المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

التَّعْزِيرُ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ التَّعْزِيرُ هُوَ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ. الِانْبِجَاسُ الْعَرَقُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: انْبَجَسَتْ عَرِقَتْ وَانْفَجَرَتْ سَالَتْ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ الِانْبِجَاسُ الِانْفِجَارُ يُقَالُ: بَجَسَ وَانْبَجَسَ، الْحُوتُ مَعْرُوفٌ يُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَحْوَاتٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى حِيتَانٍ وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فُعْلٍ وَاوِيِّ الْعَيْنِ نَحْوُ عُودٍ وَأَعْوَادٍ وَعِيدَانٍ.

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِهِ تَعَالَى لِمُوسَى

ص: 193

عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ تَبْشِيرٌ له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَذِكْرٌ لِصِفَاتِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُنَزِّلُ كِتَابًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ وَمَعْنَى الِاتِّبَاعِ الِاقْتِدَاءُ فِيمَا جَاءَ بِهِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا وَجَمَعَ هُنَا بَيْنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ شَرَفًا مِنَ النُّبُوَّةِ أَوْ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآدَمِيِّ وَالْمُلْكُ أَعَمُّ فبدىء بِهِ وَالْأُمِّيُّ الَّذِي هُوَ عَلَى صِفَةِ أُمَّةِ الْعَرَبِ إِنَّا أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ فَأَكْثَرُ الْعَرَبِ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَكَوْنُهُ أُمِّيًّا مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزِ، وَقِيلَ: نِسْبَةً إِلَى أُمِّ الْقُرَى وَهِيَ مَكَّةُ، وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَرَأَ الْأُمِّيَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وخرج على أنه من تَغْيِيرِ النَّسَبِ وَالْأَصْلُ الضَّمُّ كَمَا قِيلَ فِي النَّسَبِ إِلَى أُمَيَّةَ أَمَوِيٌّ بِالْفَتْحِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنْ أَمَّ وَمَعْنَاهُ الْمَقْصُودُ أَيْ لِأَنَّ هَذَا النَّبِيَّ مَقْصِدٌ لِلنَّاسِ وَمَوْضِعٌ أَمٍّ، وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ: وَذَلِكَ مَكَّةُ فهو منسوب إليه لَكِنَّهَا ذُكِرَتْ إِرَادَةً لِلْحَرَمِ أَوِ الْمَوْضِعِ وَمَعْنَى يَجِدُونَهُ أَيْ يَجِدُونَ وَصْفَهُ وَنَعْتَهُ، قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: فِي التَّوْراةِ أَيْ سَأُقِيمُ لَهُ نَبِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِيَ فِي فِيهِ وَيَقُولُ لَهُمْ كُلَّمَا أَوْصَيْتُهُ وَفِيهَا وَأَمَّا النَّبِيُّ فَقَدْ بَارَكْتُ عَلَيْهِ جِدًّا جِدًّا وَسَأَدَّخِرُهُ لِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ وَفِي الْإِنْجِيلِ يُعْطِيكُمُ الْفَارِقْلِيطَ آخَرُ يُعْطِيكُمْ مُعَلِّمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ،

وَقَالَ الْمَسِيحُ: أَنَا أَذْهَبُ وَسَيَأْتِيكُمُ الْفَارِقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَيَمْدَحُنِي وَيَشْهَدُ لِي

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إِلَى آخِرِهِ مُتَعَلِّقًا بيجدونه فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ فَيَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ يَأْمُرُهُمْ: تَفْسِيرٌ لِمَا كَتَبَ مِنْ ذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «1» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَجِدُونَهُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلذَّكَرِ وَالِاسْمِ وَالِاسْمُ وَالذَّكَرُ لَا يَأْمُرَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أَيْ بِخَلْعِ الْأَنْدَادِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ: الْحَقُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ وَالْمُنْكَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الشِّرْكُ، وَقِيلَ:

الْبَاطِلُ، وَقِيلَ: الْفَسَادُ وَمَبَادِئُ الْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَالْكُفْرُ بِمَا أَنْزَلَ وَقَطْعُ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقُ.

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الطَّيِّباتِ فِي قَوْلِهِ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ «2» أَهِيَ الْحَلَالُ أَوِ الْمُسْتَلَذُّ وَكِلَاهُمَا قِيلَ هُنَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا حرّم عليهم من

(1) سورة آل عمران: 3/ 59.

(2)

سورة المؤمنون: 23/ 51.

ص: 194

الْأَشْيَاءِ الطَّيِّبَةِ كَالشُّحُومِ وَغَيْرِهَا أَوْ مَا طَابَ فِي الشَّرِيعَةِ وَاللَّحْمُ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَمَا خَلَا كَسْبُهُ مِنَ السُّحْتِ انْتَهَى، وَقِيلَ: مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُهُ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا الْمُحَلَّلَاتُ لِتَقْدِيرِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَلَّلَاتِ قَالَ وَهَذَا مَحْضُ التَّكْذِيبِ، وَلِخُرُوجِ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا أُحِلَّ لَنَا وَكَمْ هُوَ قَالَ: بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُرَادَ الْمُسْتَطَابَةُ بِحَسَبَ الطَّبْعِ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُفِيدُ اللَّذَّةَ وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا تستطيعه النَّفْسُ وَيَسْتَلِذُّهُ الطَّبْعُ حَلَالٌ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قِيلَ: الْمُحَرَّمَاتُ، وَقِيلَ: مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ كَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْحَشَرَاتِ، وَقِيلَ: الدَّمُ وَالْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ «1» .

وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. قَرَأَ طَلْحَةُ وَيُذْهِبُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِصْرِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفَسَّرَهُ هُنَا قَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ بِالثِّقْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: آصَارَهُمْ جَمْعُ إِصْرٍ، وقرىء أُصْرَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِضَمِّهَا فَمَنْ جَمَعَ فَبِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِصْرِ إِذْ هِيَ كَثِيرَةٌ وَمَنْ وَحَّدَ فَلِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْأَغْلالَ مِثْلَ لَمَّا كُلِّفُوا مِنَ الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ كَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَالْقِصَاصِ حَتْمًا مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ يَوْمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمِ الْعُرُوقِ فِي اللَّحْمِ وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَبِسُوا الْمُسُوحَ وَغَلَّوْا أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ وَرُبَّمَا ثَقَبَ الرَّجُلُ تَرْقُوَتَهُ وَجَعَلَ فِيهَا طَرْفَ السِّلْسِلَةِ وَأَوْثَقَهَا إِلَى السَّارِيَةِ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ،

وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام رَأَى يَوْمَ السَّبْتِ رَجُلًا يَحْمِلُ قَصَبًا فَضَرَبَ عُنُقَهُ

وَهَذَا الْمَثَلُ كَمَا قَالُوا جَعَلْتُ هَذَا طَوْقًا فِي عُنُقِكَ وَقَالُوا طَوَّقَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:

وَلَيْسَ كَهَذَا الدَّارُ يَا أُمَّ مالك

ولكن أحاطب بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ

فَصَارَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَابِلٍ

سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ

وَلَيْسَ ثَمَّ سَلَاسِلُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَلْزَمَهُ أُمُورًا لَمْ يَكُنْ مُلْتَزِمًا لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا

(1) سورة المائدة: 5/ 3.

ص: 195

قَالَ الْإِيمَانُ قَيْدُ الْفَتْكِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَغْلَالُ يُرِيدُ فِي قَوْلِهِ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ «1» فَمَنْ آمَنَ زَالَتْ عَنْهُ الدَّعْوَةُ وَتَغْلِيلُهَا.

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَعَزَّرُوهُ أَثْنَوْا عَلَيْهِ وَمَدَحُوهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنَعُوهُ حَتَّى لَا يَقْوَى عَلَيْهِ عَدُوٌّ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَعِيسَى بِالتَّخْفِيفِ،

وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَزَّزُوهُ بِزَايَيْنِ

والنُّورَ الْقُرْآنُ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ.

وَقِيلَ مَعَ بِمَعْنَى عَلَيْهِ أَيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أُنْزِلَ مَعَ نُبُوَّتِهِ لِأَنَّ اسْتِنْبَاءَهُ كَانَ مَصْحُوبًا بِالْقُرْآنِ مَشْفُوعًا بِهِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ أُنْزِلَ وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ كون مَعَهُ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أُنْزِلَ كَائِنًا مَعَهُ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ كَقَوْلِهِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا فَحَالَةُ الْإِنْزَالِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ لَكِنَّهُ صَارَ مَعَهُ بَعْدُ كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْمُرُورِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ باتبعوا أَيْ وَاتَّبَعُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وَالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ وَبِمَا أَمَرَ بِهِ أَيْ وَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ كَمَا اتَّبَعَهُ مُصَاحِبِينَ لَهُ فِي اتِّبَاعِهِ وَفِي قَوْلِهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِلَى آخِرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ آمَنَ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالرَّسُولِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وغيره من أهل الكتابين.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى لِمُوسَى عليه السلام صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ وَآمَنَ بِهِ أَفْلَحَ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِشْهَارِ دَعْوَتِهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَدَعْوَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَامَّةٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَتَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ والَّذِي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ رَفْعٍ وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا صِفَةً لِلَّهِ قَالَ وَإِنْ حِيلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ إِلَيْكُمْ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْكُمْ وَهَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي الْإِذْعَانَ وَالِانْقِيَادَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ إِذْ لَهُ الْمُلْكُ فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِمَا يُرِيدُ وَفِي حَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ نَفْيُ الشِّرْكَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ هَذَا الْعَالَمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرِكَهُ أَحَدٌ فَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ وَذَكَرَ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ إِذْ هُمَا وَصْفَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا إِلَّا اللَّهُ وَهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيجَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يريده الإعدام والأحسن

(1) سورة المائدة: 5/ 64.

ص: 196

أَنْ تَكُونَ هَذِهِ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَدَلٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي هِيَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَفِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ الْإِلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَفِي يُحيِي وَيُمِيتُ بَيَانٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ غَيْرُهُ انْتَهَى، وَإِبْدَالُ الْجُمَلِ مِنَ الْجُمَلِ غَيْرِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي عَامِلٍ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يُحيِي وَيُمِيتُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِأَنَّ لَا إِلهَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وإِلَّا هُوَ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ قَالَ: وَالْجُمْلَةُ أَيْضًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، يَعْنِي مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بالله وبه وعدل عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِالْتِفَاتُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ السَّابِقُ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِاتِّبَاعِهِ الْمَوْجُودُ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلِمَاتِهِ هِيَ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ وَعَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ بَدَأَ بِهِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ أُمِّيًّا وَظَهَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فِي ذَاتِهِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَعَ نَشْأَتِهِ فِي بَلَدٍ عَارٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يَخُطَّ وَلَمْ يَصْحَبْ عَالِمًا وَلَا غَابَ عَنْ مَكَّةَ غَيْبَةً تَقْتَضِي تَعَلُّمًا. وَقِيلَ: وكَلِماتِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ خَارِجِ ذَاتِهِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَهِيَ تُسَمَّى بِكَلِمَاتِ اللَّهِ لَمَّا كَانَتْ أُمُورًا خَارِقَةً غَرِيبَةً كَمَا سُمِّيَ عِيسَى عليه السلام لَمَّا كَانَ حُدُوثُهُ أَمْرًا غَرِيبًا خَارِقًا كَلِمَةً، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَعِيسَى: وَكَلِمَةٍ وَحَّدَ وَأَرَادَ بِهِ الْجَمْعَ نَحْوُ أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَتْهَا الْعَرَبُ قَوْلُ لَبِيدٍ وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةٌ وَكَلِمَةُ فُلَانٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِكَلِمَاتِهِ وَكَلِمَتِهِ أَيْ بِعِيسَى لِقَوْلِهِ: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «1» ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ كُنِ الَّتِي تَكَوَّنَ بِهَا عِيسَى وَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ بَدَلَ كَلِمَاتِهِ وَلَمَّا أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ هُوَ الِاعْتِقَادُ أُمِرُوا بِالِاتِّبَاعِ لَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَهُوَ لَفْظٌ يُدْخَلُ تَحْتَهُ جَمِيعُ الْتِزَامَاتِ الشَّرِيعَةِ وَعَلَّقَ رَجَاءَ الهداية باتباعه.

(1) سورة النساء: 4/ 90.

ص: 197

وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ قَوْمِ مُوسى مَنْ وُفِّقَ لِلْهِدَايَةِ وَعَدَلَ وَلَمْ يَجُرْ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ هِدَايَةٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ مُوسَى قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا ضُلَّالًا بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مهتدون، قال السائب: هو قوم من أهل الكتاب آمَنُوا بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ مُوسَى قَبْلَ نَسْخِهِ وَلَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ التَّائِبُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لما ذكر الذين تزلزلوا مِنْهُمْ ذَكَرَ أُمَّةً مُؤْمِنِينَ تَائِبِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَيُرْشِدُونَهُمْ وَبِالْحَقِّ يَعْدِلُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَجُورُونَ أَوْ أَرَادَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَآمَنَ بِهِ مِنْ أَعْقَابِهِمُ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجَمَاعَةَ الَّتِي آمَنَتْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِهَةِ الِاسْتِجْلَابِ لِإِيمَانِ جَمِيعِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنِ اهْتَدَى وَاتَّقَى وَعَدَلَ انْتَهَى، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اغْتَرَبُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدَخَلُوا سِرْبًا مَشَوْا فِيهِ سَنَةً وَنِصْفًا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى خَرَجُوا وَرَاءَ الصِّينِ فَهُمْ هُنَاكَ يُقِيمُونَ الشَّرْعَ فِي حِكَايَاتٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ يُوقِفُ عَلَيْهَا هُنَاكَ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ وَفِي قَوْلِهِ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إِشَارَةٌ إِلَى التَّقْلِيلِ وَأَنَّ مُعْظَمَهُمْ لَا يَهْدِي بِالْحَقِّ وَلَا يَعْدِلُ بِهِ وَهُمْ إِلَى الْآنَ، كَذَلِكَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ النَّصَارَى عَالَمٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَلِيلٌ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.

وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً أَيْ وَقَطَّعْنَا قَوْمَ مُوسَى وَمَعْنَاهُ فَرَّقْنَاهُمْ وَمَيَّزْنَاهُمْ وَفِي ذَلِكَ رُجُوعُ أَمْرِ كُلِّ سِبْطٍ إِلَى رَئِيسِهِ لِيَخِفَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مُوسَى وَلِئَلَّا يَتَحَاسَدُوا فَيَقَعَ الْهَرْجُ وَلِهَذَا فَجَّرَ لَهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِئَلَّا يَتَنَازَعُوا وَيَقْتَتِلُوا عَلَى الْمَاءِ وَلِهَذَا جَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا لِيُرْجَعَ بِأَمْرِهِمْ إِلَيْهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَسْبَاطِ، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَشْرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَعَنْهُمُ الْفَتْحُ أَيْضًا وَأَبُو حَيْوَةَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالْكَسْرِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْجُمْهُورُ بِالْإِسْكَانِ وَهِيَ لُغَةُ الحجاز واثْنَتَيْ عَشْرَةَ حَالٌ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قَطَّعْنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا وَأَنْ يَنْتَصِبَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَطَّعْنَاهُمْ وَلَمْ يَعُدَّ النَّحْوِيُّونَ قَطَّعْنَا فِي بَابِ ظَنَنْتُ وَجَزَمَ بِهِ الْحَوْفِيُّ فَقَالَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مفعول لقطعناهم أَيْ جَعَلْنَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَتَمْيِيزُ

ص: 198

اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً وأَسْباطاً بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأُمَمًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ نَعْتٌ لِأَسْبَاطًا أَوْ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْباطاً تَمْيِيزًا لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَتَمْيِيزُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفْرَدًا وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ أَسْباطاً تَمْيِيزٌ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مُمَيَّزُ مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ مُفْرَدٌ فَمَا وَجْهُ مَجِيئِهِ مَجْمُوعًا وَهَلَّا قِيلَ:

اثْنَتَيْ عَشَرَ سِبْطًا، (قُلْتُ) : لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَحْقِيقًا لِأَنَّ الْمُرَادَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قَبِيلَةً وَكُلُّ قَبِيلَةٍ أَسْبَاطٌ لَا سِبْطٌ فَوَضَعَ أَسْباطاً مَوْضِعَ قَبِيلَةٍ وَنَظِيرُهُ.

بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ، وأُمَماً بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بِمَعْنَى وَقَطَّعْناهُمُ أُمَماً لِأَنَّ كُلَّ أَسْبَاطٍ كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً وَجَمَاعَةً كَثِيفَةَ الْعَدَدِ وَكُلَّ وَاحِدَةٍ تَؤُمُّ خِلَافَ مَا تَؤُمُّهُ الْأُخْرَى لَا تَكَادُ تَأْتَلِفُ انْتَهَى، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ أَسْبَاطٌ خِلَافُ مَا ذَكَرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنَّ الْأَسْبَاطَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي الْعَرَبِ وَقَالُوا: الْأَسْبَاطُ جَمْعُ سِبْطٍ وَهُمْ الْفِرَقُ وَالْأَسْبَاطُ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبَائِلِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَيَكُونُ عَلَى زَعْمِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ «1» مَعْنَاهُ الْقَبِيلَةُ وَقَوْلُهُ وَنَظِيرُهُ:

بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ لَيْسَ نَظِيرَهُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَثْنِيَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَظْ فِي الْجَمْعِ كَوْنَهُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الرِّمَاحِ لَمْ يَصِحَّ تَثْنِيَتُهُ كَذَلِكَ هُنَا لَحَظَ هُنَا الْأَسْبَاطَ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مَعْنَى الْقَبِيلَةِ فَمَيَّزَ بِهِ كَمَا يُمَيِّزُ بِالْمُفْرَدِ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَيَكُونَ أَسْباطاً نَعْتًا لِفِرْقَةٍ ثُمَّ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ وأُمَماً نَعْتٌ لِأَسْبَاطٍ وَأَنَّثَ الْعَدَدَ وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الْأَسْبَاطِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِرْقَةِ أَوِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ يَعْنِي رِجَالًا وَعَشَرَ أَبْطُنٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَبِيلَةِ انْتَهَى وَنَظِيرُ وَصْفِ التَّمْيِيزِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى. قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً

سُودًا كَحَافَّتِهِ الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ

وَلَمْ يَقُلْ سَوْدَاءَ. وَقِيلَ: جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كَمَا تَقُولُ لِزَيْدٍ دَرَاهِمُ وَلِفُلَانٍ دَرَاهِمُ وَلِعُمَرَ دَرَاهِمُ فَهَذِهِ عِشْرُونَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَقَطَّعْناهُمُ فِرَقًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: فِي الْكَلَامِ تَأْخِيرٌ وَتَقْدِيمٌ تقديره

(1) سورة النساء: 4/ 163. [.....]

ص: 199

وَقَطَّعْنَاهُمْ أَسْبَاطًا أُمَمًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَهَذِهِ كُلُّهَا تَقَادِيرُ مُتَكَلِّفَةٌ وَالْأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِ الْقَوْلُ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ.

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. تَقَدَّمَ تفسير ننظير هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الْبَقَرَةِ وَانْبَجَسَتْ: إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فَقِيلَ: كَانَ نظير عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْحَجَرِ فَضَرَبَهُ مُوسَى مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَعْرَقُ أَوَّلًا ثُمَّ يَسِيلُ وَإِنْ كَانَ مرادفا لا نفجرت فَلَا فَرْقَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا الْأُنَاسُ اسْمُ جَمْعٍ غَيْرِ تَكْسِيرٍ نَحْوَ رُخَاءٍ وَثُنَاءٍ وَثُؤَامٍ وَأَخَوَاتٍ لَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ الْكَسْرُ وَالتَّكْسِيرُ وَالضَّمَّةُ بَدَلٌ مِنَ الْكَسْرِ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي نَحْوِ سُكَارَى وَغُيَارَى مِنَ الْفَتْحَةِ انْتَهَى وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ ينطلق بِإِنَاسٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ حَتَّى تَكُونَ الضَّمَّةُ بَدَلًا مِنَ الْكَسْرَةِ بِخِلَافِ سُكَارَى وَغُيَارَى فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ فَعَالَى بِفَتْحِ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِيهِمَا، (وَالثَّانِي) : أَنَّ سُكَارَى وَغُيَارَى وَعُجَالَى وَمَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِهَا لَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ بَدَلًا مِنَ الْفَتْحَةِ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرِ أَصْلٍ كَمَا أَنَّ فُعَالَى جَمْعُ تَكْسِيرِ أَصْلٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَاسُ الضَّمُّ كَمَا يَنْقَاسُ الْفَتْحُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي حَدِّ تكسير الصفات: وقد يكسرون بَعْضَ هَذَا عَلَى فُعَالَى، وَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ سُكَارَى وَعُجَالَى، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي الْأَبْنِيَةِ أَيْضًا: وَيَكُونُ فُعَالَى فِي الِاسْمِ نَحْوَ حُبَارَى وَسُمَانَى وَلُبَادَى وَلَا يَكُونُ وَصْفًا إِلَّا أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الواحد للجمع نحو عُجَالَى وَكُسَالَى وَسُمَانَى فَهَذَانِ نَصَّانِ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ وَإِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ أَصْلًا لم يسغ أن يدعى أَنَّ أَصْلَهُ فُعَالَى وَأَنَّهُ أُبْدِلَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ أَعْنِي فُعَالَى بِضَمِّ الْفَاءِ وَلَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ فَالزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَلَا إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اسْمُ جَمْعٍ فَالضَّمَّةُ فِي فَائِهِ أَصْلٌ لَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ الْفَتْحَةِ بَلْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا. وَقَرَأَ عِيسَى الْهَمْدَانِيُّ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْتُكُمْ مُوَحِّدًا لِلضَّمِيرِ.

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَتَفْسِيرُهَا فِي

ص: 200

الْبَقَرَةِ وَكَأَنَّ هَذِهِ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ تِلْكَ إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا «1» وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا وَهُنَاكَ رَغَداً «2» وَسَقَطَ هُنَا وَهُنَاكَ وَسَنَزِيدُ «3» وَهُنَا سَنَزِيدُ وَهُنَاكَ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «4» وَهُنَا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ وَبَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ فَقَوْلُهُ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ وَهُنَاكَ وَإِذْ قُلْنَا فَهُنَا حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُنَاكَ ادْخُلُوا «5» وَهُنَا اسْكُنُوا السُّكْنَى ضَرُورَةٌ تَتَعَقَّبُ الدُّخُولَ فَأُمِرُوا هُنَاكَ بِمَبْدَأِ الشَّيْءِ وَهُنَا بِمَا تَسَبَّبَ عَنِ الدُّخُولِ وَهُنَاكَ فَكُلُوا «6» بِالْفَاءِ وَهُنَا بِالْوَاوِ فَجَاءَتِ الْوَاوُ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهَا مِنْ كَوْنِ مَا بَعْدَهَا وَقَعَ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا، وَقِيلَ الدُّخُولُ حَالَةٌ مُقْتَضِيَةٌ فَحَسُنَ ذِكْرُ فَاءِ التَّعْقِيبِ بَعْدَهُ وَالسُّكْنَى حَالَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ فَحَسُنَ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مَعَهُ لَا عَقِيبَهُ فَحَسُنَتِ الْوَاوُ الْجَامِعَةُ لِلْأَمْرَيْنِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ وَهُوَ أَحَدُ مَحَامِلِهَا وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ أَوْلَى بِحَامِلِهَا وَأَكْثَرُ. وَقِيلَ ثَبَّتَ رَغَداً بَعْدَ الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهَا حَالَةُ قُدُومٍ فَالْأَكْلُ فِيهَا أَلَذُّ وَأَتَمُّ وَهُمْ إِلَيْهِ أَحْوَجُ بِخِلَافِ السُّكْنَى فَإِنَّهَا حَالَةُ اسْتِقْرَارٍ وَاطْمِئْنَانٍ فَلَيْسَ الْأَكْلُ فِيهَا أَلَذَّ وَلَا هُمْ أَحْوَجَ. وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي وَقُولُوا وَادْخُلُوا، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَاءٌ قَدَّمُوا الْحِطَّةَ عَلَى دُخُولِ الْبَابِ وَأَخَّرُوهَا فَهُمْ جَامِعُونَ فِي الْإِيجَادِ بَيْنَهُمَا انْتَهَى، وَقَوْلُهُ سواء قدّموا وأخّروه تَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ وَإِصْلَاحُهُ سَوَاءٌ أَقَدَّمُوا أَمْ أَخَّرُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «7» وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَاسَبَ تَقْدِيمُ الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْبَابِ سُجَّداً مَعَ تَرْكِيبِ ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ دَالٌّ عَلَى الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ وحِطَّةٌ قَوْلٌ وَالْفِعْلُ أَقْوَى فِي إِظْهَارِ الْخُضُوعِ مِنَ الْقَوْلِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ مَبْدَأِ الشَّيْءِ وَهُوَ الدُّخُولُ وَلِأَنَّ قَبْلَهُ ادْخُلُوا فَنَاسَبَ الْأَمْرَ بِالدُّخُولِ لِلْقَرْيَةِ الْأَمْرُ بِدُخُولِ بَابِهَا عَلَى هَيْئَةِ الْخُضُوعِ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْقَرْيَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِدُخُولِ بَابِهَا فَصَارَ بَابُ الْقَرْيَةِ كَأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقَرْيَةِ أُعِيدَ مَعَهُ الْعَامِلُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى.

وَأَمَّا سَنَزِيدُ هُنَا فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَوْعِدٌ بِشَيْئَيْنِ بِالْغُفْرَانِ وَالزِّيَادَةِ وَطَرْحُ الْوَاوِ لَا يُخِلُّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِ الْقَائِلِ وَمَاذَا بَعْدَ الْغُفْرَانِ فَقِيلَ لَهُ:

سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَزِيَادَةُ مِنْهُمْ بَيَانٌ وَأَرْسَلْنَا وَأَنْزَلْنَا ويَظْلِمُونَ وَيَفْسُقُونَ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حِطَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ حِطَّةُ ذُنُوبِنَا حِطَّةً وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِقُولُوا عَلَى حَذْفٍ التَّقْدِيرُ وَقُولُوا قَوْلًا حِطَّةً أَيْ ذَا حِطَّةٍ فَحَذَفَ ذَا وَصَارَ حِطَّةً وَصْفًا لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقُولُ: قُلْتُ حَسَنًا وَقُلْتُ حَقًّا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وقولا

(1) سورة البقرة: 2/ 58.

(2)

سورة البقرة: 2/ 58.

(3)

سورة البقرة: 2/ 58.

(4)

سورة البقرة: 2/ 58.

(5)

سورة البقرة: 2/ 58.

(6)

سورة البقرة: 2/ 58.

(7)

سورة إبراهيم: 14/ 21.

ص: 201

حَقًّا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ نَغْفِرْ بِالنُّونِ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جَمْعُ سَلَامَةٍ إِلَّا أَنَّ الْحَسَنَ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَغْفِرْ بِالنُّونِ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ عَلَى وَزْنِ قَضَايَاكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو تُغْفَرْ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جَمْعُ سَلَامَةٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تُغْفَرْ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكُمْ خَطِيئَتُكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ مَهْمُوزًا. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ تَغْفِرْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحِطَّةَ تَغْفِرُ إِذْ هِيَ سَبَبُ الْغُفْرَانِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفَبَدَّلَ غَيَّرَ اللَّفْظَ دُونَ أَنْ يَذْهَبَ بِجَمِيعِهِ وَأَبْدَلَ إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ انْتَهَى، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقِرَاءَاتِ بَدَّلَ وَأَبْدَلَ بمعنى واحد قرىء: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً «1» وعَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً «2» عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها «3» بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ إِذْهَابُ الشَّيْءِ وَالْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ ثُمَّ التَّشْدِيدُ قَدْ جَاءَ حَيْثُ يَذْهَبُ الشَّيْءُ كُلُّهُ قَالَ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «4» وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «5» ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ «6» وَعَلَى هَذَا كلام العرب نثرها ونظمها.

وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.

الضَّمِيرُ فِي وَسْئَلْهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَهُودِ

وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ الْمُعَارِضِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِصْيَانٌ وَلَا مُعَانَدَةٌ لِمَا أُمِرُوا بِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

مُوَبِّخَةً لَهُمْ وَمُقَرِّرَةً كَذِبَهُمْ وَمُعَلِّمَةً مَا جَرَى عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ وَالْمَسْخِ وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَكْتُمُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ وَحْيٍ فَإِذَا أَعْلَمَهُمْ بِهَا مَنْ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابَهُمْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْقَرْيَةِ فِيهِ حَذْفٌ أَيْ عَنْ أهل لقرية والْقَرْيَةِ إِيلَةُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ، أَوْ مَدْيَنُ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ سَاحِلُ مَدْيَنَ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَقَالَ هِيَ مَقْنَى بِالْقَافِ سَاكِنَةً، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَقْنَاةُ سَاحِلِ مَدْيَنَ، وَيُقَالُ: لَهَا مَعَنَّى بِالْعَيْنِ مَفْتُوحَةً وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ أَوْ طَبَرِيَّةُ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ أَوْ أَرِيحَا أَوْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أَوْ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ لَمْ تُسَمَّ بِعَيْنِهَا وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: ومعنى حَاضِرَةَ الْبَحْرِ بِقُرْبِ الْبَحْرِ مَبْنِيَّةً بِشَاطِئِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يريد معنى الحاضرة

(1) سورة الكهف: 18/ 81.

(2)

سورة التحريم: 6/ 5.

(3)

سورة القلم: 68/ 32.

(4)

سورة الفرقان: 25/ 70.

(5)

سورة سبأ: 34/ 16.

(6)

سورة الأعراف: 7/ 95.

ص: 202

عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لَهَا أَيْ هِيَ الْحَاضِرَةُ فِي قُرَى الْبَحْرِ فَالتَّقْدِيرُ حاضِرَةَ قُرَى الْبَحْرِ أَيْ يَحْضُرُ أَهْلُ قُرَى الْبَحْرِ إِلَيْهَا لِبَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أَيْ يُجَاوِزُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِي الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى النَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاشْتِغَالِ بِصَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ كان عصيانهم، وقرىء يَعْدُونَ مِنَ الْإِعْدَادِ وَكَانُوا يُعِدُّونَ آلَاتِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ لَا يَشْتَغِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ وَقَرَأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَأَبُو نَهِيكٍ يَعْدُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَصْلُهُ يَعْتَدُونَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ «1» إِذْ ظَرْفٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ:

إِذْ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَلْهُمْ انْتَهَى، وَلَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى وَسَلْهُمْ مُسْتَقْبَلٌ وَلَوْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقْبَلًا لَمْ يَصِحِّ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْعَادِينَ وَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَفْقُودُونَ فَلَا يُمْكِنُ سُؤَالُهُمْ وَالْمَسْئُولُ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْعَادِينَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ يَعْدُونَ بدل عَنِ الْقَرْيَةِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَلْهُمْ عَنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَقْتَ عُدْوَانِهِمْ فِي السَّبْتِ وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إِذْ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا حَرْفُ جَرٍّ وَجَعْلُهَا بَدَلًا يَجُوزُ دُخُولُ عَنْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ وَلَوْ أُدْخِلَتْ عَنْ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا تُصُرِّفَ فِيهَا بِأَنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا بَعْضُ الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّةِ نَحْوُ يَوْمَ إِذْ كَانَ كَذَا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً بِاذْكُرْ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ عَجَزَ عَنْ تَأْوِيلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ إِبْقَائِهَا ظَرْفًا، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ عَنِ الْقَرْيَةِ: أَيْ عَنْ خَبَرِ الْقَرْيَةِ وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ النَّاصِبُ لِلظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذْ يَعْدُونَ وَقِيلَ هُوَ ظَرْفٌ لِلْحَاضِرَةِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ خُرِّبَتِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي السَّبْتِ ويَوْمَ سَبْتِهِمْ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمُ وَمَعْنَى اعْتَدَوْا فِيهِ أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ وَخِلَافِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا بِتَرْكِ الصَّيْدِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّعَبُّدِ فَمَعْنَاهُ يَعْدُونَ فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْيَوْمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ سَبْتِهُمْ يَوْمَ تَعْظِيمِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ وإِذْ تَأْتِيهِمْ الْعَامِلُ فِي إِذْ يَعْدُونَ أَيْ إِذْ عَدَوْا فِي السَّبْتِ إِذْ أَتَتْهُمْ لِأَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى يَصْرِفُ الْمُضَارِعَ لِلْمُضِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا بَعْدَ بَدَلٍ انْتَهَى، يَعْنِي بَدَلًا مِنَ الْقَرْيَةِ بَعْدَ بَدَلِ إِذْ يَعْدُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَضَافَ السَّبْتِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بأحكام فيه.

(1) سورة النساء: 4/ 154. [.....]

ص: 203

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: حِيتانُهُمْ يَوْمَ أَسْبَاتِهِمْ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز: وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَسْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي السَّبْتِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَعَاصِمٌ بِخِلَافٍ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ كَسْرَةِ الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ،

وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ بِخِلَافٍ لا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ

مِنْ أَسْبَتَ دَخَلَ فِي السَّبْتِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَنِ الْحَسَنِ لَا يَسْبِتُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ لَا يُدَارُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يُسْبِتُوا وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ قَوْلُهُ لَا تَأْتِيهِمْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَا لِلنَّفْيِ يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَا جَوَابَ قَسَمٍ فَيَمْتَنِعُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَلِكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَلَاءِ بِأَمْرِ الْحُوتِ نَبْلُوهُمْ أَيْ بَلَوْنَاهُمْ وَامْتَحَنَّاهُمْ، وَقِيلَ كَذلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ أَيْ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ أَيْ لَا تَأْتِيهِمْ إِتْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ الْإِتْيَانِ وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ شُرَّعًا ظَاهِرَةً كَثِيرَةً بَلْ يَأْتِي مَا أَتَى مِنْهَا وَهُوَ قَلِيلٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي كَذَلِكَ يَنْتَفِي إِتْيَانُ الْحُوتِ مُطْلَقًا، كَمَا روي في القصص أنه كَانَ يَغِيبُ بِجُمْلَتِهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَانَ يَغِيبُ أَكْثَرُهُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِي يُتْعِبُ بِصَيْدِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ:

وَهَذَا الْإِتْيَانُ مِنَ الْحُوتِ قَدْ يَكُونُ بِإِرْسَالٍ مِنَ اللَّهِ كَإِرْسَالِ السَّحَابِ أَوْ بِوَحْيِ إِلْهَامٍ كَمَا أَوْحَى إِلَى النَّحْلِ أَوْ بِإِشْعَارٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى نَحْوِ مَا يُشْعِرُ اللَّهُ الدَّوَابَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَمْرِ السَّاعَةِ حَسْبَمَا جَاءَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَرَقًا مِنَ السَّاعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُوتِ شُعُورًا بِالسَّلَامَةِ وَمَعْنَى شُرَّعاً مُقْبِلَةً إِلَيْهِمْ مُصْطَفَّةً، كَمَا تَقُولُ أَشْرَعْتُ الرُّمْحَ نَحْوَهُ أَيْ أَقْبَلْتُ بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُرَّعاً ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: تُشْرَعُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ كَأَنَّهَا الْكِبَاشُ السِّمَنُ يُقَالُ: شَرَعَ عَلَيْنَا فلان إذا دنا منه وَأَشْرَفَ عَلَيْنَا وَشَرَعْتُ عَلَى فُلَانٍ فِي بَيْتِهِ فَرَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا، وَقَالَ رُوَاةُ الْقَصَصِ:

يَقْرَبُ حَتَّى يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِالْيَدِ فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَتَطَرَّقُوا إِلَى الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ حَفَرُوا حُفَرًا يَخْرُجُ إِلَيْهَا مَاءُ الْبَحْرِ عَلَى أُخْدُودٍ فَإِذَا جَاءَ الْحُوتُ يَوْمَ السَّبْتِ وَحَصَلَ فِي الْحُفْرَةِ أَلْقَوْا فِي الْأُخْدُودِ حَجَرًا فَمَنَعُوهُ الْخُرُوجَ إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا كَانَ الْأَحَدُ أَخَذُوهُ فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ التَّطْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ رُومَانَ: كَانُوا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ مَضْرُوبٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَهُ فِي الْأَحَدِ ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ يَصْنَعُ هَذَا لَا يُبْتَلَى حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ وَقَالُوا ذَهَبَتْ حرمة السبت.

ص: 204

عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَرَأَ جُرَيَّةُ بْنُ عَائِدٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ بَأَسَ عَلَى وَزْنِ ضَرَبَ فِعْلًا مَاضِيًا وَعَنِ الْأَعْمَشِ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ بَأْسَ أَصْلُهُ بَأَسَ فَسَكَّنَ الْهَمْزَةَ جَعَلَهُ فِعْلًا لَا يَتَصَرَّفُ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَيَسَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ وَالسِّينِ وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ بِئِسَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالْهَمْزِ هَمْزًا خَفِيفًا وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلِ الْهَمْزَةُ مَكْسُورَةٌ أَوْ سَاكِنَةٌ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَاسَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْأَلِفِ. وَقَرَأَ خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَطَلْحَةَ بَيْسٍ عَلَى وَزْنِ كَيْلٍ لَفْظًا وَكَانَ أَصْلُهُ فَيْعَلَ مَهْمُوزًا إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً وَأَدْغَمَ ثُمَّ حَذَفَ كَمَيِّتٍ، وَقَرَأَ نَصْرٌ فِي رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْهُ بَأَسٍ عَلَى وَزْنِ جَبَلٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مُصَرِّفٍ بَئَّسَ عَلَى وَزْنِ كَبَّدَ وَحَذَّرَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الرُّقَيَاتُ:

لَيْتَنِي أَلْقَى رُقَيَّةَ فِي

خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئَّسْ

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَالْأَعْمَشُ بَيْأَسٍ عَلَى وَزْنٍ ضَيْغَمٍ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ:

كِلَاهُمَا كَانَ رَئِيسًا بَيْأَسَا

يَضْرِبُ فِي يَوْمِ الْهِيَاجِ الْقَوْنَسَا

وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ بَيْئِسٍ عَلَى وَزْنِ صَيْقِلٍ اسْمُ امْرَأَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِكَسْرِ الْقَافِ وَهُمَا شَاذَّانِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُعْتَلِّ كَسَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ بَيْسٍ عَلَى وَزْنِ مَيْتٍ وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْبُؤْسِ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الْهَمْزِ وَخُرِّجَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا بِئْسَ بِقَلْبِ الْيَاءِ هَمْزَةً وَإِدْغَامِهَا فِي الْهَمْزَةِ وَرُوِيَتْ هَذِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بَأَّسَ بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ وَالْهَمْزَةِ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَنَافِعٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةٍ وَأَهْلُ الْحِجَازِ بَئِيسٍ عَلَى وَزْنِ رَئِيسٍ وَخُرِّجَ عَلَى

أَنَّهُ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ بَائِسٍ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ

أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ كَالنَّكِيرِ وَالْقَدِيرِ، وَقَالَ أَبُو الْإِصْبَعِ الْعُدْوَانِيُّ:

حَنَقَا عَلَيَّ وَلَا أَرَى

لِي مِنْهُمَا شَرًّا بَئِيسَا

وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْبَاءَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ فِي فَعِيلٍ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ يَكْسِرُونَ أَوَّلَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ اسْمًا أَمْ صِفَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ فِيمَا زَعَمَ عِصْمَةُ بَئِيسٍ عَلَى وَزْنِ طَرِيمٍ وَحَزِيمٍ فَهَذِهِ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ قِرَاءَةً وَضَبْطُهَا بِالتَّلْخِيصِ أَنَّهَا قُرِئَتْ ثُلَاثِيَّةَ اللَّفْظِ وَرُبَاعِيَّتَهُ فَالثُّلَاثِيُّ اسْمًا بِئْسٍ وَبَيْسٍ وَبِيسٍ وَبَأْسٍ وَبَأَسٍ وَبَيَسٍ وَفِعْلًا بِيسَ وَبِئْسَ وَبَئِسَ وَبَأَسَ.

ص: 205

وَبَأْسَ وَبُئِسَ وَالرُّبَاعِيَّةُ اسْمًا بَيْأَسٍ وَبِيئِسٍ وَبَيْئِسٍ وَبَيْسٍ وبييس وَبَيِيسٍ وَبَئِيسٍ وَبَائِسٍ وَفِعْلًا باءس.

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. أَيِ اسْتَعْصَوْا وَالْعُتُوُّ الِاسْتِعْصَاءُ وَالتَّأَبِّي فِي الشَّيْءِ وَبَاقِي الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَذَابَ وَالْمَسْخَ وَالْهَلَاكَ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ وَالْأُمَّةُ الْقَائِلَةُ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً هُمْ مِنْ فَرِيقِ النَّاهِينَ النَّاجِينَ وَإِنَّمَا سَأَلُوا إِخْوَانَهُمْ عَنْ عِلَّةِ وَعْظِهِمْ وَهُوَ لَا يُجْدِي فِيهِمْ شَيْئًا الْبَتَّةَ إذ الله ملهكهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ فَيَصِيرُ الْوَعْظُ إذ ذاك كالعبث كَوَعْظِ الْمِكَاسَيْنِ فَإِنَّهُمْ يَسْخَرُونَ بِمَنْ يَعِظُهُمْ وَكَثِيرٌ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَنْكِيلِ الْوَاعِظِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأُمَّةَ الْقَائِلَةَ لِمَ تَعِظُونَ هُمُ الْعُصَاةُ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَيْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ تَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْمَمْسُوخِينَ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا عَتَوْا أَنَّهُمْ أَوَّلًا أُخِذُوا بِالْعَذَابِ حِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ثُمَّ لَمَّا عَتَوْا مُسِخُوا، وَقِيلَ: فَلَمَّا عَتَوْا تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَسُوا وَالْعَذَابُ الْبَئِيسُ هُوَ الْمَسْخُ.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قُبْحَ فِعَالِهِمْ وَاسْتِعْصَاءَهُمْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَأَذَّنَ أَعْلَمَ مِنَ الْأَذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَأَذَّنَ حَتَمَ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: وَعَدَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَخْبَرَ وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى أَعْلَمَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَ وَعَنْهُ قَالَ: وَقِيلَ أَقْسَمَ وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَأَذَّنَ عَزَمَ رَبُّكَ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ لِأَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الْأَمْرِ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَيُؤْذِنُهَا بِفِعْلِهِ وَأُجْرِيَ مَجْرَى فِعْلِ الْقَسَمِ كَعَلِمَ اللَّهُ وَشَهِدَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ وَهُوَ قوله لَيَبْعَثَنَّ والمعنى وإذا حَتَّمَ رَبُّكَ وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

بِنْيَةُ تَأَذَّنَ هِيَ الَّتِي تَقْتَضِي التَّكَسُّبَ مِنْ أَذِنَ أَيْ عَلِمَ وَمَكَنَ فَإِذَا كَانَ مُسْنَدًا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لَحِقَهُ مَعْنَى التَّكَسُّبِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُحْدَثِينَ وَإِلَى اللَّهِ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمِ صِفَةً لَا مُكْتَسَبَةً بَلْ قائمة بالذات فالمعنى وإذا عَلِمَ اللَّهُ لَيَبْعَثَنَّ وَيَقْتَضِي قُوَّةَ الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مِنْهُ مُقْتَرِنٌ بِإِنْفَاذٍ وَإِمْضَاءٍ كَمَا تَقُولُ فِي أَمْرٍ قَدْ عَزَمْتَ عَلَيْهِ غاية العزم على اللَّهُ لَأَبْعَثَنَّ كَذَا نَحَا إِلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ تَأَذَّنَ مَعْنَاهُ أَعْلَمَ وَهُوَ قَلَقٌ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ إِذْ نِسْبَةُ تَأَذَّنَ إِلَى الْفَاعِلِ غَيْرُ نِسْبَةِ أَعْلَمَ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَرْقٌ مِنَ التَّعَدِّي وَغَيْرِهِ انْتَهَى وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ.

ص: 206