الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تنقلات الشيخ ورحلاته
للشيخ ثلاث رحلات رئيسة، الأولى رحلته إلى الإدريسي، والثانية إلى الهند، والثالثة رحلته إلى مكة المكرمة واستقراره بها، وقد تخلل ذلك انتقاله إلى عدن وإندونيسيا، وهذا تفصيل خبرها.
1) الرحلة إلى الإدريسي
(1)
(1337 ــ 1341)
في سنة 1335 كان المعلمي يعمل كاتبًا للسيد محمد بن علي الذاري، وكان الذاري عاملًا وقاضيًا على عتمة من قبل الإمام يحيى حميد الدين، وقد وُصف بالعسف والجور في أحكامه بحيث كثرت شكوى الناس منه، فعزله الإمام يحيى
(2)
، وقد أثنى الم
…
علمي على الذاري بالشهامة والكرم إلا أنه وصفه بقلّة العلم. وكان القضاء قبل ولاية الذاري في عُتمة وغيرها
(1)
هو: محمد بن علي بن محمد ابن السيد أحمد ابن إِدْرِيس: مؤسسة دولة الأدارسة في صبيا وعسير. ولد سنة 1293، أصله من فاس. تعلّم في الأزهر بمصر، وطمح إلى السيادة، فنشر في صبيا طريقة جده (أحمد بن إدريس) فاتبعه كثيرون، فوثب بهم على حكومتها (سنة 1327)، فجهزت حكومة الترك الجيوش لقتاله، فلم تفلح. وامتلك بلاد (عسير) واتسع نطاق سلطانه. واستولى بعد الحرب على الحديدة، وتعاقد مع الملك عبد العزيز آل سعود على تأمين مصالح الجانبين. وكان بين عدوّين قويين: الإمام يحيى في اليمن، والشريف حسين بن علي في الحجاز، واستمر في عزّ ومنعة إلى أن توفي سنة 1341. وكان مدبرًا حكيمًا شجاعًا جوادًا. ملخصة من "الأعلام":(6/ 303 - 304) للزركلي.
(2)
انظر "هجر العلم": (2/ 661). وانظر ما سبق (ص 53) حاشية (1).
[موكلًا][*] إلى السنة على مذهب الشافعية، وكان القاضي هو علي بن يحيى المتوكل، وقد أثنى عليه المعلمي بالعلم والفضل، ثم آل القضاء إلى الزيدية بعد اتفاقية دعّان بين العثمانيين والإمام يحيى حميد الدين، والذي أوكل بموجبه تعيين قضاة الأقاليم إلى الإمام يحيى
(1)
.
والذي يظهر أن المعلمي رحمه الله كان من المعارضين لحكم أئمة الزيدية، وظهرت له باعتباره كاتبًا لحاكمها أمارات الظلم والعسف والخروج عن السنة فاستحكمت هذه المعارضة، ولذلك بدأ يُنشئ القصائد في التشكِّي منهم، ففي قصيدة أنشأها سنة 1335 وصدّرها بقوله:"قبل توجهي إلى الإدريسي"، وموضوعها شكوى إلى السيد محمد بن علي بن أحمد الإدريسي لرفع الظلم عن البلاد اليمانية التي تحت حكم الأئمة الزيدية. ومطلعها:
ظفرت بقلب الصبّ فاكفف عن الصدّ
…
وكن عادلًا في الحكم يا عادل العدّ
ويقول فيها:
أتَى اليمنَ الميمونَ مجتهدًا لكي
…
يُطهِّره من عُصبة الرفض بالعمد
همُ أخذوا الأحرارَ مِنّا رهائنًا
…
وهمْ أخذوا الأموالَ قهرًا بلا عقد
همُ ظلمونا واستباحوا محارمًا
…
وأصبح مِنّا الليث يخضع للقرد
فهم عاملونا بالقساوة غِلْظةً
…
وهم كفَّرونا إذ وقفنا على الرشد
وقالوا لنا إنّا كفرنا بقولنا
…
لهم: إنما الأعمار من قَدَرِ الفرد
(2)
(1)
"هجر العلم": (2/ 661).
(2)
"ديوان المعلمي"(ق 8) وعدد أبيات القصيدة 48 بيتًا.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا.
وفي هذا دلالة واضحة أن هناك علاقةً بين المعلمي والإدريسي قبل أن يتوجّه إليه مطلع عام 1337. ويؤكد هذه العلاقة القديمة كتابٌ من الإدريسي إلى الشيخ المعلمي بتاريخ 6 محرم سنة 1336 أي قبل توجه المعلمي إليه بعام يذكر فيه أن المعلمي أرسل له كتابًا وأنه وصل بمعيّة أخيه (لعله محمد)، ثم ذكر أنه أرسل لوالده وأخيه ستين ريالًا، مع الاعتذار له بسبب جدب البلاد.
والذي يظهر أن الإدريسي كان يرغّب الشيخ في القدوم عليه، فها هو يقول في آخر رسالته السالفة:"ونسأل الله أن يمنَّ بالاتفاق عاجلًا على أحسن وفاق"
(1)
.
ولم يمض شهران على رسالة الإدريسي هذه حتى قوي عزم الشيخ المعلمي على الارتحال عن بلدته إلى الحضرة الإدريسية. ولعل الذي قوّى عزمه على الرحلة رؤيا منامية حكاها للمؤرخ إسماعيل الوشلي
(2)
، فإنه حين التقاه في بلدة المنيرة سنة 1336 في أثناء توجهه إلى زيارة المسجد النبوي ذكر له أن السبب الباعث له على التوجه للزيارة رؤيا منامية رآها. فقال: "لما كان ليلة الاثنين لعله عاشر شهر ربيع الأول من سنة 1336 رأيته صلى الله عليه وسلم رؤيا منامية، كأنه في مسجد لا أعرفه، وحوله جماعة كثيرة، فدخلت المسجد فقبّلت يده الشريفة، وقلت له: يا رسول الله إني أحبك، فالتفت إلى رجل واقف عن يمينه، وقع في ذهني أنه الصدّيق رضي الله عنه، فقال له: أنشد البيتين، فقال:
(1)
"الرسائل المتبادلة"(ص 255).
(2)
"نشر الثناء الحسن": (3/ 220).
زُر مَن تحبّ وإن شطّت بك الدارُ
…
وحال من دونه حُجْبٌ وأستارُ
لا يمنعنّك بُعدٌ من زيارته
…
إن المحب لمن يهواه زوّارُ
فالتفت صلى الله عليه وسلم إليَّ فقال: هل سمعت؟ ثم انتبهت، فتقوّت النية
…
" اهـ.
ودلالة هذا الخروج المبكّر من البلاد قبل الحج بنحو تسعة أشهر واضحة في أن المؤلف حزم أمره على المغادرة النهائية لبلدته والتوجه للسياحة في البلاد وطلب العلم، وربما لم يكن الشيخ قد اتخذ قرارًا حازمًا للاستقرار لدى الإدريسي بدليل أنه لم يمرّ به ولم ينزل عنده في أثناء سفره إلى الزيارة ثم الحج، وإلا كان بإمكانه ــ وفي الوقت متسع ــ أن ينزل عنده ثم يتوجه إلى الحج، لكنه فيما يظهر ذهب إلى المدينة المنورة للزيارة تحقيقًا لتلك الرؤيا التي سلفت، ثم توجّه بعدها إلى الحج. وقد وجدت له في "ديوانه"
(1)
أبياتًا يتشوّق فيها إلى الحج كتبها سنة 1336 يقول فيها:
متى يبلغ المشتاق مَقْصِده الأسنى
…
متى تُنجز الأيام آمالَه الحسنى
متى يشهد النور الجمالي ساطعًا
…
حواليه في هاتيكم الروضة الغنّا
متى يتراأى نورَ مكة يقظةً
…
وقد حقق الرحمنُ آماله مَنّا
متى نبهَرُ البيتَ الرفيعَ عمادُه
…
فنغتنم القربى ونستلم الركنا
ولابد أن نبتاع كتبًا شريفةً
…
تكون لنا من جهلنا دائمًا حِصْنا
فيا طالما اشتقنا إلى نيلها ولم
…
نَزَل نتمنّى نيلها مُذْ تحقَّقْنا
ومما يؤكد أن وجهته لم تكن محددة حين خروجه من بلدته تعليقٌ وجدناه بخط الشيخ جاء فيه: "إنه لما كان ليلة الخميس 8 شهر ربيع الأول
(1)
(ق 74).
سنة 337 (يعني وألف) ظهرت للحقير أمارات بلوغ خبري إلى الوالد الزاهد العابد حفظه الله ورضّاه عني ودعّاه بتوفيقي، وفقني الله لطاعته وبره وعصمني عن عقوقه مدةَ عمره آمين"
(1)
.
وقد يقدح في هذا ما ذكره القاضي العمودي في كتابه: "تحفة القارئ والسامع في اختصار تاريخ اللامع"
(2)
أن الإمام الإدريسي أوْفَد الشيخ المعلمي إلى الشريف حسين بمكة سنة 1336 وأنه اجتمع به وقال قصيدة يمدحه بها ويكفّر فيها الأتراك.
فتكون رحلة المعلمي إلى الزيارة فالحج لها غرض آخر غير طلب العلم والسياحة، ويكون فيها تكليف من الإدريسي. أقول هذا وعندي بعض التردد في كون هذه الواقعة حصلت في هذا العام 1336، فإني أخشى من تداخل بعض أخبار هذا التاريخ إما لتداخل أوراقه أو لخلل في الإلحاقات الكثيرة في حواشيه، وعلى كل حال فالأمر سهل أيضًا.
وتسلسل الأمور يدل أن الشيخ ذهب للزيارة والحج ولقاء الشريف حسين (إن صحّ ما وقع في تاريخ العمودي)، ثم توجّه في أول سنة 1337 إلى الإدريسي. والإدريسيُّ وإن كان حاكمًا فهو أيضًا معدود في العلماء، وكان الشيخ المعلمي يعظمه ويجلّه ويخلع عليه لقب "الإمام المجتهد"، فنزوله عليه للتلقي والطلب من أغراض رحلة الشيخ، فاستقرّ به المقام لدى الحضرة الإدريسية، ولم يكن سفره ولا استقراره لديه لأجل وظيفة أو جاه أو منصب.
(1)
مجموع رقم [4104].
(2)
(2/ 379 - 380).
وقد وجدت ما يدل على تاريخ قدومه إلى الإدريسي، ففي أحد مجاميع الشيخ
(1)
ما نصه: "يقول العبد الحقير المقر بالتقصير .... عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي
…
: إنه لما كان أواخر صفر الطف أحد شهور عام 337 (بعد الألف) تشرفت بالمثول بين يدي مولانا إمام العصر
…
محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن إدريس الحسني أيَّده الله
…
".
والذي أستنتجه من النظر في سياسة الإدريسي أنه كان يستقطب العلماء والكفاءات لغرض تثبيت إمارته وحشد الولاءات لها
(2)
، وكان الشيخ المعلمي من أولئك النفر الذين حَرَص الإدريسي على قدومهم عليه ووقوفهم بجانبه في إمارته الجديدة خاصة من علماء اليمن الذين يحتاج إلى خبرتهم وكسب ولاء مَن وراءهم ليكونوا عونًا له في حربه ضد الإمام يحيى حميد الدين.
لكنّ هذا التوجّه إلى العلم بدأت تُزاحمه بعض الأعمال التي أسندها إليه الإدريسي من القضاء ومراقبة القضاة والمكاتبات إلى المسؤولين خارج الدولة وداخلها. وفي ورقات بخط الشيخ
(3)
شرح فيها الأمر من قدومه إلى
(1)
مجموع [4707] ق 66.
(2)
انظر "تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 842 - 843) فقد ذكر أن الوفود من الزعماء والعلماء والوجهاء ربما بلغ متوسط عددهم في اليوم الواحد مائتي شخص. وذكر الوشلي في "نشر الثناء الحسن": (4/ 205 - 206) جملة من العلماء الذين وفدوا على الإدريسي، وأنه تكفّل بكفايتهم في كل ما يحتاجونه من الأمور الدنيوية لهم ولعائلاتهم.
(3)
في المجموع رقم [4707] في أربع ورقات. وقد بدأ المؤلف هذه الوثيقة بالحمدلة، ثم قال:"أولًا: أريد أن تعلموا جميعًا أن غاية ما أقصده هو خدمة الدين، وخدمة هذه الدعوة الشريفة" ثم ذكر ثانيًا. وهو ما ذكرنا نصَّه.
الإدريسي حتى وفاته ــ وهي وثيقة مهمة تغني عن التحليل والتخمين ــ قال الشيخ:
"أوضِّح لكم صورة استخدام سيدنا ــ المقدَّس سرّه ــ لي، فأولًا عقب وصولي كان مُنزِلًا لي منزلة العلماء للمذاكرة في حضرته الشريفة وتدريس الطلبة، ومكثتُ على ذلك مدةً كان في أثنائها ربما استعان بي في كتابة بعض المهمات؛ كجواب على عالم أو تعزية في رئيس أو نحو ذلك، وربما أحال إليَّ بعض المسائل القضائية المشكلة".
وفي رسالة من المعلمي إلى القاضي عبد الله العمودي جاء فيها: "وأخوكم مشغول بالقراءة أولًا على سيدنا في "مسلم" مجلسين صباحًا إلى بعد الظهر، ومساء من بعد العصر إلى دخول المغرب، ومذاكرة نحن والشيخ محمد بن إسماعيل، ومذاكرة مع الطلبة على اختلاف دروسهم، ومسألة القضاء
…
مع ما لا يستغني عنه الطالبُ من المطالعة".
فهذا النص يبيّن برنامج الشيخ اليومي ومدى تفرُّغه لطلب العلم ونشره، وهذا البرنامج مضاف إليه "مسألة القضاء" التي كان الشيخ كارهًا لتولّيها فقد دعا بعد ما ذكرها بقوله:"نسأل الله تعالى أن يجعل لنا منها فرجًا ومخرجًا".
ثم قال الشيخ في تلك الوثيقة:
"ولم يزل الحالُ على نحو ذلك، حتى أرسلني إلى "رجال ألمع"
(1)
، وقد
(1)
محافظة "رجال ألمع" تقع في الجهة الغربية من منطقة عسير، على مسافة 45 كيلو مترًا من مدينة أبها. وقد أشار إلى هذا الإرسال إلى عسير القاضي العمودي في مختصر تاريخه "إتحاف القارئ" (2/ 398) قال:"من أجل الخلاف الذي صدر من عسير على أصحاب الملك ابن سعود".
حضر سيدي سيف الإسلام ــ حفظه الله ــ كيف كان خطاب سيدنا ــ قُدِّس سرّه ــ لي في التوجُّه، فإنه كان ألطف خطابٍ على جهة العرض فقط.
ثم بعد عودتي من "رجال ألمع" ودَخَل شهرُ رمضان، ففي رمضان رُفِعت إلى حضرته عدةُ قضايا، منها ما يتعلق بالقضاة، ومنها ما يتعلق بالنهي عن المنكر، ونبَّهتُه على إسراف القضاة في أخذ الرِّشا والنكالات، وقد وجدتُ بعض تلك الكتب في كتب سيدنا التي وضعها لديّ، وقد مُزّق منه شيء وهو موجود الآن لدي وهو بغاية الخسارة
(1)
، فكان ذلك من أسباب انتباهه للقضاة، ثم حَصَر القضاءَ أن يكون بالباب وعيّن الحقير والقاضي حسن عاكش، فراجعته: أنني لا أستطيع ذلك، فقال: أما الآن فتجشّمْ ذلك، لأننا لا نأمن على أحدٍ غيرك في براءة ذمتنا، وأصحابنا قد ألِفوا، وألِفوا، فأنت تكون بصفة الحارس المراقب، حتى يظهر لنا ثقة أحد منهم، أو يجيء الله برجل آخر، وكن على ثقة أننا لا نرضى عليك بدوام المشقة.
فبقيتُ في المراقبة حتى ترخَّص القاضي حسن، وأبطأ في البيت
(2)
، فأمرني سيدنا ــ قُدّس سرّه ــ بلزوم مجلس القضاء حتى يهيئ الله تعالى.
وقد قال لي قبل ذلك: يكون السيد علي
(3)
يحضر معكم حتى يتأهل للمركز إن شاء الله، فكان السيد علي يحضر معنا.
وفي أثناء تلك المدة كان يستعين بي في بعض الكتابات المهمة
(1)
غير محرَّرة.
(2)
ترخّص: أي استأذن لأخذ إجازة. والبيت يراد به: الوطن أو بلد الشخص.
(3)
هو الابن الأكبر للإدريسي، وقد تولى الإمارة بعد موت أبيه سنة 1341 وعمره دون العشرين عامًا. انظر "تاريخ المخلاف السليماني":(2/ 850).
الذي
(1)
يجب كتمانها، إلى أن وقع السفر إلى جهة اليمن لفتح الحديدة، وعند وصولنا "حبل"
(2)
كان الشيخ محمد إسماعيل الهِتَاري قد تقدّمت منه أشياء، ويومئذ قدّم لسيدنا كتاب
(3)
يعاتبه من خصوص عدم حمله في المُوْتَر
(4)
، فعدّد سيدنا الذين كانوا في الموتر، وأنهم جميعهم لا يمكن ترك أحد منهم، وعدَّ الحقيرَ، فقال: وفلان باذلٌ نفسَه للمساعدة، وأما محمد إسماعيل فما يقدر على كتابة كتاب واحد، فقال الشيخ يحيى: حتى إنه يكتب لنا، فخاصمه سيدنا ــ قدّس سرّه ــ في ذلك، وقال: والله ما أستصحبه أنا بصفة كاتب، إنما أستصحبه لمذاكرة علمية، أو مسألة قضائية، أو كتابة سرّية، ولكن إذا وصلنا مكانًا، ودار الأمر بيني وبينه في الكتابة تحمَّلها هو.
ثم خاصمني في تكلّف مساعدة الإخوان بالكتابة، وبيَّن لهم أن منزلتي فوق ذلك، حتى قال: إن علمه أنفع من علم محمد إسماعيل؛ لأنه أخذ العلم بصفاء، وسيف الإسلام والشريف حمود والشيخ يحيى حاضرون حتى رتّب الهِبَة، وكان "كامل" يصدر التحارير، ويجعل العلامات: خُدّام الإدريسي، خُدَّام الإدريسي، والحقير يُمْضي معهم، فأمرَه سيدُنا ــ قدّس سرّه ــ أن يجعل علامة الحقير:"نائب الشرع الشريف" بدل "خدام الإدريسي" مع أن الخدمة هي أشرف شيء.
ثم جعل لنا درسًا لديه في الفقه، فكان بعد تمام الدرس يأمر جميع الحاضرين أن يَصِلوا إلى الحقير لأعيد لهم الدرس وأفهّمهم، ثم
(1)
كذا، والصواب: التي.
(2)
لعلها اسم منطقة هناك.
(3)
كذا، والوجه: كتابًا.
(4)
أي: السيارة.
استقام السيد عليّ بالقضاء وأخذتُ أسُلّ نفسي منه.
ولما كان رمضان عام 1340? ، وصام في "صَبيا"
(1)
مع ذلك [الحرّ] الشديد وهو تعبان إلى الغاية، وكان "كامل" والشيخ محمد غائبين، وكذلك الشريف حمود، فكان يحيل علَيَّ الكتب، ثم توجّهنا إلى جيزان، فذكر لي أن الضرورة دعت لتوجُّهي إلى "رجال ألمع"، فتوجّهت فنزلوا "الجبالية" وحصلت الأزمة في العمل، وهو بشدّة التعب بعد حرارة الصيام في صبيا، ولم يحمد سيدنا ــ قدّس سرّه ــ مساعدة "كامل"؛ لأنه كان قد نجم عليه المرض
(2)
، وكان يتحسّر ويتندّم على إرسالي.
ثم رجعتُ من "رجال ألمع" وهو مريض، فكانت أقلّ مراجعةٍ أو سؤال أو شغل يشقّ عليه جدًّا، فحينئذٍ تولى الحقير أكثر المخاطبة مع مندوب ابن سعود، ثم توليتُ أكثر المراجعة مع سيدنا ــ قدّس سرّه ــ للتبصُّر والتلطّف في إدخال السرور عليه وعدم المشقة، وأمَرَ حينئذ أن تكون الكتب عمومًا ترِدُ إلى الحقير حتى أقرأها، وأتلطّف في عرض مضمونها عليه، ففزت في خدمته بذلك والحمد لله، حتى أفاق من المرض، فكانت الكتب على عادتها تصِلُ إليَّ وأعرض عليه مضمونها، فكان حينئذ يطلب بعض الكتب لقراءتها نصًّا، وكان الإخوان ربما أحالوا عليَّ بعض الأشغال، فيخاصم في ذلك ويقول: لا يمكنه تحمّل الأمور جميعها، فقط مع مرضي هو يتحمل أشغالي التي لا يقوم [بها]
(1)
محافظة صبيا في منطقة جازان إلى الشمال منها وتبعد عن مدينة جازان نحو 37 كيلو مترًا.
(2)
يعني زاد.
أحدٌ غيري، وإذا حمّلتموه ما لا يطيق ما تقوموا يوم
(1)
إلَّا وقد شَرَد، ولا عيب عليه ولا حجة مني إليه إذا شرد؛ فإني أنا لو حَمَلْتها بدون مساعدٍ شردت وتركتها.
وربما تعرّضت أنا في بعض الأشغال فيخاصمني، ويقول لي: ما لَكَ قدرة على تحمّل الأمور كلها، وهؤلاء إخواننا لو لقوا مَن يتحمل عنهم أشغال بيوتهم رموها على ظهره ورقدوا والحال على ذلك.
وفي أثناء مدة القضاء فما بعدها لا أزال أقدّم له الاستعفاء من ذلك لأتفرغ لخدمة العلم، فيعِدُني أنه سيُحضِر مساعدين في الخدمة، ويسمح لي بذلك، حتى إني عرضت إلى سيدي الحسن
(2)
أستشيره، لعله في ربيع سنة 1341، وكان قصدي حينئذ الشَّرْدَة، فصبَّرني سيدي الحسن وسلّاني.
ثم في "صبيا" قبل موت سيدنا ــ قدّس سرّه ــ بمدة يسيرة رفعتُ له ورقة طلب الإذن إلى مصر أو السودان، للتفرُّغ لطلب العلم، فبقي تلك الأيام يَعِظُنا معشرَ الإخوان موعظةً عمومية، ويحضّنا على الثبات، فقدمتُ له ورقة أني تُبت من ذلك، ولكن على أن يَعِدَني أنه يسعى في حصول مَن يكفيني العمل، وأبقى بحضرته لخدمة العلم فقط، فقال: هذا هو عزمنا بدون طلبك، لأني أعرف قدر المشقة التي عليك بالاشتغال عن العلم، وإن شاء الله تعالى تبلغ المراد. ثم قضى الله تعالى بوفاته".
فهذا حال الشيخ وكيف تدرّجت به الأمور من حين مقدمه إلى وفاة
(1)
كذا، يعني: لا تنتبهون أو لا تستيقظون.
(2)
الحسن بن علي الإدريسي أخو الإمام محمد بن علي. انظر "تاريخ المخلاف السليماني": (2/ 900 فما بعدها).
الإدريسي، وهذا التفصيل يكشف لنا الهدف الرئيس من رحلة الشيخ إلى الإدريسي وأنه لم يكن قادمًا طمعًا في منصب ولا جاه ولا رئاسة، بل هدفه خدمة العلم والترقي في منازله، والإعانة على نشره.
كانت مدة بقاء الشيخ لدى الإدريسي خمس سنوات من سنة 1337 إلى سنة 1341، وهذه المدة مع قِصَرها كانت حافلةً بالعلم والعمل والأحداث، فقد تولى الشيخ خلالها أعمالًا علمية من تدريس ومذاكرة وتأليف، وأعمالًا تتعلق بالحكم والسياسة والنظر في شؤون الدولة وكتابة الإنشاء، وأعمالًا تتعلق بالقضاء وفصل الخصومات، إضافة إلى الخطابة في الجُمع والأعياد، والتهنئة بالفتوحات والانتصارات.
وقد وقفنا في أوراق الشيخ ومجاميعه على وثائق متعددة تتعلق بهذه الجوانب جميعًا، ومن ذلك ما أنشده مهنئًا الإدريسي بفتح مدينة اللُّحيَّة
(1)
:
باب الفتوح بإسم القاهر انفتحا
…
وطائر النصر في دوح العلا صدحا
وكوكب السعد في برج الفلاح بدا
…
فلاح نور كنور البدر متضحا
وأصبح الدين مسرورًا بعزّته
(2)
…
لما غدا قلبه نشوان منشرحا
قد قلت للأرض مِيْدي
(3)
نشوةً ولقد
…
بفوزك اهتزت السبع العلا مرحا
هذي "اللُّحيَّة" لَحْييْهَا قَبَضْتَ فثق
…
بالنصر حتمًا وخالف من نهى ولحا
(1)
انظر "تحفة القارئ والسامع": (2/ 398 - 400) للقاضي العمودي، و"تاريخ المخلاف السليماني":(2/ 848 - 849) للعقيلي.
(2)
في "تاريخ المخلاف": "بغرته".
(3)
في "تاريخ المخلاف": "تِيهي".
إن الفتوح إما
(1)
كان أولها
…
تتابعت مثلما قد ينظم السبحا
بشراك فالله قد أعلى يديك على
…
أيدي العباد وقد أعطى وقد منحا
فالحق أرفع من أن يُعتلى فأدِمْ
…
نشر الجهاد فإن الله قد سمحا
واستخلص المخلصين التابعين من الـ
…
أنصار
(2)
واطرد كذوبًا خان
(3)
وافتضحا
دع "حاشدًا"
(4)
إنهم خانوا ولو جهدوا
…
فإنهم (سمك) في (مائه) نزحا
أما "بكيل"(4) فلولا أنهم مكروا
…
قاموا بعزم ولكن قلَّ من نصحا
وإن ربيَ عنهم حاز نصرته
…
إذ ليس يوجد فيهم غير من طلحا
وكيف يبذل كل الجد رافضة
…
لا تحسب الحق إلا كلَّ ما قبحا
لكنَّ في جذبهم لا شك مصلحةً
…
وأخذ أبنائهم حزما قد اتضحا
يا أيها الناس هذا بين أظهركم
…
مقدَّم الكون بدر التمِّ شمس ضحى
يدعو إلى الله إخلاصًا بملته
…
بل امتثالًا لأمر الحق إذ نفحا
يا طالما كانت الأكوان تنظره
…
حتى إذا قام أجلى من جلا اطرحا
(5)
موّهتم الزور في تكذيب دعوته
…
تبتْ يدا كل من في شأنه قدحا
لما رأيتم كنوز الأرض قد فتحت
(6)
…
له تأول قوم في الذي فتحا
قلتم أعانته أحزاب الضلال نعم
…
نعم أعانوه خوفًا منه إذْ سنحا
(1)
في "تاريخ المخلاف": "إذا ما".
(2)
في "تاريخ المخلاف": "لأنصار".
(3)
في "تاريخ المخلاف": "خاف".
(4)
"حاشد" و"بكيل" القبيلتان المعروفتان في اليمن.
(5)
هذا البيت ليس في "تاريخ المخلاف".
(6)
في "تاريخ المخلاف": "منحت"، وسقطت كلمة "كنوز" من "التحفة".
الله أنزل رعبًا في قلوبهمُ
…
إذْ شاهدوا أسدًا كالبدر قد وضحا
فأصبحوا يبذلون المال لا طمعًا
…
يدري بذا كل من نحو الهدى جنحا
وكيف يطمعهم بيض الأنوق وهم
…
مميزون ولكن جلَّ من منحا
هذا الإمام الذي فاضت أنامله
…
جودًا عميمًا كموج البحر ما برحا
هذا هو الكف والناس الجميع عصا
…
هذا هو القطب والكون البديع رحا
أقامه الله روحًا للعباد كما
…
قلوبهم ردها المولى له شبحا
وقد نطقتُ بحق سوف ينكره
…
قوم يقولون هذا المعتدي شطحا
والله يعلم أني لم أقل كذبًا
…
فقبَّح الله من في كذبه سبحا
هذا جواب عليهم قبل قولهمُ
…
لا فاز أكذبنا
(1)
قولا ولا برحا
ودام للصادق الخيرُ الجزيل ولا
…
عَدَتْه أيدي الندى أنَّى أتى ونحا
فلا برحتَ بخير والصلاةُ على
…
محمد وسلام الله لا برحا
والآل والصحب والتُّبّاع قاطبةً
…
لا زال يُتلى عليكم بكرةً وضحى
(2)
وكما كان الشيخ معظِّمًا للإدريسي، فقد كان الإدريسي أيضًا معظِّمًا للشيخ مجلًّا له، بحيث ولَّاه رئاسة القضاء وهو دون الثلاثين، وفوّضه الرد على مكاتبات الرؤساء والملوك، ولقبّه بشيخ الإسلام، وأذن له بالدخول عليه في أية ساعة يشاء بدون إذن من رئيس الحرس، حتى صار من كبار رجال الدولة وأقرب مستشاري الإدريسي.
هذه العلاقة القوية ربما أوغرت بعض الصدور على الشيخ، فلم يسلم
(1)
في "تاريخ المخلاف": "كذابنا".
(2)
الأبيات الثلاثة الأخيرة ليست في "تاريخ المخلاف".