المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

بِالْأَحْسَنِ مِنَ الْجَزَاءِ، أَوْ بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَزَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيَجْزِيَهُمْ جَزَاءَ أَحْسَنِ أَفْعَالِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْسَنَ صِفَةٌ لِلْجَزَاءِ أَيْ:

يَجْزِيَهُمْ جَزَاءً هُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَجَلُّ وَأَفْضَلُ، وَهُوَ الثَّوَابُ انْتَهَى، هَذَا الْوَجْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَحْسَنُ مِنْ صِفَةِ الْجَزَاءِ فَكَيْفَ أُضِيفَ إِلَى الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَقَعُ التَّفْضِيلُ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يُصَرَّحْ فيه بمن؟.

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ: لَمَّا سَمِعُوا مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ أَهَمَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَفَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى الرَّسُولِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ حِينَ نَزَلَتْ: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ هَكَذَا أَهْلُ الْبَوَادِي فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: لَمَّا دَعَا الرَّسُولُ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ

ص: 525

أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ، فَنَفَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْمَعَاشِ وَكَادُوا يُفْسِدُونَهَا، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ غَيْرَ صَحِيحِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا أَقْدَمَهُ الْجُوعُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَقَالَ: وَمَا كَانَ مِنْ ضَعَفَةِ الْإِيمَانِ لِيَنْفِرُوا مِثْلَ هَذَا النَّفِيرِ

أَيْ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يكون النفير إلى الغزو، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي لِيَتَفَقَّهُوا عائد على الطائفة الناقرة، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ فِي الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا. وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مَعَ خُرُوجِ الرَّسُولِ فِي الْغَزْوِ، وَهَذِهِ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ أَيْ: يَجِبُ إِذَا لم يخرج أن لا يَنْفِرَ النَّاسُ كَافَّةً، فَيَبْقَى هُوَ مُفْرَدًا.

وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفِرَ طَائِفَةٌ وَتَبْقَى طَائِفَةٌ لِتَتَفَقَّهَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي الدِّينِ، وَتُنْذِرَ النَّافِرِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ كَافَّةً النَّفِيرَ وَالْقِتَالَ، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا عَلَى الطَّائِفَةِ الْمُقِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَكُونُ مَعْنَى وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أَيْ: الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إِلَى الْغَزْوِ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَتَكَالِيفِهَا، وَكَانَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا تَقْسِيمُهَا أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَقَعَدَتْ أُخْرَى لِيَتَفَقَّهُوا. وَقِيلَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ إِلَى الْغَزْوِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي ليتفقهوا عَائِدًا عَلَى النَّافِرِينَ، وَيَكُونَ تَفَقُّهُهُمْ فِي الْغَزْوِ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِدِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْبَارِ الرَّسُولِ بِظُهُورِ هَذَا الدِّينِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْحَضِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْحَلَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ فَتَعْرَى بِلَادُهُمْ مِنْهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَعَلَى ذَرَارِيِّهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ، فَهَلَّا رَحَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَلِإِنْذَارِ قَوْمِهِمْ؟ فَذَكَرَ الْعِلَّةَ لِلنَّفِيرِ وَهِيَ التَّفَقُّهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِعْلَامُ لِقَوْمِهِمْ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْهُمْ فَكَفَوْهُمُ النَّفِيرَ؟ وَقَامَ كُلٌّ بِمَصْلَحَةٍ هَذِهِ بِحِفْظِ بِلَادِهِمْ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَهَذِهِ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَإِفَادَتِهَا الْمُقِيمِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كِلِا النَّفِيرَيْنِ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ دِينِهِ هَذَا بِالْعِلْمِ، وَهَذَا بِالْقِتَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، لِيَتَكَلَّفُوا الْفَقَاهَةَ فِيهِ، وَيَتَجَشَّمُوا الْمَشَاقَّ فِي أَخْذِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ فِي التَّفَقُّهِ إِنْذَارَ قَوْمِهِمْ وَإِرْشَادَهُمْ وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إِرَادَةَ أَنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْآيَاتِ الشَّدَائِدِ اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إِلَى النَّفِيرِ،

ص: 526

وَانْقَطَعُوا جَمِيعًا عَنِ الْوَحْيِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الْجِهَادِ، وَتَبْقَى أَعْقَابُهُمْ يَتَفَقَّهُونَ حَتَّى لَا يَنْقَطِعُوا عَنِ التَّفَقُّهِ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْحُجَّةِ أَعْظَمُ أَمْرًا مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَتَفَقَّهُوا، الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ الطَّوَائِفِ النَّافِرَةِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيُنْذِرَ الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ قَوْمَهُمُ النَّافِرِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مَا حَصَّلُوا فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلتَّفَقُّهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: لَمَّا حَضَّ تَعَالَى عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَحَرَّضَ عَلَى رِحْلَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَجَمَعَ مِنَ الْجِهَادِ جِهَادَ الْحُجَّةِ وَجِهَادَ السَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:

مَنْ لَا يُعَدِّلُهُ الْقُرْآنُ كَانَ لَهُ

مِنَ الصَّغَارِ وَبِيضِ الْهِنْدِ تَعْدِيلُ

قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ كَافَّةً، فَهِيَ مِنَ التَّدْرِيجِ الَّذِي كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.

وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُبَّمَا تَجَاوَزَ قَوْمًا مِنَ الْكُفَّارِ غَازِيًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ أَبْعَدَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِغَزْوِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ مُبِيِّنَةٌ صُورَةَ الْقِتَالِ كَافَّةً، فَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ كَافَّةً، وَمَعْنَاهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْجَيْشَ الَّذِي يُضَايِقُهُ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِتَالُ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَرَدُّ الْبَأْسِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا إِذَا مَالَ الْعَدُوُّ إِلَى صُقْعٍ مِنْ أَصْقَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كِفَايَةُ عَدُوِّ ذَلِكَ الصُّقْعِ وَإِنْ بَعُدَتِ الدَّارُ وَنَأَتِ الْبِلَادُ. وقال: قاتلوا هَذِهِ الْمَقَالَةِ نَزَلَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى قِتَالِ الرُّومِ بِالشَّامِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ الْعَدُوَّ الَّذِي يَلِي وَيَقْرُبُ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ عَمَّهَا الْإِسْلَامُ، وَكَانَتِ الْعِرَاقُ بَعِيدَةً، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ وَالدَّيْلَمِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَمِ، وَسَأَلَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلٌ عَنْ قِتَالِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالرُّومِ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَالْحَسَنُ: هُمُ الرُّومُ وَالدَّيْلَمُ

، يَعْنِي فِي زَمَنِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ نُزُولِهَا الْعَرَبُ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ فِي الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «1» إِلَى آخِرِهَا. وَقِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَفَدَكٌ وَخَيْبَرُ. وَقَالَ قَوْمٌ:

تَحَرَّجُوا أَنْ يُقَاتِلُوا أَقْرِبَاءَهُمْ وَجِيرَانَهُمْ، فَأُمِرُوا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في

(1) سورة التوبة: 9/ 29.

ص: 527

الْمَكَانِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي الْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ، وَالنَّسَبِ وَالْبُدَاءَةِ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ قِتَالُ كُلِّهِمُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ أُمِرْنَا بِقِتَالِ كُلِّهِمْ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُهِمَّاتِ كَالدَّعْوَةِ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَاتِ فِيهِ، وَالْحَاجَةَ إِلَى الدَّوَابِّ وَالْأَدَوَاتِ أَقَلُّ، وَلِأَنَّ قِتَالَ الْأَبْعَدِ تَعْرِيضٌ لِتَدَارُكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّ الدِّينَ يَكُونُ إِنْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ، وَحُصُولُ غَيْرِ الْإِسْلَامِ أَيْسَرَ. وَإِنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ كَانَ تَعَرُّضُهُمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ أَشَدَّ، وَلِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِمَنْ يَلِي آكَدُ مِنْهَا بِمَنْ بَعُدَ لِلْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، فَتَرَجَّحَتِ الْبُدَاءَةُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي عَلَى قِتَالِ مَنْ بَعُدَ.

وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1» وَذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَهْيَبَ وَأَوْقَعَ لِلْفَزَعِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «2»

وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَوُا الْكُفَّارَ بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»

وَقَالَ تَعَالَى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «3» وَقَالَ: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا «4» وَالْغِلْظَةُ: تَجْمَعُ الْجُرْأَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَالْغِلْظَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلشِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِلْظَةً بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ أَسَدٍ، وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَالْمُفَضَّلُ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَأَبُو حَيْوَةَ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ أَيْضًا بِضَمِّهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وعن أبي عمر وثلاث اللُّغَاتِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَوُجُودِ الْغِلْظَةِ إِنَّمَا هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَلَا يَقْصِدُ بِقِتَالِهِ الْغَنِيمَةَ، وَلَا الْفَخْرَ، وَلَا إِظْهَارَ الْبَسَالَةِ.

وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا عَيْبُ الْمُنَافِقِينَ خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَرَّضَ بِهِمْ فِي خُطْبَتِهِ، فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يُرِيدُونَ

(1) سورة التوبة: 9/ 73.

(2)

سورة المائدة: 5/ 54.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 139.

(4)

سورة آل عمران: 3/ 146.

ص: 528

الْهَرَبَ وَيَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِنْ قُمْتُمْ؟ فَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ. وَلَمَّا اسْتَطْرَدَ مِنْ سَفَرِ الْغَزْوِ وَتَأْنِيبِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى سَفَرِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ يَلِي مِنَ الْكُفَّارِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَخَازِي الْمُنَافِقِينَ إِذْ هُمُ الَّذِينَ نَزَلَ مُعْظَمُ السُّورَةِ فِيهِمْ.

وَكَانَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوا: ذَلِكَ لِقَرَابَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَقِيمُونَ إِلَيْهِمْ وَيَطْمَعُونَ فِي رَدِّهِمْ إِلَى النِّفَاقِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ لِلسُّورَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ غَرِيبٍ فِي هَذَا وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا، وَفِي الفتيان قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْبَحْثِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رأيكم بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَيَّكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالنَّصْبُ فِيهِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ أفصح كهو بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ. وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عَامٌّ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُدُوثِ تَصْدِيقٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ قَصَصٍ وَتَجْدِيدِ حُكْمٍ مِنْ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْبِيهٍ عَلَى دَلِيلٍ تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ وَيَكُونُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِأَدِلَّةٍ، فَنَبَّهَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى دَلِيلٍ راد فِي أَدِلَّتِهِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ شَكٍّ يَسِيرٍ، أَوْ شُبْهَةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ مُسْتَحْكِمَةٍ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ بِتِلْكَ السُّورَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي الطَّاعَةَ إِيمَانًا، وَذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَتَرَتَّبُ الزِّيَادَةُ بِالسُّورَةِ إِذْ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: فَزَادَتْهُمْ: إِيمَانًا أَيْ خَشْيَةً أَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ ثَمَرَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا لِأَنَّهَا أَزْيَدُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى الثَّبَاتِ، وَأَثْلَجُ لِلصُّدُورِ. أَوْ فَزَادَتْهُمْ عَمَلًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقَعُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ فِي الْأَجْسَامِ، فَنُقِلَ إِلَى الِاعْتِقَادِ مَجَازًا وَالرِّجْسُ القذر، وَالرِّجْسُ الْقَذَرُ، وَالرِّجْسُ الْعَذَابُ، وَزِيَادَتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَمُّقِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَخَبْطِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَإِذَا كَفَرُوا بِسُورَةٍ. فَقَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَاسْتَحْكَمَ وَتَزَايَدَ عِقَابُهُمْ. قَالَ قُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَرَادَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْمُتَجَدِّدِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْتَجَ نُزُولُ السُّورَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ شَيْئَيْنِ: زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ زِيَادَةُ رِجْسٍ، والموافاة على الكفر أذاهم كُفْرُهُمُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ.

ص: 529

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ:

لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ بِمَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ رَائِحُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُصُونَ مِنْ عَذَابِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةٌ: بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالرُّؤْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، والأعمش: أو لا تَرَى أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟

وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا: أو لم تَرَوْا؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ عنه: أو لم يَرَوْا؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُفْتَنُونَ، يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ عَنْهُ: مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:

يُخْتَبَرُونَ بِالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَةِ وَمِمَّا بَعْدَهَا أَنَّ الْفِتْنَةَ وَالِاخْتِبَارَ إِنَّمَا هِيَ بِكَشْفِ اللَّهِ أَسْرَارَهُمْ وَإِفْشَائِهِ عَقَائِدَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الِاخْتِبَارُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرُؤْيَتِهِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْجِهَادُ أَوِ الْجُوعُ فَلَا يَتَرَتَّبُ مَعَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَفَلَا يَزْدَجِرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُفْضَحُ سَرَائِرُهُمْ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بِحَسَبِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَتُوبُونَ، وَيَذْكُرُونَ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ انْتَهَى. وَقَالَهُ مُخْتَصَرًا مُقَاتِلٌ قَالَ: يُفْضَحُونَ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ، وَأَمَّا الِاخْتِبَارُ بِالْمَرَضِ فَهُوَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ:

أَفِي كُلِّ عَامٍ مَرْضَةٌ ثُمَّ نَقْهَةٌ

فَحَتَّى مَتَى حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى يُفْتَنُونَ بِمَا يُشِيعُهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الْأَكَاذِيبِ وَالْأَرَاجِيفِ، وَأَنَّ مُلُوكَ الرُّومِ قَاصِدُونَ بِجُيُوشِهِمْ وَجُمُوعِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» فَكَانَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُفْتَنُونَ فِي ذَلِكَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

يُفْتَنُونَ يُبْتَلَوْنَ بِالْمَرَضِ وَالْقَحْطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَذَكَّرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُعَايِنُونَ أَمْرَهُ وَمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرِ وَتَأْيِيدِهِ، أَوْ يَفْتِنُهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَكْذِبُونَ وَيَنْقُضُونَ الْعُهُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقْتُلُهُمْ وَيُنَكِّلُ بِهِمْ، ثُمَّ لَا يَنْزَجِرُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا هُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ

(1) سورة الأحزاب: 33/ 60.

ص: 530

اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْدُثُ عَنْهُمْ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ الْإِيمَاءُ وَالتَّغَامُزُ بِالْعُيُونِ إِنْكَارًا لِلْوَحْيِ، وَسُخْرِيَةً قَائِلِينَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِنَنْصَرِفَ، فَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى اسْتِمَاعِهِ وَيَغْلِبُنَا الضَّحِكُ، فَنَخَافُ الِافْتِضَاحَ بَيْنَهُمْ، أَوْ تَرَامَقُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي تدبير الخروج والانسلال لو إذا يَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ السُّورَةِ أَيَّةُ سُورَةٍ كَانَتْ. وَقِيلَ: ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أي: سُورَةٌ تَفْضَحُهُمْ وَيُذْكَرُ فِيهَا مَخَازِيهِمْ، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ، يُفْهَمُ مِنْ تِلْكَ النَّظْرَةِ التَّقْرِيرُ: هَلْ يَرَاكُمْ مَنْ يَنْقُلُ عَنْكُمْ؟ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ حِينَ تُدَبِّرُونَ أُمُورَكُمْ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ: عَنْ طَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ أنهم حين ما بُيِّنَ لَهُمْ كَشْفُ أَسْرَارِهِمْ وَالْإِعْلَامُ بِمُغَيَّبَاتِ أُمُورِهِمْ يَقَعُ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ تَعَجُّبٌ وَتَوَقُّفٌ وَنَظَرٌ، فَلَوِ اهْتَدَوْا لَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَظِنَّةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هَلِ اطَّلَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى سَرَائِرِكُمْ مَخَافَةَ الْقَتْلِ ثُمَّ انْصَرَفُوا إِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَالْمَعْنَى: قَامُوا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تُتْلَى فِيهِ السُّورَةُ أَوْ مَجَازًا، فَالْمَعْنَى: انْصَرَفُوا عَنِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ وَقْتَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوْ رَجَعُوا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ أَوْ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّكْذِيبِ لَهُ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ، أَوْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ وَمَهَّدَ وَأُقِيمَ دَلِيلُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِقَوْلِ الْكَلْبِيِّ.

صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِصَرْفِ قُلُوبِهِمْ عَمَّا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، قَالَهُ الفراء. والظاهر أنه خير لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ، بَدَأَ بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ ذَكَرَ فِعْلَهُ تَعَالَى بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» . قَالَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمْ. وَقِيلَ: عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ كُلِّ رُشْدٍ وَخَيْرٍ وَهُدًى. وَقَالَ الْحَسَنُ: طُبِعَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دُعَاءٌ عليهم بالخذلان، وبصرف قلوبهم عما في قلوب أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الِانْشِرَاحِ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بانصرفوا، أو بصرف، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ أَيْ: بِسَبَبِ انْصِرَافِهِمْ، أَوْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن فيفقون مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إِيمَانَهُمْ وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ.

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

(1) سورة الصف: 61/ 5.

ص: 531

: لَمَّا بَدَأَ السُّورَةَ بِبَرَاءَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَصَّ فِيهَا أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ شَيْئًا فَشَيْئًا، خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى سَبِيلِ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِهِمْ، أَوْ مِنْ نَسَبِهِمْ عَرَبِيًّا قُرَشِيًّا يُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللَّهِ مُتَّصِفٌ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ كَوْنِهِ يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُهُمْ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ، وَيَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ، وَيَرْأَفُ بِهِمْ، وَيَرْحَمُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَدَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّهُ قَالَ:

يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1» وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ عَامًّا، إِمَّا عَامَّةَ الْعَرَبِ، وَإِمَّا عَامَّةَ بَنِي آدَمَ، جَاءَ الْخِطَابُ عَامًّا بِقَوْلِهِ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ حَتَّى لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَيَهْلَكَ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ خَاصَّةً جَاءَ مُتَعَلَّقُهَا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُهُ:

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «2» وَقَالَ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «3» وَقَالَ فِي زُنَاةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «4» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النبي صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَأَشْرَفِهَا، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى

قَوْلِهِ عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»

وَمِنْهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ»

مَعْنَاهُ أَنَّ نَسَبَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى آدَمَ عليه السلام لَمْ يَكُنِ النَّسْلُ فِيهِ إِلَّا مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِنًا انْتَهَى. وَصَفَ اللَّهِ نَبِيَّهُ عليه السلام بِسِتَّةِ: أَوْصَافٍ الرِّسَالَةُ وَهِيَ صِفَةُ كَمَالِ الْإِنْسَانِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ كَمَالِ ذَاتِ الرَّسُولِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْخِيَارِ بِحَيْثُ أُهِّلَ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بِذِكْرِهَا. وَكَوْنُهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي البليغ وَالْفَهْمِ عَنْهُ وَالتَّآنُسِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْعَرَبِ فَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِهِمْ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ فَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ وَاللُّطْفُ فِي إِيصَالِ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّيَانَةِ. وَكَوْنُهُ يَعِزُّ عَلَيْهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ. ومن كونه من

(1) سورة الأنعام: 6/ 9.

(2)

سورة التوبة: 9/ 73.

(3)

سورة المائدة: 5/ 54.

(4)

سورة النور: 24/ 2.

ص: 532

أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ منك وأدلّك الْخَيْرَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِيصَالُ مَا يُؤْذِي إِلَيْكَ وَكَوْنُهُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ بُعِثَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ وَيُفْرَدَ بِالْأُلُوهِيَّةِ. وَكَوْنُهُ رَءُوفًا رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا وَصْفَانِ مِنْ نَتَائِجِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ، وَالدُّخُولِ فِي دِينِ اللَّهِ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1»

«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى تُحِبَّ لِأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» .

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَحْبُوبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُسَيْطٍ الْمَكِّيُّ، وَيَعْقُوبُ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ:

مِنْ أَنْفَسِكُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ فَاطِمَةَ

، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَعَزِّكُمْ، وَذَلِكَ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّفَسِ، فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الفاعل بعزيز أَيْ: يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُكُمْ كَمَا قَالَ:

يُسِرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالِي

وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابًا

أَيْ يُسِرُّ الْمَرْءَ ذَهَابُ اللَّيَالِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا عَنِتُّمْ مُبْتَدَأً أَيْ: عَنَتُكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ، وَقُدِّمَ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَعْرَبُ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ عَزِيزٌ مُبْتَدَأً، وما عَنِتُّمْ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ إِعْرَابٌ دُونَ الْإِعْرَابَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: عَزِيزٌ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْعِزَّةِ لِتَوَسُّطِهِ فِي قَوْمِهِ وَعَرَاقَةِ نَسَبِهِ وَطِيبِ جُرْثُومَتِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أَيْ: يُهِمُّهُ أَمْرُكُمْ انْتَهَى. وَالْعَنَتُ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَأَعْنَتَكُمْ «2» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُنَا مَشَقَّتُكُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:

إِثْمُكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: ضَلَالُكُمْ. وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: مَا ضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا أَهْلَكَكُمْ. وَقِيلَ: مَا غَمَّكُمْ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هُدَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «3» وَقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «4» . وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

الْحَرِيصُ هُوَ الشَّحِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ. وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى دُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ. وَيُحْتَمَلُ بالمؤمنين أن يتعلق برءوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وفي جواز

(1) سورة الحجرات: 49/ 10.

(2)

سورة البقرة: 2/ 220.

(3)

سورة النحل: 16/ 37. [.....]

(4)

سورة يوسف: 10/ 103.

ص: 533

تَقَدُّمِ مَعْمُولِ الْمُتَنَازِعِينَ نَظَرٌ، فَالْأَكْثَرُونَ لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ تَقْدِمَةً عَلَيْهِمَا، وَأَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ التَّقْدِيمَ فَتَقُولُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ وَشَتَمْتُ عَلَى التَّنَازُعِ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الصِّفَتَيْنِ بِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِالتَّوْزِيعِ، رؤوف بِالْمُطِيعِينَ، رَحِيمٌ بِالْمُذْنِبِينَ. وَقِيلَ: رؤوف بِمَنْ رَآهُ، رَحِيمٌ بِمَنْ لم يره. وقيل: رؤوف بِأَقْرِبَائِهِ، رَحِيمٌ بِغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَمْ يَجْمَعِ اللَّهُ لِنَبِيٍّ بَيْنَ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ إِلَّا لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ قَالَ: بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ إِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ وَاتِّصَافِكَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ:

فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَهِيَ آيَةٌ مُبَارَكَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَخَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَرْشُ لَا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ انْتَهَى. وَذُكِرَ فِي مَعْرِضِ شَرْحِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْمَعُونَ حَدِيثَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَعَظَمَتِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُمْ كَانُوا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الْعَظِيمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ صِفَةٌ لِلرَّبِّ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمُ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَعِظَمُ الْعَرْشِ بِكِبَرِ جُثَّتِهِ وَاتِّسَاعِ جَوَانِبِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ، وَعِظَمُ الرَّبِّ بِتَقْدِيسِهِ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَبِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْأَوْهَامِ، أَوْ تَصِلَ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آخِرُ مَا نَزَلْ لَقَدْ جَاءَكُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَعَنْ أُبَيٍّ أَقْرَبُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ الْآيَتَانِ، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ لَمْ تُوجَدَا حِينَ جُمِعَ الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي حِفْظِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ذِي الشَّهَادَتَيْنِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا تَذَكَّرَهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ يَعْرِفُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَقَدْتُ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ نَدْرِ هَلْ فقد شيئا أولا، فَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْآيَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ. وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا فُرِغَ مِنْ تَنَزُّلِ بَرَاءَةٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَنْ يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ شَيْءٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَهَمَّهُ» .

(1) سورة البقرة: 2/ 143.

ص: 534