المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَاّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

ص: 485

الْأَعْرَابُ صِيغَةُ جَمْعٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ. فَالْعَرَبِيُّ مَنْ لَهُ نَسَبٌ فِي الْعَرَبِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ مُنْتَجَعُ الغيث والكلأ، ما كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ من مواليهم. فَالْعَرَبِيُّ مَنْ لَهُ نَسَبٌ فِي الْعَرَبِ، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ مُنْتَجَعُ الْغَيْثِ وَالْكَلَأِ، كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ مَوَالِيهِمْ.

وَلِلْفَرْقِ نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ فَقِيلَ: الْأَعْرَابِيُّ، وَجُمِعَ الْأَعْرَابُ عَلَى الْأَعَارِبِ جَمْعِ الْجَمْعِ.

أَجْدَرُ أَحَقُّ وَأَحْرَى، قَالَ اللَّيْثُ: جَدَرَ جَدَارَةً فَهُوَ جَدِيرٌ وَأَجْدَرُ، بِهِ يُؤَنَّثُ وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

نَخِيلٌ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ

جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا

ص: 487

أَسَّسَ عَلَى وَزْنِ فَعَّلَ مُضَعَّفُ الْعَيْنِ، وَآسَسَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَضَعَ الْأَسَاسَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ فِيهِ: أُسٌّ. وَالْجُرُفُ: الْبِئْرُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهُوَّةُ وَمَا يَجْرُفُهُ السَّيْلُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ. هَارٍ: مُنْهَالٌ سَاقِطٌ يَتَدَاعَى بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَفِعْلُهُ هَارَ يَهُورُ وَيَهَارُ وَيَهِيرُ، فَعَيْنُ هَارٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وَاوًا أَوْ يَاءً، فَأَصْلُهُ هَايِرٍ أَوْ هَاوِرٍ فَقُلِبَتْ، وَصُنِعَ بِهِ مَا صُنِعَ بِقَاضٍ وَغَازٍ، وَصَارَ مَنْقُوصًا مِثْلَ شَاكِي السِّلَاحِ وَلَاثٍ قَالَ: لَاثٍ بِهِ الْآشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ.

وَقِيلَ: هَارٍ محذوف العين لفرعله، فَتَجْرِي الرَّاءُ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: تَهَوَّرَ وَتَهَيَّرَ. أَوَّاهٌ كَثِيرُ قَوْلِ أَوَّهْ، وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَتَوَجَّعُ وَوَزْنُهُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ. فَقِيَاسُ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ حَكَاهُ قُطْرُبٌ: حكى آه يؤوه أَوْهًا كَقَالَ يَقُولُ قَوْلًا وَنُقِلَ عَنِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: لَيْسَ مِنْ لَفْظِ أَوَّهْ فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَوَّهَ تَأْوِيهَا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا.

قَالَ الرَّاجِزُ: فَأَوَّهَ الدَّاعِي وَضَوْضَأَ أكلبه.

وَقَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ:

إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ

تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

وَفِي أَوَّهْ اسْمِ الْفِعْلِ لُغَاتٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ لنحو. الظَّمَأُ: الْعَطَشُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ مصدر ظمىء يَظْمَأُ فَهُوَ ظَمْآنُ وَهِيَ ظَمْآنُ، وَيُمَدُّ فَيُقَالُ ظِمَاءٌ. الْوَادِي: مَا انْخَفَضَ مِنَ الأصل مستطيلا كمحاري السُّيُولِ وَنَحْوِهَا، وَجَمَعَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى أَوْدِيَةٍ وَلَيْسَ بِقِيَاسِهِ، قَالَ تَعَالَى:

فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «1» وَقِيَاسُهُ فَوَاعِلُ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوهُ لِجَمْعِ الْوَاوَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ:

وَلَا أَعْرِفُ فَاعِلًا أفعلة سِوَاهُ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ نَادٍ وَأَنْدِيَةً قَالَ الشَّاعِرُ:

وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمُ

وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ

وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِي جَمْعِهِ أَوْدَاءٌ، كَصَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ قَالَ جَرِيرٌ:

عَرَفْتُ بِبُرْقَةِ الأوداء رسما

مجيلا طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَادِي كُلُّ مُنْعَرِجٍ مِنْ جِبَالٍ وَآكَامٍ يَكُونُ مَنْفَذًا لِلسَّيْلِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ فَاعِلٌ مِنْ وَدِيَ إِذَا سَالَ، وَمِنْهُ الْوَدْيُ. وَقَدْ شَاعَ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْأَرْضِ تَقُولُ: لَا تُصَلِّ فِي وَادِي غَيْرِكَ.

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ

(1) سورة الرعد: 13/ 17.

ص: 488

اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَثْبَتَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ مَا نَفَاهُ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِينَ، فَدَلَّ لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُسِيئُونَ، وَأَيُّ إِسَاءَةٍ أَعْظَمُ مِنَ النِّفَاقِ وَالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَالرَّغْبَةِ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَتْ إِنَّمَا لِلْحُصْرِ، إِنَّمَا هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى:

إِنَّمَا السَّبِيلُ فِي اللَّائِمَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهِ لِغِنَاهُمْ، وَكَانَ خَبَرُ السَّبِيلُ عَلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ فُصِلَ بإلى كَمَا قَالَتْ:

هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا

أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ

لِأَنَّ عَلَى تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَقِلَّةِ مَنَعَةِ مَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ لَا سَبِيلَ لِي عَلَى زَيْدٍ، وَلَا سَبِيلَ لِي إِلَى زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ: عَبْدِ الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ اسْتَأْذَنُوا فِي الْقُعُودِ بِالْمَدِينَةِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ، فَقِيلَ: رَضُوا بِالدَّنَاءَةِ وَانْتِظَامِهِمْ فِي سِلْكِ الْخَوَالِفِ.

وَعُطِفَ وَطَبَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخَلُّفِهِمْ رضاهم بالدناءة، وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّ عرض الْمُعْتَذِرِ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا يَعْتَذِرُ بِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ فِي اعْتِذَارِهِ كُفَّ عَنْهُ. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ عِلَّةٌ لِانْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، لَمْ يُمْكِنْ تَصْدِيقُهُمْ فِي مَعَاذِيرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: قد نبأ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ، وَنَحْوُ هذا. ونبأ هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَعَرَّفَ، نَحْوُ قَوْلِهِ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ وَالثَّانِي هُوَ مِنْ أَخْبَارِكُمْ أَيْ: جُمْلَةٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَعَلَى رَأْيِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ تَكُونُ مِنْ زَائِدَةً أَيْ أَخْبَارَكُمْ. وَقِيلَ: نَبَّأَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَالثَّالِثُ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِكُمْ كَذِبًا أَوْ نَحْوَهُ. وَسَيَرَى اللَّهُ تَوَعُّدٌ أَيْ: سَيَرَاهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ، فَيَقَعُ الْجَزَاءُ مِنْهُ عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَتُنِيبُونَ أَمْ تَثْبُتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ وَالتَّنَبُّؤِ بِأَعْمَالِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عِيسَى: وَسَيَرَى لِجَعْلِهِ مِنَ الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُرَى، ثُمَّ يُجَازِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يُظْهِرُونَ

ص: 489

لِلرَّسُولِ عِنْدَ تَقْرِيرِهِمْ مَعَاذِيرَهُمْ حُبًّا وَشَفَقَةً فَقِيلَ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ هَلْ يَبْقَوْنَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَا يَبْقَوْنَ؟ وَالْغَيْبُ وَالشَّهَادَةُ هُمَا جَامِعَانِ لِأَعْمَالِ الْعَبْدِ لَا يَخْلُو مِنْهُمَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ كَاطِّلَاعِهِ عَلَى ظَوَاهِرِهِمْ، لَا تَفَاوُتَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ.

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ الْكَاذِبَ بِالْحَلِفِ، وَأَنَّ سَبَبَ الْحَلِفِ هُوَ طِلْبَتُهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يَلُومُوهُمْ وَلَا يُوَبِّخُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَيْ: فأجيبوهم إِلَى طِلْبَتِهِمْ. وَعَلَّلَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ، أَيْ مُسْتَقْذَرُونَ بِمَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ، فَتَجِبُ مُبَاعَدَتُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ كَمَا قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1» فَمَنْ كَانَ رِجْسًا لَا تَنْفَعُ فِيهِ الْمُعَاتَبَةُ، وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الرِّجْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْحَلِفِ مَخَافَتَهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يُقْبِلُوا عَلَيْهِمْ وَلَا يُوَادُّوهُمْ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ تَوَلِّيهِمْ، وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ بِرِجْسِيَّتِهِمْ، وَبِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لَا تُكَلِّمُوهُمْ.

وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ قَالَ: «لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ» .

قِيلَ: إِنَّ هذه الآية من أول مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ قَدِ اعْتَذَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقُعُودِ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَأَذِنَ فَخَرَجُوا وَقَالَ أَحَدُهُمْ: مَا هُوَ إِلَّا شَحْمَةٌ لِأَوَّلِ آكِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ لِلْمُنَافِقِينَ فِي مَجْلِسٍ مِنْهُمْ: نَزَلَ فِيكُمْ قُرْآنٌ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ وَصْفَكُمْ فِيهِ بِالرِّجْسِ، فَقَالَ لَهُمْ مَخْشِيٌّ: لَوَدِدْتُ أَنْ أُجْلَدَ مِائَةً وَلَا أَكُونُ مَعَكُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ:«مَا جَاءَ بِكَ» ؟ فَقَالَ لَهُ: وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْفَعُهُ الرِّيحُ، وَأَنَا فِي الْكِنِّ.

فَرُوِيَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَابَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَمْرٌ بِانْتِهَارِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ وَالْوَصْمِ بِالنِّفَاقِ، وَهَذَا مَعَ إِجْمَالٍ لَا مَعَ تَعْيِينٍ مُصَرِّحٍ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَيْدَانُ الْمَقَالَةِ مَبْسُوطًا. وَقَوْلُهُ: رِجْسٌ أَيْ نَتَنٌ وَقَذَرٌ.

وَنَاهِيكَ بِهَذَا الْوَصْفِ مَحَطَّةً دُنْيَوِيَّةً، ثُمَّ عَطَفَ لِمَحَطَّةِ الْآخِرَةِ. وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُمْ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلى الله.

(1) سورة المائدة: 5/ 90.

ص: 490

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ:

قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بَعْدَهَا، وَحَلَفَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ لَنَكُونُنَّ مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَطَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، فَنَزَلَتْ

، وَهُنَا حُذِفَ الْمَحْلُوفُ بِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ «1» أُثْبِتَ كَقَوْلِهِ:

إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها «2» وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ «3» فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَذْفِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي انْعِقَادِ ذَلِكَ يَمِينًا. وَغَرَضُهُمْ فِي الْحَلِفِ رضا الرسول والمؤمنين عنهم لِنَفْعِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، لَا أَنَّ مَقْصِدَهُمْ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ: هِيَ أَيْمَانٌ كاذبة، وأعذار مختلفة لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا لَمَّا ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ، جَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ نَصًّا، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَهُنَا ذَكَرَ الْحَلِفَ لِأَجْلِ الرِّضَا فَأَبْرَزَ النَّهْيَ عَنِ الرِّضَا فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى، وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ، وَجَعَلَ جَوَابَهُ انْتِفَاءَ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، فَصَارَ رِضَا الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ أَبْعَدَ شَيْءٍ فِي الْوُقُوعِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُمْ. وَنَصَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الرِّضَا وَهُوَ الْفِسْقُ، وَجَاءَ اللَّفْظُ عَامًّا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ وَيَكُونُونَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ، إِذِ الْعَامُّ إِذَا نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ مَخْصُوصٍ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنَ الْعُمُومِ بِتَخْصِيصٍ وَلَا غَيْرِهِ.

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ مِنْ أَسَدٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَطَفَانَ. وَمِنْ أَعْرَابِ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ أَيْ: أَشَدُّ كُفْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَالتَّقْدِيرُ أَشَدُّ أَسْبَابِ كُفْرٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ. وَكَانُوا أَشَدَّ كُفْرًا وَنِفَاقًا لِتَوَحُّشِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْهَوَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِمْ، فَيَزِيدُ فِي تِيهِهِمْ وَنَخْوَتِهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَطَيْشِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ بِلَا سَائِسٍ وَلَا مُؤَدِّبٍ وَلَا ضَابِطٍ، فنشأوا كَمَا شَاءُوا لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْعُلَمَاءِ وَمَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلِبُعْدِهِمْ عَنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ. كَانُوا أَطْلَقَ لِسَانًا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ كُفْرُهُمْ سِرًّا وَلَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ إِلَّا تَعْرِيضًا. وأجدر أي: أحق أن لا يَعْلَمُوا أَيْ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا. وَالْحُدُودُ: هُنَا الْفَرَائِضُ. وقيل: الوعيد عل مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: مَقَادِيرُ التَّكَالِيفِ

(1) سورة التوبة: 9/ 95.

(2)

سورة القلم: 68/ 17. [.....]

(3)

سورة الأنعام: 6/ 109.

ص: 491

وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَقَلُّ عِلْمًا بِالسُّنَنِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْجَفَاءَ وَالْقَسْوَةَ فِي الْفَدَّادِينَ»

وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أهل الوبر والمدبر، حَكِيمٌ فِيمَا يُصِيبُ بِهِ مُسِيئَهُمْ وَمُحْسِنَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.

وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَتَمِيمٍ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا هِيَ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: كُلُّ نَفَقَةٍ لَا تَهْوَاهَا أَنْفُسُهُمْ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا تَقِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِيَاءً، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ الْمَثُوبَةِ عِنْدَهُ.

فَعَلَ هَذَا الْمَغْرَمُ إِلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ. وَقِيلَ: الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ وَالْخُسْرُ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَغْرَمُ مَا لَزَمَ أَصْحَابَهُ وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِلُزُومِهِ وَإِلْحَاحِهِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. وَالدَّوَائِرُ: هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهَا، تُحِيطُ بِهِ كَمَا تُحِيطُ الدَّائِرَةُ. وَقِيلَ: تَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ هُنَا مَوْتُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَظُهُورِ الشِّرْكِ.

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا

تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا

وَتَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ لِيَخْلُصُوا مِنْ إِعْيَاءِ النَّفَقَةِ، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ دائرة السوء، دعا مُعْتَرِضٌ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ ما أخبر به عنهم كَقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ «1» وَالدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ هُوَ بِمَعْنَى إِنْجَابِ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَدْعُو عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَهِيَ فِي قَبْضَتِهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: عَلَيْهِمْ تَدُورُ الْمَصَائِبُ وَالْحُرُوبُ الَّتِي يَتَوَقَّعُونَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُنَا وَعْدٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِخْبَارٌ. وَقِيلَ: دُعَاءٌ أَيْ: قُولُوا عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ أَيْ الْمَكْرُوهِ، وَحَقِيقَةُ الدَّائِرَةِ مَا تَدُورُ بِهِ الْأَيَّامَ. وَقِيلَ: يَدُورُ بِهِ الْفَلَكُ فِي سَيْرِهِ، وَالدَّوَائِرُ انْقِلَابُ النِّعْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا. وَفِي الْحُجَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ مَصْدَرًا كَالْعَاقِبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: والسوء هُنَا. وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ ثَانِيَةٌ بِالضَّمِّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، فَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ. قَالَ الفراء: سوأته سوأ وَمَسَاءَةً وَسَوَائِيَةً، وَالضَّمُّ الِاسْمُ وَهُوَ الشَّرُّ وَالْعَذَابُ، وَالْفَتْحُ ذَمُّ الدَّائِرَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وُصِفَتِ الدَّائِرَةُ بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا: رَجُلُ سَوْءٍ فِي نَقِيضِ رَجُلِ صِدْقٍ، يَعْنُونَ فِي هَذَا الصَّلَاحَ لَا صِدْقَ اللِّسَانِ، وَفِي

(1) سورة المائدة: 5/ 64.

ص: 492

ذَلِكَ الْفَسَادَ. وَمِنْهُ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ «1» أَيْ امْرَأً فَاسِدًا. وَقَالَ المبرد: لسوء بِالْفَتْحِ الرَّدَاءَةُ، وَلَا يَجُوزُ ضَمُّ السِّينِ فِي رَجُلِ سَوْءٍ، قَالَهُ أَكْثَرُهُمْ. وَقَدْ حُكِيَ بِالضَّمِّ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَكُنْتَ كَذِيبِ السُّوءِ لَمَّا رَأَى دَمًا

بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ

وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ.

وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيَنَةَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ مُقَرِّنٍ: كُنَّا عَشَرَةً وَلَدَ مُقَرِّنٍ فَنَزَلَتْ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ الْآيَةَ يُرِيدُ: السِّتَّةَ وَالسَّبْعَةَ الْإِخْوَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدَدِهِمْ وبينهم. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ ذِي النِّجَادَيْنِ وَرَهْطِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَجُهَيْنَةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ذَكَرَ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْنَمًا، وَذَكَرَ هُنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْقُرُبَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ جَزَاءُ مَا يُنْفَقُ إِنَّمَا يَظْهَرُ ثَوَابُهُ الدَّائِمُ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي قِصَّةِ أُولَئِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ نَتِيجَةِ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اتِّخَاذُهُ مَا يُنْفِقُ مغرما وتربصه بالمؤمنين بالدوائر. وَالْأَجْوَدُ تَعْمِيمُ الْقُرُبَاتِ مِنْ جِهَادٍ وَصَدَقَةٍ، وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُهُ سَبَبَ وَصْلٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَدْعِيَةِ الرَّسُولِ،

وَكَانَ يَدْعُو لِلْمُصَدِّقِينَ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَيَسْتَغْفِرُ لهم كقوله صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»

وَقَالَ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ «2» وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَصَلَوَاتِ عَلَى قُرُبَاتٍ. قَالَ ابن عطية:

ويحتمل أن يَكُونَ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ عَطْفًا عَلَى مَا يُنْفِقُ، أَيْ: وَيَتَّخِذُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ قُرْبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَوَاتُ الرَّسُولِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ:

أَدْعِيَتُهُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ سَمَّاهَا صَلَوَاتٍ جَرْيًا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا،

وَحِينَ جَاءَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ قَالَ: «آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا»

وَالضَّمِيرُ فِي أَنْهَا قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى النَّفَقَاتِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: قُرْبَةٌ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِصِحَّةِ مَا اعْتَقَدَ مِنْ كَوْنِ نَفَقَتِهِ قُرُبَاتٍ وَصَلَوَاتٍ وَتَصْدِيقُ رَجَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ أَلَا وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ إِنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا فِي السِّينِ مِنْ تَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَمَا أَدَلُّ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تعالى بمكان إذا

(1) سورة مريم: 19/ 28.

(2)

سورة التوبة: 9/ 103.

ص: 493

خَلَصَتِ النِّيَّةُ مِنْ صَاحِبِهَا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ السِّينَ تُفِيدُ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ.

وَقَرَأَ وَرْشٌ: قُرُبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالسُّكُونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قُرُبَاتٍ أَنَّهُ بِالضَّمِّ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرُبَةٍ فَجَاءَ الضَّمُّ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرْبَةٍ بِالسُّكُونِ فَجَاءَ الضَّمُّ اتِّبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالُوا: ظُلُمَاتٌ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ.

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: وَحُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، بَيْعَةَ الْحُدَيْبِيَةِ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ. وَمَنْ فَسَّرَ السَّابِقِينَ بِوَاحِدٍ كَأَبِي بَكْرٍ أَوْ عَلِيٍّ، أَوْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَوْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَوْلُهُ بِعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْقَ هُوَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُمُ السَّابِقُونَ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، سَبَقُوا إِلَى ثَوَابِ الله وحسن جزائه، ومن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَيْ: وَمِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَوَّلًا وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، وَأَهْلُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَعَلَّمَهُمُ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ هُمْ جَمِيعُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الْهِجْرَةُ، لَكَانَ قَوْلًا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَتَكُونُ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمْ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ التَّابِعُونَ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ لَزِمَ هَذَا الِاسْمُ الَّذِي هُوَ التَّابِعُونَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمُ السَّابِقُونَ في الهجرة والنصرة، لِأَنَّ فِي لَفْظِ السَّابِقَيْنِ إِجْمَالًا، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ إِلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَالسَّبْقُ إِلَى الْهِجْرَةِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا شَاقَّةً عَلَى النَّفْسِ وَمُخَالِفَةً لِلطَّبْعِ، فَمَنْ أَقْدَمَ أَوَّلًا صَارَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ السَّبْقُ فِي النُّصْرَةِ فَازُوا بِمَنْصِبٍ عَظِيمٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَلَمَّا بين تعالى الصائل الْأَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْإِعْدَادَيْنِ وَالثَّنَاءَيْنِ، هُنَاكَ قَالَ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ «1» وَهُنَا رضي الله عنهم، وَهُنَاكَ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ «2» وَهُنَا وَأَعَدَّ لَهُمْ

(1) سورة التوبة: 9/ 99.

(2)

سورة التوبة: 9/ 99.

ص: 494

جَنَّاتٍ تَجْرِي، وَهُنَاكَ خَتَمَ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» وَهُنَا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعِيسَى الْكُوفِيُّ، وَسَلَامٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَطَلْحَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَالْأَنْصَارُ: بِرَفْعِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى وَالسَّابِقُونَ، فَيَكُونُ الْأَنْصَارُ جَمِيعُهُمْ مُنْدَرِجِينَ فِي هَذَا اللَّفْظِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَهِيَ الْجَرُّ، يَكُونُونَ قِسْمَيْنِ: سَابِقٌ أَوَّلُ، وَغَيْرُ أَوَّلَ.

وَيَكُونُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِالرِّضَا سَابَقُوهُمْ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ الضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَائِدٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّابِقُونَ مبتدأ ورضي اللَّهُ الْخَبَرُ، وَجَوَّزُوا فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: هُمُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يُؤْمِنُ أَيْ: وَمِنْهُمُ السَّابِقُونَ. وَجَوَّزُوا فِي وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَفِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ خَبَرُهُ رضي الله عنهم، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالسَّابِقُونَ وَجْهُ الْعَطْفِ، وَوَجْهٌ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ رَضِيَ اللَّهُ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مُتَكَلَّفَةٌ لَا تُنَاسِبُ إِعْرَابَ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْ تَحْتِهَا بِإِثْبَاتِ مِنْ الْجَارَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مَصَاحِفِ مكة. وباقي السباعة بِإِسْقَاطِهَا عَلَى مَا رُسِمَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، بِغَيْرِ وَاوٍ صِفَةً لِلْأَنْصَارِ، حَتَّى قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّهَا بِالْوَاوِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُبَيٍّ فَقَالَ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ الْجُمُعَةِ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «2» وَأَوْسَطِ الحشر:

وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ «3» وَآخِرِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ «4» .

وَرُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَؤُهُ بِالْوَاوِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ فَقَالَ: أُبَيٍّ فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَانَا وَقَعْنَا وَقْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا.

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ، مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ صَالِحٌ، ثُمَّ بَيَّنَ رُؤَسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُنَافِقِينَ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَفِي الْمَدِينَةِ لَا تَعْلَمُونَهُمْ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ أَعْيَانَهُمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ مُنَافِقِينَ. وَمَعْنَى حَوْلَكُمْ: حَوْلَ بَلْدَتِكُمْ وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَالَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَعُصَيَّةُ، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز الْمَدِينَةَ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وممن، فيكون المجرور أن

(1) سورة البقرة: 182/ 192.

(2)

سورة الجمعة: 62/ 3.

(3)

سورة الحشر: 59/ 10.

(4)

سورة الأنفال: 8/ 75.

ص: 495

يَشْتَرِكَانِ فِي الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مُنَافِقُونَ، وَيَكُونُ مَرَدُوا اسْتِئْنَافًا، أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ خِرِّيجُونَ فِي النِّفَاقِ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَرَدُوا صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مُنَافِقُونَ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ، فَيَصِيرُ نَظِيرَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَفِي الْقَصْرِ الْعَاقِلُ، وَقَدْ أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِلزَّجَّاجِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَيُقَدَّرُ مَوْصُوفٌ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمُبْتَدَأُ أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَوْمٌ مَرَدُوا، أَوْ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي مُطْلَقٍ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي خُصُوصِيَّتِهِ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ مَعَ مِنْ وَإِقَامَةَ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي التَّفْصِيلِ مُنْقَاسٌ كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ. وأما أن ابْنُ جَلَا فَضَرُورَةُ شِعْرٍ كَقَوْلِهِ:

يَرْمِي بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرْ أَيْ بِكَفَّيْ رَجُلٍ. وَكَذَلِكَ أَنَا ابْنُ جَلَا تَقْدِيرُهُ: أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا أَيْ كَشَفَ الْأُمُورَ. وَبَيَّنَهَا وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَرَدُوا شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَرَدُوا فِي قَوْلِهِ: شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ «1» وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ:

مَرَدُوا، مَرَنُوا وَثَبَتُوا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَتَوْا مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَرَّدَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَامُوا عَلَيْهِ لَمْ يَتُوبُوا لَا تَعْلَمُهُمْ أَيْ: حَتَّى نُعْلِمَكَ بِهِمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُ عَوَاقِبَ أَمْرِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. أَوْ لَا تَعْلَمُهُمْ مُنَافِقِينَ، لِأَنَّ النِّفَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ لَفْظُ مُنَافِقِينَ فَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ قَالَهُ: الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُخْفُونَ عَلَيْكَ مَعَ فِطْنَتِكَ وَشَهَامَتِكَ وَصِدْقِ فِرَاسَتِكَ لِفَرْطِ تَوَقِّيهِمْ مَا يُشَكِّكُ فِي أَمْرِهِمْ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:

لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قَالَ: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَكَلَّفُونَ عِلْمَ النَّاسِ؟ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ، فُلَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا سَأَلْتَ أَحَدَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنْتَ لَعَمْرِي بِنَفْسِكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِأَعْمَالِ النَّاسِ، وَلَقَدْ تَكَلَّفْتَ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَهُ الرُّسُلُ. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٍ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «3» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ انْتَهَى. فَلَوْ عَاشَ قَتَادَةُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي هُوَ قَرْنُ ثَمَانِمِائَةٍ وَسَمِعَ مَا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى الصُّوفِ من الدعاوى

(1) سورة النساء: 4/ 117- 118.

(2)

سورة الشعراء: 26/ 112.

(3)

سورة هود: 11/ 86.

ص: 496

وَالْكَلَامِ الْمُبَهْرَجِ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّجَرِي عَلَى الْإِخْبَارِ الْكَاذِبِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، لَقَضَى مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ. وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ مِثْلَ مَا حَكَى قَتَادَةُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ، لَكِنَّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُمْ زَمَانٌ. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ فِي سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ إِبْطَانًا، وَيُبْرِزُونَ لَكَ ظَاهِرًا كَظَاهِرِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَشُكُّ مَعَهُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ وَضُرُوبِهِ، وَلَهُمْ فِيهِ الْيَدُ الطُّولَى انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ:

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ تَهْدِيدٌ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «1» أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى هَذَا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرَادَّةً فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بِالنِّفَاقِ.

وَرُوِيَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عليه السلام خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةِ بَدْرٍ فَنَدَرَ بِالْمُنَافِقِينَ وَصَرَّحَ وَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ» حَتَّى أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَرَآهُمْ عُمَرُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى الْجُمُعَةِ فَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ انْتَشَرُوا، وَأَنَّ الْجُمُعَةِ فَاتَتْهُ، فَاخْتَفَى مِنْهُمْ حَيَاءً، ثُمَّ وَصَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُقْضَ وَفَهِمَ الْأَمْرِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم على جهة التأديب اجتهاد مِنْهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلُخْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا يَخْرُجُ الْعُصَاةُ وَالْمُتَّهَمُونَ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى نِفَاقِ مَنْ أُخْرِجَ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ إِخْرَاجِ الْعُصَاةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عِلَلٌ وَأَدْوَاءٌ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُمْ بِهَا،

وَرُوِيَ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ وَقَالَ: «سِتَّةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا»

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. قِيلَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هو هو أنهم بِإِقَامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَرَاهِيَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ هَمُّهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا، والثاني

(1) سورة الملك: 67/ 40. [.....]

ص: 497

الْجِهَادُ الَّذِي يُؤْمَرُونَ بِهِ قَسْرًا لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَرَّتَيْنِ هُمَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كُلُّ صِنْفٍ عَذَابٌ فَهُوَ مَرَّتَانِ، وَقَرَأَ فَلا تُعْجِبْكَ «1» الْآيَةَ. وَقِيلَ:

إِحْرَاقُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْآخَرُ إِحْرَاقُهُمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ سَيُعَذِّبُهُمْ بِالْيَاءِ، وَسَكَّنَ عَيَّاشُ عن أبي عمر والياء.

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْثَقَ سَبْعَةً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ: كَرْدَمُ، وَمِرْدَاسُ، وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ. وَقِيلَ: سِتَّةٌ أَوْثَقَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: كَانُوا خَمْسَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثَةً أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَأَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيُّ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَحْدَهُ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ وَآخَرُونَ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ حِينَ قَدِمَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُ كُلَّمَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَرَآهُمْ مُوَثَّقِينَ فَسَأَلَ عَنْهُمْ: فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَا يَحُلُّونَ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يَحُلُّهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَأَنَا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فِيهِمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» فَنَزَلَتْ

، فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ فِي شَأْنِهِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ اسْتَشَارُوهُ فِي النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَشَارَ هُوَ لَهُمْ إِلَى حَلْقِهِ يُرِيدُ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُهُمْ إِنْ نَزَلُوا، فَلَمَّا افْتَضَحَ تَابَ وَنَدِمَ، وَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَقْسَمَ أن لا يَطْعَمَ وَلَا يَشْرَبَ حَتَّى يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ يَمُوتَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتَّى عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَالِاعْتِرَافُ: الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ عَمَلًا صَالِحًا تَوْبَةً وَنَدَمًا، وَآخَرَ سَيِّئًا. أَيْ تَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ قَالَهُ: الطَّبَرِيُّ، أَوْ خُرُوجًا إِلَى الْجِهَادِ قَبْلُ. وَتَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. أَوِ تَوْبَةً وَإِثْمًا قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ.

وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ:

خَلَطْتُ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، وَهُوَ بِخِلَافِ خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْمَاءَ خُلِطَ بِاللَّبَنِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَتَى خلطت شيئا شيء صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، مِنْ حَيْثُ مَدْلُولِيَّةُ الْخَلْطِ، لِأَنَّهَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِعْتُ الشَّاءَ شَاةً وَدِرْهَمًا، بِمَعْنَى شاة بدرهم.

(1) سورة التوبة: 9/ 55.

ص: 498

وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْبَةِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ انْتَهَى. وَجَاءَ بِلَفْظِ عَسَى لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَلَى وَجَلٍ، إِذْ لَفْظَةُ عَسَى طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ، فَأُبْرِزَتِ التَّوْبَةُ فِي صُورَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى قَبُولِ التَّوْبَةِ وَذَلِكَ، صِفَةُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ. مَخْصُوصِينَ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ قَوْلِهِ:

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.

وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنْ تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَتَابُوا رَآهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حَوْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ خُلِطَتْ أَلْوَانُهُمْ بَعْدَ اغْتِسَالِهِمْ فِي أَنْهُرَ ثَلَاثَةٍ، وَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْبِيضِ الْوُجُوهِ.

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ خَلَطُوا

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا، فَقَالَ:«مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا» فَنَزَلَتْ.

فَيُرْوَى أَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ:

الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. فَقَوْلُهُ: عَلَى هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هُوَ لِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ، وَالنَّاسُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْأَمْوَالِ، إِذْ يَخْرُجُ عَنْهُ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا كَالرَّبَاعِ وَالثِّيَابِ. وَفِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ كالعبيد، وصدقة مُطْلَقٌ، فَتَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ. وَإِطْلَاقُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَفِي قَوْلِهِ: خُذْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَيَنْظُرُ فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خُذْ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ خُذْ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَانَ حَالًا، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةً، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ تُطَهِّرُهُمْ عَائِدًا عَلَى صَدَقَةٍ، وَيَبْعُدُ هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضمير أن، فَأَمَّا مَا حَكَى مَكِّيٌّ مِنْ أَنَّ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةٌ للصدقة وتزكيهم حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خُذْ، فَقَدْ رُدَّ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَدَقَةً مُطَهِّرَةً وَمُزَكِّيًا بِهَا، وَهَذَا فَاسِدُ الْمَعْنَى، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ وَاوٍ جَازَ انْتَهَى. وَيَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ:

وَأَنْتَ تُزَكِّيهِمْ، لَكِنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالتَّزْكِيَةُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّطَهُّرِ وَزِيَادَةٌ فِيهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْإِنْمَاءِ وَالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُطَهِّرُهُمْ مِنْ أَطْهَرَ وَاطَّهَّرَ وَطَهَّرَ لِلتَّعْدِيَةِ مَنْ طَهُرَ. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيْ ادْعُ لَهُمْ، أَوِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِذَا

ص: 499

مَاتُوا، أَقْوَالٌ. وَمَعْنَى سَكَنٌ: طُمَأْنِينَةٌ لَهُمْ، أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ صَدَقَتَهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ رَحْمَةٌ لَهُمْ قَالَهُ أَيْضًا، أَوْ قُرْبَةٌ قَالَهُ أَيْضًا، أَوْ زِيَادَةُ وَقَارٍ لَهُمْ قَالَهُ: قَتَادَةُ، أَوْ تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ قَالَهُ: أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوْ أَمْنٌ لَهُمْ. قَالَ:

يَا جَارَةَ الْحَيِّ إِنْ لَا كُنْتِ لِي سَكَنًا

إِذْ لَيْسَ بَعْضٌ مِنَ الْجِيرَانِ أَسْكَنَنِي

وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: إنما كانت صلاته سَكَنًا لَهُمْ لِأَنَّ رُوحَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ رُوحًا قَوِيَّةً مُشْرِقَةً صَافِيَةً، فَإِذَا دَعَا لَهُمْ وَذَكَرَهُمْ بِالْخَيْرِ ثَارَتْ آثَارٌ مِنْ قُوَّتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ فَأَشْرَقَتْ بِهَذَا السَّبَبِ أَرْوَاحُهُمْ، وَصَفَتْ سَرَائِرُهُمْ، وَانْقَلَبُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْجُسْمَانِيَّةِ إِلَى الرُّوحَانِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بْنُ سُلَيْمَانَ عُرِفَ بِابْنِ النَّقِيبِ فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: كَلَامُ الرَّازِيُّ كَلَامٌ فَلْسَفِيٌّ يُشِيرُ فِيهِ إِلَى أَنَّ قُوَى الْأَنْفُسِ مُؤَثِّرَةٌ فَعَّالَةٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فِي هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِفِينَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ هُمْ سِوَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.

وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: إِنَّ صَلَاتَكَ هُنَا، وَفِي هُودٍ صَلَاتَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بِاعْتِرَافِهِمْ، عَلِيمٌ بِنَدَامَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا بِالْأَمْسِ مَعَنَا لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ، فَنَزَلَتْ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِخِلَافٍ عَنْهُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُتَخَلِّفِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَا هَذِهِ الْخَاصَّةُ الَّتِي يُخَصُّ بِهَا هَؤُلَاءِ؟ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ لِلْقَوْلِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّائِبِينَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْكِيدٌ أَنَّ اللَّهَ مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَا عَلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُتَابَ عَلَيْهِمْ وَتُقْبَلَ صَدَقَاتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ، وَيَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ الْخَالِصَةَ النِّيَّةِ لِلَّهِ؟

وقيل: وجه التخصيص بهو، هُوَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَأَخْذَ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَاقْصِدُوهُ وَوَجِّهُوهَا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ مَعْنَاهُ قَبُولُهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَنَّى فِيهَا عَنِ الْقَبُولِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ، فَيَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى يَأْمُرُ بِهَا وَيَشْرَعُهَا كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنَ النَّاسِ كَذَا إِذَا حملهم على

ص: 500

أدائه. وعن بِمَعْنَى مِنْ، وَكَثِيرًا مَا يُتَوَصَّلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بِهَذِهِ، وَهَذِهِ تَقُولُ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ غِنًى وَمِنْ غِنًى، وَفَعَلَ ذَلِكَ فُلَانٌ مِنْ أَسْرِهِ وَنَظَرِهِ، وَعَنْ أَسْرِهِ وَنَظَرِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: كَلِمَةُ مِنْ وَكَلِمَةُ عَنْ مُتَقَارِبَتَانِ، إِلَّا أَنَّ عَنْ تُفِيدُ الْبُعْدَ. فَإِذَا قِيلَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَمِيرِ أَفَادَ أَنَّهُ جَلَسَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَلَكِنْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْبُعْدِ فَيُفِيدُهَا أَنَّ التَّائِبَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَيَحْصُلُ لَهُ انْكِسَارُ الْعَبْدِ الَّذِي طَرَدَهُ مَوْلَاهُ وَبُعْدُهُ عَنْ حَضْرَتِهِ. فَلَفَظَةُ عَنْ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّائِبِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَوْضُوعِ عَنْ أَنَّهَا لِلْمُجَاوَزَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ زَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ جَاوَزَ إِلَيْكَ، وَإِذَا قُلْتَ: مِنْ زَيْدٍ دَلَّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَأَنَّهُ ابْتِدَاءُ أَخْذِكَ إياه من زيد. وعن أَبْلَغُ لِظُهُورِ الِانْتِقَالِ مَعَهُ، وَلَا يَظْهَرُ مَعَ مِنْ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا جَاوَزَتْ تَوْبَتُهُمْ عَنْهُمْ إِلَى اللَّهِ، اتَّصَفَ هُوَ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِفٌ بِالتَّوْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا النِّسْبَةِ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا

رُوِيَ: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» ؟.

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: صِيغَةُ أَمْرٍ ضَمَّنَهَا الْوَعِيدَ، وَالْمُعْتَذِرُونَ التَّائِبُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ، هُمُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. فَسَيَرَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِهِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْتَذِرِينَ الْخَالِطِينَ التَّائِبِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ أُبْرِزُوا بِقَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، إِبْرَازَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «1» وَسَيَرَى الْآيَةَ تَنْقِيصًا مِنْ حَالِهِمْ وَتَنْفِيرًا عَمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ تَابُوا لَيْسُوا كَالَّذِينَ جَاهَدُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لَا يَرْغَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ.

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ: هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُعْرِضِينَ لِلتَّوْبَةِ مَعَ بِنَائِهِمْ مسجد الضرار. وقرأ

(1) سورة التوبة: 9/ 94.

ص: 501

الْحَسَنُ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ نَصَّاحٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: مُرْجَوْنَ وترجي بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، لأمر الله أي الحكمة، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إِنْ أَصَرُّوا وَلَمْ يَتُوبُوا، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ تَابُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَرْجَأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَضْرَتِهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ أَرْجَأَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُمْ بِمَا عَلِمَ مِنْهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا. وإما مَعْنَاهَا الْمَوْضُوعَةُ لَهُ هُوَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، فَيَنْجَرُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَهِيَ هُنَا عَلَى أَصْلِ مَوْضُوعِهَا وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ مَا زَعَمُوا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ وَضْعَ الِاشْتِرَاكِ. والله عليم بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ بِهِمْ.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ لَمَّا ذَكَرَ طَرَائِقَ ذَمِيمَةً لِأَصْنَافِ الْمُنَافِقِينَ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا ذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الشَّرِّ حَتَّى ابْتَنَى مَجْمَعًا لِلْمُنَافِقِينَ يُدَبِّرُونَ فِيهِ مَا شَاءُوا مِنَ الشَّرِّ، وَسَمَّوْهُ مَسْجِدًا.

وَلَمَّا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَبَعَثُوا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ وَصَلَّى فِيهِ وَدَعَا لَهُمْ، حَسَدَهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ بَنُو غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ، وَبَنُو سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَحَرَّضَهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْفَاسِقُ عَلَى بِنَائِهِ حِينَ نَزَلَ الشَّامَ هَارِبًا من وقعة حنين فراسلهم فِي بِنَائِهِ وَقَالَ: ابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ آتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَبَنَوْهُ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ. وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ الْمَسْجِدَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ، وَنَبْتَلُ بْنُ الحرث، وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَنِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَزْهَرُ، وبخرج بْنُ عَمْرٍو، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالشَّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تصلي لنا فيه، وتدعوا لَنَا بِالْبَرَكَةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ وشغل، وَإِذَا قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَلَّيْنَا فِيهِ» وَكَانَ إِمَامُهُمْ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَكَانَ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ حَسَنَ الصَّوْتِ، وَهُوَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ إِمَامَةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى الْكُوفَةِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَدَعَا مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنًا وَعَاصِمًا ابْنَيْ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: بَعَثَ عَمَّارَ بْنَ

ص: 502

يَاسِرٍ وَوَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ بِهَدْمِهِ وَتَحْرِيقِهِ، فَهُدِمَ وَحُرِّقَ بِنَارٍ فِي سَعَفٍ، وَاتُّخِذَ كُنَاسَةً تُرْمَى فِيهَا الْجِيَفُ وَالْقُمَامَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: صَلَّوْا فِيهِ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَلَمْ يُحَرَّقْ.

وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَابْنُ عَامِرٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْخَبَرُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ بِإِضْمَارِ إِمَّا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَإِمَّا فِي آخِرِهَا بِتَقْدِيرِ لَا تَقُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ وَالْحَوْفِيُّ: الْخَبَرُ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ:

الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مُعَذَّبُونَ أَوْ نَحْوُهُ.

وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى وَآخَرُونَ أَيْ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خبره كخبر بِغَيْرِ الْوَاوِ إِذَا أُعْرِبَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «1» وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ فِيمَنْ وَصَفْنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «2» وَانْتَصَبَ ضِرَارًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: مُضَارَّةً لِإِخْوَانِهِمْ أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وَكُفْرًا وَتَقْوِيَةً لِلنِّفَاقِ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مُجْتَمِعِينَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَيَغْتَصُّ بِهِمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَفْتَرِقُوا عَنْهُ وَتَخْتَلِفَ كَلِمَتُهُمْ، إِذْ كَانَ مَنْ يُجَاوِزُ مَسْجِدَهُمْ يَصْرِفُونَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى صَرْفِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لا تخذوا، وَإِرْصَادًا أَيْ: إِعْدَادًا لِأَجْلِ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ أَعَدُّوهُ لَهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَيَظْهَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَدْ تَعَبَّدَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسُمِّيَ الرَّاهِبَ، وَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم الْفَاسِقَ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ نَظِيرًا وَقَرِيبًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بن سَلُولَ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ نَافَقَ وَلَمْ يَزَلْ مُجَاهِرًا بِذَلِكَ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مُحَاوَرَةٍ:«لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَكَ إِلَّا قَاتَلْتُكَ مَعَهُمْ» فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ وَحَزَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَحْزَابَ، فَلَمَّا رَدَّهُمُ الله بغيظهم أقام بمكة مُظْهِرًا لِلْعَدَاوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ هَرَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ هَرَبَ إِلَى الشَّامِ يُرِيدُ قيصر

(1) سورة النساء: 4/ 162.

(2)

سورة المائدة: 5/ 38.

ص: 503

مُسْتَنْصِرًا عَلَى الرَّسُولِ، فَمَاتَ وَحِيدًا طَرِيدًا غَرِيبًا بِقِنِّسَرِينَ، وَكَانَ قَدْ دَعَا بِذَلِكَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَأَمَّنَ الرَّسُولُ، فَكَانَ كَمَا دَعَا

، وَفِيهِ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:

مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلٍ خَبِيثٍ

كَسَعْيِكَ فِي الْعَشِيرَةِ عَبْدَ عَمْرٍو

وَقُلْتَ بِأَنَّ لِي شَرَفًا وَذِكْرًا

فَقَدْ تَابَعْتَ إِيمَانًا بِكُفْرِ

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَإِرْصَادًا لِلَّذِينَ حَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ من قبل متعلقا بحارب، يُرِيدُ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ وَغَيْرِهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : بِمَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قبل؟ (قلت) : باتخذوا أَيْ: اتَّخَذُوا مَسْجِدًا مِنْ قَبْلُ أَنْ يُنَافِقَ هَؤُلَاءِ بِالتَّخَلُّفِ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، والخالف هو بخرج أي: مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ إِلَّا الْحُسْنَى وَالتَّوْسِعَةِ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ ضَعُفَ أَوْ عَجَزَ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَرَدْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى، أَوْ لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الصَّلَاةُ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَسُّعُ عَلَى الْمُصَلِّينَ انْتَهَى. كَأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى جَعَلَهُ مَفْعُولًا،

وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى جَعَلَهُ عِلَّةً، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ أَرَادَ مَعْنَى قَصَدَ أَيْ: مَا قَصَدْنَا بِبِنَائِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ، وَنَهَاهُ أَنْ يَقُومَ فِيهِ فَقَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نَهَاهُ لِأَنَّ بُنَاتَهُ كانوا خادعوا الرسول، فَهَمَّ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْمَشْيِ مَعَهُمْ، وَاسْتَدْعَى قَمِيصَهُ لِيَنْهَضَ فَنَزَلَتْ:

«لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا» ، وَعَبَّرَ بِالْقِيَامِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: الْمُؤَسَّسُ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدُ قُبَاءٍ، أَسَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى فِيهِ أَيَّامَ مَقَامِهِ بقباء، وَهِيَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ أَوْقَعُ مِنْهَا بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَلِكَ لَائِقٌ بِالْقِصَّةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى.

وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ، وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ عَلَى الزَّمَانِ، وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ عَلَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهَا لَا تَجُرُّ الْأَزْمَانَ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ عِنْدِي أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ تَجُرُّ لَفْظَةَ أَوَّلِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبُدَاءَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ مُبْتَدَأِ

ص: 504

الْأَيَّامِ، وَقَدْ حُكِيَ لِي هَذَا الَّذِي اخْتَرْتُهُ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ انْتَهَى. وأحق بِمَعْنَى حَقِيقٌ، وَلَيْسَتْ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، إِذْ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ فِي الْحَقِّ، وَالتَّاءُ فِي أَنْ تَقُومَ تَاءُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدٍ: فِيهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهُ الثَّانِيَةَ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، وَفِيهِ رَفْعُ تَوَهُّمِ التَّوْكِيدِ، وَرَفَعَ رِجَالٌ فَيَقُومُ إِذْ فِيهِ الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَجَوَّزُوا فِي فِيهِ رِجَالٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَسْجِدٍ، وَالْحَالَ، وَالِاسْتِئْنَافَ.

وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ رَأَيْتُ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بِالطَّهُورِ فَمَاذَا تَفْعَلُونَ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ الْيَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالْمَاءِ يُرِيدُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ نَدَعْهُ فَقَالَ:«فَلَا تَدَعُوهُ إِذًا»

وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَاخْتِلَافٌ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ أَوْ بِالْمَاءِ أَيُّهِمَا أَفْضَلُ؟ وَرَأَتْ فِرْقَةٌ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَشَذَّ ابْنُ حَبِيبٍ فَقَالَ: لَا يُسْتَنْجَى بِالْحِجَارَةِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَعَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَكُونُ التَّطْهِيرُ عِبَارَةً عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي النَّجَاسَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ التَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِالْحُمَّى الْمُكَفِّرَةِ لِلذُّنُوبِ، فَحُمُّوا عَنْ آخِرِهِمْ.

وَفِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ شَكَوَا الْحُمَّى فَقَالَ «إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَزَالَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُهَا لَكُمْ طُهْرَةً»

فَقَالُوا: بَلِ اجْعَلْهَا لَنَا طُهْرَةً. وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِمُ التَّطْهِيرُ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ حِرْصَ الْمُحِبِّ الشَّيْءَ الْمُشْتَهَى لَهُ عَلَى أَشْيَاءَ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ بِمَحْبُوبِهِ. وَقَرَأَ ابْنٌ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ: يَطَّهَرُوا بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمُتَطَهِّرِينَ.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ:

أَسَّسَ بُنْيَانَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ ذَلِكَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ بُنْيَانَ. وَقَرَأَ عُمَارَةُ بْنُ عَائِذٍ الْأُولَى عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَرُوِيَتْ عَنْ نصر بن عاصم أسس بُنْيَانَهُ، وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي حَيْوَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَيْضًا، أَسَاسُ جَمْعُ أُسٍّ. وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَسُسَ بِهَمْزَةٍ

ص: 505

مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إِسَاسُ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ جُمُوعٌ أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأس بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُمَا مُفْرَدَانِ أُضِيفَا إِلَى الْبُنْيَانِ، فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ: أَفَمَنْ أَسَسُ بِالتَّخْفِيفِ وَالرَّفْعِ، بُنْيَانِهِ بِالْجَرِّ على الإضافة، فأسس مَصْدَرُ أَسَّ: الْحَائِطَ يَؤُسُّهُ أَسًّا وَأَسَسًا. وَعَنْ نَصْرٍ أَيْضًا أَسَاسُ بُنْيَانِهِ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْأَلِفِ، وَأَسٌّ وَأَسَسٌ وَأَسَاسٌ كُلٌّ مَصَادِرُ انْتَهَى. وَالْبُنْيَانُ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَبْنَى كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ بُنْيَانَةٌ قَالَ الشَّاعِرَ:

كَبُنْيَانَةِ الْقَارِيِّ مَوْضِعُ رَحْلِهَا

وَآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنَ الدَّفِّ أَبْلَقُ

وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى تَقْوًى بِالتَّنْوِينِ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ سِيبَوَيْهِ، وَرَدَّهَا النَّاسُ.

قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قِيَاسُهَا أَنْ تَكُونَ أَلِفُهَا لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: حَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، جُرْفٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ:

الْأَصْلُ الضَّمُّ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَانْهَارَتْ بِهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ تَبْيِينُ حَالَيِ الْمَسْجِدَيْنِ: مَسْجِدِ قُبَاءٍ، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَانْتِفَاءُ تَسَاوِيهِمَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.

وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ إِذْ أَرْسَلَ الرسول بهدمه رؤي مِنْهُ الدُّخَانُ

يَخْرُجُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يُدْخِلُ فِيهِ سَعَفَةً مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فَيُخْرِجُهَا سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً، وَكَانَ يَحْفِرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَارَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ.

وَقِيلَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاءَ الْكَافِرِ كَبِنَاءٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَتَهَوَّرُ أَهْلُهُ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بِعَيْنِهِ انْهَارَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ قَالَهُ: قتادة، وابن جريج. وخير لَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي خَيْرٌ إِلَّا عَلَى مُعْتَقَدٍ بَانِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ صَحَّ التَّفْضِيلُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَوْهَاهَا وَأَقَلُّهَا بَقَاءً وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مَثَلُهُ مَثَلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فِي قِلَّةِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْسَاكِ؟ وُضِعَ شَفَا الْجُرُفِ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْوَى، لَا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ مَا يُنَافِي التَّقْوَى.

ص: 506

(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا جُعِلَ الْجُرُفُ الْهَائِرُ مَجَازًا عَنِ الْبَاطِلِ قِيلَ: فَانْهَارَ بِهِ عَلَى مَعْنَى فَطَاحَ بِهِ الْبَاطِلُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ رَشَّحَ الْمَجَازَ فَجِيءَ بِلَفْظِ الِانْهِيَارِ الَّذِي هُوَ لِلْجُرُفِ، وَلِتَصَوُّرِ أَنَّ الْبَاطِلَ كَأَنَّهُ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فَانْهَارَ بِهِ ذَلِكَ الْجُرُفُ فَهَوَى فِي قَعْرِهَا، وَلَا نَرَى أَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَلَا أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَاطِلِ. وَكُنْهِ أَمْرِهِ وَالْفَاعِلُ فَانْهَارَ أَيْ: الْبُنْيَانُ أَوِ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ، أَيْ: الْمُؤَسِّسِ الْبَانِي، أَوِ انْهَارَ الشَّفَا أَوِ الْجُرُفُ بِهِ أَيْ: بِالْبُنْيَانِ. وَيَسْتَلْزِمُ انْهِيَارَ الشَّفَا وَالْبُنْيَانِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ انْهِيَارُ أَحَدِهِمَا انْهِيَارَهُ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، إِشَارَةٌ إِلَى تَعَدِّيهِمْ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ حَيْثُ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ، إِذِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يُخْلَصَ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَبَنَوْهُ ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ:

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُنْيَانُ هُنَا مَصْدَرًا أَيْ: لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ الْبُنْيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَبْنَى، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لَا يَزَالُ بِنَاءَ الْمَبْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَزَالُونَ شَاكِّينَ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ سَبَبَ غَيْظٍ. وَقِيلَ: كُفْرًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسَفًا وَنَدَامَةً. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: حَسْرَةً وَنَدَامَةً، لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ:

لَا يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أَيْ: حَزَازَةً وَغَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي بَنَوْا تَأْكِيدٌ وَتَصْرِيحٌ بِأَمْرِ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ، وَالرِّيبَةُ الشَّكُّ، وَقَدْ يُسَمَّى رِيبَةً فَسَادُ الْمُعْتَقَدِ وَاضْطِرَابُهُ، وَالْإِعْرَاضُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّخْبِيطُ فِيهِ. وَالْحَزَازَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَكًّا فَقَدْ يَرْتَابُ مَنْ لَا يَشُكُّ، وَلَكِنَّهَا فِي مُعْتَادِ اللُّغَةِ تَجْرِي مَعَ الشَّكِّ. وَمَعْنَى الرِّيبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْحَيْقَ، وَاعْتِقَادَ صَوَابِ فِعْلِهِمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُؤَدِّي كُلُّهُ إِلَى الرِّيبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَقْصِدُ الْكَلَامِ: لَا يَزَالُ هَذَا الْبُنْيَانُ الَّذِي هُدِمَ لَهُمْ يُبْقِي فِي قُلُوبِهِمْ حَزَازَةً وَأَثَرَ سُوءٍ. وَبِالشَّكِّ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرِّيبَةَ هُنَا، وَفَسَّرَهَا السُّدِّيُّ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَفَكَفَرَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهَا حَزَازَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُجَمِّعٌ رحمه الله، قَدْ أَقْسَمَ لِعُمَرَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بَاطِنَ القوم، ولا قصد سوء. وَالْآيَةُ إِنَّمَا عَنَتْ مَنْ أَبْطَنَ سُوءًا. وَلَيْسَ مُجَمِّعٌ مِنْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَزَالُونَ مُرِيبِينَ بِسَبَبِ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي اتَّضَحَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ.

وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ الرِّيبَةَ فِي الْآيَةِ نعم مَعَانِيَ كَثِيرَةً يَأْخُذُ كُلُّ مُنَافِقٍ مِنْهَا بِحَسَبِ قَدْرِهِ مِنَ

ص: 507

النِّفَاقِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: جَعَلَ نَفْسَ الْبُنْيَانِ رِيبَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِتَخْرِيبِ مَا فَرِحُوا بِبِنَائِهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَازْدَادَ بعضهم لَهُ، وَارْتِيَابُهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ، أَوِ اعْتَقَدُوا هَدْمَهُ مِنْ أَجْلِ الْحَسَدِ، فَارْتَفَعَ إِيمَانُهُمْ وَخَافُوا الْإِيقَاعَ بِهِمْ قَتْلًا وَنَهْبًا، أَوْ بَقَوْا شَاكِّينَ: أَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ؟ انْتَهَى، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: يَتَقَطَّعَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ، مُضَارِعُ قَطَّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقرىء يَقْطَعَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَيَعْقُوبُ: إِلَى أَنْ نَقْطَعَ، وَأَبُو حَيْوَةَ إِلَى أَنْ تُقَطِّعَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَنَصْبِ قُلُوبَهَمْ خِطَابًا لِلرَّسُولِ أَيْ: تَقْتُلَهُمْ، أَوْ فِيهِ ضَمِيرُ الرِّيبَةِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَصْحَابُهُ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: إِنْ قَطَعْتَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَوْ قَطَّعْتَ قُلُوبَهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ كُلِّ مُخَاطَبٍ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: حَتَّى الْمَمَاتِ، وَفِيهِ حَتَّى تُقْطَعَ. فَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَنَصْبِ الْقُلُوبِ فَالْمَعْنَى: بِالْقَتْلِ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَرَأَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنِ زيد وغيرهم: بِالْمَوْتِ أَيْ: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَى أَنْ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِلَى أَنْ يَتُوبُوا عَمَّا فَعَلُوا، فَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قُطِعَ قَلْبُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً نَصُوحًا يَكُونُ مَعَهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ مَا يَقْطَعُ الْقُلُوبَ هَمًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَزَالُ يُبْدِيهِ سَبَبُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ زَائِدٌ عَلَى شَكِّهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، لَا يَزَالُ وَسْمُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا يَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا وَتُفَرَّقَ أَجْزَاءً، فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا دَامَتْ سَلِيمَةً مُجْتَمِعَةً فَالرِّيبَةُ قَائِمَةٌ فِيهَا مُتَمَكِّنَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةَ تَقْطِيعِهَا وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ بِقَتْلِهِمْ، أَوْ فِي الْقُبُورِ، أَوْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ، حَكِيمٌ فِي عُقُوبَاتِهِمْ.

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:

نَزَلَتْ فِي الْبَيْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَنَافَ فِيهَا رِجَالٌ الْأَنْصَارِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَكَانَ أَصْغَرُهُمْ سِنًّا عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو.

وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 508

عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَالُوا: اشْتَرِطْ لَكَ وَلِرَبِّكَ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاشْتَرَطَ صلى الله عليه وسلم حِمَايَتَهُ مِمَّا يَحْمُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَاشْتَرَطَ لِرَبِّهِ الْتِزَامَ الشَّرِيعَةِ وَقِتَالَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فِي الدَّفْعِ عَنِ الْحَوْزَةِ فَقَالُوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، فَقَالُوا: نَعَمْ رَبِحَ الْبَيْعُ، لَا تُقِيلُ وَلَا نُقَائِلُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ.

وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَ رِكَابِهِ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَالَ:

بَيْعٌ رَبِحٌ لَا تُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَخَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاللَّهِ إِنْ فِي الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ أَحْدَثَ بَيْعَتَهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْأَعْمَشُ: وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ، مَثَّلَ تَعَالَى إِثَابَتَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَذْلِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ بِالشِّرَاءِ، وَقَدَّمَ الْأَنْفُسَ عَلَى الْأَمْوَالِ ابْتِدَاءً بِالْأَشْرَفِ وَبِمَا لَا عِوَضَ لَهُ إِذَا فُقِدَ. وَفِي لَفْظَةِ اشْتَرَى لَطِيفَةٌ وَهِيَ: رَغْبَةُ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشتراه واعتباطه بِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ هُوَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَا يَعْمَلُوهَا إِلَّا فِي طَاعَةٍ، وَأَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يُنْفِقُوهَا إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ مُسْتَأْنَفًا، ذَكَرَ أَعْظَمَ أَحْوَالِهِمْ، وَنَبَّهَ عَلَى أَشْرَفَ مَقَامِهِمْ. وَعَلَى الظَّاهِرِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ: أَوَّلًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَثَانِيًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِذِ الْغَرَضُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنْ يُقْتَلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَقْتُلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقَعُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ تَحْصُلُ مِنْهُمُ الْمُقَاتَلَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَاتِلُونَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «1» انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لَا يَقَعُ حَالًا. وَانْتَصَبَ وَعْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى اشْتَرَى بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي التوراة

(1) سورة الصف: 61/ 11.

ص: 509

وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُمِرَتْ بِالْجِهَادِ وَوُعِدَتْ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ، فَيَكُونُ فِي التَّوْرَاةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اشْتَرَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِتَقْدِيرِ قَوْلِهِ مَذْكُورًا، وَهُوَ صِفَةٌ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ إِنَّمَا هَدْيُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَنْ أَوْفَى اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ أَيْ: لَا أَحَدَ، وَلَمَّا أَكَّدَ الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ حَقًّا أَبْرَزَهُ هُنَا فِي صُورَةِ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ آكَدُ وَأَوْثَقُ مِنَ الْوَعْدِ، إِذِ الْوَعْدُ فِي غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزٌ إِخْلَافُهُ، وَالْعَهْدُ لَا يَجُوزُ إِلَّا الْوَفَاءُ بِهِ، إِذْ هُوَ آكَدُ مِنَ الْوَعْدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ إِخْلَافَ الْمِيعَادِ قَبِيحٌ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْكِرَامُ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ جَوَازِهِ عَلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ، فَكَيْفَ بِالْغَنِيِّ الَّذِي لَا يجوز عليه قبيح قطه؟ ولا ترى ترى غيبا فِي الْجِهَادِ أَحْسَنَ مِنْهُ وَأَبْلَغَ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَاسْتِعْمَالُ قَطُّ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ قَبِيحٌ قَطُّ. وَقَطُّ ظَرْفٌ مَاضٍ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْمَاضِي. ثُمَّ قَالَ:

فَاسْتَبْشِرُوا، خَاطَبَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِي مُوَاجَهَتِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْخِطَابِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَهِيَ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا. وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَوْقَدَ وأوقد. والذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَصْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَمُحِيلٌ عَلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ. ثُمَّ قَالَ:

وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: الظَّفَرُ لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّبْحِ التَّامِّ، وَالْغِبْطَةُ فِي الْبَيْعِ لِحَطِّ الذَّنْبَ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ؟ فَنَزَلَتْ التَّائِبُونَ الْآيَةَ.

وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْكَمَلَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيَسْتَبِقَ إِلَى التَّحَلِّي بِهَا عِبَادُهُ، وَلِيَكُونُوا عَلَى أَوْفَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ سِوَى الْإِيمَانُ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَالشَّهَادَةُ مَاحِيَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ، حَتَّى

رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ عَنِ الشَّهِيدِ مَظَالِمَ الْعِبَادِ وَيُجَازِيهِمْ عَنْهُ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الصِّفَاتُ شَرْطٌ فِي الْمُجَاهِدِ. وَالْآيَتَانِ مُرْتَبِطَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُبَايَعَةِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَأَلَ الضَّحَّاكَ رَجُلٌ عَنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ

ص: 510

اللَّهَ اشْتَرى

«1» الْآيَةَ وَقَالَ: لِأَحْمِلَنَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأُقَاتِلُ حَتَّى أُقْتَلَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَيْلَكَ أَيْنَ الشَّرْطُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْآيَةَ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ حَرَجٌ وَتَضْيِيقٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَرَتَّبَ إِعْرَابُ التَّائِبُونَ، فَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ: التَّائِبُونَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ الْآمِرُونَ.

وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ تَمَامِ الْأَوْصَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «2» وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «3» وَعَلَى هَذِهِ الْأَعَارِيبِ تَكُونُ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مُنْفَصِلٌ مِنْ مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُمُ التَّائِبُونَ، أَيْ الَّذِينَ بَايَعُوا اللَّهَ هُمْ التَّائِبُونَ، فَيَكُونُ صِفَةً مَقْطُوعَةً لِلْمَدْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ قراءة أبي وعبد الله وَالْأَعْمَشِ: التَّايِبِينَ بِالْيَاءِ إِلَى وَالْحَافِظِينَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَهُ أَيْضًا: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ:

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُقَاتِلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقِيلَ: عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَابِدُونَ بِالصَّلَاةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْمُطِيعُونَ بِالْعِبَادَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْمُوَحِّدُونَ السَّائِحُونَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَغَيْرُهُمَا:

الصَّائِمُونَ شُبِّهُوا بِالسَّائِحِينَ في الأرض، لا متناعهم مِنْ شَهَوَاتِهِمْ.

وَعَنْ عَائِشَةَ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ: لِلصَّائِمِ سَائِحٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدٌ لَا زَادَ مَعَهُ، كَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ، وَالصَّائِمُ مُمْسِكٌ عَنِ الْأَكْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ الْمُجَاهِدُونَ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السِّيَاحَةِ فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ. فَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَغَرَائِبِ مُلْكِهِ نَظَرَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ: الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ. وَالصِّفَاتُ إِذَا تَكَرَّرَتْ وَكَانَتْ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ جَازَ فِيهَا الْإِتْبَاعُ لِلْمَنْعُوتِ وَالْقَطْعُ فِي كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِذَا تَبَايَنَ مَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ جَازَ الْعَطْفُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُبَايِنًا لِلنَّهْيِ، إِذِ الْأَمْرُ طَلَبُ فِعْلٍ وَالنَّهْيُ تَرْكُ فِعْلٍ، حَسُنَ الْعَطْفُ فِي قوله: والناهون ودعوى

(1) سورة التوبة: 9/ 111.

(2)

سورة النساء: 4/ 95.

(3)

سورة التوبة: 9/ 112.

ص: 511

الزِّيَادَةِ، أَوْ وَاوِ الثَّمَانِيَةِ ضَعِيفٌ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، إذا بَدَأَ أَوَّلًا بِمَا يَخُصُّ الْإِنْسَانَ مُرَتَّبَةً عَلَى مَا سَعَى، ثُمَّ بِمَا يَتَعَدَّى مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر، ثُمَّ بِمَا شَمِلَ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ لِحُدُودِ اللَّهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فَاسْتَبْشِرُوا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ التَّامَّةُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِبْشَارِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ.

مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ:

قَالَ الْجُمْهُورُ: وَمَدَارُهُ عَلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ احْتُضِرَ فَوَعَظَهُ وَقَالَ:«أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا لِلَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» وَكَانَ بِالْحَضْرَةِ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَا لَهُ:

يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَاتَ فَنَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لِأَبِي طَالِبٍ.

وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوْهُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ جَعَلُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ، فَلِذَلِكَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ:«مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا» .

وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ وَوَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى سَخُنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَجَعَلَ يَرْغَبُ فِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهَا وَمُنِعَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ بسبب قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ»

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، وَلَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أُولِي قُرْبَى. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانُوا جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ وَلَوْ تَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا لَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِيَدْخُلَ فِيمَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمَنْعِ مِنْ مواصلتهم ولو

(1) سورة القصص: 28/ 56.

ص: 512

كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَيْ: وَضُحَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لِمُوَافَاتِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ، وَالتَّبَيُّنُ هُوَ بِإِخْبَارِ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُنَا هُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَبِهِ تَظَافَرَتْ أَسْبَابُ النُّزُولِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِغْفَارُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ. قَالُوا: وَالِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِ الْحَيِّ جَائِزٌ إِذْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا اسْتَغْفَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَلِأُمِّهِ، قِيلَ لَهُ: وَلِأَبِيهِ؟ قَالَ: لَا لِأَنَّ أَبِي مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ وَرَدَ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ كَأَبِي لَهَبٍ امْتَنَعَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، فَتَبَيُّنُ كَيْنُونَةِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ تَمْوِيهٌ عَلَى الشِّرْكِ وَبِنَصِّ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَيٌّ، أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَيَدْخُلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ إِذَا كَانُوا أَحْيَاءً، لِأَنَّهُ يُرْجَى إِسْلَامُهُمْ مَا

حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .

وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِصَدَدِ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:

نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حِينَ اتَّضَحَتْ لَهُ عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ. وَالْمَوْعِدَةُ الَّتِي وَعَدَهَا إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ هِيَ قَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «2» وَقَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «3» . وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَعَدَهَا عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ أَبُوهُ بِقَيْدِ الحياة، فكان يرجوا إِيمَانَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْهُ، تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَطَعَ اسْتِغْفَارَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فِي وَعَدَ ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ، وابن السميفع، وَأَبِي نَهِيكٍ، وَمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبو أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِيمَانِهِ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ حَتَّى نُهِيَ عَنْهُ.

وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَعَنْهُ وَمَا يَسْتَغْفِرُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي

(1) سورة النساء: 4/ 48.

(2)

سورة مريم: 19/ 47.

(3)

سورة الممتحنة: 60/ 4.

ص: 513

إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1» وَقَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ «2» وَيَضْعُفُ مَا قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ:

مِنْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ فَيَعْرِفُهُ وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، فَيَقُولُ لَهُ: الْزَمْ حِقْوِي فَلَنْ أَدَعَكَ الْيَوْمَ لِشَيْءٍ، فَيَدَعُهُ حَتَّى يَأْتِيَ الصِّرَاطَ، فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ مُسِخَ ضِبْعَانًا، فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ حِينَئِذٍ انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَا يَظْهَرُ رَبْطُهُ بِالْآخِرَةِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : خَفِيَ عَلَى إِبْرَاهِيم عليه السلام أَنْ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى وَعَدَهُ. (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مَا دَامَ يُرْجَى لَهُ الْإِيمَانُ جَازَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ. أَلَا تَرَى إِلَى

قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»

وَعَنِ الْحَسَنِ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ فُلَانًا يَسْتَغْفِرُ لِآبَائِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ»

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ لَهُ: فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ

انْتَهَى؟ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَالْأَوَّاهُ: الدَّعَّاءُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْفَقِيهُ، أَوِ الرَّحِيمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ، أَوِ الْمُسَبِّحُ، أَوِ الْكَثِيرُ الذِّكْرِ لَهُ، أَوِ التَّلَّاءُ لِكِتَابِ اللَّهِ، أَوِ الْقَائِلُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، أَوَّاهٌ الْمُكْثِرُ ذَلِكَ، أَوِ الْجَامِعُ الْمُتَضَرِّعُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ، أَوِ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، أَوِ الْمُوَفِّي، أَوِ الْمُسْتَغْفِرُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَطَايَا، أَوِ الشَّفِيقُ، أَوِ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدْلُولَهُ فِي اللُّغَةِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّاهٌ فَقَالَ: مِنْ أَوَّهَ كَلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: لَأَرْجُمَنَّكَ انْتَهَى. وَتَشْبِيهُ أَوَّاهٍ مِنْ أَوَّهَ بِلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مَادَّةَ أَوَّهَ مَوْجُودَةٌ فِي صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مَفْقُودَةٌ فِي لَآلٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ، إِذْ لَآلٌ ثُلَاثِيٌّ، وَلُؤْلُؤٌ رُبَاعِيٌّ، وَشَرْطُ الِاشْتِقَاقِ التَّوَافُقُ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفَسَّرُوا الْحَلِيمَ هُنَا بِالصَّافِحِ عَنِ الذَّنْبِ الصَّابِرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِالصَّبُورِ، وَبِالْعَاقِلِ، وَبِالسَّيِّدِ، وَبِالرَّقِيقِ الْقَلْبِ الشَّدِيدِ الْعَطْفِ.

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: مَاتَ قَوْمٌ كَانَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ: كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ المقدس، وشرب الخمر،

(1) سورة الشعراء: 26/ 86.

(2)

سورة إبراهيم: 14/ 41. [.....]

ص: 514

فَسَأَلَ قَوْمٌ الرَّسُولَ بَعْدَ مَجِيءِ النَّسْخِ وَنُزُولِ الْفَرَائِضِ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَعَمِلُوا بِمَا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ، ثُمَّ قَدِمُوا عليه فوجوده يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَصُومُ رَمَضَانَ، فَقَالُوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ دِنَّا بَعْدَكَ بِالضَّلَالِ، إِنَّكَ عَلَى أَمْرٍ وَإِنَّا عَلَى غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: خَافَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُؤْنِسَةً أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ هَدَى لِلْإِسْلَامِ وَأَنْقَذَ مِنَ النَّارِ لِيُحْبِطَ ذَلِكَ وَيُضِلَّ أَهْلَهُ لِمُقَارَفَتِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ نَهْيٌ عَنْهُ. فَأَمَّا إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَجَنَّبُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَحِينَئِذٍ مَنْ وَاقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي مَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّقَائِهِ وَاجْتِنَابِهِ كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَلَا يُؤَاخِذُ بِهِ عِبَادَهُ الَّذِينَ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ إِلَّا إِذَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ حَظْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يُؤَاخَذُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا بِبَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِعُذْرِ مَنْ خَافَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَدِيدَةٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْفَلَ عَنْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لِلْإِسْلَامِ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى بَعْضِ مَحْظُورَاتِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الضَّلَالِ، وَالْمُرَادُ بما يَتَّقُونَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِلنَّهْيِ. فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَالصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ فَغَيْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِي قَوْلِهِ: قَبْلُ فِي تَفْسِيرِ لَيُضِلَّ وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَفِي كَلَامِهِ إِسْهَابٌ، وَهُوَ بَسْطُ مَا قَالَ مُجَاهِدٌ، قَالَ:

مَا كَانَ لِيُضِلَّكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنَهُ لَكُمْ فَتَتَّقُوهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يَشْرَحُ بِهِ الْآيَةَ مِنْ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ، وَقَدْ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَمِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَفِي شَرْحِهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا تَبَايُنٌ مَا بَيْنَ الْقَرَابَةِ حَتَّى مُنِعُوا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَمُنِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَنَصْرَهُ وَحِفْظَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمُنِعَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ وَهُوَ أَصْلُ نَشْأَتِهِ وَمُرَبِّيهِ، وَكَذَلِكَ مُنِعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ أَقْرِبَاءَ وَغَيْرَ أَقْرِبَاءَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْجَبْ لِتَبَايُنِ هَؤُلَاءِ، هَذَا خَلِيلُ اللَّهِ، وَهَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَالْأَقْرِبَاءُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، فَإِضْلَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ

ص: 515

بِمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنْ حُجَجِ الْعُقُولِ الَّتِي أَغْفَلُوهَا، وَتَبْيِينِ مَا يَتَّقُونَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، فَتَظَافَرَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْتَصُّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ يَشَاءُ. فَالْمَعْنَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُدِيمَ إِضْلَالَ قَوْمٍ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْهُدَى حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَهُ أَيْ: يَجْتَنِبُونَهُ فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ فِيهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَدُومُ إِضْلَالُهُمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ لكل أحد، وما هيىء لَهُ فِي سَابِقِ الْأَزَلِ، ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ مِنْ أَنَّهُ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَيَتَصَرَّفُ فِي عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَعْظَمِ تَصَرُّفَاتِهِ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ أَيْ: الْإِيجَادُ وَالْإِعْدَامُ. وَتَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ هُنَا قَوْلَهُ: يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ لِلْمُؤْمِنِينَ أن لا يَجْزَعُوا مِنْ عَدُوٍّ وَإِنْ كَثُرَ، وَلَا يَهَابُوا أَحَدًا فَإِنَّ الْمَوْتَ الْمَخُوفَ، وَالْحَيَاةَ الْمَحْتُومَةَ إِنَّمَا هِيَ بِيَدِ اللَّهِ، غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ قَوْلًا صَحِيحًا. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «1» فِي الْبَقَرَةِ.

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَاسْتَطْرَدَ إِلَى تَقْسِيمِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَعْرَابٍ وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ مَا فَعَلُوا مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَكَرَ مُبَايَعَةَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَايِنُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ بِتَرْكِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَا بَقِيَ مِنْ أَحْوَالِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ يَشْرَعُونَ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ مُنَاسِبَةً وَيُطِيلُونَ فِيهَا، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانُوا شَرَعُوا فِيهِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ رُجُوعُهُ لِعَبْدِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ رُجُوعًا عَنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ رُجُوعًا مِنْ حَالَةِ طَاعَةٍ إِلَى أَكْمَلَ مِنْهَا. وَهَذِهِ تَوْبَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ رَجَعَ بِهِ مِنْ حَالَةٍ قَبْلَ تَحْصِيلِ الْغَزْوَةِ وَتَحَمُّلِ مَشَاقِّهَا، إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَ مِنْهَا. وَأَمَّا تَوْبَتُهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَحَالُهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مِنْ نُقْصَانٍ إِلَى طَاعَةٍ وَجِدٍّ فِي الْغَزْوِ وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَأَمَّا توبته على

(1) سورة البقرة: 2/ 107.

ص: 516

الْفَرِيقِ فَرُجُوعٌ مِنْ حَالَةٍ مَحْطُوطَةٍ إِلَى حَالَةِ غُفْرَانٍ وَرِضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «2» وَهُوَ بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، حَتَّى النَّبِيُّ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَإِبَانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ وَمِقْدَارِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ صِفَةَ الْأَوَّابِينَ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالصَّالِحِينَ لِتَظْهَرَ فَضِيلَةُ الصَّلَاحِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «3» انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ صَدَرَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا مَشَاقَّ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ ذِكْرُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذِكْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَرَاتِبِهِمْ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ. اتَّبَعُوهُ: أَيْ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْتَدَأَ بِالْخُرُوجِ، وَخَرَجُوا بَعْدَهُ فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ حَقِيقَةً سَاعَةِ الْعُسْرَةِ أَيْ: فِي وَقْتِ العسرة، والتباعة مُسْتَعَارَةٌ لِلزَّمَانِ الْمُطْلَقِ، كَمَا اسْتَعَارُوا الْغَدَاةَ وَالْعَشِيَّةَ وَالْيَوْمَ. قَالَ:

غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ

عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا

وَآخَرُ:

إِذَا جَاءَ يَوْمًا وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ كَانَتْ تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ السَّاعَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا عَزْمُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، إِذِ السَّفْرَةُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، وَبِهَا وَفِيهَا يَقَعُ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَتَرْتَبِطُ النِّيَّةُ، فَمَنِ اعْتَزَمَ عَلَى الْغَزْوِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَقَدْ أَنْفَعَ فِي سَاعَةِ عُسْرَةٍ، وَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَطْرَأَ لَهُمْ غِنًى فِي سَائِرِ سَفَرِهِمْ لَمَا اخْتَلَّ كَوْنُهُمْ مُتَّبِعِينَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.

وَالْعُسْرَةُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْعَدَمُ، وَهَذَا هُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ الَّذِي

قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»

فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَلْفِ جَمَلٍ وَأَلْفِ دِينَارٍ.

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّبَ الدَّنَانِيرَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «وَمَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا»

وَجَاءَ أَنْصَارِيٌّ بِسَبْعِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ بُرٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: بَلَغَتِ الْعُسْرَةُ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَعْتَقِبُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَإِلَى أَنْ قَسَّمُوا التَّمْرَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ،

(1) سورة الفتح: 48/ 2.

(2)

سورة غافر: 40/ 40. ومحمد: 47/ 47.

(3)

سورة التوبة: 9/ 43.

ص: 517

وَكَانَ النَّفَرُ يَأْخُذُونَ التَّمْرَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَمُصُّهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِهَا كُلُّهُمْ ذَلِكَ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِهَا عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ وَيَشْرَبُونَ مَا فِي كُرُوشِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَيَعْصِرُونَ الْفَرْثَ حَتَّى اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ يديه يدعو، فما رجعهما حتى انكسبت سَحَابَةٌ، فَشَرِبُوا وَادَّخَرُوا ثُمَّ ارْتَحَلُوا، فَإِذَا السَّحَابَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعَسْكَرِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ هَمُّوا مِنَ الْمَجَاعَةِ بِنَحْرِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ فَضْلِ أَزْوَادِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ:«خُذُوا في أوعيتكم فملأوها حَتَّى لَمْ يَبْقَ وِعَاءٌ» وَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ.

وَكَانَ الْجَيْشُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، وَفِيهَا خَلَّفَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ

فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»

؟ وَوَصَلَ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَوَائِلِ بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُ أَذْرَحَ وَأَيْلَةَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَانْصَرَفَ.

يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ قَالَ الْحَسَنُ: هَمَّتْ فِرْقَةٌ بِالِانْصِرَافِ لِمَا لَقَوْا مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ:

زَيْغُهَا كَانَ بِظُنُونٍ لَهَا سَاءَتْ فِي مَعْنَى عَزْمِ الرَّسُولِ عَلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، لِمَا رَأَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْعُسْرَةِ وَقِلَّةِ الْوَفْرِ، وَبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَزِيغُ، تَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُبَايَعَةِ. وَكَادَ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، لَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالزَّيْغِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ:

يَزِيغُ بِالْيَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَارْتِفَاعُ قُلُوبُ بتزيغ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد وتزيغ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبٌ يَزِيغُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد، وتزيغ الْخَبَرُ وَسَطٌ بَيْنِهِمَا، كَمَا فعل ذلك بكان. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي عَسَى، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ كاد ضمير يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ هُوَ أَيْ: الْجَمْعُ. وَقَدْ قَدَّرَ الْمَرْفُوعَ بِكَادَ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ الْقَوْمُ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ الثَّلَاثَةِ إِشْكَالٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا رَافِعًا ضَمِيرَ اسْمِهَا.

فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ، وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ بِغَيْرِ عَسَى مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ كَانَ. فَإِنَّ خَبَرَهَا يَرْفَعُ الضَّمِيرَ، والسبي لِاسْمِ كَادَ، فَإِذَا قَدَّرْنَا فِيهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمَرْفُوعُ لَيْسَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَادَ بَلْ وَلَا سَبَبًا لَهُ، وَهَذَا يَلْزَمُ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَوْسِيطُ الْخَبَرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ هَذَا

ص: 518

التَّرْكِيبِ فِي مِثْلِ كَانَ: يَقُومُ زَيْدٌ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَأَمَّا تَوْجِيهُ الْآخَرِ فَضَعِيفٌ جِدًّا مِنْ حَيْثُ أُضْمِرَ فِي كَادَ ضَمِيرٌ لَيْسَ لَهُ عَلَى مَنْ يَعُودُ إِلَّا بِتَوَهُّمٍ، وَمِنْ حَيْثُ يَكُونُ خَبَرُ كَادَ وَاقِعًا سَبَبِيًّا، وَيُخَلِّصُ مِنْ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ اعْتِقَادُ كَوْنِ كَادَ زَائِدَةً، وَمَعْنَاهَا مراد، لا عَمَلَ لَهَا إِذْ ذَاكَ فِي اسْمٍ وَلَا خَبَرٍ، فَتَكُونُ مِثْلَ كَانَ إِذَا زِيدَتْ، يُرَادُ مَعْنَاهَا وَلَا عَمَلَ لَهَا.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ، بِإِسْقَاطِ كَادَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى زِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها «1» مَعَ تَأْثِيرِهَا لِلْعَامِلِ، وَعَمَلِهَا هِيَ. فَأَحْرَى أَنْ يُدَّعَى زِيَادَتُهَا، وَهِيَ لَيْسَتْ عَامِلَةً وَلَا مَعْمُولَةً.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْجَحْدَرِيُّ: تُزِيغُ بِرَفْعِ التَّاءِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَتْ تَزِيغُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى الْفَرِيقِ فَالْجُمْلَةُ كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا.

أَوْ يُرَادُ بِالْأَوَّلِ إِنْشَاءُ التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي اسْتَدَامَتُهَا. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ نَصَّ عَلَى التَّوْبَةِ ثَانِيًا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمْ مَسْكُوتٌ عَنْهُمْ فِي التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ التَّوْبَةِ وَهُوَ رَأْفَتُهُ بِهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا تَقَدَّمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ، وَمَعْنَى خُلِّفُوا عَنِ الْغَزْوِ غَزْوِ تَبُوكَ قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوْ خُلِّفُوا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ تِيبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ إرجاء أَمْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَقَدْ رَدَّ تَأْوِيلَ قَتَادَةَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: مَعْنَى خُلِّفُوا تُرِكُوا عَنْ قَبُولِ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ بِتَخَلُّفِنَا عَنِ الْغَزْوِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ كَذَلِكَ وَخَفَّفَ اللَّامَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ هَارُونَ الْمَخْزُومِيُّ، وَذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَعَمْرُو بْنُ عبيد، ومعاذ القاري، وَحُمَيْدٌ:

بِتَخْفِيفِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ: خَلَفُوا الْغَازِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ فَسَدُوا مِنَ الْخَالِفَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ كَذَلِكَ مُشَدَّدَ اللَّامِ.

وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنَاهُ زَيْدٌ، وَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ:

خَالَفُوا بِأَلِفٍ أَيْ: لَمْ يُوَافِقُوا عَلَى الْغَزْوِ.

وَقَالَ الْبَاقِرُ: وَلَوْ خُلِّفُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُخَلَّفِينَ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ الْهَمَّ وَالْغَمَّ مَلَأَهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا أُنْسٌ وَلَا سُرُورٌ، وَخَرَجَتْ عَنْ فَرْطِ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ، وَظَنُّوا أَيْ: عَلِمُوا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: أَيْقَنُوا، كَمَا قَالُوا فِي قول الشاعر:

(1) سورة النور: 24/ 40.

ص: 519

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج

سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ

وَقَالَ قَوْمٌ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، لِأَنَّهُ وَقَفَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يَكُونُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي شَأْنِهِمْ قُرْآنٌ، أَوْ كَانُوا قَاطِعِينَ لَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ تَطْوِيلَ الْمُدَّةِ فِي بَقَائِهِمْ فِي الشِّدَّةِ، فَالظَّنُّ عَادَ إِلَى تَجْوِيزِ تِلْكَ الْمُدَّةِ قَصِيرَةً. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ فِي كَنَفِ إِذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالتَّرْتِيبِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيحَاشِهِمْ، وَنَبْوَةِ النَّاسِ عَنْ كَلَامِهِمْ. وَثَانِيًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِانْشِرَاحِ وَالِاتِّسَاعِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا ضِيقَ الْمَحَلِّ، ثُمَّ ثَانِيًا ضِيقَ الْحَالِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَضِيقُ الْمَحَلُّ وَتَكُونُ النَّفْسُ مُنْشَرِحَةً سَمُّ الْخِيَاطِ مَعَ الْمَحْبُوبِ مَيْدَانُ. ثُمَّ ثَالِثًا لَمَّا يئسوا من الخلق عذقوا أُمُورَهُمْ بِاللَّهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَا يُفَرِّجُهَا إِلَّا هُوَ تَعَالَى ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «1» وإذا إِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً فَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَابَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ قَوْلِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ «2» الْآيَةَ.

وَدَعْوَى أَنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَجَوَابَ إِذَا مَا بَعْدَ ثُمَّ بَعِيدٌ جِدًّا، وَغَيْرُ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ زِيَادَةُ ثُمَّ.

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا بَعْدَ حَتَّى قَدْ تُجَرِّدُ مِنَ الشَّرْطِ وَتَبْقَى لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بَلْ تَكُونُ غَايَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: خُلِّفُوا أَيْ: خُلِّفُوا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ كَرَّةً أُخْرَى لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَيُنِيبُوا، أَوْ لِيَتُوبُوا أَيْضًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَتُوبُوا لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا يُرَاجِعُوا مَا يُبْطِلُهَا. وَقِيلَ:

لِيَتُوبُوا، لِيَرْجِعُوا إِلَى حَالِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَكِنُّ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ بَدَأَ فِي تَرْتِيبِهِ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى تَلَقِّي النِّعْمَةِ مِنْ عِنْدِهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ ذَنْبٍ لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ الْمُذْنِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «3» لِيَكُونَ هَذَا أَشَدَّ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ نَظْمِهِ وَمُعْجِزِ اتِّسَاقِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوَاقِعِ أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تكمل مع

(1) سورة النحل: 16/ 53.

(2)

سورة الصف: 61/ 5.

(3)

سورة الصف: 61/ 5.

ص: 520

مُطَالَعَةِ حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَهُمْ بِكَمَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَهُوَ فِي السِّيَرِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْتُ سَوْقَهُ. وَإِنَّمَا عَظُمَ ذَنْبُهُمْ وَاسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ يُطَالِبُهُمْ مِنَ الْحَدِّ فِيهِ بِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ مِنْهُ وَتَقَدُّمِهِمْ فِيهِ، إِذْ هُوَ أُسْوَةٌ وَحُجَّةٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَالطَّاعِنِينَ، إِذْ كَانَ كَعْبٌ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَفِي هَذَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجُلَ الْعَالِمَ وَالْمُقْتَدَى بِهِ أَقَلُّ عُذْرًا فِي السُّقُوطِ مِنْ سِوَاهُ. وَكَتَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ فِي آخِرِ رِسَالَةٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَرَابَتَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إِلَّا عِظَمًا، وَلَا طَاعَتَهُ إِلَّا وُجُوبًا، وَلَا النَّاسَ فِيمَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْكَ إِلَّا إِنْكَارًا وَالسَّلَامُ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَاضِي التَّنُوخِيُّ فِي قَوْلِهِ:

وَالْعَيْبُ يَعْلَقُ بالكبير كبير انتهى.

وَرُوِيَ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ بَدَا لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِمْ كَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْهُمُ الثَّلَاثَةُ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: أَنْ تَضِيقَ عَلَى التَّائِبِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ كَتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِكَوْنِهِمْ مَعَ أَهْلِ الصِّدْقِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ نَفَعَهُمْ صِدْقُهُمْ وَأَزَاحَهُمْ عَنْ رِبْقَةِ النِّفَاقِ. واعترضت هذه الحملة تَنْبِيهًا عَلَى رُتْبَةِ الصِّدْقِ، وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِرُتْبَةِ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «1» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ:

الصِّدْقُ هُنَا صِدْقُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَنَافِعٌ: مَا مَعْنَاهُ اللَّفْظُ أَعَمُّ مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ فِي الدِّينِ، وَالتَّمَكُّنِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلُ صِدْقٍ. وَقَالَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَخِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: هُمُ الثَّلَاثَةُ أَيْ: كُونُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي صِدْقِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَمُعَاهَدَتُهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَوْلِهِ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «2» وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي دِينِ اللَّهِ نِيَّةً وَقَوْلًا وَعَمَلًا انْتَهَى. وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِالَّذِينَ آمَنُوا لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الطُّلَقَاءِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: كُونُوا مع المهاجرين والأنصار، ومع تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ فِي الْحَالِ والمشاركة في

(1) سورة النساء: 4/ 69.

(2)

سورة الأحزاب: 33/ 23.

ص: 521

الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلْمَدْحِ.

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس: مِنَ الصَّادِقِينَ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوَّلَهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا أَنْ يَعِدَ مِنْكُمْ أحد صببه ثم لا ينجزه، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: ومن أَعَمُّ مِنْ مَعَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابن السميفع، أو أبو المتوكل، ومعاذ القاري: مَعَ الصَّادِقِينَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ النُّونِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «1» وَلَمَّا تَقَدَّمَ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: كُنْ مَعَ اللَّهِ يَكُنْ مَعَكَ.

مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيمَنْ تَخَلَّفَ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَمَرَ بِكَيْنُونَتِهِمْ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّادِقِينَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، اقْتَضَى ذَلِكَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَصُحْبَتَهُ أَنَّى تَوَجَّهَ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَالْمَشَاهِدِ، فَعُوتِبَ الْعِتَابَ الشَّدِيدَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الرَّسُولِ فِي غَزْوَةٍ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ الْأَمْرُ لِصُحْبَتِهِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ دُونَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنْ يَصْحَبُوهُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأُمِرُوا أَنْ يُكَابِدُوا مَعَهُ الْأَهْوَالَ بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَأَنْ يُلْقُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ مَا يَلْقَاهُ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم، عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْنٍ وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ، وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا، وَلَا يُقِيمُوا لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فضلا أن يربأوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ. قال الكرماني:

(1) سورة الأحزاب: 33/ 22.

ص: 522

هَذَا نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَخُصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ وَكُلُّ النَّاسِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ خُرُوجُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا الْإِلْزَامُ خَاصًّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَوَابُ النَّفْرِ إِلَى الْغَزْوِ إِذَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَبْقَ هَذَا الْحُكْمُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:

كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَالْإِلْزَامُ فِي قِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتِيَاجٍ إِلَى اتِّصَالِ الْأَيْدِي، ثُمَّ نُسِخَ عِنْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِانْبِعَاثِ إِلَى غَزْوِ الْعَدُوِّ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِذَا أَلَمَّ الْعَدُوُّ بِجِهَةٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كل أحد القيام بذنبه وَمُكَافَحَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ انْتِفَاءُ التَّخَلُّفِ مِنْ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَبَذْلِ النَّفْسِ دُونَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذَلِكَ الْوُجُوبُ لِلْخُرُوجِ وَبَذْلِ النَّفْسِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَسِيمِ عَلَى الْمَشَاقِّ الَّتِي تَنَالُهُمْ، وَمَا يَتَسَنَّى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِيذَاءِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ.

وَالظَّمَأُ الْعَطَشُ.

وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ظِمَاءٌ بِالْمَدِّ مِثْلُ: سَفِهَ سِفَاهًا، وَلَمَّا كَانَ العطش أشق الأشياء المؤدية لِلْمُسَافِرِ بِكَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَإِزْعَاجِ النَّفْسِ وَخُصُوصًا فِي شِدَّةِ الحر كغزوة تبوك بدىء بِهِ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالنَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ لِأَنَّهُ الْكَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُسَافِرَ وَالْإِعْيَاءُ النَّاشِئُ عَنِ الْعَطَشِ وَالسَّيْرِ، وَأَتَى ثَالِثًا بِالْجُوعِ لِأَنَّهُ حَالَةٌ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا الْأَوْقَاتِ الْعَدِيدَةَ، بِخِلَافِ الْعَطَشِ وَالنَّصَبِ الْمُفْضِيَيْنِ إِلَى الْخُلُودِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ السَّفَرِ. فَكَانَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَعْرِضُ لِلْمُسَافِرِ أولا فثانيا فثالثا. وموطئا مَفْعِلٌ مِنْ وَطِئَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، وَاحْتَمَلَ مَصْدَرًا. وَالْفَاعِلُ فِي يَغِيظُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، إِمَّا عَلَى موطىء إِنْ كَانَ مَصْدَرًا، وَإِمَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ موطىء إِنْ كَانَ مَكَانًا، أَيْ يغيظ ووطؤهم إِيَّاهُ الْكُفَّارَ. وَأَطْلَقَ مَوْطِئًا إِذَا كَانَ مَكَانًا لِيَعُمَّ كل موطىء يَغِيظُ وَطْؤُهُ الْكُفَّارَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَمْكِنَةِ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنْ أَمْكِنَةِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ فِي سُلُوكِهِ غَيْظُهُمْ. وَالْوَطْءُ يَدْخُلُ فِيهِ بِالْحَوَافِرِ وَالْأَخْفَافِ وَالْأَرْجُلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:

يُغِيظُ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَالنَّيْلُ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنِيلُ. وَأَطْلَقَ نَيْلًا لِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِمَّا يَسُوءُهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَغَنِيمَةً وَهَزِيمَةً، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ فِي نَيْلٍ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ، بَلْ نَالَ مَادَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ نِلْتُهُ أَنُولُهُ نَوْلًا وَنَوَالًا مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَمِنْهُ التَّنَاوُلُ. وَالْأُخْرَى: هَذِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، نِلْتُهُ أناله نَيْلًا إِذَا أَصَابَهُ وَأَدْرَكَهُ. وبدىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأَسْبَقِ أَيْضًا وَهُوَ الْوَطْءُ، ثُمَّ ثنى بالنيل من

(1) سورة التوبة: 9/ 122.

ص: 523

الْعَدْوِ. جَاءَ الْعُمُومُ فِي الْكُفَّارِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي مِنْ عَدُوٍّ لِكَوْنِهِ فِي سياق النفي، وبدىء أَوَّلًا بِمَا يَحُضُّ الْمُسَافِرَ فِي الْجِهَادِ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَحَمُّلِ تِلْكَ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْظِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلِ مِنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَطْءِ الْإِيقَاعُ وَالْإِبَادَةُ، لَا الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالْحَوَافِرِ

كَقَوْلِهِ عليه السلام: «آخِرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ» .

وَالْكَتْبُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْ: كُتِبَ فِي الصَّحَائِفِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لِيُجَازَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، عَبَّرَ عَنِ الثُّبُوتِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا كَتَبَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ كُتِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَبِهِ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ أَيْ: بِإِصَابَةِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْمَخْمَصَةِ وَالْوَطْءِ وَالنَّيْلِ.

وفي الحديث: «من أغرث قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِكُلِّ رَوْعَةٍ تَنَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَالنَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالتَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا فَوْقَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَغِيرَةً وَلَوْ تَمْرَةً، وَلَوْ عَلَاقَةَ سَوْطٍ،. وَلَا كَبِيرَةً مِثْلُ مَا أَنْفَقَ عُثْمَانُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ صَغِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً «1» وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ «2» وَإِذَا كُتِبَ أَجْرُ الصَّغِيرَةِ فَأَحْرَى أَجْرُ الْكَبِيرَةِ. وَمَفْعُولُ كُتِبَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ ينفقون ويقطعون، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ لَهُمْ هُوَ أَيِ الْإِنْفَاقُ وَالْقَطْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: عَمَلٌ صَالِحٌ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَتَأَخَّرَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ وَقُدِّمَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَأَنْكَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَاتَانِ أَهْوَنُ لِأَنَّهُمَا فِي الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الْأَرْضِ إِلَى الْعَدُوِّ، سَوَاءٌ حَصَلَ غَيْظُ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلُ مِنَ الْعَدُوِّ أَمْ لَمْ يَحْصُلَا، فَهَذَا أَعَمُّ وَتِلْكَ أَخَصُّ. وَكَانَ تَعْلِيلُ تِلْكَ آكَدُ، إِذْ جَاءَ بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ، وَذَكَرَ فِيهِ الْأَجْرَ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ حَازُوا رُتَبَ الْإِحْسَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى رُتَبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أَتَى بِلَامِ الْعِلَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بكتب وَالتَّقْدِيرُ: أَحْسَنَ جَزَاءَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَهُ جَزَاءٌ حَسَنٌ، وَلَهُ جَزَاءٌ أَحْسَنُ، وَهُنَا الْجَزَاءُ أَحْسَنُ جَزَاءٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحْسَنَ مِنْ صِفَةِ فِعْلِهِمْ، وَفِيهَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ دُونَ الْمُبَاحِ انْتَهَى. هَذَا الْوَجْهُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيَجْزِيَهُمُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَجْزِيَ الله أحسن أفعالهم

(1) سورة الكهف: 18/ 49.

(2)

سورة يونس: 10/ 61. [.....]

ص: 524