الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنَ الذُّنُوبِ اعْتَذَرُوا وَالتَّقْدِيرُ وَطُلِبُوا بِحُجَّةٍ عَلَى ارْتِكَابِهَا قَالُوا: آبَاؤُنَا كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ كَرِهَ اللَّهُ مِنَّا مَا نَفْعَلُهُ لَنَقَلَنَا عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّقْلِيدَ لِآبَائِهِمْ وَالتَّقْلِيدُ بَاطِلٌ إِذْ لَيْسَ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ، وَالْإِخْبَارُ الثَّانِي افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْفَاحِشَةُ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا هِيَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ انْتَهَى، وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالزَّجَّاجُ: الْفَاحِشَةُ هُنَا الشِّرْكُ، وَقِيلَ:
الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، وَقِيلَ: الْكَبَائِرُ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا ارْتَكَبُوا الْفَوَاحِشَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا فَعَلُوا وَمَا بَعْدَهُ دَاخِلٌ في صلة لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَقَعَ التَّوْبِيخُ بِصِفَةِ قَوْمٍ قَدْ جُعِلُوا أمثالا للمؤمنين إذا شبّه فِعْلُهُمْ فِعْلَ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِلَى الْعَرَبِ وَهُمْ قَدَرِيَّةٌ مُجْبِرَةٌ يُحَمِّلُونَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقُهُ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، انْتَهَتْ حِكَايَتُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَلَعَلَّهَا لَا تَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ وَانْظُرْ إِلَى دَسِيسَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ قَدَرِيَّةٌ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَجْعَلُونَ الْمُعْتَزِلَةَ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ فَعَكَسَ هُوَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ حَتَّى إِنَّ مَا جَاءَ مِنَ الذَّمِّ لِلْقَدَرِيَّةِ يَكُونُ لَهُمْ وَهَذِهِ النِّسْبَةُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ هِيَ أَلْيَقُ بِمَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ لَا بِمَنْ نَفَاهُ، وَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَدَرِيَّةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقَدَرَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ آنِفٌ وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ الْقِيَاسِيُّ وَمَعْنَاهُ نَافِي الْقِيَاسِ.
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَيْ بِفِعْلِ الْفَحْشَاءِ وَإِنَّمَا لَمْ يَرِدِ التَّقْلِيدُ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ لِلُزُومِهِ الْأَخْذَ بِالْمُتَنَاقِضَاتِ وَأَبْطَلَ تَعَالَى دَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا إِذْ مَدْرَكٌ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْوَحْيُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ فِعْلَ الْقَبِيحِ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الدَّاعِي وَوُجُودِ الصَّارِفِ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِفِعْلِهِ.
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إِنْكَارٌ لِإِضَافَتِهِمُ الْقَبِيحَ إِلَيْهِ وَشَهَادَةٌ عَلَى أَنَّ مَبْنَى أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ الْمُفْرِطِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَّخَهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَوَقْفِهِمْ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَلَا رِوَايَةَ لَهُمْ فِيهِ بَلْ هِيَ دَعْوَى واختلاق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
بَدَأَ الشَّيْءَ أَنْشَأَهُ وَاخْتَرَعَهُ، الْجَمَلُ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ وَجَمْعُهُ جِمَالٌ وَأَجْمُلٌ وَلَا يُسَمَّى جَمَلًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَالْجَمَلُ حَبْلُ السَّفِينَةِ وَلُغَاتُهُ تَأْتِي فِي الْمُرَكَّبَاتِ. سَمُّ الْخِيَاطِ ثُقْبُهُ وَتُضَمُّ سِينُ سَمُّ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ، وَكُلُّ ثُقْبٍ فِي أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ سَمًّا وَالْخِيَاطُ الْمَخِيطُ وَهُمَا آلَتَانِ كَإِزَارٍ وَمِئْزَرٍ وَلِحَافٍ وَمِلْحَفٍ وَقِنَاعٍ وَمِقْنَعٍ. الْغِلُّ الْحِقْدُ وَالْإِحْنَةُ الْخَفِيَّةُ فِي النَّفْسِ وَجَمْعُهَا غِلَالٌ وَمِنْهُ الْغُلُولُ أَخْذٌ فِي خَفَاءٍ. نَعَمْ حَرْفٌ يَكُونُ تَصْدِيقًا لِإِثْبَاتٍ مَحْضٍ أَوْ لِمَا تَضَمَّنَهُ اسْتِفْهَامٌ وَكَسْرُ عَيْنِهَا لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ وَإِبْدَالُ عَيْنِهَا بِالْحَاءِ لُغَةٌ وَوُقُوعُهَا جَوَابًا بَعْدَ نَفْيٍ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ نَادِرٌ. الْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُّ كِنَازٍ لحمه يناف
…
كَالْجَبَلِ الْمُوفِي عَلَى الْأَعْرَافِ
وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
فَظَلَّتْ بِأَعْرَافٍ تُعَادِي كَأَنَّهَا
…
رِمَاحٌ نَحَاهَا وجهة الرمح رَاكِزُ
وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ لِعُلُوِّهِمَا. السِّتَّةُ رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ وَأَصْلُهَا سِدْسَةٌ فَأَبْدَلُوا مِنَ السِّينِ تَاءً وَلَزِمَ الْإِبْدَالُ ثُمَّ أَدْغَمُوا الدَّالَ فِي التَّاءِ بَعْدَ إِبْدَالِ الدَّالِ بِالتَّاءِ وَلَزِمَ الْإِدْغَامُ وَتَصْغِيرُهُ سُدَيْسٌ وَسُدَيْسَةٌ. الْحَثُّ الْإِعْجَالُ حثثت فلانا فأحثثت قَالَهُ اللَّيْثُ وَقَالَ: فَهُوَ حَثِيثٌ وَمَحْثُوثٌ.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقِسْطُ هُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ كُلَّهَا تَنْشَأُ عَنْهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْعَدْلُ وَمَا يَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ كَوْنُهُ حَسَنًا صَوَابًا، وَقِيلَ الصِّدْقُ وَالْحَقُّ. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَأَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا يَنْحَلُّ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْقِسْطُ أَيْ بِأَنْ أَقْسِطُوا وَأَقِيمُوا وَكَمَا يَنْحَلُّ المصدر لأن وَالْفِعْلِ الْمَاضِي نَحْوُ عَجِبْتُ مِنْ قِيَامِ زَيْدٍ وَخَرَجَ أَيْ مِنْ أَنْ قَامَ وَخَرَجَ وَأَنْ وَالْمُضَارِعُ نَحْوُ:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي أَيْ لَأَنْ أَلْبَسَ عَبَاءَةً وَتَقَرَّ عَيْنِي كَذَلِكَ يَنْحَلُّ لَأَنْ وَفِعْلُ الْأَمْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْ تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ نَحْوُ كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِأَنْ قُمْ كَمَا تُوصَلُ بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ بِخِلَافِ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُوصَلُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ وَبِخِلَافِ كَيْ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَرْفًا وَكَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَإِنَّهَا تُوصَلُ بِالْمُضَارِعِ فَقَطْ وَلَمَّا أَشْكَلَ هَذَا التَّخْرِيجُ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَقِيمُوا عَلَى تَقْدِيرِ وقل فقال: وقل أَقِيمُوا فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ وَقُلْ أَقِيمُوا أَنْ يَكُونَ أَقِيمُوا مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأَقِيمُوا مَعْطُوفًا عَلَى أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا لِقُلِ الْمَلْفُوظِ بِهَا أَوَّلًا وَقَدَّرَهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا خَرَّجْنَاهُ نَحْنُ يَكُونُ فِي خَبَرِ مَعْمُولِ أَمَرَ، وَقِيلَ: وَأَقِيمُوا مَعْطُوفٌ عَلَى أَمَرَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَقْبِلُوا وَأَقِيمُوا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلُّوا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أُصَلِّي فِي مَسْجِدِي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ تَوَجَّهُوا حَيْثُ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: اجْعَلُوا سُجُودَكُمْ خَالِصًا لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اقْصِدُوا الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْجَمَاعَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ فِي جِوَارِكُمْ مَسْجِدٌ فَأَقِيمُوا الْجَمَاعَةَ فِيهِ وَلَا تَتَجَاوَزُوا إِلَى غَيْرِهِ ذَكَرَهُ التِّبْرِيزِيُّ، وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بِإِحْضَارِ النِّيَّةِ لِلَّهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَالْقَصْدِ نَحْوِهِ كَمَا تَقُولُ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ «1» الْآيَةَ قَالَهُ الرَّبِيعُ أَيْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَهُوَ مَسْجِدٌ لَكُمْ يَلْزَمُكُمْ عِنْدَهُ الصَّلَاةُ وَإِقَامَةُ وُجُوهِكُمْ فِيهِ لِلَّهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ حَيْثُ كَانَ» .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيِ اقْصِدُوا عِبَادَتَهُ مُسْتَقِيمِينَ إِلَيْهِ غَيْرَ عَادِلِينَ إِلَى غَيْرِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي وَقْتِ كُلِّ سُجُودٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ سُجُودٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. قِيلَ: الدُّعَاءُ عَلَى بَابِهِ أَمَرَ بِهِ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ لِأَنَّ دُعَاءَ مَنْ لَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِلَّهِ لَا يُجَابُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اعْبُدُوا، وَقِيلَ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ هُوَ إِعْلَامٌ بِالْبَعْثِ أَيْ كَمَا أَوْجَدَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ: كَمَا أَنْشَأَكُمُ ابْتِدَاءً يُعِيدُكُمُ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْإِعَادَةَ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعِيدُكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ انْتَهَى، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ قَالَ: كَمَا أَحْيَاكُمْ فِي الدُّنْيَا يُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ بَعْثُكُمْ بِأَشَدَّ مِنَ ابْتِدَاءِ إِنْشَائِكُمْ وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ،
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُ إِعْلَامٌ بِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَالْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ كُتِبَ لَهُ السَّعَادَةُ وَالْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَتَبَدَّلُ شَيْءٌ مِمَّا أَحْكَمَهُ وَدَبَّرَهُ تَعَالَى
ويؤيد هذا المعنى
(1) سورة الأنعام: 6/ 79.
قِرَاءَةُ أُبَيٍّ تَعُودُونَ فَرِيقَيْنِ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى تَعُودُونَ غَيْرَ حَسَنٍ لِأَنَّ فَرِيقاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَفَرِيقًا عُطِفَ عَلَيْهِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ هَدى وَمِنْ حَقَّ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَقَدْ حُذِفَ الضَّمِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَةِ أَيْ هَدَاهُمْ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فَرِيقاً مَفْعُولَ هَدى وَفَرِيقاً مَفْعُولَ أَضَلَّ مُضْمَرَةً وَالْجُمْلَتَانِ الْفِعْلِيَّتَانِ حَالٌ، وَهَدَى عَلَى إِضْمَارِ قَدْ أَيْ تَعُودُونَ قَدْ هَدَى فَرِيقًا وَأَضَلَّ فَرِيقًا، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى تَعُودُونَ وَيَكُونُ فَرِيقاً مَفْعُولًا بِهَدَى وَيَكُونُ وَفَرِيقاً مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَرِيقاً هَدى وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أَيْ كَلِمَةُ الضَّلَالَةِ وَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَضِلُّونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِيقاً بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَخَذَلَ فَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ انْتَهَى وَهِيَ تَقَادِيرُ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى تَعُودُونَ لَا نَاصِرَ لَكُمْ وَلَا مُعِينَ لِقَوْلِهِ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «1» ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَمَا بَدَأَكُمْ مِنَ التُّرَابِ يُعِيدُكُمْ إِلَى التُّرَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا خَلَقَكُمْ عُرَاةً تُبْعَثُونَ عُرَاةً وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أَيْ حَقُّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَوْ حَقَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةُ الضَّلَالَةِ هَكَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَجَاءَ إِسْنَادُ الْهُدَى إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يجىء مُقَابِلُهُ وَفَرِيقًا أَضَلَّ لِأَنَّ الْمَسَاقَ مَسَاقٌ مِنْ نَهْيٍ عَنْ أَنْ يَفْتِنَهُ الشَّيْطَانُ وَإِخْبَارٌ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءٌ لِلَّذِينِ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَأَمَرَ بِالْقِسْطِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَنَاسَبَ هَذَا الْمَسَاقَ أَنْ لَا يُسْنِدَ إِلَيْهِ تَعَالَى الضَّلَالَ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَفَاعِلُ الضَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ عَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ.
إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أَيْ إِنَّ الْفَرِيقَ الضَّالَّ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَنْتَصِرُونَ بِهِمْ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ اعْلُ هُبَلُ اعْلُ هُبَلُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الشَّيَاطِينِ فَهُمْ يُعِينُونَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالضَّالُّونَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ بِانْقِيَادِهِمْ إِلَى وَسْوَسَتِهِمْ، وَقِيلَ: الشَّيَاطِينُ أَحْبَارُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ:
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ رَكِبَهَا أَوْ ضَلَالَةٍ اعْتَقَدَهَا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِمَوْضِعِ الصَّوَابِ انْتَهَى، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ قَوْلُهُ وَيَحْسَبُونَ وَالْمَحْسَبَةُ الظَّنُّ لَا الْعِلْمُ، وَقَرَأَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لحقّ الضلالة عليهم والكسر
(1) سورة الأنعام: 6/ 94.
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ تَوَلَّوْهُمْ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَثَرَ لَهُ فِي ضَلَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَوَلِّيهِمُ الشَّيَاطِينَ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الاعتزال.
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا لَا يَأْكُلُونَ فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ دَسَمًا وَلَا يَنَالُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا تَعْظِيمًا لِحَجِّهِمْ فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَطُوفُ عُرْيَانًا وَيَدَعُ ثِيَابَهُ وَرَاءَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ طَافَ وَهِيَ عَلَيْهِ ضُرِبَ وَانْتُزِعَتْ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا نَعْبُدُ اللَّهَ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبْنَا فِيهَا، وَقِيلَ: تَفَاؤُلًا لِيَتَعَرَّوْا مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا تَعَرَّوْا مِنَ الثِّيَابِ. وَالزِّينَةُ فِعْلَةٌ مِنَ التَّزَيُّنِ وَهُوَ اسْمُ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ ثِيَابٍ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ وَازَّيَّنَتْ «1» أَيْ بِالنَّبَاتِ وَالزِّينَةُ هُنَا الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا هُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الصَّلَاةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَقَالَ طَاوُسٌ الشَّمْلَةُ مِنَ الزِّينَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا وَارَى عَوْرَتَكَ وَلَوْ عَبَاءَةً فَهُوَ زِينَةٌ. وَقِيلَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطُوفُ عُرَاةً إلا الخمس وَهُمْ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنْ تعطيهم الخمس ثِيَابًا فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ وَفِي غَيْرِ مُسْلِمٍ:
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا طَافَ عُرْيَانًا أَوْ فِي ثِيَابِهِ وَأَلْقَاهَا بَعْدُ فَلَا يَمَسُّهَا أَحَدٌ وَيُسَمَّى اللِّقَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ
…
لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْشِدُ وَهِيَ تَطُوفُ عُرْيَانَةً:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ
…
وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ الرَّسُولِ أَلَّا لَا يَحُجَّ الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
، وَكَانَ النِّدَاءُ بِمَكَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو رَوْقٍ: تَسْرِيحُ اللِّحَى وَتَنْوِيرُهَا بِالْمُشْطِ وَالتَّرْجِيلِ، وَقِيلَ: التَّزَيُّنُ بِأَجْمَلِ اللِّبَاسِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقِيلَ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَقِيلَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ بِالْمَسَاجِدِ وَكَانَ ذَلِكَ زِينَةً لَهُمْ لِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَمُشَابَهَةِ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَلِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ الْأُلْفَةِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وقيل: ليس النِّعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا أَحْسَبُهُ يَصِحُّ، وَقَالَ أَيْضًا: الزِّينَةُ هُنَا الثِّيَابُ السَّاتِرَةُ وَيَدْخُلُ فِيهَا مَا كَانَ مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ وَالسِّوَاكِ وَبَدَلِ الثِّيَابِ وَكُلِّ مَا أُوجِدَ اسْتِحْسَانُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْخُيَلَاءُ.
(1) سورة يونس: 10/ 24.
وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يُرِيدُ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعِ سُجُودٍ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِيهَا هُوَ مُهِمُّ الْأَمْرِ وَيَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ مَوَاطِنُ الْخَيْرِ كُلُّهَا وَمَعَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خُذُوا زِينَتَكُمْ أَيْ رِيشَكُمْ وَلِبَاسَ زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ كُلَّمَا صَلَّيْتُمْ وَكَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً انْتَهَى، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الزِّينَةَ هُوَ مَا يتجمل به ويتزين عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا وَلَا يَخْتَصُّ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَلَفْظَةُ كُلِّ مَسْجِدٍ تَأْتِي أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ لِعُمُومِهِ وَالطَّوَافُ إِنَّمَا هُوَ الْخَاصُّ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ حَمْلُ الْعُمُومِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ مِنْهُ وَأَيْضًا فَيَا بَنِي آدَمَ عَامٌّ وَتَقْيِيدُ الْأَمْرِ بِمَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ فِي الطَّوَافِ مُفْضٍ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِمَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وزفر ومحمد والحسن بن زِيَادٍ وَالشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَّقَ الْأَمْرَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ السِّتْرُ لِلصَّلَاةِ، وَقَالَ: مَالِكٌ والليث: كَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ وَيُوجِبَانِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا إِنْ صَلَّى مَكْشُوفَهَا، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: هِيَ فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ كُلُوا مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّسَمِ وَاشْرَبُوا مِنَ الْأَلْبَانِ وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُلُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَأَخَوَاتِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ أَوْ يُشْرَبَ مِمَّا يُحْظَرُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَ النُّزُولُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ كَمَا ذَكَرُوا مِنَ امْتِنَاعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالدَّسَمَ أَيَّامَ إِحْرَامِهِمْ أَوْ بَنِي عَامِرٍ دُونَ سَائِرِ الْعَرَبِ مِنْ ذَلِكَ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِسْرَافُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِوَاءِ، وَقَالَ أَيْضًا لَا تُسْرِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ لَكُمْ، وَقَالَ أَيْضًا: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِسْرَافُ أَكْلُ الْحَرَامِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْإِسْرَافُ الْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِسْرَافُ الْإِشْرَاكُ، وَقِيلَ: الْإِسْرَافُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ فِي طَوَافِهِمْ عُرَاةً يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الْحَلَالِ سَرَفٌ إِنَّمَا السَّرَفُ فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ فِي الْحَلَالِ الْقَصْدَ وَاللَّفْظَةُ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ مُطْلَقًا فِيمَنْ تَلَبَّسَ بِفِعْلِ حَرَامٍ فَتَأَوَّلَ تَلَبُّسُهُ بِهِ حَصَلَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَلَبَّسَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فَإِنْ مَشَى فِيهِ عَلَى الْقَصْدِ وَأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَحَسَنٌ وَإِنْ أَفْرَطَ حَتَّى دَخَلَ الضَّرَرُ حَصَلَ أَيْضًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ
وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِطَ فِي شِرَاءِ ثِيَابٍ أَوْ نَحْوِهَا وَيَسْتَنْفِدُ فِي ذَلِكَ حِلَّ مَالِهِ أَوْ يُعْطِي مَالَهُ أَجْمَعَ وَيُكَابِدُ بِعِيَالِهِ الْفَقْرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوِهِ فَاللَّهُ عز وجل لَا يُحِبُّ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ انْتَهَى،
وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ هُنَا أَنَّ نَصْرَانِيًّا طَبِيبًا لِلرَّشِيدِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنَ الطِّبِّ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا بقوله «المعدة بيت الداء والحميّة رَأَسُ كُلِّ دَوَاءٍ» وَ «أَعْطِ كُلَّ بَدَنٍ مَا عَوَّدْتَهُ» فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ زِينَةَ اللَّهِ مَا حَسَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَقَرَّرَتْهُ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا وَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَبَاحَهَا وَالطَّيِّبَاتُ هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ بِطَرِيقَةٍ وَهُوَ الْحِلُّ، وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ الْمُحَلَّلَاتُ وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَوْبِيخُ مُحَرِّمِيهَا وَقَدْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنْ لُحُومِ الطَّيِّبَاتِ وَأَلْبَانِهَا وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا تَضَمَّنَ الْإِنْكَارَ لَا جَوَابَ لَهُ وَتَوَهُّمُ مَكِّيٍّ هُنَا أَنَّ لَهُ جَوَابًا هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ هِيَ تَوَهُّمٌ فَاسِدٌ وَمَعْنَى أَخْرَجَ أَبْرَزَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَقِيلَ فَصَلَ حَلَالَهَا مِنْ حَرَامِهَا.
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قَرَأَ قَتَادَةُ قُلْ هِيَ لِمَنْ آمَنَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ خالِصَةً بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ فَأَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ قُلْ هِيَ مُسْتَقِرَّةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي حَالِ خُلُوصِهَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا لِهِيَ وفِي الْحَياةِ مُتَعَلِّقٌ بِآمَنُوا وَيَصِيرُ الْمَعْنَى قُلْ هِيَ خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَعْنِي بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقْتَ الْحِسَابِ وَخُلُوصُهَا كَوْنُهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ تَفْسِيرُ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينِ وَهُوَ الْكَوْنُ الْمُطْلَقُ أَيْ قُلْ هِيَ كَائِنَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ يُشْرِكُهُمْ فِيهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنيا الكفّار وخالصة لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتِمْرَارُ الْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَنَّهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ قَوْلُ ابن عباس والضحاك وقتادة وَالْحَسَنِ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَكَيْفَ جَاءَ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، (فَالْجَوَابُ) : مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ قُلْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامَةِ لَا يُشَارَكُونَ فِيهَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، الثَّانِي: إِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ كَوْنًا مُطْلَقًا بَلْ كَوْنًا مُقَيَّدًا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ مُقَابِلُهُ وَهُوَ
خالِصَةً تَقْدِيرُهُ قُلْ هِيَ غَيْرُ خَالِصَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: قُلْ هي للذين آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلَّا قِيلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَلِغَيْرِهِمْ، (قُلْتُ) : النِّيَّةُ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ لِلَّذِينِ آمَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَأَنَّ الْكَفَرَةَ تَبَعٌ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ «1» انْتَهَى وَجَوَابُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ لِلتِّبْرِيزِيِّ رحمه الله.
قَالَ التِّبْرِيزِيُّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ خَالِصَةً فِي الْآخِرَةِ لَا يُشْرِكُهُمِ الْكُفَّارُ فِيهَا هَذَا وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ إِلَّا أَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فِي الدُّنْيَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا لِلَّذِينِ آمَنُوا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالْكَفَّارُ تَبَعٌ لَهُمْ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ خَاطَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «2» انْتَهَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ وَيَصِحُّ أَنْ يُعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بِقَوْلِهِ حَرَّمَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِقَوْلِهِ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ يَشُدُّ الْقِصَّةَ وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهَا جِدًّا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «3» فَقَوْلُهُ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى كَسَبُوا داخل في الصلة وَالتَّعَلُّقُ بِأَخْرَجَ هُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ وَالطَّيِّباتِ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ مِنَ الرِّزْقِ انْتَهَى. وَتَقَادِيرُ أَبِي عَلِيٍّ وَالْأَخْفَشِ فِيهَا تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ وَسُلُوكٌ بِهِ غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ، وَهِيَ تَقَادِيرُ أَعْجَمِيَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْبَلَاغَةِ لَا تُنَاسِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَلْ لَوْ قُدِّرَتْ فِي شِعْرِ الشَّنْفَرَى مَا نَاسَبَ وَالنُّحَاةُ الصِّرْفُ غَيْرُ الْأُدَبَاءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إِدْرَاكِ الْفَصَاحَةِ وَأَمَّا تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَسَبُوا فَلَيْسَ مَا قَالَهُ بِمُتَعَيَّنٍ فِيهِ بَلْ وَلَا ظَاهِرٌ بَلْ قَوْلُهُ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها هُوَ خَبَرٌ عَنِ النَّهْيِ أَيْ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِهَا وَحَذْفُ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِمُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَيْ مَنَوَانِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُ هَذَا بِأَكْثَرَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ مِثْلُ تَفْصِيلِنَا وَتَقْسِيمِنَا السَّابِقِ نُقَسِّمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِقَوْمٍ لَهُمْ عِلْمٌ وَإِدْرَاكٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَلِمَ لِقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «4» .
(1) سورة البقرة: 2/ 126.
(2)
سورة البقرة: 2/ 29.
(3)
سورة يونس: 10/ 27.
(4)
سورة العنكبوت: 29/ 43. [.....]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالَ الْكَلْبِيُّ لَمَّا لَبِسَ الْمُسْلِمُونَ الثِّيَابَ وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا اسْتَحَلُّوا الْحُرُمَ فَنَزَلَتْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ وَزِيدَ هُنَا أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: مَا ظَهَرَ مِنْها طَوَافُ الرَّجُلِ بِالنَّهَارِ عُرْيَانًا وَما بَطَنَ طَوَافُهَا بِاللَّيْلِ عَارِيَةً قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا ظَهَرَ طَوَافُ الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً وَما بَطَنَ الزِّنَا، وَقِيلَ: مَا ظَهَرَ الظُّلْمُ وَما بَطَنَ السَّرِقَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ: مَا ظَهَرَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ نِسَاءَ الْآبَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَأَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَما بَطَنَ الزِّنَا وَالْإِثْمَ عَامٌّ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِثْمُ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ هُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: الْخَمْرُ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ هُنَا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ تُحَرَّمِ الْخَمْرُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اصْطَحَبُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ وَمَاتُوا شُهَدَاءَ وَهِيَ فِي أَجْوَافِهِمْ وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْخَمْرِ إِثْمًا فَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي وَهُوَ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ موجب الإثم ولا يذلّ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْإِثْمَ الْخَمْرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهَا إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمَ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ وَقَالَ الْفَضْلُ: الْإِثْمَ الْخَمْرُ، وَأَنْشَدَ:
نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نَقْرَبَ الْخَنَا
…
وَأَنْ نَشْرَبَ الْإِثْمَ الَّذِي يُوجِبُ الْوِزْرَا
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ أَيْضًا:
وَرُحْتُ حَزِينًا ذَاهِلَ الْعَقْلِ بَعْدَهُمْ
…
كَأَنِّي شَرِبْتُ الْإِثْمَ أَوْ مَسَّنِي خَبَلُ
قَالَ: وَقَدْ تُسَمَّى الْخَمْرُ إِثْمًا وَأَنْشَدَ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءُ: الْبَغْيَ الِاسْتِطَالَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: تَكَلُّمُ الرَّجُلِ فِي الرَّجُلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَقِيلَ: الظُّلْمُ وَالْكِبْرُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ وَأَفْرَدُوهُ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ «1» .
(1) سورة النحل: 16/ 90.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَغْيَ التَّعَدِّي وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ مُبْتَدِئًا كَانَ أَوْ مُنْتَصِرًا وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَغْيٌ بِحَقٍّ لِأَنَّ مَا كَانَ بِحَقٍّ لَا يُسَمَّى بَغْيًا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فِي الْأَنْعَامِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنَزِّلَ بُرْهَانًا بِأَنْ يُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَآكِلَ وَمَلَابِسَ وَمَشَارِبَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هَذَا وَعِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْعَذَابِ النَّازِلِ فِي أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ أَيْ أَجَلٌ مُؤَقَّتٌ لِمَجِيءِ الْعَذَابِ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ فَأَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ هُنَا أَجَلُ الدُّنْيَا التَّقْدِيرُ: لِلْأُمَمِ كُلِّهَا أَجَلٌ أَيْ يُقْدِمُونَ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ، وَقِيلَ: الْأَجَلُ مُدَّةُ الْعُمْرِ وَالتَّقْدِيرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ عُمْرٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَقَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا مَاتَ عَلِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِرْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ وَهِيَ لَفْظَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ
كَقَوْلِهِ فِي قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ»
وَأَفْرَدَ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَوْ لِتَقَارُبِ أَعْمَالِ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ أَوْ لِكَوْنِ التَّقْدِيرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّةٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فَإِذَا جَاءَ آجَالُهُمْ بِالْجَمْعِ وَقَالَ سَاعَةً لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْأَوْقَاتِ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ يَقُولُ الْمُسْتَعْجِلُ لِصَاحِبِهِ فِي سَاعَةٍ يُرِيدُ فِي أَقْصَرِ وَقْتٍ وَأَقْرَبِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَفْظٌ عُنِيَ بِهِ الْجُزْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمُرَادُ جَمْعُ أَجْزَائِهِ انْتَهَى، وَالْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ بِلَا إِذَا وَقَعَ فِي الظَّاهِرِ جَوَابًا لِإِذَا يَجُوزُ أَنْ يُتَلَقَّى بِفَاءِ الْجَزَاءِ وَيَجُوزَ أَنْ لَا يُتَلَقَّى بِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْفِعْلِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ اسْمِيَّةً وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِإِذَا فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْفَاءِ أَوْ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى إِذَا حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي يُونُسَ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ وَتَعْقِيبٌ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ الْفَاءِ وَمَا فِي يُونُسَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا يَسْتَأْخِرُونَ انْتَهَى، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ إِذَا شَرْطِيَّةٌ فَالَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَجِيءِ الْأَجَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي انْتِفَاءِ الِاسْتِئْخَارِ لَا فِي انْتِفَاءِ الِاسْتِقْدَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْدَامَ سَابِقٌ عَلَى مَجِيءِ الْأَجَلِ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَيَصِيرُ نَظِيرَ قَوْلِكَ إِذَا قُمْتَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَتَقَدَّمْ قِيَامُكَ فِي الْمَاضِي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا قَامَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَتَقَدَّمْ قِيَامُهُ هَذَا فِي الْمَاضِي وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى
…
وَلَا سَابِقًا شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيًا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ جَائِيًا إِلَيْهِ لَا يَسْبِقُهُ وَالَّذِي تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْجَوَابِ عَلَى سَبِيلِ اسْتِئْنَافِ إخبار أي وهم لَا يَسْتَقْدِمُونَ الْأَجَلَ أَيْ لَا يَسْبِقُونَهُ وَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَ الْأَجَلَ وَلَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ.
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ. قِيلَ: هُوَ فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَاعًى بِهِ وَقْتَ الْإِنْزَالِ وَجَاءَ بِصُورَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِتَقْوَى الْإِشَارَةُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي إِمَّا تَأْكِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يُجِزْ دُخُولَ النُّونِ الثَّقِيلَةِ انْتَهَى، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ ذَلِكَ وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَمَنِ اتَّقى فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً وَجَوَابُهُ فَلا خَوْفٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَقِلَّةً بِجَوَابِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً فَتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مَجْمُوعُهُمَا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالْكَلَامِ التَّقْسِيمَ وَجُعِلَ الْقِسْمَانِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ أَيْ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ فَالْمُتَّقُونَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَذِّبُونَ أَصْحَابُ النَّارِ فَثَمَرَةُ إِتْيَانِ الرُّسُلِ وَفَائِدَتِهِ هَذَا وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ سَبْقَ الْإِيمَانِ إِذِ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ إِلَّا الانهماك والإفساد وقابل الْإِصْلَاحُ بِالِاسْتِكْبَارِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْعَمَلِ مِنْ نَتِيجَةِ التَّقْوَى وَالِاسْتِكْبَارُ مِنْ نَتِيجَةِ التَّكْذِيبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ فَلَمْ يَكُونُوا ليتّبعوا الرسل فيما جاؤوا بِهِ وَلَا يَقْتَدُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِالشَّيْءِ نَأَى بِنَفْسِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَاتَانِ حَالَتَانِ تَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ يَصُدُّ عَنْ رِسَالَةِ الرَّسُولِ إِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَذَّبَ وَإِمَّا أَنْ يَسْتَكْبِرَ فَيُكَذِّبَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُصَمِّمٍ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَهَذَا نَحْوُ الْكُفْرُ عِنَادٌ انْتَهَى، وَتَضَمَّنَتِ الْجُمْلَتَانِ حَذْفَ رَابِطٍ وَتَقْدِيرُهُ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَلا خَوْفٌ وأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الْجُمْلَتَانِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْرَجُ إِمَّا تَأْتِيَنَّكُمْ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ ويَقُصُّونَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى إِذْ ذَاكَ إِذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ تَقُصُّ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَذِّبِينَ ذَكَرَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُمْ وَهُوَ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَذَكَرَ أَيْضًا مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَلَا
يُنَاسِبُ هَذَا التَّفْسِيرُ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ زَيْدٍ: مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ومجاهد أَيْضًا وَقَتَادَةُ: مَا كَتَبَ الْحَفَظَةُ فِي صَحَائِفِ النَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيُقَالُ: هَذَا نَصِيبُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي وَقَالَ الْحَكَمُ وَأَبُو صَالِحٍ مَا كتب لهم من الأرزاق وَالْأَعْمَارِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ ما كتب لهم من الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مِنَ الْكِتابِ يُرَادُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَظُّهُمْ فِيهِ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: مَا أَوْجَبَ مِنْ حِفْظِ عُهُودِهِمْ إِذَا أَعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ: مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ حَظَّهُمْ فِيهِ الْعَذَابُ وَالسُّخْطُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي كُتِبَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ وَغَيْرِهِمَا يَنَالُهُمْ فِيهَا وَلِذَلِكَ جَاءَتِ التَّغْيِيَةُ بَعْدَ هَذَا بحتى وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَيْ مَا كتب لهم من الأرزاق وَالْأَعْمَالِ.
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَتَّى إِذا فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ، وَوَقَعَ فِي التَّحْرِيرِ حَتَّى هُنَا لَيْسَ بِغَايَةٍ بَلْ هِيَ ابْتِدَاءٌ وَجَرٌّ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَهَذَا وهم بل معناها هنا الْغَايَةُ وَالْخِلَافُ فِيهَا إِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ أَهِيَ حَرْفُ جَرٍّ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ وَتَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا كَمَا تَتَعَلَّقُ حُرُوفُ الْجَرِّ أَمْ لَيْسَتْ حَرْفَ جَرٍّ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا تَعَلُّقَ حُرُوفِ الْجَرِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ، وَالثَّانِي لِلْجُمْهُورِ وَإِذَا كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ فَهِيَ لِلْغَايَةِ أَلَا تَرَاهَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ
…
وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءُهَا
…
بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
تُفِيدُ الْغَايَةَ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَدَّ هَمَّهُمْ فِي السَّيْرِ إِلَى كَلَالِ الْمَطِيِّ وَالْجِيَادِ وَمَجَّتِ الدِّمَاءُ إِلَى تَغْيِيرِ مَاءِ دِجْلَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ حَتَّى الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَحَتَّى غَايَةٌ متعلقة بينا لهم فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ أَنْ يُرِيدَ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ وَأَنْ يُرِيدَ
التَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَنَالُهُمْ حَظُّهُمْ مِمَّا كُتِبَ لَهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ رُسُلُ الْمَوْتِ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ فَيَسْأَلُونَهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيرٍ أَيْنَ مَعْبُودَاتُكُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيُجِيبُونَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنَّا وَأَخَذُوا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِنَا أَوْ ضَلُّوا عَنَّا هَلَكُوا وَاضْمَحَلُّوا وَالرُّسُلُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ، ويَتَوَفَّوْنَهُمْ فِي موضع الحال وكتبت أَيْنَ ما مُتَّصِلَةً وَكَانَ قِيَاسُهُ كِتَابَتَهَا بِالِانْفِصَالِ لِأَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ كَهِيَ فِي إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ «1» إذا التَّقْدِيرُ أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَقِيلَ:
مَعْنَى تَدْعُونَ أَيْ تَسْتَغِيثُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَؤُلَاءِ تَكُونُ وَقْتَ الْمَوْتِ وَأَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ هُوَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ: الرُّسُلُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُحَاوَرَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَعْنَى يَتَوَفَّوْنَهُمْ يَسْتَوْفُونَهُمْ عَدَدًا فِي السَّوْقِ إِلَى جَهَنَّمَ وَنَيْلِ النَّصِيبِ عَلَى هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا لَمَا تَحَقَّقَتِ الْغَايَةُ لِانْقِطَاعِ النَّيْلِ قَبْلَهَا بِمَدَدٍ كَثِيرَةٍ وَيُحْتَمَلُ وَشَهِدُوا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا عَلَى قالُوا فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ جَوَابِ السُّؤَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ مِنْ طَوَائِفَ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ وَجَوَابُ سُؤَالِهِمْ لَيْسَ مُطَابِقًا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ مَكَانٍ، وَأُجِيبَ بِفِعْلٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إِذْ تَقْدِيرُ. السُّؤَالِ مَا فعل معبود وكم مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَكُمْ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا.
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ. أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ أَيْ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ وَالْمُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ وَيَتَعَلَّقُ فِي أُمَمٍ فِي الظاهر بادخلوا وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةِ أُمَمٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ تَقَدَّمَتْكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ تَقَدَّمَتْكُمْ أَيْ تَقَدَّمَ دُخُولُهَا فِي النَّارِ وَقَدَّمَ الْجِنَّ لِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُصَاةَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَفِي النَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِخَلَتْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى تَقَدَّمَ دُخُولُهَا أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ صِفَةٌ لِأُمَمٍ أَيْ فِي أُمَمٍ سَابِقَةٍ فِي الزَّمَانِ كَائِنَةٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَائِنَةً فِي النار أو بادخلوا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَاخْتَلَفَ مَدْلُولُ فِي إِذِ الْأُولَى تُفِيدُ الصُّحْبَةَ وَالثَّانِيَةُ تُفِيدُ الظَّرْفِيَّةَ وَإِذَا اخْتَلَفَ مَدْلُولُ الْحَرْفِ جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ اللَّفْظَانِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ ادْخُلُوا قَدْ تَعَدَّى إِلَى الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ بِفِي وَهُوَ الْأَصْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَدَّى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَفْسِهِ لَا بِوَسَاطَةِ فِي كَقَوْلِهِ وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ «2»
(1) سورة الأنعام: 6/ 134.
(2)
سورة التحريم: 66/ 10.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ «1» وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَاقِيَةً عَلَى مدلولها من الظرفية وفِي النَّارِ كَذَلِكَ وَيَتَعَلَّقَانِ بِلَفْظِ ادْخُلُوا وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ كَقَوْلِهِ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ «2» وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى حَرْفَيْ جَرٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ.
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها كُلَّما لِلتَّكْرَارِ وَلَا يَسْتَوِي ذَلِكَ في الأمة الأولى فالاحقة تَلْعَنُ السَّابِقَةَ أَوْ يَلْعَنُ بَعْضُ الْأُمَّةِ الدَّاخِلَةِ بَعْضَهَا وَمَعْنَى أُخْتَها أَيْ فِي الدِّينِ وَالْمَعْنَى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُخْتَها الَّتِي ضَلَّتْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَا انْتَهَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، كَمَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ حَتَّى غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فَوْجًا فَفَوْجًا لَاعِنًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى انْتِهَاءِ تَدَارُكِهِمْ وَتَلَاحُقِهِمْ فِي النَّارِ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا وَأَصْلُ ادَّارَكُوا تَدَارَكُوا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ أبو عمرو وادّاركوا بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هَذَا مُشْكِلٌ وَلَا يُسَوَّغُ أَنْ يَقْطَعَهَا ارْتِجَالًا فَذَلِكَ إِنَّمَا يَجِيءُ شَاذًّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ فِي الِاسْمِ أَيْضًا لَكِنَّهُ وَقَفَ مِثْلَ وَقْفَةِ الْمُسْتَنْكِرِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَطَعَ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بِمَعْنَى أَدْرَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ أُدْرِكُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ أُدْخِلُوا فِي إِدْرَاكِهَا، وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي قِرَاءَةِ مُجَاهِدٍ: إِنَّهَا ادَّرَكُوا بِشَدِّ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ وَأَصْلُهَا ادْتَرَكُوا وَزْنُهَا افْتَعَلُوا، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ تَدَارَكُوا وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عُمَرَ انْتَهَى، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ، وقرىء إِذَا ادَّارَكُوا بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ سَاكِنَةٍ وَالدَّالُ بَعْدَهَا مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَجَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَّصِلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: اثْنَا عَشَرَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ انْتَهَى وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَّصِلِ نَحْوِ الضَّالِّينَ وَجَانٍّ وأُخْراهُمْ الْأُمَّةُ الْأَخِيرَةُ فِي الزَّمَانِ الَّتِي وَجَدَتْ ضَلَالَاتٍ مُقَرَّرَةً مُسْتَعْمَلَةً لِأُولاهُمْ
الَّتِي شَرَعَتْ ذَلِكَ وَافْتَرَتْ وَسَلَكَتْ سَبِيلَ الضَّلَالِ ابْتِدَاءً أَوْ أُخْراهُمْ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً وَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَالسَّفِلَةُ لِأُولاهُمْ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً وَهُمُ الْقَادَةُ الْمَتْبُوعُونَ، أَوْ أُخْراهُمْ فِي الدُّخُولِ إِلَى النَّارِ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِأُولَاهُمْ دُخُولًا وَهُمُ الْقَادَةُ أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِمُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ أُمَّةٍ لِأَوَّلِ أُمَّةٍ وَأُخْرَى هُنَا بِمَعْنَى آخِرَةٍ مُؤَنَّثُ آخَرَ فَمُقَابِلُ أَوَّلِ لَا مُؤَنَّثَ لَهُ آخَرُ بِمَعْنَى غَيْرِ لِقَوْلِهِ وِزْرَ أُخْرى «3» وَاللَّامُ فِي
(1- 2) سورة النحل: 16/ 29.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 164 وغيرها.
لِأُولاهُمْ لَامُ السَّبَبِ أَيْ لِأَجْلِ أُولَاهُمْ لِأَنَّ خِطَابَهُمْ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَهُمْ أَضَلُّونا شَرَعُوا لَنَا الضَّلَالَ أَوْ جَعَلُونَا نَضِلُّ وَحَمَّلُونَا عَلَيْهِ ضِعْفًا زَائِدًا عَلَى عَذَابِنَا إِذْ هُمْ كَافِرُونَ وَمُسَبِّبُو كُفْرِنَا.
قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ لِكُلٍّ مِنَ الْأُخْرَى وَالْأُولَى عَذَابٌ وَلِلْأُولَى عَذَابٌ مُتَضَاعِفٌ زَائِدٌ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ مُؤَبَّدٌ فَكُلُّ أَلَمٍ يَعْقُبُهُ آخَرُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ مَا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ تَعْلَمُونَ الْمَقَادِيرَ وَصُوَرَ الْعَذَابِ قِيلَ أَوْ خِطَابٌ لِأَهْلِ الدُّنْيَا أَيْ وَلَكِنْ يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لَا تَعْلَمُونَ مِقْدَارَ ذَلِكَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بِالْيَاءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنِ الْأُمَّةِ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لَا يَعْلَمُونَ عَائِدًا عَلَى الْأُمَّةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي طَلَبَتْ أَنْ يُضَعَّفَ الْعَذَابُ عَلَى أُولَاهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الطَّائِفَتَيْنِ أَيْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ فَرِيقٍ قَدْرَ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ قَدْرَ مَا أُعِدَّ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنَ الْعَذَابِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الضِّعْفَ هُنَا الْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ رَدٌّ عَلَى أُولَئِكَ السَّائِلِينَ وَعَدَمُ إِسْعَافٍ لِمَا طَلَبُوا.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. أَيْ قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْمَتْبُوعَةُ لِلطَّائِفَةِ الْمُتَّبِعَةِ وَاللَّامُ فِي لِأُخْراهُمْ لَامُ التَّبْلِيغِ نَحْوُ قُلْتُ لَكَ اصْنَعْ كَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ هُوَ مَعَ أُخْرَاهُمْ بِخِلَافِ اللَّامِ أَيْ فِي لِأُولاهُمْ فَإِنَّهَا كما وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى مِنْ فَضْلٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِمَا قَالَ اللَّهُ لِكُلٍّ ضِعْفٌ قَالَتِ الْأُولَى لِلْأُخْرَى لَمْ تُبَلَّغُوا أَمَلًا بِأَنَّ عَذَابَكُمْ أَخَفُّ مِنْ عَذَابِنَا وَلَا فُضِّلْتُمْ بِالْإِسْعَافِ انْتَهَى، وَالْفَاءُ فِي فَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطَفُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى قول الله تعالى للسّلفة لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ كَوْنِ فُضِّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّفِلَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْكُفْرِ أَيْ اتِّبَاعُكُمْ إِيَّانَا وَعَدَمُ اتِّبَاعِكُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَقَلَّ عِنْدَنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْلٌ بِاتِّبَاعِكُمْ بَلْ كَفَرْتُمُ اخْتِيَارًا لَا إِنَّا حَمَلْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ إِجْبَارًا وَأَنَّ قَوْلَهُ فَمَا مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ بَعْدَ الْقَوْلِ دَلَّ عَلَيْهَا مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ مَا دُعَاؤُكُمُ اللَّهَ بِأَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ وَسُؤَالُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بِضَلَالِكُمْ وَأَنَّ قَوْلَهُ فَذُوقُوا الْعَذابَ مِنْ كَلَامِ الْأُولَى خِطَابًا لِلْأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّشَفِّي مِنْهُمْ وَأَنَّ ذَوْقَ الْعَذَابِ هُوَ بِمَا كَسَبَتْ مِنَ الْآثَامِ لَا بِسَبَبِ دَعْوَاكُمْ أَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ، وَقِيلَ: فَذُوقُوا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لِجَمِيعِهِمْ.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِدُعَائِهِمْ وَلَا لِمَا يُرِيدُونَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا يَصْعَدُ لَهُمْ
صَالِحٌ فَتُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهُ وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» وَمِنْ قَوْلِهِ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «2» ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ:
لَا تُفَتَّحُ لِأَرْوَاحِهِمْ وَذَكَرُوا فِي صُعُودِ الرّوحين إلى السماء الإذن لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ وَرَدِّ رُوحِ الْكَافِرِ أَحَادِيثَ وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فِي الْقِيَامَةِ لِيَدْخُلُوا مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ أَيْ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقِيلَ: لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْبَرَكَةُ وَلَا يُغَاثُونَ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو لَا تُفَتَّحُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ بِالْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ مِنْ أَعْلَى وَالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو البر هثيم بِالثَّاءِ مِنْ أَعْلَى مَفْتُوحَةً وَالتَّشْدِيدِ.
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ هَذَا نَفْيٌ مُغَيًّا بِمُسْتَحِيلٍ وَالْوُلُوجُ التَّقَحُّمُ فِي الشَّيْءِ وَذَكَرَ الْجَمَلَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْحَيَوَانِ الْمُزَاوِلِ لِلْإِنْسَانِ جُثَّةً فَلَا يَلِجُ إِلَّا فِي بَابٍ وَاسِعٍ كَمَا قَالَ، لَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ، وَقَالَ: جِسْمُ الْجِمَالِ وَأَحْلَامُ الْعَصَافِيرِ، وَذَكَرَ سَمِّ الْخِياطِ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي ضِيقِ الْمَسْلَكِ يُقَالُ: أَضْيَقُ مِنْ خَرْتِ الْإِبْرَةِ، وَقِيلَ لِلدَّلِيلِ خِرِّيتٌ لِاهْتِدَائِهِ فِي الْمَضَايِقِ تَشْبِيهًا بِإِخْرَاتِ الْإِبْرَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمَالِكُ بْنُ الشِّخِّيرِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُشَدَّدَةً وَفُسِّرَ بِالْقَلْسِ الْغَلِيظِ وَهُوَ حَبْلُ السَّفِينَةِ تُجْمَعُ حِبَالٌ وَتُفْتَلُ وَتَصِيرُ حَبْلًا وَاحِدًا، وَقِيلَ: هُوَ الْحَبْلُ الْغَلِيظُ مِنَ الْقِنَّبِ، وَقِيلَ: الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ فِي النَّخْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ أَنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ تَشْبِيهًا مِنْ أَنْ يُشَبِّهَ بِالْجَمَلِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ وَالْحَبْلُ يُنَاسِبُ الْخَيْطَ الَّذِي يَسْلُكُ بِهِ فِي خُرْمِ الْإِبْرَةِ.
وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ الَّذِي رَوَى الْجَمَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَشَدَّدَ الْجِيمَ لِعُجْمَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِكَثْرَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ انْتَهَى، وَلِكَثْرَةِ الْقُرَّاءِ بِهَا غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَسَالِمٍ الْأَفْطَسِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْجَحْدَرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مُخَفَّفَةً، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْمُتَوَكِّلُ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الفلس الغليظ وهو حبل السفينة وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الْجَمَلُ بِفَتْحِ الجيم الميم
(1) سورة فاطر: 35/ 10.
(2)
سورة المطففين: 83/ 18.
أَوْقَعُ لِأَنَّ سَمَّ الْإِبْرَةِ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الضِّيقِ وَالْجَمَلُ وَهُوَ هَذَا الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْجَمَلِ فَقَالَ زَوْجُ النَّاقَةِ وَذَلِكَ مِنْهُ اسْتِجْهَالٌ لِلسَّائِلِ وَمَنْعٌ مِنْهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ مَعْنًى آخَرَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَتَادَةُ وَأَبُو رَزِينٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَطَلْحَةُ بِضَمِّ سِينِ سَمِّ، وَقَرَأَ أَبُو عِمْرَانَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو نَهِيكٍ وَالْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو رَزِينٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ الْمِخْيَطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي أَهْلَ الْجَرَائِمِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِيُؤْذِنَ أَنَّ الْإِجْرَامَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوصِلُ إلى العقاب وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَجْرَمَ عُوقِبَ ثُمَّ كَرَّرَهُ تَعَالَى فَقَالَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ مُجْرِمٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لِمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ النَّارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا قَالَ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «1» والغواشي جميع غَاشِيَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ اللُّحُفُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَغْشَاهُمُ الدُّخَانُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: غَاشِيَةٌ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْمِهَادُ الْفُرُشُ وَالْغَوَاشِي اللُّحُفُ وَالتَّنْوِينُ فِي غَواشٍ تَنْوِينُ صَرْفٍ أَوْ تَنْوِينُ عِوَضٍ قَوْلَانِ وَتَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْيَاءِ أَوْ مِنَ الْحَرَكَةِ قَوْلَانِ كُلُّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النحو، وقرىء غَواشٍ بِالرَّفْعِ كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ «2» .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لَمَّا أَخْبَرَ بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ أَخْبَرَ بوعد المؤمنين وخبر والَّذِينَ الْجُمْلَةُ مِنْ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً مِنْهُمْ أَوِ الْجُمْلَةُ مِنْ أُولئِكَ وَمَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَا نُكَلِّفُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَسِعَهُمْ وَغَيْرُ خَارِجٍ عَنْ قُدْرَتِهِمْ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَعَ عِظَمِ محالها يُوصَلُ إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ السَّهْلِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: لَمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِلَّا مَا وَجَدَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ دُونَ مَا لَا تَنَالُهُ يَدُهُ وَلَمْ يَرِدْ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا «3» انْتَهَى، وَلَيْسَ السِّيَاقُ يَقْتَضِي مَا ذكره، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ لِلتَّرْغِيبِ فِي اكْتِسَابِ مَا لَا يكتنهه
(1) سورة الزمر: 39/ 16.
(2)
سورة الرحمن: 55/ 24.
(3)
سورة الطلاق: 65/ 7.
وَصْفُ الْوَاصِفِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ مَعَ الْعَظِيمِ بِمَا هُوَ مِنَ الْوَاسِعِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ الْوَاسِعُ غَيْرُ الضَّيِّقِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ.
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أَيْ أَذْهَبْنَا فِي الْجَنَّةِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ مِنَ الْحُقُودِ. وَقِيلَ نَزْعُ الْغِلِّ فِي الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَحْسُدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي نفاضل مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِينَا وَاللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ وَعَنْهُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ وَنَزَعْنا
الْآيَةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ النَّزْعَ لِلْغِلِّ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ سَالِمِي الْقُلُوبِ طَاهِرِيهَا مُتَوَادِّينَ مُتَعَاطِفِينَ، كَمَا قَالَ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «1» وتَجْرِي حَالٌ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ قَالَ: وَالْعَامِلُ فِيهِ نَزَعْنا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ تَجْرِي لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ نَزَعْنا وَلَا صِفَاتِ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْإِضَافَةِ لَا يَعْمَلُ إِلَّا إِذَا كانت إضافة يمكن للمضاعف أَنْ يَعْمَلَ إِذَا جُرِّدَ مِنَ الْإِضَافَةِ رَفْعًا أَوْ نَصْبًا فِيمَا بَعْدَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ عَنْ صِفَةِ حَالِهِمْ.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أَيْ وَفَّقَنَا لِتَحْصِيلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي صِرْنَا إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِذْ هُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بِهَا حَمْدُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا هُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلِهِمْ فِيهَا
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَحَدَهُمْ أَهْدَى إِلَى مَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا»
، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هَذَا جَزَاؤُهُ، وَقِيلَ إِلَى الْإِيمَانِ الَّذِي تَأَهَّلُوا بِهِ لِهَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
أَيْ وَفَّقَنَا لِمُوجِبِ هَذَا الْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَهُوَ الإيمان والعمل الصالح انتهى، وَفِي لَفْظَةِ وَاجِبٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَعْنَى هَدانا اللَّهُ أَعْطَانَا الْقُدْرَةَ وَضَمَّ إِلَيْهَا الدَّاعِيَةَ الْجَازِمَةَ، وَصَيَّرَ مَجْمُوعَهُمَا لِحُصُولِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ التَّحْمِيدُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَقْلَ وَوَضَعَ الدَّلَائِلَ وَأَزَالَ الْمَوَانِعَ انْتَهَى،
فَلِذَلِكَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.
(1) سورة الحجر: 15/ 47.
وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أَيْ وَمَا كَانَتْ تُوجِدُ مِنَّا أنفسنا وجدها الْهِدَايَةَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُوَضِّحُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْهِدَايَةِ فِيهِمْ وَأَنَّهُمْ لَوْ خُلُّوا وَأَنْفُسَهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ هِدَايَةٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ مُهْتَدِينَ لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقُهُ، وَقَالَ أَبُو البقاء: وما كنا الواو لِلْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً انْتَهَى، وَالثَّانِي:
أَظْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مَا كُنَّا بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَهِيَ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِلْأُولَى وَمَنْ أَجَازَ فِيهَا الْحَالَ مَعَ الْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يُجِيزَهَا دُونَهَا، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ جَوَابَ لَوْلا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ أَيْ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أَوْ لَضَلَلْنَا لِأَنَّ لَوْلا لِلتَّعْلِيقِ فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ خَرَّجَ قَوْلَهُ لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ «1» عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَمَّ بِها وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مَنْعِ تَقْدِيمِ جَوَابِ الشَّرْطِ.
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أَيْ بِالْمَوْعُودِ الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا قَضَوْا بِأَنَّ ذَلِكَ حقّ قضاء مشاهدة بِالْحِسِّ وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا يَقْضُونَ بِذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَعَ الْمَوْعُودُ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْوَعْدُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَكَانَ لَنَا لُطْفًا وَتَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِدَاءِ فَاهْتَدَيْنَا يَقُولُونَ ذَلِكَ سُرُورًا وَاغْتِبَاطًا بِمَا نَالُوا وَتَلَذُّذًا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ لَا تَقَرُّبًا وَتَعَبُّدًا كَمَا تَرَى مَنْ رُزِقَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا يَتَكَلَّمُ بِنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَقُولَهُ لِلْفَرَحِ لَا لِلْقُرْبَةِ.
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ أَسَرُّ لِقُلُوبِهِمْ وَأَرْفَعُ لِقَدْرِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ وَنُودُوا بِأَنَّهُ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُحْذَفُ إِذَا خُفِّفَتْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ وَبَعْدَهَا جُمْلَةٌ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ تِلْكُمُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبَةٍ فَإِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا فَالْإِشَارَةُ إِلَى تِلْكَ أَيْ تِلْكُمُ هَذِهِ الْجَنَّةُ وَحُذِفَتْ هَذِهِ وَإِمَّا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَإِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا فَكُلٌّ غَائِبٌ عَنْ مَنْزِلِهِ انْتَهَى، وَفِي كِتَابِ التحرير وتِلْكُمُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا تِلْكُمُ لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا فَلِأَجْلِ الْوَعْدِ جَرَى الْخِطَابُ بكلمة العهد
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلصِّدِّيقِ فِي الِاسْتِخْبَارِ عَنْ عَائِشَةَ «كَيْفَ تِيكُمْ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ»
انْتَهَى، والْجَنَّةُ جَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ خبرا لتلكم وأُورِثْتُمُوها حال كقوله
(1) سورة يوسف: 12/ 24.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «1» . قَالَ أبو البقاء: حال من الْجَنَّةُ وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي تِلْكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ تِلْكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْخَبَرِ وَلِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ لَا يَعْمَلُ فِي الْحَالِ انْتَهَى، وَفِي الْعَامِلِ فِي الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذَا زَيْدٌ قَائِمًا خِلَافٌ فِي النَّحْوِ وَأَنْ يَكُونَ نعتا وبدلا وأُورِثْتُمُوها الْخَبَرُ أَدْغَمَ النَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ الثَّاءَ فِي التَّاءِ وَأَظْهَرَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ وَمَعْنَى أُورِثْتُمُوها صُيِّرَتْ لَكُمْ كَالْإِرْثِ وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أُورِثْتُمُوهَا عَنْ آبَائِكُمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنَازِلَهُمْ لَوْ آمَنُوا فَحُرِمُوهَا بِكُفْرِهِمْ وَبُعْدُهُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تَكُنْ آبَاؤُهُمْ كُلُّهُمْ كُفَّارًا وَالْبَاءُ فِي بِما لِلسَّبَبِ الْمَجَازِيِّ وَالْأَعْمَالُ أَمَارَةٌ مِنَ اللَّهِ وَدَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الرَّجَاءِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْقَسْمُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ وَلَفْظُ أُورِثْتُمُوها مُشِيرٌ إِلَى الْأَقْسَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ لَا بِالتَّفَضُّلِ كَمَا تَقُولُ الْمُبْطِلَةُ انْتَهَى، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ،
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ. عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَهَذَا النِّدَاءُ فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَوْقِيفٌ عَلَى مَآلِ الْفَرِيقَيْنِ وَزِيَادَةٌ فِي كُرَبِ أَهْلِ النَّارِ بِأَنْ شُرِّفُوا عَلَيْهِمْ وَبِخَلْقِ إِدْرَاكِ أَهْلِ النَّارِ لِذَلِكَ النِّدَاءِ فِي أَسْمَاعِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ اغْتِبَاطًا بِحَالِهِمْ وَشَمَاتَةً بِأَهْلِ النَّارِ وَزِيَادَةً فِي غَمِّهِمْ وَلِيَكُونَ حِكَايَتُهُ لُطْفًا لِمَنْ سَمِعَهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ مَلَكٌ يَأْمُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُنَادِي بَيْنَهُمْ يُسْمِعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَتَى فِي إِخْبَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَا وَعَدَنا بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ النَّارِ مَا وَعَدَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ وَعَدَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُسْتَبْشِرُونَ بِحُصُولِ مَوْعُودِهِمْ فَذَكَرُوا مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا حِينَ سَأَلُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَعَلِّقَ وَعَدَ بَاسِمِ الخطاب فيقولوا: ما وَعَدَ رَبُّكُمْ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَوْعُودٍ مِنْ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ وَنَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَكُونُ إِجَابَتُهُمْ بِنَعَمْ تَصْدِيقًا لِجَمِيعِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ فِي الآخرة للصفين وَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِحُصُولِ مَوْعُودِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَحَسَّرُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ نَعِيمِهِمْ إِذْ نَعِيمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِمَّا يُخْزِيهِمْ وَيَزِيدُ فِي عَذَابِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لِلْخِطَابِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ نَعَمْ
(1) سورة النمل: 27/ 52.
بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مُخَفَّفَةً مِنْ أَنَّ الثَّقِيلَةِ وَإِذَا وَلِيَ الْمُخَفَّفَةَ فِعْلٌ مُتَصَرِّفٌ غَيْرُ دُعَاءٍ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَدْ فِي الْأَجْوَدِ كَقَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا.
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أَيْ فَأَعْلَمَ مُعْلِمٌ، قِيلَ: هُوَ إِسْرَافِيلُ صَاحِبُ الصُّورِ، وَقِيلَ:
جِبْرِيلُ يُسْمِعُ الْفَرِيقَيْنِ تَفْرِيحًا وَتَبْرِيحًا، وَقِيلَ: مَلَكٌ غَيْرُهُ مُعَيَّنٌ وَدَخَلَ طَاوُسٌ عَلَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ يَوْمَ الْأَذَانِ فَقَالَ: وَمَا يَوْمُ الْأَذَانِ قَالَ: يَوْمَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ الْآيَةَ فَصَعِقَ هِشَامٌ فَقَالَ طَاوُسٌ هَذَا ذُلُّ الصِّفَةِ فَكَيْفَ ذُلُّ الْمُعَايَنَةِ وَبَيْنَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لأذّن وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمُؤَذِّنٍ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِتَثْقِيلِ أَنَّ وَنَصْبِ لَعْنَةَ وَعِصْمَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ إِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالتَّثْقِيلِ وَنَصْبِ لَعْنَةَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ أَوْ إِجْرَاءِ أَذَّنَ مَجْرَى قَالَ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ إِنْ يفتح الْهَمْزَةِ خَفِيفَةَ النُّونِ وَرَفْعِ لَعْنَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَوْ مفسرة ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهِ وَهَذَا الْوَصْفُ بِالْمَوْصُولِ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ وَالْمَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الْأَذَانِ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْمَعْنِيُّ بِالظُّلْمِ الْكُفَّارُ وَيَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ قَوْلُهُ أَخِيرًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ كَافِرًا بِالْآخِرَةِ بَلْ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِهَا.
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أَيْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِهَذَا بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَفُسِّرَ الْحِجَابُ بِأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقَوِّي أَنَّهُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظُ بَيْنَهُمْ إِذْ هُوَ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ وَلَا يَحِيلُ ضَرْبُ السُّورِ بَعْدُ مَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ فِي السَّمَاءِ وَالنَّارُ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ.
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أَيْ وَعَلَى أَعْرَافِ الْحِجَابِ وَهُوَ السُّورُ الْمَضْرُوبُ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ فَرِيقَيِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِعَلَامَتِهِمُ الَّتِي مَيَّزَهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنِ ابْيِضَاضِ وُجُوهٍ وَاسْوِدَادِ وُجُوهٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ أَوْ بِعَلَامَتِهِمُ الَّتِي يُلْهِمُهُمُ اللَّهُ مَعْرِفَتَهَا والْأَعْرافِ تَلٌّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ،
وَقِيلَ: هُوَ أُحُدٌ مُمَثَّلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ
وَفِي آخَرَ «إِنَّ أُحُدًا عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ»
، وَقِيلَ: أَعَالِي السُّورِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالرِّجَالُ قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَقَفُوا هُنَالِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَمْ تَبْلُغْ حَسَنَاتُهُمْ بِهِمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَلَا سَيِّئَاتُهُمْ دُخُولَ النَّارِ،
وَرُوِيَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ
جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ فِيهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ قَالَ:
«أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ» ، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ
، قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أَيْضًا هُمْ قَوْمٌ أَبْطَأَتْ بِهِمْ صَغَائِرُهُمْ إِلَى آخِرِ النَّاسِ،
وَقِيلَ غُزَاةٌ جَاهَدُوا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِمْ فَقُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُمْ حُبِسُوا عَنِ الْجَنَّةِ بِمَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ وَأَعْتَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِهِ
، وَقِيلَ: قَوْمٌ رَضِيَ عَنْهُمْ آبَاؤُهُمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا، وَقِيلَ: أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَسْرِ وَلَمْ يُبَدِّلُوا دِينَهُمْ، وَقِيلَ: عُلَمَاءٌ شَكُّوا فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آخِرِهِمْ دُخُولًا فِي الْجَنَّةِ لِقُصُورِ أَعْمَالِهِمْ كَأَنَّهُمُ الْمُرْجِئُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ يُحْبَسُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى أَعْرَافِ ذَلِكَ السُّورِ أَوْ عَلَى مَوَاضِعَ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَأَخَّرُ دُخُولُهُمْ وَيَقَعُ لَهُمْ مَا وُصِفَ مِنَ الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرِيقَيْنِ ويَعْرِفُونَ كُلًّا بِعَلَامَتِهِمْ وَهِيَ بَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا فِي أَهْلِ النَّارِ انْتَهَى، وَالْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ فِي التَّخْصِيصِ وَالْجَيِّدُ مِنْهَا هُوَ الْأَوَّلُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِتَفْسِيرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أن الْأَعْرافِ هُوَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي شَعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ:
وَآخَرُونَ عَلَى الْأَعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا
…
فِي جَنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ وَالْخَضِرُ
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ الصِّرَاطُ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ عَلَى الصِّرَاطِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَبَلٌ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَاهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِ رِجَالٌ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: مَلَائِكَةٌ فِي صُوَرِ رِجَالٍ ذُكُورٍ وَسُمُّوا رِجَالًا لِقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ وَقَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ: وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَقَالَ:
هُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ،
وَقِيلَ: حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ الطَّيَّارُ
، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ.
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَنَادَوْا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَائِدٌ عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ عَلَى الْأَعْرَافِ وَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الضَّمَائِرُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِشَيْءٍ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى جَبَلٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ أَوْ أَعْلَى الْجَنَّةِ
(1) سورة الأنعام: 6/ 9. [.....]
وَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ مَا تؤول مِنْ ذَلِكَ لِيَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ أُجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيُشَاهِدُوا أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ فَيَلْحَقُهُمُ السُّرُورُ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ ثُمَّ إِذَا اسْتَقَرَّ الْفَرِيقَانِ نُقِلُوا إِلَى أَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَمَعْنَى لَمْ يَدْخُلُوها لَمْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ فِيهَا وَمَعْنَى وَهُمْ يَطْمَعُونَ يَتَيَقَّنُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الزُّلْفَى وَقَدْ جَاءَ الطَّمَعُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ قَالَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «1» وَطَمَعُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام يَقِينٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَطْمَعُ أَنَّ الْإِلَهَ
…
قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَعْرَافَ جَبَلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْقَاضِي وَالْجُبَّائِيُّ وَقَالَا: هُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِوُجُودِ أَقْوَامٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ يَدُلُّ عَلَى مَيْزِهِمْ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ إِجْلَاسَهُمْ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَشْرَافِ وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ دَرَجَتُهُ قَاصِرَةٌ لَا يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَنُودُوا خِطَابٌ مَعَ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَهْلُ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ، وَعَنِ الثَّانِي أَجْلَسَهُمْ لَا لِلتَّشْرِيفِ بَلْ لِأَنَّهَا كَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وأَنْ سَلامٌ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَنْ تكون تفسرية وَمُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوهَا حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ نَادَاهُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ يَطْمَعُونَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ أَيْ نَادَوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرَ دَاخِلِيهَا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ طَامِعُونَ فِي دُخُولِهَا قَالَ مَعْنَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ وَهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَأَهْلُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ لَمْ يَدْخُلُوها حَالًا مِنْ ضَمِيرِ وَنَادَوُا الْعَائِدِ عَلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ فَقَطْ وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا لِخَيْرٍ أَرَادَهُ بِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَالْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: إِنَّمَا طَمِعَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ النُّورَ الَّذِي كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُطْفَأْ حِينَ طفىء نُورُ مَا بِأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي يَدْخُلُوها وَالْمَعْنَى لَمْ يَدْخُلُوهَا فِي حَالِ طَمَعٍ لَهَا بَلْ كَانُوا فِي حَالِ يَأْسٍ وَخَوْفٍ لَكِنْ عَمَّهُمْ عفو الله.
(1) سورة الشعراء: 26/ 82.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَحَلُّ قَوْلِهِ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ؟ (قُلْتُ) :
لَا مَحَلَّ لَهُ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَقِيلَ لَهُ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يَعْنِي أَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ اسْتَأْخَرَ عَنْ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَمْ يَدْخُلُوهَا لِكَوْنِهِمْ مَحْبُوسِينَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ لَمْ يَيْأَسُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ بِأَنْ يَقَعَ صِفَةً انْتَهَى، وَهَذَا تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَصِفَتِهِ بِجُمْلَةِ وَنَادَوْا وَلَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ وَقَرَأَ ابْنُ «1» النَّحْوِيِّ وَهُمْ طَامِعُونَ، وَقَرَأَ إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ وَهُمْ سَاخِطُونَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَإِذَا قُلِّبَتْ أَبْصارُهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي أَبْصَارِهِمْ عَائِدٌ عَلَى رِجَالِ الْأَعْرَافِ يُسَلِّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ دَعَوُا اللَّهَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: الضَّمِيرُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ وَفِي قَوْلِهِ صُرِفَتْ دَلِيلٌ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمُ النَّظَرُ إِلَى تِلْقَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ نَظَرَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ النَّارِ هُوَ بِكَوْنِهِمْ صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَهُمْ فَلَيْسَ الصَّرْفُ مِنْ قِبَلِهِمْ بَلْ هُمْ مَحْمُولُونَ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ بِهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُطَّلَعَ مَخُوفٌ مِنْ سَمَاعِهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ فَضَلًا عَنِ التَّلَبُّسِ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا حُمِلُوا عَلَى صَرْفِ أَبْصَارِهِمْ وَرَأَوْا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ اسْتَغَاثُوا بِرَبِّهِمْ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ وَلَفْظَةُ رَبَّنا مُشْعِرَةٌ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُصْلِحُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ وَهُمْ عَبِيدٌ فَبِالدُّعَاءِ بِهِ طَلَبُ رَحْمَتِهِ وَاسْتِعْطَافُ كَرَمِهِ.
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّدَاءُ وَأُولَئِكَ الرِّجَالُ فِي النَّارِ وَمَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَلَامَاتٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ يُحْمَلُونَ إِلَى النَّارِ وَسِيمَاهُمْ تَسْوِيدُ الْوَجْهِ وَتَشْوِيهُ الْخَلْقِ، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: الْمَلَائِكَةُ تُنَادِي رِجَالًا فِي النَّارِ وَهَذَا عَلَى تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْأَعْرَافَ هُمْ مَلَائِكَةٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ آدَمِيُّونَ وَلَفْظُ رِجالًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: يُنَادِي أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ امْتِحَاءِ صُوَرِهِمْ بِالنَّارِ يَا وَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا عَاصِي بْنَ وَائِلٍ يَا عُتْبَةُ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ يَا أُبَيُّ بْنَ خَلَفٍ يَا سَائِرَ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْوَلَدُ وَالْأَجْنَادُ وَالْحُجَّابُ وَالْجُيُوشُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ انْتَهَى، وَما أُغْنِي اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وقيل: نافية وما في وما كُنْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ وَكَوْنُكُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ تَسْتَكْثِرُونَ بِالثَّاءِ مُثَلَّثَةً مِنَ الْكَثْرَةِ.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(1) سورة هكذا بياض بجميع الأصول اه..
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَقُولِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ كَانَ الرُّؤَسَاءُ يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ وَيُحَقِّرُونَهُمْ لِفَقْرِهِمْ وَقِلَّةِ حُظُوظِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَكَانُوا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ، قَالَ: الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْمُخَاطَبُونَ هُمْ أَهْلُ الْأَعْرَافِ وَالَّذِينَ خُوطِبُوا أَهْلُ النَّارِ وَالْمَعْنَى أَهؤُلاءِ الضُّعَفَاءُ فِي الدُّنْيَا الَّذِينَ حَلَفْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِهِمْ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَهؤُلاءِ مِنْ كَلَامِ مَلَكٍ بِأَمْرِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَمُخَاطَبَةً لِأَهْلِ النَّارِ، قَالَ النَّقَّاشُ لَمَّا وَبَّخُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أَقْسَمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ دَاخِلُونَ النَّارَ مَعَهُمْ فَنَادَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهؤُلاءِ ثُمَّ نَادَى أَهْلُ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى مُخَاطَبَةِ أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَالْقَائِلُ إِمَّا اللَّهُ وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، وَقِيلَ: الْمُشَارُ بِهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَالْقَائِلُ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ يأمر الله تعالى، وقال أبو مِجْلَزٍ: أَهْلُ الْأَعْرَافِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمُ الْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ إِشَارَةً إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَجِيءُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ أَنْبِيَاءٌ وَشُهَدَاءٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ: أَدْخِلُوا مِنْ أَدْخَلَ أَيْ أَدْخِلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ يَكُونُ خِطَابًا لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ خَاطَبَ بَعْدُ الْبَشَرَ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ دَخَلُوا إِخْبَارًا بِفِعْلٍ مَاضٍ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَابْنُ وثاب والنخعي ادْخُلُوا خيرا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ مَقُولًا لَهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُحْبَسُوا عَلَى الْأَعْرَافِ وَيَنْظُرُوا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ وَيَعْرِفُوهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَيَقُولُوا مَا يَقُولُونَ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ وَأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ عَلَى حَسَبِهَا وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْبِقُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِسَبْقِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَلَا يَتَخَلَّفُهُ إِلَّا بِتَخَلُّفِهِ وَلِيَرْغَبَ السَّامِعُونَ فِي حال السابقين ويحصروا عَلَى إِحْرَازِ قَصَبِهِمْ وَأَنَّ كُلًّا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسِيمَاهُ الَّتِي اسْتَوْجَبَ أَنْ يُوسَمَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَرْتَدِعَ الْمُسِيءُ عَنْ إِسَاءَتِهِ وَيَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْعُصَاةَ يُوَبِّخُهُمْ كُلُّ أَحَدٍ حَتَّى أَقْصَرُ النَّاسِ عَمَلًا انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ مِنْ بَابِ الْخَطَابَةِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ،
وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ يَرْغَبُونَ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَدْفَعُهُمْ إِلَى نُوحٍ ثُمَّ يَتَدَافَعُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعَ لَهُمْ فَيُشَفَّعُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَبْيَضُّونَ وَيُسَمَّوْنَ مَسَاكِينَ الْجَنَّةِ، قَالَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: لَيْتَ أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وَهَذَا يَقْتَضِي سَمَاعَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَلَامَ الْآخَرِ وَهَذَا جَائِزٌ عَقْلًا عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ رُؤْيَةٍ وَاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ أَخْزَى وَأَنْكَى لِلْكُفَّارِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَبَيْنَهُمُ الْحِجَابُ وَالسُّورُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا صَارَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ إِلَى الْجَنَّةِ طَمِعَ أَهْلُ النَّارِ فِي الفرح بَعْدَ الْيَأْسِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ لَنَا قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَعَرَفُوهُمْ وَنَظَرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَصَارُوا خَلْقًا آخَرَ فَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَرُوهُمْ بِقَرَابَاتِهِمْ فينادي الرجل أخوه فَيَقُولُ يَا أَخِي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأَغِثْنِي فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَمُفَسِّرَةً، وَكَلَامُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النِّدَاءَ كَانَ عَنْ رَجَاءٍ وَطَمَعِ حُصُولِ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي هُوَ مَعَ الْيَأْسِ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا دَوَامَ عِقَابِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يَطْلُبُهُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الْغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّبَدِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ انْتَهَى، وأَفِيضُوا أَمْكَنُ مِنَ اسْقُونَا لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّوْسِعَةَ كَمَا يُقَالُ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ أَيْ وَسَّعَهَا وَسُؤَالُهُمُ الْمَاءَ لِشِدَّةِ الْتِهَابِهِمْ وَاحْتِرَاقِهِمْ وَلِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ إِطْفَاءَ النَّارِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ إِذْ هُوَ مُقَوِّيهَا أَوْ لِرَجَائِهِمُ الرّحمة بأكل طعام وأَوْ عَلَى بَابِهَا مِنَ كَوْنِهِمْ سَأَلُوا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ وَأَتَى أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عاما والعطف بأو يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ، وَقِيلَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى حَرَّمَ كُلًّا منهما فأوعلى بَابِهَا وَمَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ عَامٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالْفَاكِهَةُ وَالْأَشْرِبَةُ غَيْرَ الْمَاءِ وَتَخْصِيصُهُ بِالثَّمَرَةِ أَوْ بِالطَّعَامِ أَوْ غَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ أَقْوَالٌ ثَانِيهَا لِلسُّدِّيِّ وَثَالِثُهَا لِلزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْإِفَاضَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مَعَ يَأْسِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ حَيْرَةً فِي أَمْرِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُضْطَرُّ الْمُمْتَحَنُ انْتَهَى وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ إِلَى آخِرِهِ هُوَ كَلَامُ الْقَاضِي وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَأَلْقُوا عَلَيْنَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَفِيضُوا ضِمْنَ مَعْنَى أَلْقُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فَيَصِحُّ الْعَطْفُ وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ فِعْلًا بَعْدَ أَوْ يَصِلُ إِلَى مِمَّا رَزَقَكُمُ وَهُوَ أَلْقُوا وَهُمَا مَذْهَبَانِ لِلنُّحَاةِ فِيمَا عُطِفَ عَلَى شَيْءٍ
بِحَرْفِ عَطْفٍ وَالْفِعْلُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا التَّضْمِينُ لَا الْإِضْمَارُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ كَمَا قَالَ:
حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَا الْكَرَى وَإِخْبَارُهُمْ بِذَلِكَ هُوَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ.
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَمَّا يَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ يَتْرُكُهُمْ فِي الْعَذَابِ كَمَا تَرَكُوا النَّظَرَ لِلِقَاءِ هَذَا الْيَوْمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الشَّرِّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ النَّاسِينَ الَّذِينَ يَنْسَوْنَ عَبِيدَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ لَا يَذْكُرُونَهُمْ بِهِ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا كَمَا فَعَلُوا بِلِقَائِهِ فِعْلَ النَّاسِينَ فَلَمْ يُخْطِرُوهُ بِبَالِهِمْ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا وَالْأَكْثَرُونَ تتركهم فِي عَذَابِهِمْ كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ انْتَهَى، وَإِنْ قُدِّرَ النِّسْيَانُ بِمَعْنَى الذُّهُولِ مِنَ الْكَفَرَةِ فَهُوَ فِي جِهَةِ اللَّهِ بِتَسْمِيَةِ الْعُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ وَما كانُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا نَسُوا وَمَا فِيهِمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ فِي كَما لِلتَّعْلِيلِ.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ جِئْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَكُونُ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا جِنْسًا أَيْ بِكِتابٍ إِلَهِيٍّ إِذِ الضَّمِيرُ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ الضَّمِيرُ لِمُكَذِّبِي محمد صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ يَجْحَدُونَ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ وفَصَّلْناهُ عالمين كيفية نفصيله مِنْ أَحْكَامٍ وَمَوَاعِظَ وَقِصَصٍ وَسَائِرِ مَعَانِيهِ، وَقِيلَ: فَصَّلْناهُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: نَزَّلْنَاهُ فِي فُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْجَحْدَرِيُّ فَضَّلْنَاهُ بِالضَّادِ الْمَنْقُوطَةِ وَالْمَعْنَى فَضَّلْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْكُتُبِ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّفْضِيلِ عَلَيْهَا وَفِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِثَلَاثِينَ خَصْلَةً لَمْ تَكُنْ فِي غَيْرِهِ فَصَّلْناهُ صِفَةٌ لِكِتَابٍ وَعَلَى عِلْمٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَصَّلْناهُ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمٍ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَانْتَصَبَ هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وقرىء بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ هُدىً وَرَحْمَةً، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ هُدًى وَرَحْمَةٍ بِالْخَفْضِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كِتَابٍ أَوِ النَّعْتِ وَعَلَى النَّعْتِ لِكِتَابٍ خَرَّجَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أَيْ مَآلُ أَمْرِهِ وَعَاقِبَتِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَآلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الدُّنْيَا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا
يؤول إِلَيْهِ مِنْ تَبْيِينِ صِدْقِهِ وَظُهُورِ صِحَّتِهِ مَا نَطَقَ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ الْوَعِيدِ وَالتَّأْوِيلُ مَادَّتُهُ هَمْزَةٌ وَوَاوٌ ولام من آل يؤول، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَوَّلْتُ الشَّيْءَ رَدَدْتُهُ إِلَى أَوَّلِهِ فَاللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ انْتَهَى وَهُوَ خَطَأٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ.
يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَيْ يَظْهَرُ عَاقِبَةُ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَسْأَلُ تَارِكُو أَتْبَاعِ الرَّسُولِ هَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ سُؤَالًا عَنْ وَجْهِ الْخَلَاصِ فِي وَقْتِ أَنْ لَا خَلَاصَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَلَمْ نُصَدِّقْهُمْ أَوْ وَلَمْ نَتَّبِعْهُمْ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ وَالرُّسُلُ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ أَخْبَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ هُوَ الْحَقُّ. وَقِيلَ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا أَنْذَرُوا بِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوْ نُرَدُّ بِرَفْعِ الدَّالِ فَنَعْمَلَ بِنَصْبِ اللَّامِ عَطْفُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وَتَقَدَّمَهُمَا اسْتِفْهَامٌ فَانْتَصَبَ الْجَوَابَانِ أَيْ هَلْ شُفَعَاءُ لَنَا فَيَشْفَعُوا لَنَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ هَلْ نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فِيمَا نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِنَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ بِرَفْعِهِمَا عَطَفَ فَنَعْمَلَ عَلَى نُرَدُّ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو حَيْوَةَ بِنَصْبِهِمَا فَنَصَبَ أَوْ نُرَدُّ عَطْفًا عَلَى فَيَشْفَعُوا لَنا جَوَابًا عَلَى جَوَابٍ فَيَكُونُ الشُّفَعَاءُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ وَإِمَّا في الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا لِاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ قَدِ انْسَحَبَتْ عَلَى الرَّدِّ أو الخلاص وفَنَعْمَلَ عَطْفٌ عَلَى فَنُرَدُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ نُرَدُّ مِنْ بَابِ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي عَلَى تَقْدِيرِ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ كَيْ تَقْضِيَنِي حَقِّي فَجَعَلَ اللُّزُومَ مُغَيًّا بِقَضَاءِ حَقِّهِ أَوْ معمولا لَهُ لِقَضَاءِ حَقِّهِ وَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ إِذْ ذَاكَ فِي الرَّدِّ فَقَطْ وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ سِيبَوَيْهِ أَلَا إِنِّي لَأَلْزَمَنَّكَ إِلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي فَلَيْسَ يَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى أَوْ مَعْنَى إِلَّا هُنَا إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى هَلْ تَشْفَعُ لَنَا شُفَعَاءُ إِلَّا أَنْ نُرَدَّ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَقَوْلُهُمْ هَذَا هَلْ هُوَ مَعَ الرَّجَاءِ أَوْ مَعَ الْيَأْسِ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي نِدَائِهِمْ أَنْ أَفِيضُوا، قَالَ الْقَاضِي وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الرَّدَّ الثَّانِي إِنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ خِلَافًا لِلْمُجْبِرَةِ وَالنَّجَّارِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا سَأَلُوا الرَّدَّ بَلْ كَانُوا يَتُوبُونَ وَيُؤْمِنُونَ.
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ خَسِرُوا فِي تِجَارَةِ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ ابْتَاعُوا الْخَسِيسَ الْفَانِي مِنَ الدُّنْيَا بِالنَّفِيسِ الْبَاقِي مِنَ الْآخِرَةِ وَبَطَلَ عَنْهُمُ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَكَذَّبَهُمْ فِي اتِّخَاذِ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَشْيَاءَ مِنْ مَبْدَأِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَمْرِ نَبِيِّهِ وانقسام إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَذِكْرِ مَعَادِهِمْ وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ ذَكَرَ مَبْدَأَ الْعَالَمِ وَاخْتِرَاعَهُ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقَضَاءِ ثُمَّ بَعْدُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِذْ مَدَارُ الْقُرْآنِ عَلَى تقرير الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّةِ، وَرَبُّكُمْ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَرَوَى بَكَّارُ بْنُ «1» إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ بِنَصْبِ الْهَاءِ عَطْفُ بَيَانٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَعَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فَسَّرَ مُعْظَمُ النَّاسِ وَبَدَأَ بِالْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ» يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرُ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ الجمعة فيما بين الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ»
، وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْعَبَّادِيُّ: قَضَى لِسِتَّةِ أَيَّامٍ خَلِيقَتَهُ، وَكَانَ آخِرُ يَوْمٍ صَوَّرَ الرَّجُلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ بَدَأَ بِالْخَلْقِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَقِيلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ مِقْدَارُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ أَلْفُ سَنَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي مُدَدٍ مُتَوَالِيَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِبْدَاءُ مَعَانٍ لِذَلِكَ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ فَلَا نُسَوِّدُ كِتَابَنَا بِذِكْرِهِ وَهُوَ تَعَالَى الْمُنْفَرِدُ بِعِلْمِ ذَلِكَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَتْ سِتَّةُ الْأَيَّامِ أَنْفُسُهَا وَقَعَ فِيهَا الْخَلْقُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «2» وَالْمُرَادُ مِقْدَارُ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا نَهَارَ وَإِنَّمَا ذَهَبَ الذَّاهِبُ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْتَازُ الْيَوْمُ عَنِ اللَّيْلَةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا قَبْلَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ خَلْقُ الْأَيَّامِ والذي أقول: إنه منى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ عَلَى قَرِيبٍ مَنْ ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَا يَشْمَلُهُ الْعَقْلُ أَوْ عَلَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ جُمْلَةً وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ قوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِخَلْقِ الْأَرْضِ لَا ظرفا لخلق السموات وَالْأَرْضِ
فَيَكُونُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مُدَّةً لِخَلْقِ الْأَرْضِ بِتُرْبَتِهَا وَجِبَالِهَا وَشَجَرِهَا وَمَكْرُوهِهَا وَنُورِهَا وَدَوَابِّهَا وَآدَمَ عليه السلام وهذا يطابق
(1) هكذا بياض بعموم الأصول المقابل عليها هذا الأصل اه.
(2)
سورة مريم: 19/ 62.
الْحَدِيثَ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ
وَتَبْقَى سِتَّةُ أَيَّامٍ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْعَدَدِيَّةِ وَمِنْ كَوْنِهَا أَيَّامًا بِاعْتِبَارِ امْتِيَازِ اليوم عن الليلة بطلوع الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَأَمَّا اسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ قَوْمٌ وَالْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ السُّفْيَانَانِ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمْ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا وَإِمْرَارِهَا عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مُرَادٍ وَقَوْمٌ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ تَأْوِيلَاتٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَعَلَ فِعْلًا فِي الْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً وَعَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَرْشِ مَصْدَرُ عَرَشَ يَعْرِشُ عَرْشًا وَالْمُرَادُ بِالْعَرْشِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ هَذَا وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّهُ جِسْمٌ مَخْلُوقٌ مُعَيَّنٌ وَمَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَقَدْ أَمْعَنَ فِي تَقْرِيرِ مَا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ فِيهَا القفال وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي التَّحْرِيرِ فَيُطَالَعُ هُنَاكَ وَلَفْظَةُ الْعَرْشِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ فَالْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ وَمِنْهُ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا والْعَرْشِ السَّقْفُ وَكُلُّ مَا عَلَا وَأَظَلَّ فَهُوَ عَرْشٌ والْعَرْشِ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْعِزُّ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا
…
وَذُبْيَانَ إِذْ زَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ
…
بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
وَالْعَرْشُ الْخَشَبُ الَّذِي يُطْوَى بِهِ الْبِئْرُ بَعْدَ أَنْ يُطْوَى أَسْفَلُهَا بِالْحِجَارَةِ وَالْعَرْشُ أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٍ أَسْفَلُ مِنَ الْعُوَاءِ يُقَالُ لَهَا: عَجُزُ الْأَسَدِ وَيُسَمَّى عَرْشَ السِّمَاكِ وَالْعَرْشُ مَا يُلَاقِي ظَهْرَ الْقَدَمِ وَفِيهِ الْأَصَابِعُ وَاسْتَوَى أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اسْتَقَرَّ وَبِمَعْنَى عَلَا وَبِمَعْنَى قَصَدَ وَبِمَعْنَى سَاوَى وَبِمَعْنَى تَسَاوَى وَقِيلَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَأَنْشَدُوا:
هُمَا اسْتَوَيَا بِفَضْلِهِمَا جَمِيعًا
…
عَلَى عَرْشِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ زُورِ
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَا نَعْرِفُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى المصدر الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى خَلْقُهُ عَلَى الْعَرْشِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ اسْتَوَى عَلَى الرَّحْمَنِ إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّحْمَنُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالضَّمِيرُ فِي اسْتَوى عَائِدٌ عَلَى الْخَلْقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى «2» أَيْ هُوَ الرَّحْمَنُ اسْتَوَى خَلْقُهُ عَلَى الْعَرْشِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ السموات وَالْأَرْضَ ذَكَرَ خَلْقَ مَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَوْسَعُ من
(1) سورة سورة طه: 20/ 5.
(2)
سورة طه: 20/ 4.
السموات وَالْأَرْضِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ فِي الْعَرْشِ وَفِي اسْتَوَى وَفِي الضَّمِيرِ الْعَائِدِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا هَذَا مَعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَقَامُوهَا عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ اسْتَوَى أَمْرُهُ وَسَأَلَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَيْفَ اسْتَوَى فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَتْهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أَظُنُّكَ إِلَّا ضَالًّا ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً التَّغْشِيَةُ التَّغْطِيَةُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُذْهِبُ اللَّيْلُ نُورَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارُ لِلْحَرَكَةِ وَفَحْوَى الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ يُغْشِيهِ اللَّهُ اللَّيْلَ وَهُمَا مَفْعُولَانِ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ وَالْهَمْزَةَ مُعَدِّيَانِ، وَقَرَأَ بِالتَّضْعِيفِ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِإِسْكَانِ الْغَيْنِ بَاقِي السَّبْعَةِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ اللَّامِ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ كَذَا قَالَ عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي عَنْ حُمَيْدٍ بِنَصْبِ اللَّيْلَ وَرَفْعِ النَّهارَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْفَتْحِ أَثْبَتُ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ أَثْبَتُ كَلَامٌ لَا يَصِحُّ إِذْ رُتْبَةُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ فِي الْقِرَاءَاتِ وَمَعْرِفَتِهَا وَضَبْطِ رِوَايَاتِهَا وَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ فَضْلًا عَنِ النحاة الذين ليسوا مقرئي وَلَا رَوَوُا الْقُرْآنَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا رُوِيَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هَذَا مَعَ الدِّيَانَةِ الزَّائِدَةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي النَّقْلِ وعدم التجاسر ووفور الخط مِنَ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا فِي كَلَّا وَكِتَابًا فِي إِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو الْكَبِيرِ دَلَّا عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النحاة ولا المقرءين إِلَى سَائِرِ تَصَانِيفِهِ رحمه الله وَالَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ أَمْكَنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ إِذِ اللَّيْلُ فِي قِرَاءَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا هُوَ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِذْ هَمْزَةُ النَّقْلِ أَوِ التَّضْعِيفُ صَيَّرَهُ مَفْعُولًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَنْصُوبَيْنِ تَعَدَّى إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ وَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَلَّكْتُ زَيْدًا عَمْرًا إِذْ رُتْبَةُ التَّقْدِيمِ هِيَ الْمُوَضِّحَةُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَطْلُبُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ اللَّيْلُ إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ قَبْلَ التَّعْدِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ حَاثًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من النَّهَارِ وَتَقْدِيرُهُ مَحْثُوثًا وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ طَلَبًا حَثِيثًا أي حاثا أَوْ مُحِثًّا وَنِسْبَةُ الطَّلَبِ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازِيَّةٌ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاقُبِهِ اللَّازِمِ فَكَأَنَّهُ طَالِبٌ لَهُ لَا يُدْرِكُهُ بَلْ هُوَ فِي إِثْرِهِ بِحَيْثُ يَكَادُ يُدْرِكُهُ وَقَدَّمَ اللَّيْلَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهُ فِي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ «1» وَفِي وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «2» وَفِي وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «3» ،
(1) سورة الحج: 22/ 61.
(2)
سورة يس: 36/ 40.
(3)
سورة الأنعام: 6/ 1.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَصَفَ هَذِهِ الْحَرَكَةَ بِالسُّرْعَةِ وَالشِّدَّةِ لِأَنَّ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَحْصُلُ بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَتِلْكَ الْحَرَكَةُ أَشَدُّ الْحَرَكَاتِ سُرْعَةً وَأَكْمَلُهَا شِدَّةً حَتَّى إِنَّ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ قَالُوا: الْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فِي الْعَدْوِ الشَّدِيدِ الْكَامِلِ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رِجْلَهُ وَيَضَعَهَا يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ ثَلَاثَةَ آلَافِ مِيلٍ وَلِهَذَا قَالَ: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَنَظِيرُهُ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها «1» الْآيَةَ شَبَّهَ ذَلِكَ الْمَسِيرَ وَتِلْكَ الْحَرَكَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى السُّرْعَةِ وَالسُّهُولَةِ وَكَمَالِ الِاتِّصَالِ انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ انْتَصَبَ مُسَخَّراتٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ فِي الْأَرْبَعَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ بِرَفْعِ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ فَقَطْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ وَمَعْنَى بِأَمْرِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمُسَخَّرَاتٍ أَيْ خَلَقَهُنَّ جَارِيَاتٍ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَكَمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْرِفَهَا سُمِّي ذَلِكَ أَمْرًا عَلَى التَّشْبِيهِ كَأَنَّهُنَّ مَأْمُورَاتٌ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الشَّمْسُ لَهَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَرَكَةِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ ذَاتِهَا وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ تَحْصُلُ السُّنَّةُ، وَالثَّانِي حَرَكَتُهَا بِحَسَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ وَيَتِمُّ فِي الْيَوْمِ بِلَيْلَتِهِ فَتَقُولُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَا يَحْصُلَانِ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِحَرَكَةِ السَّمَاءِ الْأَقْصَى الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْعَرْشُ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْعَرْشِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وربط بقوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تنبيها على أنّ حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ الْعَرْشُ يُحَرِّكُ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي جِرْمِ الشَّمْسِ قُوَّةً قَاهِرَةً بِاعْتِبَارِهَا قَوِيَتْ عَلَى قَهْرِ جَمِيعِ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَتَحْرِيكِهَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى طَبَائِعِهَا فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ مَعْقُولَةٌ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، انْتَهَى.
وَتَكَلَّمَ فِي قَوْلِهِ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ كَلَامًا كَثِيرًا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَهُوَ عِلْمٌ لَمْ نَنْظُرْ فِيهِ قَالَ: أَرْبَابُهُ وَهُوَ عِلْمٌ شَرِيفٌ يُطَّلَعُ فِيهِ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ غَرِيبَةٍ مِنْ صَنْعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَزْدَادُ بِهَا إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ إِذِ الْمَعْرِفَةُ بِجُزْئِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَتَفَاصِيلِهَا ليست كالمعرفة بجمليتها، وَقِيلَ بِأَمْرِهِ أَيْ بِنَفَاذِ إِرَادَتِهِ إِذِ الْمَقْصُودُ تَبْيِينُ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِقَوْلِهِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «2» وَقَوْلِهِ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ «3» الآية. وَقِيلَ الْأَمْرُ هُوَ الْكَلَامُ.
(1) سورة يس: 36/ 40.
(2)
سورة فصلت: 41/ 11.
(3)
سورة النحل: 16/ 40.