيعة بن عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد.
ثم نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . الحديث. ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك. فكان إجماعاً منهم على جوازه ". انتهى.
قلت: حكاية الإجماع هذه فيها نظر بين، لأنه قد لا يكون بلغ هذا جميعهم، أو أنه بلغ بعضهم فأنكره، ولم يبلغنا إنكاره.
ثم هو على مذهب: " لا ينسب لساكت قول " غير معتبر أصلاً في الإجماع، إلا أنه مفيد الراوي وشيخه ومن دونهما، ومن أورد الخبر من الأئمة ورواه أنه مقبول عندهم، وهذا مهم جداً، لكثرة من أخرج هذا الخبر.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن الفرع عدل، وهو جازم بروايته عن الأصل غير مكذب له، وهما عدلان، فوجب قبول الرواية والعمل بها.
الثاني: أن نسيان الأصل لا يزيد على موته وجنونه، ولو مات أو جنّ، كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً، فكذلك إذا نسي.
فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة، فلا حجة فيها لاحتمال أن سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه، ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة.
ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الإبل، فأجنبت فتمعكت في التراب، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما يكفيك أن تضرب. . . فلم يقبل عمر من عمار ما رواه، مع كونه عدلاً عنده.
فالجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية. أنه لو كان كذلك لانطوى ذكر ربيعة، ولذكر الحديث عن أبيه عن أبي هريرة دون ذكر ربيعة.
وأما في قصة عمر، فلم يكن عمار راوياً عن عمر، وإنما كان شاهداً للقصة كلها راوياً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وثمة وجه ثالث في المعقول وهو: إن كلام الفرع على فرض صحته له شاهدان: كلام الشيخ، وسماع الراوي عنه، بخلاف الأمر على فرض صحة كلام الأصل فإنه ليس له إلا شاهد واحد غير محسوس.
وحصول الوهم في الثاني أغلب بكثير من حصوله في الأول.
فوجب القبول بكثرة عدد الشهود، والعمل بالمحسوس، وقلّة الوهم، فهذه ثلاث أمور ليس أقوى منها في قبول الخبر.
وأما حجة المانعين من القبول بقياسهم الرواية على الشهادة. فلا
يصح، لأن باب الشهادة فيه اعتبارات وقيود ليست في الرواية كالعدد والحرية والذكورية، وعدم قبول العنفة أو التحديث عن من شاهد وغير ذلك.
بل إن قياس الشبه يقضي بالتفرقة بينهما على ما قدمنا في الشرط الثالث.
7 -
الشرط السابع: أن لا يأتي خبر آخر فيه عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه:
وهذا إنما ذكرناه تبعاً لمن ذكره هنا، والحق أن هذا ليس من مباحث شروط قبول العمل بحديث الآحاد، وذلك أن هذا الشرط إنما يأتي البحث فيه في سائر الأحاديث الصحيحة حتى ولو كانت متواترة.
فالواجب الترجيح بين أحد الخبرين، والعمل بأحدهما، كما قدمنا فيه القول مراراً، من العمل بمبحث الناسخ والمنسوخ، أو العام والخاص، أو المطلق والمقيد، أو بتحقيق أو تنقيح المناط.
وعلى فرض أي من هذه المباحث يكون الحديث قد عمل به، حتى في المنسوخ، فإنه يكون قد قبل لحين، ثم امتنع. خلافاً لمن أجاز النسخ قبل العمل بالمنسوخ.
والحاصل أن هذا ليس بشرط أصلاً، وإنما يذكره الأصوليون استطراداً، ولا يذكرون واحداً ممن يقول به.
وبسط القود على هذه المسألة في رسالة مفردة، في حكم قتل شارب الخمر في الرابعة إن شاء الله. ومثله:
8 -
الشرط الثامن: أن لا يكون خلاف عمل أكثر الأمة:
فهذا ليس بشرط كسابقه، ولا أعرف قائلاً يقول به، إلا من يلزمون الأخذ بكلام الجمهور، وهم زمرة قليلة، لا يحشر قولها مع أقوال أهل الفن والاختصاص.
وهذا إنما قلناه، وقاله غيرنا ممن سبقنا، لأنه كان تقرر قسيمه هذا في أن قبول أكثر الأمة للخبر. لا يوجب قبوله. فكذلك هنا.
9 -
الشرط التاسع: أن لا يحمل على خلاف تفسير راويه:
أ - وصورة هذا أن يروي الصحابي خبراً تكون له محامل متعددة، لأنه جاء مجملا غيرمفسر ويمتنع حمله على جميع محامله.
فقد ذهب الفقهاء في هذا إلى وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ينطق باللفظ المجمل في التشريع وبيان الأحكام، ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية، تعين المقصود من الكلام.
ولما كان الصحابي رأوي الخبر، الشاهد للحال، أعرف بذلك من غيره، وجب حمل الحديث على ما فسّره به.
وخالف غير واحد منهم فقالوا: لا يكون تعيين الراوي حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر في تفسيره، فإن انقدح له غير ما جاء في تفسيره عن الراوي، وجب عليه متابعة الذي رآه هو، لا ما حمله عليه الراوي.
وأما إن تردد المجتهد في تعيين مقصده فالواجب حمله على محمل الراوي.
ب - وأما إن كان اللفظ ظاهراً في معنى معين محدد، وحمله الراوي على غيره، فذهب الشافعي والجمهور وأبو الحسن الكرخي من الحنفية إلى إهمال تفسير الراوي.
وذهب الآخرون إلى وجوب العمل بتفسير الراوي كالأول.
وقال القاضي عبد الجبار: إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل، وجب المصير إليه.
وإن لم يعلم ذلك، بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس، وجب النظر إلى ذلك الدليل. فإن كان مقتضياً لما ذهب إليه، وجب المصير إليه، وإلا فلا، وهذا اختيار أبي الحسين البصري.
قلت: وأي المذاهب ترجح، فإن هذا الشرط الواجب إلحاقه، بمبحث دلالة اللفظ، لا بمبحث شروط العمل بالخبر، فإدخاله هنا مجازي من باب اعتبار الشيء بما يؤول إليه، ولذلك ترى غير واحد من الأصوليين يذكر هذه المسألة فيما ذكرنا لا هنا.
وكذا مسائل أخرى يذكرها بعض الأصوليين هنا، ننبه عليها للفائدة.
كمسألة: زيادة الثقة.
ومسألة: ألفاظ الصحابة: نهينا عن كذا، كنا نرى، ونحو هذه الألفاظ.
10 -
الشرط العاشر: أن لا يكون الخبر في الحدود والكفارات، وقد داخلته شبهة:
فقد ذهب الكرخي من الحنفية، وأبو عبد الله البصري في أحد قوليه، إلى سقوط حديث الحدود والكفارات بأدنى شبهة، ولم يعملوه، وخالفهم سائر الفقهاء والأصوليين.
وقد احتجا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ". وأجيب عنه، بما ذكره الشوكاني وغيره، قال: أولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية.
وأما استدلالهم بحديث " ادرؤا الحدود بالشبهات " باطل.
فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها،.
وقال الآمدي:
ودليل ذلك - أي العمل بالحديث، خلافاً للمشترطين لهذا الشرط - أنه يغلب على الظن، فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم:" نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر ".
ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن، بدليل ثبوته بالشهادة، وبظاهر الكتاب، فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية، والمسألة ظنية، فكان الظن كافياً فيها.
وسقوطه بالشبهة لو كان، لكان مانعاً من الإعمال، والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه ". انتهى.
قلت: يستدرك على الآمدي من وجهين:
الأول: فيما ظنه حديثاً وليس بحديث، وهو " نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر " فهو ليس بحديث.
قال ابن طولون: " لا وجود له في كتب الحديث المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره ".
وأنكره الحافظ ابن الملقن في تخريج أحاديث البيضاوي.
وقال العماد ابن كثير في تخريج أحاديث المختصر: لم أقف له على سند.
وقال السخاوي: لا يوجد في الكتب المشهورة.
قلت: نعم قد جاء ما في معناه من قول عمر، كما في البخاري: إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ".
وجاء في مسلم مرفوعاً من حديث أبي سعيد: " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ".
وأما ما ورد في " إدارة الأحكام " للجيزوي، ونقله عن مغلطاي: إن هذا الحديث ورد في قصة اختصام الكندي والحضرمي في الأرض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله عندها.
فقد قال ابن حجر: لم أقف على هذا الكتاب، ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسناداً أم لا.
الثاني: أننا لا نسلم أن الخبر مساق عن الخبر الذي فيه الحكم الشرعي في الحدود والكفارات، وأنه قد يكون سيق في إثبات ما يوجب الحد أو الكفارة على الفاعل، فلا يكون الدرء للحكم، وإنما لإقامة الحد على فاعل مخصوص.
والذي يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه، ألفاظ هذا الحديث لمن تأملها، فإن وجه الصرف فيها لإقامة الحد، أغلب وأقوى منه لإثبات الحكم. والله أعلم.
خلاصة القول في سائر الشروط المتقدمة:
والذي يرجع لسائر الشروط التي ذكرناها يجدها إما مندفعة غير صحيحة، وإما هي على التحقيق ليست من شروط قبول الحديث، وإما أنه ليس لها أثر على فرض صحتها.
لذلك فإنه كان من الواجب العمل بالحديث عند ثبوته، كما هو مذهب سائر المحدثين، وجمهور الشافعية والمالكية والحنابلة، وأنه إنما يعرض كسائر النصوص المقبولة على القواعد الأخرى من قواعد الاستنباط، والدلالة، ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، وغيرها مما يخدم فهم النص واستخراج الحكم منه، لا أكثر.
وهذا آخر كلامنا في ذكر هذه الشروط.
وهذا أوان الشروع في بيان تلك الأحاديث التي لم يفْت بها الفقهاء.
وبيان درجتها من الصحة والضعف، وأن أقوال الفقهاء على خلافها - بعد ذكر شرطنا في هذا الكتاب -.
فبالله المستعان. وعليه التكلان.