الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّفْسُ عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْهَزَّةِ وَطَرَفًا مِنْ تلك الروعة، وقرىء أُسْكِتَ رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ وَالْمَنْوِيُّ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ أَخُوهُ بِاعْتِذَارِهِ إِلَيْهِ أَوْ تَنَصُّلِهِ أَيْ أَسْكَتَ اللَّهُ أَوْ هَارُونُ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمَّا صَبَرَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَلَمَّا انْشَقَّ وَالْمَعْنَى وَلَمَّا طُفِيَ غَضَبُهُ أَخَذَ أَلْوَاحَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ يَدِهِ،
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَلْقَاهَا فَتَكَسَّرَتْ فَصَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَرُدَّتْ إِلَيْهِ فِي لَوْحَيْنِ وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا وَفِي نُسْخَتِهَا
أَيْ فِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْمُكَسَّرَةِ أَوْ فِيمَا نُسِخَ فِيهَا أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ سُبُعُهَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى وَفِيمَا نُقِلَ وَحُوِّلَ مِنْهَا وَاللَّامُ فِي لِرَبِّهِمْ تَقْوِيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هِيَ زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ لَامُ الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ لِأَجْلِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرِ الْمَعْنَى الَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَتَمَشَّى لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ وَأَيْضًا فَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَصَاحَةِ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا. اخْتارَ افْتَعَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ التَّخَيُّرُ وَالِانْتِقَاءُ وَاخْتارَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرِ بِوَسَاطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى السَّمَاعِ وَهِيَ اخْتَارَ وَاسْتَغْفَرَ وَأَمَرَ وَكَنَّى وَدَعَا وَزَوَّجَ وَصَدَقَ، ثُمَّ يُحْذَفُ حَرْفُ الْجَرِّ وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ فَيَقُولُ اخْتَرْتُ زَيْدًا مِنَ الرِّجَالِ وَاخْتَرْتُ زَيْدًا الرِّجَالَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ
…
وَاعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ
أَيِ اخْتَرْتُكَ من الناس وسَبْعِينَ هو المفعول الأوّل، وقَوْمَهُ هو المفعول الثاني
وتقدير مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ أَعْرَبَ قَوْمَهُ مفعولا أوّل وسَبْعِينَ بِدَلًا مِنْهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَحَذَفَ الضَّمِيرَ أَيْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمُ احْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْهُ فَإِعْرَابُهُ فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفُ حَذْفٍ فِي رَابِطِ الْبَدَلِ وَفِي الْمُخْتَارِ مِنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمِيقَاتِ أَهُوَ ميقات المناجاة ونزول التوراة أَوْ غَيْرُهُ،
فَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْأَوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ بَعْضَ مَا جَرَى مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَنَّهُ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ سِتَّةَ رِجَالٍ فَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَقَالَ لِيَتَخَلَّفِ اثْنَانِ فَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِسَبْعِينَ فَتَشَاحُّوا، فَقَالَ: مَنْ قَعَدَ فَلَهُ أَجْرُ مَنْ حَضَرَ فَقَعَدَ كَالِبُ بْنُ يُوقِنَا وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَاسْتَصْحَبَ السَبْعِينَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُومُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَكَانَ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ وَدَنَا مُوسَى وَدَخَلَ فِيهِ وقام لِلْقَوْمِ: ادْنُوا فَدَنَوْا حَتَّى إذا دخلا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجَّدًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، ثُمَّ انْكَشَفَ الْغَمَامُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَطَلَبُوا الرُّؤْيَةَ فَوَعَظَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فقالوا: يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَقَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2» يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعُوا الرَّدَّ وَالْإِنْكَارَ مِنْ جِهَتِهِ، فَأُجِيبَ: بِلَنْ تَرَانِي وَرَجَفَ الْجَبَلُ بِهِمْ وَصُعِقُوا انْتَهَى، وَقِيلَ: هُوَ مِيقَاتٌ آخَرُ غَيْرُ مِيقَاتِ الْمُنَاجَاةِ وَنُزُولِ التَّوْرَاةِ،
فَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى إِنَّ طَائِفَةً تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُكَ فَخُذْ مِنَّا مَنْ يَذْهَبُ مَعَكَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ فَيُؤْمِنُوا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِهِمْ ثُمَّ ارْتَقِ بِهِمُ الْجَبَلَ أَنْتَ وَهَارُونُ وَاسْتَخْلِفْ يُوشَعَ، فَفَعَلَ فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهُ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مِيقَاتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى يَلْقَاهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ هُوَ مِيقَاتٌ وَقَّتَهُ اللَّهُ لِمُوسَى وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَدْعُوا رَبَّهُمْ فَدَعَوْا فَقَالُوا يَا اللَّهُ أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا قَبْلَنَا وَلَا أَحَدًا بَعْدَنَا فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ،
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ وَابْنَاهُ شِبْرٌ وَشُبَيْرٌ انْطَلَقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ فِيهِ سَرِيرٌ فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ وَحَسَدْتَنَا عَلَى خُلُقِهِ وَلِينِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ وَمَعِيَ ابْنَاهُ، قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ فَاخْتِيرَ سَبْعُونَ فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ فَقَالُوا مَنْ قَتَلَكَ يَا هارون قال
(1) سورة البقرة: 2/ 55.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 143.
مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَفَّانِي، قَالُوا: يَا مُوسَى مَا نَعْصِي بَعْدُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَجَعَلُوا يَتَرَدَّوْنَ يَمِينًا وَشِمَالًا
انْتَهَى، وَلَفْظُ لِمِيقاتِنا فِي هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَنْ تَوْقِيتٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: كَانَ مُوسَى لَا يَأْتِي رَبَّهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ غَيْرُ مِيقَاتِ مُوسَى الَّذِي قِيلَ فِيهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ لِظَاهِرِ تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ وَمَا جَرَى فِيهِمَا إِذْ فِي تِلْكَ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ وَسَأَلَهُ الرُّؤْيَةَ وَأَحَالَهُ فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ وَثُبُوتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَصَارَ دَكًّا وَصَعِقَ مُوسَى وَفِي هَذِهِ اخْتِيرَ السَبْعُونَ لِمِيقَاتِ اللَّهِ وَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَلَمْ تَأْخُذْ مُوسَى، وَلِلْفَصْلِ الْكَثِيرِ الَّذِي بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ لَوْ كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً.
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. سَبَبُ الرَّجْفَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمِيقَاتِ فَهَلِ الرَّجْفَةُ عُقُوبَةٌ عَلَى سُكُوتِهِمْ وَإِغْضَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ عُقُوبَةٌ عَلَى سُؤَالِهِمُ الرُّؤْيَةَ أَوْ عُقُوبَةٌ لِتَشَطُّطِهِمْ فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ أَوْ سَبَبُهُ سَمَاعُ كَلَامِ هَارُونَ وَهُوَ مَيِّتٌ أَقْوَالٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عُقُوبَةٌ عَلَى عِبَادَةٍ هَؤُلَاءِ السَبْعِينَ بِاخْتِيَارِهِمُ الْعِجْلَ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَنْ مُوسَى فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى أَعْلَمَهُ اللَّهُ وَأَخْذُ الرَّجْفَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ نَشَأَ عَنْهُ الْمَوْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ نَشَأَ عَنْهُ الْغَشْيُ وَهُمَا قَوْلَانِ،
وَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ مُوسَى: كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ أُهْلِكَتْ خِيَارُهُمْ فَمَاذَا أَقُولُ وَكَيْفَ يَأْمَنُونَنِي عَلَى أَحَدٍ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ
،
وَقِيلَ أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ حَتَّى كَادَتْ تُبَيِّنُ مَفَاصِلَهُمْ وَتَنْتَقِضُ ظُهُورَهُمْ وَخَافَ مُوسَى الْمَوْتَ فَعِنْدَ ذَلِكَ بَكَى وَدَعَا فَكُشِفَ عَنْهُمْ
، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمَنٍّ مِنْهُ لِلْإِهْلَاكِ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَا رَأَى مِنْ تَبِعَةِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ كما يقال النَّادِمُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا رَأَى سُوءَ الْمَغَبَّةِ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَنِي قَبْلَ هَذَا انْتَهَى. فَمَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ هُوَ مِيقَاتُ الْمُنَاجَاةِ وَطَلَبُ الرُّؤْيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَظْهَرَ خِلَافُهُ،
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ أَسِفَ عَلَيْهِمْ وَعَلِمَ أَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَشَعَّبُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْقَوْمِ فَجَعَلَ يَسْتَعْطِفُ رَبَّهُ أَنْ يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ هَذِهِ الْحَالِ وَإِيَّايَ لَكَانَ أَخَفَّ عَلَيَّ وَهَذَا وَقْتُ هَلَاكِهِمْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ عَلَيَّ مُؤْذٍ لِي
انْتَهَى، وَمَفْعُولُ شِئْتَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَوْ شِئْتَ إهلاكنا وجواب لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ وَأَتَى دُونَ لَامٍ وَهُوَ فَصِيحٌ لَكِنَّهُ بِاللَّامِ أَكْثَرُ كَمَا قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ «1» وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ «2» ، وَلَا يُحْفَظُ جاء بغير
(1) سورة الكهف: 18/ 77.
(2)
سورة يونس: 10/ 83.
لَامٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا وَقَوْلِهِ أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ «1» ولَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «2» وَالْمَحْذُوفُ فِي مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الِاخْتِيَارِ وَأَخْذِ الرَّجْفَةِ وَذَلِكَ زَمَانَ إِغْضَائِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ عِبَادَتِهِمْ هُمْ إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ وَإِيَّايَ أَيْ وَقْتَ قَتْلِيَ الْقِبْطِيَّ فَأَنْتَ قَدْ سَتَرْتَ وَغَفَرْتَ حِينَئِذٍ فَكَيْفَ الْآنَ إِذْ رُجُوعِي دُونَهُمْ فَسَادٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَكْثَرُهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَعَطَفَ وَإِيَّايَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَهْلَكْتَهُمْ وَعَطْفُ الضَّمِيرَ مِمَّا يُوجِبُ فَصْلَهُ وَبَدَأَ بِضَمِيرِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَمَاتُوا أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمُتْ هُوَ وَلَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ حَتَّى أَشْرَكَ نَفْسَهُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي مُقْتَضَى الْإِهْلَاكِ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ إِهْلَاكَ الْعَاصِي وَالطَّائِعِ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ.
أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قِيلَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ فِي صِيغَةِ اسْتِعْطَافٍ وَتَذَلُّلٍ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَتُهْلِكُنا لَهُ وَلِلسَبْعِينَ وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ فِيهِ الْخِلَافُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبِ أَخْذِ الرَّجْفَةِ مِنْ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ أَوْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَوْ قَوْلِهِمْ قَتَلْتَ هَارُونَ أَوْ تَشَطُّطِهِمْ فِي الدُّعَاءِ أَوْ عِبَادَتِهِمْ بِأَنْفُسِهِمُ الْعِجْلَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي أَتُهْلِكُنا لَهُ وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ وبِما فَعَلَ السُّفَهاءُ أَيْ بِالتَّفَرُّقِ وَالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ يَكُونُ هَلَاكُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي نَفْسَهُ وَإِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ الرُّؤْيَةَ زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ وَهُمْ طَلَبُوهَا سَفَهًا وَجَهْلًا وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْلَامٍ أَتْبَعَ إِهْلَاكَ الْمُخْتَارِينَ وَهُمْ خَيْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ إِذْ مِنَ الْجَائِزِ فِي الْعَقْلِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «3»
وَقَوْلِهِ عليه السلام، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» .
وَكَمَا وَرَدَ أَنَّ قَوْمًا يُخْسَفُ بِهِمْ قِيلَ: وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ فَقِيلَ: يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُمْ أُحْيُوا وَجُعِلُوا أَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ.
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَيْ إِنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَالضَّمِيرُ فِي هِيَ يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَيْ أَنْتَ هُوَ الَّذِي فَتَنْتَهُمْ قَالَتْ فِرْقَةٌ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَبْعِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ تَعَجَّبَ وَقَالَ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ،
وَقِيلَ لَمَّا أُعْلِمَ مُوسَى بِعِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ وَبِصِفَتِهِ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ أَخَارَهُ قَالَ: أَنَا قَالَ: مُوسَى فَأَنْتَ أَضْلَلْتَهُمْ
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِمْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً إِذْ كَانَتْ فِتْنَةً
(1) سورة الأعراف: 7/ 100.
(2)
سورة الواقعة: 56/ 70.
(3)
سورة الأنفال: 8/ 25.
مِنَ اللَّهِ أَوْجَبَتِ الرَّجْفَةَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ مِحْنَتُكَ وَبَلَاؤُكَ حِينَ كَلَّمَتْنِي وَسَمَّعْتَ كَلَامَكَ فَاسْتَدَلُّوا بِالْكَلَامِ عَلَى الرُّؤْيَةِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا حَتَّى افْتُتِنُوا وَضَلُّوا تُضِلُّ بِهَا الْجَاهِلِينَ غَيْرَ الثَّابِتِينَ فِي مَعْرِفَتِكَ وَتَهْدِي الْعَالِمِينَ الثَّابِتِينَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِضْلَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُدًى مِنْهُ لِأَنَّ مِحْنَتَهُ إِنَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِأَنْ ضَلُّوا وَاهْتَدَوْا فَكَأَنَّهُ أَضَلَّهُمْ بِهَا وَهُدَاهُمْ عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ انْتَهَى وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِهِمُ الْإِضْلَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
أَنْتَ وَلِيُّنا الْقَائِمُ بِأَمْرِنَا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. سَأَلَ الْغُفْرَانَ لَهُ وَلَهُمْ وَالرَّحْمَةَ لَمَّا كَانَ قَدِ انْدَرَجَ قَوْمُهُ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ وَلِيُّنا وَفِي سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ وَلَهُمْ وَكَانَ قَوْمُهُ أَصْحَابَ ذُنُوبٍ أَكَّدَ اسْتِعْطَافَ رَبِّهِ تَعَالَى فِي غُفْرَانِ تِلْكَ الذُّنُوبِ فَأَكَّدَ ذَلِكَ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَلَمَّا كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ هَارُونُ عليه السلام مِنَ الْمَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ فَحِينَ سَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ وَلِأَخِيهِ وَسَأَلَ الرَّحْمَةَ لَمْ يُؤَكِّدِ الرَّحْمَةَ بَلْ قَالَ: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَكَانَ تَعَالَى خَيْرَ الْغَافِرِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَتَجَاوَزُ عَنِ الذَّنْبِ طَلَبًا لِلثَّنَاءِ أَوِ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعًا لِلصِّفَةِ الْخَسِيسَةِ عَنِ الْقَلْبِ وَهِيَ صِفَةُ الْحِقْدِ وَالْبَارِي سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُفْرَانُهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. أَيْ وَأَثْبِتْ لَنَا عَاقِبَةً وَحَيَاةً طَيِّبَةً أَوْ عَمَلًا صَالِحًا يَسْتَعْقِبُ ثَنَاءً حَسَنًا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ وَالرُّؤْيَةَ وَالثَّوَابَ عَلَى حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَالْأَجْوَدُ حَمْلُ الْحَسَنَةِ عَلَى مَا يَحْسُنُ مِنْ نِعْمَةٍ وَطَاعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ لَا حَسَنَةَ دُونَهَا وإِنَّا هُدْنا تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الْغُفْرَانِ وَالْحَسَنَةِ وَكَتْبُ الْحَسَنَةِ أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وابن جبير وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ هَادَ يَهُودُ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: تَقَرَّبْنَا بِالتَّوْبَةِ، وَقِيلَ: مِلْنَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتُهَا
…
أَنِّي مِنَ الله لها هد
أَيْ مَائِلٌ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو وَجْزَةَ هُدْنا بِكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ هَادَ يَهِيدُ إِذَا حَرَّكَ أَيْ حَرَّكْنَا أَنْفُسَنَا وَجَذَبْنَاهَا لِطَاعَتِكَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فَاعِلًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ حَرَّكْنَا إِلَيْكَ وَأَمَلْنَا وَالضَّمُّ فِي هُدْنا يَحْتَمِلُهُمَا وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ كَوْنَهُ تَعَالَى هُوَ رَبَّهُمْ وَوَلِيَّهُمْ وَأَنَّهُمْ تَائِبُونَ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ فَنَاسَبَ عِزَّ الرُّبُوبِيَّةِ أَنْ يَسْتَعْطِفَ لِلْعَبِيدِ التَّائِبِينَ الْخَاضِعِينَ بِسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَتْبِ.
قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ عَذَابِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَنْدَرِجُ فِي قَوْلِهِ: أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أَصْحَابُ الرَّجْفَةِ، وَقِيلَ الْعَذَابُ هُنَا هُوَ الرَّجْفَةُ ومَنْ أَشاءُ أَصْحَابُهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ أَيْ مَنْ أَشَاءُ عَذَابَهُ، وَقِيلَ: مَنْ أَشاءُ أَنْ لَا أَعْفُوَ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَنْ أَشاءُ مِنْ خَلْقِي كَمَا أَصَبْتُ بِهِ قَوْمَكَ، وَقِيلَ: مَنْ أَشَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ الْمَشِيئَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى التَّعْجِيلِ وَالْإِمْهَالِ لَا إِلَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِمَّنْ أَشَاءُ مَنْ وَجَبَ عَلَيَّ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَسَاغٌ لِكَوْنِهِ مَفْسَدَةً انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُصِيبُ مَنْ أَشَاءُ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ، وَقَالَ أَيْضًا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ هِيَ التَّعَاطُفُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ التَّوْبَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
هِيَ فِي الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ عَامَّةً وَفِي الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا رَحْمَتِي فَمِنْ حَالِهَا وَصِفَتِهَا أَنَّهَا وَاسِعَةٌ كُلَّ شَيْءٍ مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا مُطِيعٍ وَلَا عَاصٍ إِلَّا وَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِي نِعْمَتِي انْتَهَى، وَهُوَ بَسْطُ قَوْلِ الحسن: هي في الدنيا بِالرِّزْقِ عَامَّةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ مَنْ أَسَاءَ مِنَ الْإِسَاءَةِ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ:
لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ رَجُلُ سُوءٍ، وَقَرَأَ بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً وَاسْتَحْسَنَهَا فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي وَصَاحَ بِهِ وَأَسْمَعَهُ فَقَالَ سُفْيَانُ: لَمْ أَدْرِ وَلَمْ أَفْطِنْ لِمَا يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جِهَةِ إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَمِنْ جِهَةِ خَلْقِ الْمَرْءِ أَفْعَالَهُ وَإِنْ أَسَاءَ لَا فِعْلَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِانْفِصَالُ عَنْ هَذَا كَالِانْفِصَالِ عَنْ سَائِرِ الظَّوَاهِرِ.
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أَيْ أَقْضِيهَا وَأُقَدِّرُهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَعُودَ عَلَى حَسَنَةٍ فِي قَوْلِهِ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ أَيْ فَسَأَكْتُبُ الْحَسَنَةَ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَوْفٌ الَبِكَالِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جريح وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ لَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ تَطَاوَلَ لَهَا إِبْلِيسُ فَلَمَّا سَمِعَ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يبس، وَبَقِيَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَمَّا تَمَادَّتِ الصِّفَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيَئِسَ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الْخِلَالَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى فَلَمْ يَتَحَمَّلُوهَا وَلَمَّا انْطَلَقَ وَفْدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْمِيقَاتِ قِيلَ لَهُمْ خُطَّتْ لَكُمُ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا إِلَّا عِنْدَ مِرْحَاضٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ حَمَّامٍ وَجَعَلْتُ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فَقَالُوا: لَا نَسْتَطِيعُ فَاجْعَلِ السَّكِينَةَ فِي التَّابُوتِ وَالصَّلَاةَ فِي
الْكَنِيسَةِ وَلَا نَقْرَأُ التَّوْرَاةَ إِلَّا عَنْ نَظَرٍ وَلَا نُصَلِّي إِلَّا فِي الْكَنِيسَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم،
وَقَالَ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ: أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ جَعَلْتَ وِفَادَتِي لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ
، قَالَ نَوْفٌ فَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي جَعَلَ وِفَادَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكُمْ وَمَعْنَى يَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ: الشِّرْكَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعَاصِيَ فَمَنْ قَالَ الشِّرْكَ لَا غَيْرُ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَةِ شَرْطُ الْأَعْمَالِ بِقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَمَنْ قَالَ: الْمَعَاصِيَ وَلَا بُدَّ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ أَنْ تَكُونَ اللَّفْظَةُ عَامَّةً وَلَكِنْ لَا نَقُولُ لَا بدّ اتِّقَاءِ الْمَعَاصِي بَلْ نَقُولُ مَوَاقِعُ الْمَعَاصِي فِي الْمَشِيئَةِ وَمَعْنَى يَتَّقُونَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُتَّقَى حِجَابًا وَوِقَايَةً، فَذَكَرَ تَعَالَى الرُّتْبَةَ الْعَالِيَةَ لِيَتَسَابَقَ السَّامِعُونَ إِلَيْهَا انْتَهَى.
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا زَكَاةُ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْهُ: وَيُؤْتُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي يُزَكُّونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: تَزْكِيَةُ الْأَعْمَالِ بِالْإِخْلَاصِ انْتَهَى، وَلَمَّا كَانَتِ التَّكَالِيفُ تَرْجِعُ إِلَى قِسْمَيْنِ تُرُوكٌ وَأَفْعَالٌ وَالْأَفْعَالُ قِسْمَانِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَالِ وَرَاجِعَةٌ إِلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ عِلْمٌ وَعَمَلٌ فَالْعِلْمُ الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ فَأَشَارَ بِالِاتِّقَاءِ إِلَى التُّرُوكِ وَبِالْفِعْلِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَالِ بِالزَّكَاةِ وَأَشَارَ إِلَى مَا بَقِيَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1» الْآيَةَ وَفَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ إِنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِذَلِكَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ قَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّسُولِ وَيَكُونَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَفَسَّرَ الْآيَاتِ هُنَا بِأَنَّهَا الْقُرْآنُ وَهُوَ الكتاب المعجز.
(1) سورة البقرة: 2/ 3.