الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاعلا بثبت الْمَحْذُوفَةَ، وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ اسْمِيَّةٌ ولَهُمْ صِلَتُهَا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا مُسْتَكِنٌّ فِي الْمَجْرُورِ وَالتَّقْدِيرُ كَالَّذِي لَهُمْ وَآلِهَةٌ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ.
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تَعَجَّبَ مُوسَى عليه السلام مِنَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَثَرِ مَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَوَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ الْمُطْلَقِ وَأَكَّدَهُ بِإِنَّ لِأَنَّهُ لَا جَهْلَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَلَا أَشْنَعُ وَأَتَى بِلَفْظِ تَجْهَلُونَ وَلَمْ يَقُلْ جَهِلْتُمْ إِشْعَارًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَالطَّبْعِ وَالْغَرِيزَةِ لَا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ فِي مَاضٍ وَلَا مُسْتَقْبَلٍ.
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْعَاكِفِينَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَعْنَى مُتَبَّرٌ مُهْلَكٌ مُدَمَّرٌ مُكَسَّرٌ وَأَصْلُهُ الْكَسْرُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُبْطَلٌ، وَقَالَ أَبُو الْيَسَعِ: مُضَلَّلٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: مدمر رديء سيىء الْعَاقِبَةِ وَمَا هُمْ فِيهِ يَعُمُّ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ وَبَطَلُ عَمَلِهِمْ هُوَ اضْمِحْلَالُهُ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَفِي إِيقَاعِ هؤُلاءِ اسما لأن وَتَقْدِيمِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لَهَا وَاسْمٌ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَرَّضُونَ لِلتَّبَارِ وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمُ الْبَتَّةَ وَأَنَّهُ لَهُمْ ضَرْبَةُ لَازِمٍ لِيُحَذِّرَهُمْ عَاقِبَةَ مَا طَلَبُوا وَيُبَغِّضَ لَهُمْ فِيمَا أَحَبُّوا انْتَهَى وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ جَزَمَ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ لِأَنَّ الْأَحْسَنَ فِي إِعْرَابِ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ مُتَبَّرٌ وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَكَذَلِكَ مَا كانُوا هُوَ فَاعِلٌ بِقَوْلِهِ وَباطِلٌ فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ اسْمِ إِنَّ بِمُفْرَدٍ لَا جُمْلَةٍ وَهُوَ نَظِيرُ إِنَّ زَيْدًا مَضْرُوبٌ غُلَامُهُ فَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ غُلَامُهُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَمَضْرُوبٌ خَبَرُ إِنَّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ كون مُبْتَدَأً وَمَضْرُوبٌ خَبَرُهُ جَائِزٌ مرجوح.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
(1) سورة الفرقان: 25/ 23.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ مَا أَحْسَنَ مَا خَاطَبَهُمْ مُوسَى عليه السلام بَدَأَهُمْ أَوَّلًا بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْجَهْلِ ثُمَّ ثَانِيًا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ بَلْ مَآلُ أَمْرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَبُطْلَانِ الْعَمَلِ وَثَالِثًا أَنْكَرَ وَتَعَجَّبَ أَنْ يَقَعَ هُوَ عليه السلام فِي أَنْ يَبْغِيَ لَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهًا أَيْ أَغَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَطْلُبُ لَكُمْ مَعْبُودًا وَهُوَ الَّذِي شَرَّفَكُمْ وَاخْتَصَّكُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا مَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ لَا غَيْرُهُ فَكَيْفَ أَبْغِي لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَهُ وَمَعْنَى عَلَى الْعالَمِينَ عَلَى عَالَمَيْ زَمَانِهِمْ أَوْ بِكَثْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَبِمَا خَصَّهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَانْتَصَبَ غَيْرَ مَفْعُولًا بِأَبْغِيكُمْ أَيْ أَبْغِي لَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ، وإِلهاً تَمْيِيزٌ عَنْ غَيْرَ أَوْ حَالٌ أَوْ عَلَى الْحَالِ وإِلهاً الْمَفْعُولُ وَالتَّقْدِيرُ أَبْغِي لَكُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ فَكَانَ غَيْرَ صِفَةً فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ حَالًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وغَيْرَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لِأَنَّ أَبْغِي مُفَرِّغٌ لَهُ أَوْ لِقَوْلِهِ إِلهاً فَإِنَّ تخيّل أنه منصوب بأبغي مُضْمَرَةً يُفَسِّرُهَا هَذَا الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُفَسِّرَةَ لَا رَابِطَ فِيهَا لَا مِنْ ضَمِيرٍ وَلَا مِنْ مُلَابِسٍ يَرْبُطُهَا بِغَيْرٍ فَلَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمُوهُ لَصَحَّ وَيَحْتَمِلُ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ أَنْ يَكُونَ حالا وإن كون مُسْتَأْنَفًا.
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَقَرَأَ الجمهور أَنْجَيْناكُمْ وفرقة ونجّيناكم مُشَدَّدًا وَابْنُ عَامِرٍ أَنْجَاكُمْ فَعَلَى أَنْجَاكُمْ يَكُونُ جَارِيًا عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ فَضَّلَكُمْ خَاطَبَ بِهَا مُوسَى قَوْمَهُ وَفِي قِرَاءَةِ النُّونِ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَقْرِيعًا لَهُمْ بِمَا فَعَلَ أَوَائِلُهُمْ وبما جاؤوا بِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ يُقَتِّلُونَ مِنْ قَتَلَ وَالْجُمْهُورُ مِنْ قَتَّلَ مُشَدَّدًا.
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ بِمِصْرَ إِنْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُمْ أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ فَلَمَّا هَلَكَ فِرْعَوْنُ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ تَعَالَى الْكِتَابَ فَأَمَرَهُ بِصَوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمَّا أَتَمَّ الثَّلَاثِينَ أَنْكَرَ خُلُوفَ فِيهِ فَتَسَوَّكَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ كُنَّا نَشُمُّ مِنْ فِيكَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَأَفْسَدْتَهُ بِالسِّوَاكِ، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِذَلِكَ، وَقِيلَ أَمَرَهَ اللَّهُ بِأَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَأَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا يُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ فِي الْعَشْرِ وَكُلِّمَ فِيهَا وَأُجْمِلَ ذِكْرُ الْأَرْبَعِينَ فِي الْبَقَرَةِ وَفُصِّلَ هُنَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنْ رَبِّنَا كَمَا وَعَدْتَنَا وَزَعَمْتَ أَنَّكَ تَأْتِينَا بِهِ إِلَى شَهْرٍ فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ فَلَمَّا تَجَهَّزُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّكَ لَنْ تَأْتِيَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَلِكَ حِينَ أُتِمَّتْ بِعَشْرٍ فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِالسَّبْعِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ أَسْفَلَ الْجَبَلِ وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ وَكَلَّمَهُ اللَّهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَكَتَبَ لَهُ الْأَلْوَاحَ ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدُّوا عِشْرِينَ لَيْلَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَقَالُوا قَدْ أَخْلَفَنَا مُوسَى الْوَعْدَ وَجَعَلَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ الْعِجْلَ فَعَبَدُوهُ، وَقِيلَ زِيدَتِ الْعَشْرُ بَعْدَ الشَّهْرِ لِلْمُنَاجَاةِ، وَقِيلَ: الْتَفَتَ فِي طَرِيقِهِ فَزِيدَهَا، وَقِيلَ: زِيدَتْ عُقُوبَةً لِقَوْمِهِ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: أُعْلِمَ مُوسَى بِمَغِيبِهِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا زَادَهُ الْعَشْرَ فِي مَغِيبِهِ لَمْ يُعْلَمُوا بِذَلِكَ وَوَجَسَتْ نُفُوسُهُمْ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ فَقَالَ السَّامِرِيُّ هَلَكَ مُوسَى وَلَيْسَ بِرَاجِعٍ وَأَضَلَّهُمْ بِالْعِجْلِ فَاتَّبَعُوهُ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ
وَفَائِدَةُ التَّفْصِيلِ قَالُوا: إِنَّ الثَّلَاثِينَ لِلتَّهَيُّؤِ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْعَشْرَ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَتَكْلِيمِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
بَادَرَ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ قَبْلَ قَوْمِهِ لِقَوْلِهِ وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى «1» الْآيَةَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَتَى الطُّورَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ فَلَمَّا أُعْلِمَ بِخَبَرِ قَوْمِهِ مَعَ السَّامِرِيِّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْوَعْدِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ فِي عَشْرٍ أُخَرَ، قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَعْدَانِ أَوَّلٌ حَضَرَهُ مُوسَى وَثَانٍ حَضَرَهُ الْمُخْتَارُونَ لِيَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ الْوَعْدُ لِاخْتِلَافِ الْحَاضِرِينَ وَالثَّلَاثُونَ هِيَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ وَالْعَشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ وَوَعَدْنَا وَقَالُوا انْتَصَبَ ثَلاثِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ إِتْيَانَ ثَلَاثِينَ أَوْ تَمَامَ ثَلَاثِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وثَلاثِينَ نُصِبَ عَلَى تَقْدِيرِ أَجَّلْنَاهُ أَوْ مُنَاجَاةِ ثَلَاثِينَ وَلَيْسَتْ مُنْتَصِبَةً عَلَى الظَّرْفِ وَالْهَاءُ فِي وَأَتْمَمْناها عَائِدَةٌ عَلَى الْمُوَاعَدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ واعَدْنا، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ الْهَاءُ والألف نصب بِأَتْمَمْنَاهَا وَهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَى ثَلاثِينَ وَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الثَّلَاثِينَ لَمْ تَكُنْ نَاقِصَةً فَتُمِّمَتْ بِعَشْرٍ وَحُذِفَ مُمَيِّزُ عَشْرٍ أَيْ عَشْرِ لَيَالٍ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَتَمَّمْنَاهَا مُشَدَّدًا وَالْمِيقَاتُ مَا وُقِّتَ لَهُ مِنَ الْوَقْتِ وَضَرْبِهِ لَهُ وَجَاءَ بِلَفْظِ رَبِّهِ وَلَمْ يَأْتِ عَلَى واعَدْنا فكان يكون للتركيب فَتَمَّ مِيقَاتُنَا لِأَنَّ لَفْظَ رَبِّهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ مُصْلِحُهُ وَنَاظِرٌ فِي أَمْرِهِ وَمَالِكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، قِيلَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَالْوَقْتِ أَنَّ الْمِيقَاتَ مَا قُدِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْوَقْتُ وَقْتُ الشَّيْءِ وَانْتَصَبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْحَالِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، الْحَالُ فِيهِ فَقَالَ أتى بتم بالغا هذا
(1) سورة طه: 20/ 83. [.....]
الْعَدَدَ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْحَالُ أَرْبَعِينَ بَلِ الحال هذا المحذوف فينا في قَوْلَهُ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعِينَ ظرفا من حيث هي عدد أزمنة، وقيل أَرْبَعِينَ مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَأْكِيدٌ وإيضاح، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات.
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وقرىء شَاذًّا هارُونَ بِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا هَارُونُ أَمَرَهُ حِينَ أَرَادَ الْمُضِيَّ لِلْمُنَاجَاةِ وَالْمَغِيبِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ خَلِيفَتَهُ فِي قَوْمِهِ وَأَنْ يُصْلِحَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْلِحَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ وَنَهَاهُ أَنْ يَتَّبِعَ سَبِيلَ مَنْ أَفْسَدَ وَفِي النَّهْيِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْمُفْسِدِينَ وَلِذَلِكَ نَهَاهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ وَأَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالصَّلَاحِ وَنَهْيُهُ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لَا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِصْلَاحِ وَاتِّبَاعُ تِلْكَ السَّبِيلِ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَمَعْنَى اخْلُفْنِي اسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ وَذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ إِذْ رَاحَ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّكَ تَكُونُ خَلِيفَتِي بَعْدَ مَوْتِي أَلَا تَرَى أَنَّ هَارُونَ عليه السلام مَاتَ قَبْلَ مُوسَى عليهما السلام، وَلَيْسَ فِي
قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ «أَنْتَ مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ مُوسَى»
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ هَارُونُ خَلِيفَةً بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى وَإِنَّمَا اسْتَخْلَفَ الرَّسُولُ عَلِيًّا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ إِذْ سَافَرَ الرَّسُولَ عليه السلام فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ كَمَا اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ خَلِيفَةً بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أَيْ لِلْوَقْتِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُ أَيْ لِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقُولُ أَتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ وَمَعْنَى اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ خُصَّ بِالتَّكْلِيمِ إِذْ جَاءَ لِلْمِيقَاتِ، وَقَالَ الْقَاضِي: سَمِعَ هُوَ وَالسَّبْعُونَ كَلَامَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خُلِقَ لَهُ إِدْرَاكًا سَمِعَ بِهِ الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتٍ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَدْنَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا يُكَلِّمُ الْمَلَكَ وَتَكْلِيمُهُ أَنْ يَخْلُقَ الْكَلَامَ مَنْطُوقًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ كَمَا خَلَقَهُ مَحْفُوظًا فِي اللَّوْحِ
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ فِي كُلِّ جِهَةٍ
،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلِمَةُ أربعين لَيْلَةً وَكَتَبَ لَهُ الْأَلْوَاحَ
،
وَقِيلَ: إِنَّمَا
كَلَّمَهُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ
انْتَهَى،
وَقَالَ وَهْبٌ كَلَّمَهُ فِي أَلْفِ مَقَامٍ وَعَلَى أَثَرِ كُلِّ مَقَامٍ يُرَى نُورٌ عَلَى وَجْهِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَقْرَبِ النِّسَاءَ مُذْ كَلَّمَهُ اللَّهُ
وَقَدْ أَوْرَدُوا هُنَا الْخِلَافَ الَّذِي فِي كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ وَدَلَائِلُ الْمُخْتَلِفِينَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَكَلَّمَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جاءَ، وَقِيلَ حَالَ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ وَكَلَّمْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي عَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وفَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: لَمَّا كَلَّمَهُ وَخَصَّهُ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ طَمَحَتْ هِمَّتُهُ إِلَى رُتْبَةِ الرُّؤْيَةِ وَتَشَوَّفَ إِلَى ذَلِكَ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: شَوَّقَهُ الْكَلَامُ فَعِيلَ صَبْرُهُ فَحَمَلَهُ عَلَى سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: لَمْ يَعْهَدْ إِلَيْهِ فِي الرُّؤْيَةِ فَظَنَّ أَنَّ السُّؤَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ جَائِزٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَارَ الشَّيْطَانُ فِي الْأَرْضِ فَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ إِنَّمَا يُكَلِّمُكَ شَيْطَانٌ فَسَأَلَ الرُّؤْيَةَ وَلَوْ لَمْ تَجُزِ الرُّؤْيَةُ مَا سَأَلَهَا؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَرُؤْيَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ جَائِزَةٌ عَقْلًا لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَقَرَّرَتِ الشَّرِيعَةُ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِظَوَاهِرِ الشَّرْعِ فَمُوسَى عليه السلام لَمْ يَسْأَلْ مُحَالًا وَإِنَّمَا سَأَلَ جَائِزًا وَقَوْلُهُ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ «1» الْآيَةَ لَيْسَ بِجَوَابِ مَنْ سَأَلَ مُحَالًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «2» فَلَوْ سَأَلَ مُوسَى مُحَالًا لَكَانَ فِي الْجَوَابِ زَجْرٌ مَا وَتَيْئِيسٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ لَنْ تَقْدِرَ أَنْ تَرَانِي، وَقِيلَ لَنْ تَرَانِي بِسُؤَالِكَ، وَقِيلَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ سَتَرَانِي حِينَ أَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ طَلَبَ مُوسَى عليه السلام ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَبِتَعَالِيهِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ إِدْرَاكٌ بِبَعْضِ الْحَوَاسِّ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ فِي جِهَةٍ وَمَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ ومنع المجيرة إِحَالَتُهُ فِي الْعُقُولِ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوَّلِ مُكَابَرَتِهِمْ وَارْتِكَابِهِمْ وَكَيْفَ يَكُونُ طَالِبَهُ وَقَدْ قَالَ حِينَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الَّذِينَ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «3» أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِلَى قَوْلِهِ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ «4» فَتَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَدَعَاهُمْ سُفَهَاءَ وَضُلَّالًا، (قُلْتُ) : مَا كَانَ طَلَبُهُ الرُّؤْيَةَ إِلَّا لِيُسْكِتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ سُفَهَاءَ وَضُلَّالًا وَتَبَرَّأَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلِيُلْقِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وأعلمهم الخطأ
(1) سورة الأعراف: 7/ 143.
(2)
سورة هود: 11/ 46.
(3)
سورة النساء: 4/ 153.
(4)
سورة الأعراف: 7/ 173.
وَنَبَّهَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَلَجُّوا وَتَمَادَوْا فِي لَجَاجِهِمْ وَقَالُوا لَا بُدَّ وَلَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوا النَّصَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ لَنْ تَرَانِي لِيَتَيَقَّنُوا وَيَنْزَاحَ عَنْهُمْ مَا كَانَ دَاخِلَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ (قُلْتُ) : لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى وَهُمْ يَسْمَعُونَ فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ رَبِّ الْعِزَّةِ أَرَادُوا أَنْ يَرَى مُوسَى ذَاتَهُ فَيُبْصِرُوهُ مَعَهُ كَمَا أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ فَسَمِعُوهُ مَعَهُ إِرَادَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ فَلِذَلِكَ قَالَ مُوسَى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَلِأَنَّهُ إِذَا زُجِرَ عَمَّا طَلَبَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ وَزُلْفَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالْإِنْكَارِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ إِمَامُ أُمَّتِهِ فَكَانَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ أَوْ يُخَاطِبُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَرْجَمَةٌ عَلَى مُقْتَرَحِهِمْ وَحِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ وَجَلَّ صَاحِبُ الْجُمَلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مُقَابَلًا بِحَاسَّةِ النَّظَرِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَعْرَقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِنْ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَالنَّظَّامِ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالشَّيْخَيْنِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَانِي مَفْعُولَيْ أَرِنِي مَحْذُوفٌ أَيْ أَرِنِي نَفْسَكَ اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنْ رُؤْيَتِكَ بِأَنْ تَتَجَلَّى لِي فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ انْتَهَى.
قالَ لَنْ تَرانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا وَلَنْ تَنْفِيَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَوْ بَقِينَا عَلَى هَذَا النَّفْيِ بِمُجَرَّدِهِ لَتَضَمَّنَ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ وَرَدَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ
أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمُوسَى عليه السلام أَحْرَى بِرُؤْيَتِهِ
، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:(فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى لَنْ، (قُلْتُ) : تَأْكِيدُ النَّفْيِ الَّذِي تُعْطِيهِ لَا وَذَلِكَ أَنَّ لَا تَنْفِي الْمُسْتَقْبَلَ تَقُولُ لَا أَفْعَلُ غَدًا فَإِذَا أَكَّدْتَ نَفْيَهَا قُلْتَ لَنْ أَفْعَلَ غَدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي حَالِي كَقَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «1» وَقَوْلُهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» نَفْيٌ لِلرُّؤْيَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَنْ تَرَانِي تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ لِقَوْلِهِ أَنْظُرْ إِلَيْكَ، (قُلْتُ) : لَمَّا قَالَ أَرِنِي بِمَعْنَى اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنَ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ الْإِدْرَاكُ عَلِمَ أَنَّ الطَّلِبَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ لَا النَّظَرُ الَّذِي لَا إِدْرَاكَ مَعَهُ فَقِيلَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ.
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكِنْ سَأَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْكَ وَأَشَدُّ فَإِنِ اسْتَقَرَّ وَأَطَاقَ الصَّبْرَ لِهَيْبَتِي فَسَيُمْكِنُكَ أَنْتَ رُؤْيَتِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْجَبَلَ مِثَالًا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا الْمَعْنَى
(1) سورة الحج: 22/ 73.
(2)
سورة الأنعام: 6/ 103.
سأبتدىء لَكَ عَلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ لِعَظَمَتِي فَسَوْفَ تَرَانِي انْتَهَى، وَتَعْلِيقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِقْرَارِ مُؤْذِنٌ بِعَدَمِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَالْآدَمِيُّ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَسْتَقِرَّ وَهَذَا تَسْكِينٌ لِقَلْبِ مُوسَى وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِ أَعْبَاءِ الْمَنْعِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اتَّصَلَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بِمَا قَبْلَهُ، (قُلْتُ) : تَصِلُ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَيَّ مُحَالٌ فَلَا تَطْلُبْهُ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِنَظَرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَرْجُفُ بِكَ وَبِمَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لِأَجْلِهِمْ كَيْفَ أَفْعَلُ بِهِ وَكَيْفَ أَجْعَلُهُ دَكًّا بِسَبَبِ طَلَبِكَ لِلرُّؤْيَةِ لتستعظم ما أقدمت عيه بِمَا أُرِيكَ مِنْ عَظِيمِ أَثَرِهِ كَأَنَّهُ عَزَّ وَعَلَا حَقَّقَ عِنْدَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ مَا مَثَّلَهُ عِنْدَ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «1» فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ كَمَا كَانَ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا ذَاهِبًا في جهانه فَسَوْفَ تَرانِي تَعْرِيضٌ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ مَا لَا يَكُونُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ مَكَانَهُ حَتَّى يَدُكَّهُ دَكًّا وَيُسَوِّيَهُ بِالْأَرْضِ وَهَذَا كَلَامٌ مُدْمَجٌ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَأُورِدَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَنَظْمٍ بَدِيعٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ تَخَلَّصَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النَّظَرِ بِكَلِمَةِ الِاسْتِدْرَاكِ ثُمَّ كَيْفَ ثَنَّى بِالْوَعِيدِ بِالرَّجْفَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ طَلَبِ النَّظَرِ عَلَى الشَّرِيطَةِ فِي وُجُودِ الرُّؤْيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي انْتَهَى وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقَاوِيلُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَوْا عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مُوسَى مَا عَرَفَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَهُوَ عَارِفٌ بِعَدْلِهِ وَبِرَبِّهِ وَبِتَوْحِيدِهِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ وَجَوَازِهَا مَوْقُوفًا عَلَى السَّمَاعِ وَرُدَّ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ بِاللَّهِ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ مَعْرِفَةِ أَرْذَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: سَأَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى لِسَانِ قَوْمِهِ فَقَدْ كَانُوا مُكْثِرِينَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهَا لَا لِنَفْسِهِ فَلَمَّا مُنِعَ ظَهَرَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ وَلَقِيلَ لَنْ تَرَوْنِي وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مُحَالًا لَمَنَعَهُمْ عَنْهُ كَمَا مَنَعَهُمْ عَنْ جَعْلِ الْآلِهَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «2» ، وَقَالَ الْكَعْبِيُّ سَأَلَهُ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ الَّتِي عِنْدَهَا تَزُولُ الْخَوَاطِرُ وَالْوَسَاوِسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَمَا تَقُولُ فِي مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَذْفُ مُضَافٍ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَأْبَى ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهَا كَالْعَصَا وَغَيْرِهَا، وَقَالَ الْأَصَمُّ الْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ بِالدَّلِيلِ السمعي وأل فِي الْجَبَلِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أعظم
(1) سورة مريم: 19/ 90.
(2)
سورة الأعراف: 7/ 138.