المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

كَالْفَاءِ فِي الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ دَخَلَتْ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ وَالْفَاءُ فِي زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ هِيَ جَوَابٌ لِأَمْرٍ مُقَدَّرٍ وَمُؤَخَّرَةٌ مِنْ تَقْدِيمٍ وَالتَّقْدِيرُ تنبه فزيدا ضربه وَقَالَتِ الْعَرَبُ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ وَقَدَّرَهُ النُّحَاةُ تَنَبَّهَ فَاضْرِبْ زَيْدًا وَابْتَنَى الِاشْتِغَالُ فِي زَيْدًا فَاضْرِبْهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ بَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَاءَيْنِ وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَجُزْ زَيْدًا فَاضْرِبْ بَلْ كَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ زَيْدًا اضْرِبْ كَمَا هُوَ إِذَا لَمْ يُقَدَّرْ هُنَاكَ أَمْرٌ بِالتَّنْبِيهِ مَحْذُوفٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطَفَ عَلَى ذلِكُمْ فِي وَجْهَيْهِ أَوْ نُصِبَ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى مَعَ ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ الْعَاجِلَ مَعَ الْآجِلِ الَّذِي لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ أَيْ مَكَانَ وَإِنَّ لَكُمْ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَحَتْمٌ أَنَّ فَتَقْدِيرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ يَكُونُ خَبَرَهُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ التَّقْدِيرُ الْأَمْرُ ذلِكُمْ وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَاعْلَمُوا أَنَّ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَإِنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْأَخْبَارِ.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)

وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)

ص: 289

قَالَ اللَّيْثُ: الْجَمَاعَةُ يَمْشُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ هُوَ الزَّحْفُ. قَالَ الْأَعْشَى:

لِمَنِ الظَّعَائِنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ

مِنْكَ السَّفِينُ إِذَا تَقَاعَسَ تَجْرُفُ

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الزَّحْفُ الدُّنُوُّ قَلِيلًا يُقَالُ زَحَفَ إِلَيْهِ يَزْحَفُ زَحْفًا إِذَا مَشَى، وَأَزْحَفْتُ الْقَوْمَ دَنَوْتَ لِقِتَالِهِمْ وَكَذَلِكَ تَزَحَّفَ وَتَزَاحَفَ وَأَزْحِفْ لَنَا عَدُوَّنَا إِزْحَافًا صَارُوا يَزْحَفُونَ لِقِتَالِنَا فَازْدَحَفَ الْقَوْمُ ازْدِحَافًا مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ وَمِنْهُ الزِّحَافُ فِي الشِّعْرِ وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ وَيَزْحَفَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَسُمِّيَ الْجَيْشُ الْعَرَمْرَمُ بِالزَّحْفِ لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيَّ يَدِبُّ دَبِيبًا مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى أَلْيَتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا وَأَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ وَقَدْ جَمَعَ أَزْحَفُ عَلَى زُحُوفٍ. وَقَالَ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ مَنْهَلًا:

كَأَنَّ مَزَاحِفَ الْحَيَّاتِ فِيهِ

قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ

الْمُتَحَيِّزُ الْمُنْضَمُّ إِلَى جَانِبٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّحَيُّزُ وَالتَّحَوُّزُ التَّنَحِّي، وَقَالَ اللَّيْثُ:

مَا لك متحوز إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَوْزِ وهو الجمع يقال خرته فِي الطَّرْسِ فَانْحَازَ وَتَحَيَّزَ انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ وَتَحَوَّزَتِ الْحَيَّةُ انْطَوَتْ وَاجْتَمَعَتْ وَسَمَّى التَّنَحِّيَ تَحَيُّزًا لِأَنَّ الْمُتَنَحِّيَ عَنْ جَانِبٍ يَنْضَمُّ عَنْهُ وَيَجْتَمِعُ إِلَى غَيْرِهِ وَتَحَيَّزَ تَفَيْعَلَ أَصْلُهُ تَحَيْوَزَ اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ وَتَحَوَّزَ تَفَعَّلَ ضُعِّفَتْ عَيْنُهُ.

الرَّمْيُ مَعْرُوفٌ وَيَكُونُ بِالسَّهْمِ وَالْحَجَرِ وَالتُّرَابِ. الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:

وَخَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَنْدَلًا

تمسكوا فَرِيصَتُهُ كَشَدْقِ الْأَعْلَمِ

أَيْ تُصَوِّتُ وَمِنْهُ مَكَّتِ اسْتُ الدَّابَّةِ إِذَا نَفَخَتْ بِالرِّيحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ عَلَى لَحْنِ طَائِرٍ أَبْيَضَ بِالْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ الْمَكَّاءُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا غَرَّدَ الْمَكَّاءُ فِي غَيْرِ رَوْضَةٍ

فَوَيْلٌ لِأَهْلِ السِّقَاءِ وَالْحَمِرَاتِ

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: مَكَا يَمْكُو مُكَاءً إِذَا صَفَّرَ وَالْكَثِيرُ فِي الْأَصْوَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى فِعَالٍ كَالصُّرَاخِ وَالْخُوَارِ وَالدُّعَاءِ وَالنُّبَاحِ. التَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَةً صَفَّقَ وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الصَّدَى وَهُوَ الصَّوْتُ الرَّكْمُ. قَالَ اللَّيْثُ: جَمَعَكَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ حَتَّى تَجْعَلَهُ رُكَامًا مَرْكُومًا كَرُكَامِ الرَّمْلِ وَالسَّحَابِ. مَضَى تَقَدَّمَ وَالْمَصْدَرُ الْمُضِيُّ.

ص: 291

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ مَنْ آمَنَ بِضَرْبٍ فَوْقَ أَعْنَاقِهِمْ وَبَنَانَهُمْ حَرَّضَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِانْهِزَامِ وَانْتَصَبَ زَحْفاً عَلَى الْحَالِ، فَقِيلَ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ فَلَا تَفِرُّوا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُدَانُوهُمْ فِي الْعَدَدِ أَوْ تُسَاوُوهُمْ، وَقِيلَ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ وَأَنْتُمْ زَحْفٌ مِنَ الزُّحُوفِ وَكَانَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِمَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ انْهَزَمُوا وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْفِرَارِ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَيْ مُتَزَاحِفِينَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْهُمَا قَالَ زَحْفاً يُرَادُ بِهِ مُتَقَابِلِي الصُّفُوفِ وَالْأَشْخَاصِ أَيْ يَزْحَفُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ انْتَصَبَ زَحْفاً عَلَى الْمَصْدَرِ بِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ زَاحِفِينَ زَحْفًا وَهَذَا الَّذِي قِيلَ مُحْكَمٌ فَحَرُمَ الفرار عند اللقاء بِكُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ كَانَ هذا في الابتداء الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْمُصَابَرَةِ أَنْ يُوَاقِفَ مُسْلِمٌ عَشَرَةَ كُفَّارٍ ثُمَّ خُفِّفَ فَجُعِلَ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ اثْنَيْنِ وَيَأْتِي حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ الْفَارَّةِ مِنْ ضَعْفِهَا فِي آيَةِ التَّخْفِيفِ وَعَدَلَ عَنِ الظُّهُورِ إِلَى لَفْظِ الْأَدْبارَ تَقْبِيحًا لِفِعْلِ الْفَارِّ وَتَبْشِيعًا لِانْهِزَامِهِ وَتَضَمَّنَ هَذَا النَّهْيُ الْأَمْرَ بِالثَّبَاتِ وَالْمُصَابَرَةِ.

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ لَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ تَوَلِّي الْأَدْبَارِ تَوَعَّدَ مَنْ وَلَّى دُبُرَهُ وَقْتَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَنَاسَبَ قَوْلَهُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ كَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ وَلَّى مَصْحُوبًا بِغَضَبِ اللَّهِ وَعَدَلَ أَيْضًا عَنْ ذِكْرِ الظَّهْرِ إِلَى الدُّبُرِ مُبَالَغَةً فِي التَّقْبِيحِ وَالذَّمِّ إِذْ تِلْكَ الْحَالَةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ جِدًّا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:

فَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَجْرِي كُلُومُنَا

وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا

قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ يُسَمَّى بِالتَّعْرِيضِ عَرَّضَ بِسُوءِ حَالِهِمْ وَقُبْحِ فِعَالِهِمْ وَخَسَاسَةِ مَنْزِلَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْإِيمَاءَ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ الْكِنَايَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تُصَرِّحَ بِاللَّفْظِ الْجَمِيلِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَبِيحِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ بَعْدَ إِذْ وَعُوِّضَ مِنْهَا التَّنْوِينُ هِيَ قَوْلُهُ إِذْ لَقِيتُمُ الْكُفَّارَ تَعْقِيلُ الْمُرَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا وَلِيَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَعَ الْوَعِيدُ بِالْغَضَبِ عَلَى مَنْ فَرَّ وَنُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُ الْآيَةِ بِآيَةِ الضَّعْفِ وَبَقِيَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ لَيْسَ كَبِيرَةً وَقَدْ فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «1» وَلَمْ يَقَعْ عَلَى ذَلِكَ تَعْنِيفٌ انْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْلُ بأن

(1) سورة التوبة: 9/ 25. [.....]

ص: 292

الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ لَا يَظْهَرُ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ فَيَوْمُ بَدْرٍ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ لِقَاءِ الْكُفَّارِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ خَاصًّا بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ فَلَا يَدْخُلُ يَوْمُ بَدْرٍ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ حُكْمٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ اللِّقَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ إِذا لَقِيتُمُ وَحُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ الضَّعْفِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَإِنَّمَا فَرَّ النَّاسُ مِنْ مَرَاكِزِهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ عُنِّفُوا لِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ وَفِرَارُهُمْ عَنْهُ، وَأَمَّا يَوْمُ حُنَيْنَ فَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ إِنَّمَا انْكَشَفَ أَمَامَ الْكَرَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ عَنْ مَنْ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ عَفْوًا عَنْ كَثْرَةٍ انْتَهَى.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ دُبُرَهُ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَانْتَصَبَ مُتَحَرِّفاً ومُتَحَيِّزاً عَنِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي قَوْلِهِمُ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِلَّا لَغْوٌ أَوْ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوَلِّينَ أَيْ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ مُتَحَرِّفاً أَوْ مُتَحَيِّزاً انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مِنَ الْمُوَلِّينَ الَّذِينَ يَتَضَمَّنُهُمْ مَنْ انْتَهَى وَلَا يُرِيدُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا لَغْوٌ أَنَّهَا زَائِدَةٌ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي هُوَ يُوَلِّهِمْ وَصَلَ إِلَى الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا كَمَا قَالُوا فِي لَا مِنْ قَوْلِهِمْ جِئْتُ بِلَا زَادٍ إِنَّهَا لَغْوٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ حَالَةٍ مَحْذُوفَةٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ مُلْتَبِسًا بِأَيَّةِ حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالِ كَذَا وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ حَالُ غَايَةٍ مَحْذُوفَةٍ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ إِلَّا لِأَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ وَحُكْمُ الْوَاجِبِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا فِيهِ لَا فِي الْمَفْعُولِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الفصلات لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ لَا يَكُونُ فِي الْوَاجِبِ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا وَقُمْتُ إِلَّا ضَاحِكًا لَمْ يَصِحَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ بِهِمَا فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ خِلَافُ ذَلِكَ قُدِّرَ عُمُومٌ قَبْلَ إِلَّا حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً غَيْرَ مُفَرَّغٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوَلِّي وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِلَّا تَحَرُّفًا أَوْ تَحَيُّزًا وَالتَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ هُوَ الْكَرُّ بَعْدَ الْفَرِّ يُخَيِّلُ عَدُوَّهُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ ثُمَّ يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَيْنُ بَابِ خِدَعِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ يُرَادُ بِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ أَنَكَى لِلْعَدُوِّ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِ بِالشَّرِّ، وَالْفِئَةُ هُنَا قَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرَةُ لِلْحَرْبِ فَاقْتَضَى هَذَا الْإِطْرَاقُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ لِكَوْنِهِ يَرَى أَنَّهُ يُنْكِي فِيهَا الْعَدُوَّ وَيُبْلِي أَكْثَرَ مِنْ إِبْلَائِهِ فِيمَا قَابَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِمَّا لِعَدَمِ مُقَاوَمَتِهِ أَوْ لِكَوْنِ غَيْرِهِ يُعْنَى فِيمَنْ قاتله منهم فيتحيّز إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى مِنَ الْكُفَّارِ لِيُبْلِيَ فِيهَا وَاقْتَضَى أَيْضًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ تَحَيَّزَ إِلَيْهَا لِيَنْصُرَهَا وَيُقَوِّيَهَا

ص: 293

إِذَا رَأَى فِيهَا ضَعْفًا وَأَغْنَى غَيْرَهُ فِي قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ مِنَ الْكُفَّارِ وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ إِلى فِئَةٍ جَمَاعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى الْفِئَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقِيلَ الْفِئَةُ هُنَا الْمَدِينَةُ وَالْإِمَامُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ: انْهَزَمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكْتُ فَرَرْتُ مِنَ الزَّحْفِ، فَقَالَ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَا فِئَتُكَ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: خَرَجَتْ سَرِيَّةٌ وَأَنَا فِيهِمْ فَفَرُّوا فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ اسْتَحْيَوْا فَدَخَلُوا الْبُيُوتَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ.

قَالَ ثَعْلَبٌ الْعَكَّارُونَ الْعَطَّافُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوَلِّي عَنِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَكَّرَ وَاعْتَكَرَ.

وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّقُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَعَدَّ فِيهَا الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ

وَفِي التَّحْرِيرِ التَّوَلِّي الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ هُوَ الْفِرَارُ مَعَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الثَّبَاتِ فَأَمَّا إِذَا جَاءَهُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الثَّبَاتَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْفِرَارِ انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَعْذَرَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إِذْ فَرَّ فَقِيلَ فِيهِ:

تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ

وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ

وَقَالَ الْحَارِثُ مِنْ أَبْيَاتٍ:

وَعَلِمْتُ أَنِّيَ إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا

أُقْتَلْ وَلَمْ يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدِي

وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ انْهَزَمَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اسْتَوْجَبَ غَضَبَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلْمُرْجِئَةِ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا فَعَلُوا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفْتَتَحٌ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْتَهَى، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَيُّزُ سَوَاءٌ عَظُمَ الْعَسْكَرُ أَمْ لَا، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ إِذَا عَظُمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ شُرُوطِهِ كَبِيرَةٌ لِلتَّوَعُّدِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَةَ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ فَرَّ أَمَامَهُمْ وَمَنْ فَرَّ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ

فَفِي التِّرْمِذِيِّ: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا رَجَعَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَدْرٍ ذَكَرُوا مَفَاخِرَهُمْ فَيَقُولُ الْقَائِلُ

ص: 294

قَتَلْتُ وَأَسَرْتُ فَنَزَلَتْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَأَنْتُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ وَأَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ وَشَاءَ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ وَقَوَّى قُلُوبَكُمْ وَأَذْهَبَ عَنْهَا الْفَزَعَ وَالْجَزَعَ انْتَهَى، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ جَوَابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ كَمَا زَعَمَ وَإِنَّمَا هِيَ لِلرَّبْطِ بَيْنَ الْجُمَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ كَانَ امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ بابا لِلْقَتْلِ فَقِيلَ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَيْ لَسْتُمْ مُسْتَبِدِّينَ بِالْقَتْلِ لِأَنَّ الْأَقْدَارَ عَلَيْهِ وَالْخَالِقَ لَهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ فِيهَا شَيْءٌ لَكِنَّهُ أَجْرَى عَلَى يَدِهِ فَنُفِيَ عَنْهُمْ إِيجَادُ الْقَتْلِ وَأُثْبِتَ لِلَّهِ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَلْقٌ لَهُمْ، وَمَجِيءُ لكِنَّ هُنَا أَحْسَنُ مَجِيءٍ لِكَوْنِهَا بَيْنَ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ فَالْمُثْبَتُ لِلَّهِ هُوَ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقَتْلِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ أَوَّلَ الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى فَلَمْ يَتَسَبَّبُوا لِقَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَعَطَفَ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ بِمَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ بِلَمْ لِأَنَّ لَمْ نَفْيٌ لِلْمَاضِي وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ لِنَفْيِ الْمَاضِي طَرِيقَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدَخُلَ مَا عَلَى لَفْظِهِ وَالْأُخْرَى أَنْ تَنْفِيَهُ بِلَمْ فَتَأْتِيَ بِالْمُضَارِعِ وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ النَّفْيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَسَبِ الْإِيجَابِ وَفِي الْجُمْلَةِ مُبَالَغَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ النَّفْيَ جَاءَ عَلَى حَسَبِ الْإِيجَابِ لَفْظًا. الثَّانِي أَنْ نَفَى مَا صَرَّحَ بِإِثْبَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بِقَوْلِهِ إِذْ قَتَلْتُمُوهُمْ وَإِنَّمَا بُولِغَ فِي هَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ كَانَ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ مُعْجِزًا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُسِّرَ الرَّمْيُ لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ،

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَبَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»

أَيْ قُبِّحَتْ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَفِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ،

وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَصَاةٍ وَقَعَتْ فِي طَسْتٍ فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الرَّمْيَةَ فَانْهَزَمُوا

،

وَقَالَ أَنَسٌ: رَمَى ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَاحِدَةً فِي مَيْمَنَةِ الْقَوْمِ وَوَاحِدَةً فِي مَيْسَرَتِهِمْ وَثَالِثَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ:«شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَانْهَزَمُوا.

وَقِيلَ الرَّمْيُ هُنَا رَمْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحَرْبَةٍ عَلَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَ أحد، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِبَ بَدْرٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً مِمَّا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَذَلِكَ بِعِيدٌ، وَقِيلَ الْمُرَادُ السَّهْمُ الَّذِي رَمَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِصْنِ خَيْبَرَ فسار في الهوى حَتَّى أَصَابَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ وَهَذَا فَاسِدٌ وَالصَّحِيحُ فِي صُورَةِ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ غَيْرُ هَذَا وَقَوْلُهُ وَما رَمَيْتَ نَفْيٌ وإِذْ رَمَيْتَ إِثْبَاتٌ فَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنْ

ص: 295

يُغَايِرَ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ فَالْمَنْفِيُّ الْإِصَابَةُ وَالظَّفَرُ وَالْمُثْبَتُ الْإِرْسَالُ، وَقِيلَ الْمَنْفِيُّ إِزْهَاقُ الرُّوحِ وَالْمُثْبَتُ أَثَرُ الرَّمْيِ وَهُوَ الْجَرْحُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَقِيلَ مَا اسْتَبْدَدْتَ بِالرَّمْيِ إِذْ أَرْسَلْتَ التُّرَابَ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَادَ بِهِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَإِرْسَالُ التُّرَابِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَسْبًا كَانَ الْمَعْنَى، وَما رَمَيْتَ الرَّمْيَ الْكَافِيَ إِذْ رَمَيْتَ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:

وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأُ

فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَعِ

أَيْ لَمْ أُعْطَ شَيْئًا مَرْضِيًّا. وَقِيلَ مُتَعَلِّقُ الْمَنْفِيِّ الرُّعْبُ ومتعلق المنبت الْحَصَيَاتُ أَيْ وَمَا رَمَيْتَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ الْحَصَيَاتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّ الرَّمْيَةَ الَّتِي رَمَيْتَهَا لَمْ تَرْمِهَا أَنْتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّكَ لَوْ رَمَيْتَهَا لَمَا بَلَغَ أَثَرُهَا إِلَّا مَا يَبْلُغُهُ رَمْيُ الْبَشَرِ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ رَمْيَةَ اللَّهِ حَيْثُ أَثَّرَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الْعَظِيمَ فَأَثْبَتَ الرَّمْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ صُورَةَ الرَّمْيِ وُجِدَتْ مِنْهُ وَنَفَاهَا عَنْهُ لِأَنَّ أَثَرَهَا الَّذِي لَا يُطِيقُهُ الْبَشَرُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَانَ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الرَّمْيِ حَقِيقَةً وَكَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ مِنَ الرَّسُولِ أَصْلًا انْتَهَى، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلَيْنِ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَ خِلَافُ الْفَرَّاءِ فِي لكِنَّ وَمَا بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. قَالَ السُّدِّيُّ يَنْصُرُهُمْ وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يُقَالُ أَبْلَاهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَبَلَاهُ إِذَا امْتَحَنَهُ وَالْبَلَاءُ يُسْتَعْمَلُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَوَصْفُهُ بِحَسَنٍ يَدُلُّ عَلَى النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِيُعْطِيَهُمْ عَطَاءً جَمِيلًا كَمَا قَالَ، فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو. انْتَهَى، وَالْبَلَاءُ الْحَسَنُ قِيلَ بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ، وَقِيلَ بِالشَّهَادَةِ لِمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمِهْجَعٌ مولى عمر ومعاذ وعمر وابنا عَفْرَاءَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى حَمْلِ الْبَلَاءِ هُنَا عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ يَحْتَمِلُ الْمِحْنَةَ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجِهَادِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ السَّبَبَ فِي حُصُولِ تَكْلِيفٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْغَزَوَاتِ انْتَهَى. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَنْفِي أَنْ يُرَادَ بِالْبَلَاءِ الْمِحْنَةُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَرَمْيِهِمْ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَجَعْلِهِمْ نُهْبَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِحْنَةً بَلْ مِنْحَةٌ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَمَّا كَانُوا قَدْ أَقْبَلُوا عَلَى الْمَفَاخِرِ بِقَتْلِ مَنْ قَتَلُوا وَأَسْرِ مَنْ أَسَرُوا وكان رُبَّمَا قَدْ لَا يَخْلُصُ الْعَمَلُ مِنْ بَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ إِمَّا لِقِتَالِ حَمِيَّةٍ وَإِمَّا لِدَفْعٍ عَنْ نَفْسٍ أَوْ ما خُتِمَتُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لِكَلَامِكُمْ وَمَا تَفْخَرُونَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ وَمَنْ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ قَالَ: ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ

ص: 296

وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ مَعْطُوفٌ عَلَى وَلِيُبْلِيَ يَعْنِي أَنَّ الْغَرَضَ إِبْلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوْهِينُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ذلِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَتْلِ اللَّهِ وَرَمْيِهِ إِيَّاهُمْ وَمَوْضِعُ ذَلِكَ مِنَ الْإِعْرَابِ رَفْعٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ الْأَمْرُ ذلِكُمْ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَنَّ مَعْطُوفٌ عَلَى ذلِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ وَحَتْمٌ وَسَابِقٌ وَثَابِتٌ وَنَحْوُ هَذَا انْتَهَى، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ ذلِكُمْ رفع بالابتداء والخبر محذوف وَالتَّقْدِيرُ ذَلِكُمُ الْأَمْرُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمُ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ الِابْتِدَاءُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب تَقْدِيرُهُ فَعَلْنَا ذَلِكُمْ وَالْإِشَارَةُ إلى القتل أو إلى إِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا وَفِي فَتْحِ أَنَّ وَجْهَانِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى ذلِكُمْ عَلَى حَسَبِ التَّقْدِيرَيْنِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو مُوهِنُ مِنْ وَهَّنَ وَالتَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ فِيمَا عَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ غَيْرُ الْهَمْزَةِ قَلِيلٌ نَحْوُ ضَعَّفْتُ وَوَهَّنْتُ وَبَابُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ نَحْوَ أَذْهَلْتُهُ وَأَوْهَنْتُهُ وَأَلْحَمْتُهُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ مِنْ أَوْهَنَ وَأَضَافَهُ حَفْصٌ.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَسَبَقَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَبِقَوْلِهِ ذلِكُمْ فَحَمَلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إِذْ لَا يَلِيقُ هَذَا الْخِطَابُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِرَادَةِ النَّصْرِ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْبَيَانِ وَالْحُكْمِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْإِذْنِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ نَعُدْ إِلَى تَوْبِيخِكُمْ كَمَا قَالَ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «1» الْآيَةَ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْفِئَةَ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ لَا تُغْنِي وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا بِنَصْرِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ ثُمَّ آنَسَهُمْ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ هِيَ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَقْرَانَا لِلضَّيْفِ وَأَوْصَلَنَا لِلرَّحِمِ وَأَفَكَّنَا لِلْعَانِي إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى حَقٍّ فَانْصُرْهُ وَإِنْ كُنَّا عَلَى حَقٍّ فَانْصُرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأَهْدَى الْفِئَتَيْنِ وَأَكْرَمَ الْحِزْبَيْنِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ صَبِيحَةَ يَوْمِ بدر:

(1) سورة الأنفال: 8/ 68.

ص: 297

اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَهْجَرَ وَأَقْطَعَ لِلرَّحِمِ فَاحْنِهِ الْيَوْمَ أَيْ فَأَهْلِكْهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ دعاء شِبْهَ هَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ قُرَيْشٍ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ لِنُصْرَةِ الْعِيرِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «1» الْآيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَقَدْ جاءَكُمُ مَا بَانَ لَكُمْ بِهِ الْأَمْرُ وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْحُكْمُ وَانْكَشَفَ لَكُمُ الْحَقُّ بِهِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ وَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقِتَالِ مُحَمَّدٍ بَعْدُ نَعُدْ إِلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخِذْلَانِكُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ تَنْتَهُوا خِطَابٌ لِلْكَافِرِينَ أَيْ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا لِمُحَارَبَتِهِ نَعُدْ لِنُصْرَتِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ أَمْرِ الْأَنْفَالِ وَفِدَاءِ الْأَسْرَى بِبَدْرٍ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَعُدْ إلى الإنكار وقرىء: وَلَنْ يُغْنِيَ بِالْيَاءِ لِأَنَّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل، وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ وَحَفْصٌ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَنْتَهُوا وَكَانَ الضَّمِيرُ ظَاهِرُهُ الْعَوْدُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نَادَاهُمْ وَحَرَّكَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ حَثَّهُمْ بِالْأَمْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ قَبْلَهَا مَسُوقَةً فِي أَمْرِ الْجِهَادِ. قِيلَ مَعْنَى أَطِيعُوهُ فِيمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَقِيلَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَفْرَدَهُمْ بِالْأَمْرِ رَفْعًا لِأَقْدَارِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مَأْمُورًا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تَنْتَهُوا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَيَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّفْلِ وَمُجَادَلَتِهِمْ فِي الْحَقِّ وَتَفَاخُرِهِمْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالنِّكَايَةِ فِيهِمْ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَلَيْسَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ التَّصْدِيقِ فِي شَيْءٍ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ وَخِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْآيَاتِ وَأَصْلُ وَلا تَوَلَّوْا وَلَا تَتَوَلَّوْا، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي حَرْفِ التَّاءِ فِي نَحْوِ هَذَا أَهِيَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ أَمْ تَاءُ تَفْعَلُ وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْمَعْنَى وأطيعوا

(1) سورة الأنفال: 8/ 32.

ص: 298

رَسُولَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وَلِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَطَاعَةَ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فَكَانَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلَى أَحَدِهِمَا كَرُجُوعِهِ إِلَيْهِمَا كَقَوْلِكَ الْإِحْسَانُ وَالْإِجْمَالُ لَا يَنْفَعُ فِي فُلَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ وَلا تَوَلَّوْا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَامْتِثَالِهِ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَهُ أَوْ وَلَا تَتَوَلَّوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا تُخَالِفُوهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أَيْ تُصَدِّقُونَ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ لَسْتُمْ كَالصُّمِّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْكَفَرَةِ انْتَهَى، وَإِنَّمَا عَادَ عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الرَّسُولِ بِأَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّوَلِّي حَقِيقَةً وَإِذَا عَادَ عَلَى الْأَمْرِ كَانَ مَجَازًا، وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ مَا مَعْنَاهُ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُطْلَقْ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرِهَا بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى لَفْظِهِ تَعْظِيمًا فَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ضَمِيرِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا إِذا دَعاكُمْ وَمِنْهَا أَنْ يُرْضُوهُ

فَفِي الْحَدِيثِ ذَمُّ مَنْ جَمَعَ فِي التَّثْنِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الضَّمِيرِ وَتَعْلِيمُهُ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ لَا يُنَاسِبُ سَمَاعُكُمُ التَّوَلِّيَ وَلَا يُجَامِعُهُ وَفِي مُتَعَلِّقِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا وَعْظُ اللَّهِ لَكُمْ، الثَّانِي: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، الثَّالِثُ: التَّعْبِيرُ بِالسَّمَاعِ عَنِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، الرَّابِعُ: التَّعْبِيرُ عَنِ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْإِيمَانُ.

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ نَهَى عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَالَّذِينَ ادَّعَوُا السَّمَاعَ وَالْمُشَبَّهُ بِهِمُ الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ أَوِ الْمُشْرِكُونَ أَوِ الَّذِينَ قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا، أَوْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْدُ بْنُ حَرْمَلَةَ أَوِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَمَنْ تَابَعَهُ سِتَّةُ أَقْوَالٍ، وَلَمَّا لَمْ يُجْدِ سَمَاعُهُمْ وَلَا أَثَّرَ فِيهِمْ نَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعَ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ إِذْ ثَمَرَةُ سَمَاعِ الْوَحْيِ تَصْدِيقُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ فَإِذَا صَدَرَ مِنْكُمْ تَوَلٍّ عَنِ الطَّاعَةِ كَانَ تَصْدِيقُكُمْ كَلَا تَصْدِيقٍ فَأَشْبَهَ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ مَنْ لَا يُصَدِّقُ، وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ النَّافِيَةُ عَلَى غَيْرِ لَفْظِ الْمُثْبَتَةِ إِذْ لَمْ تَأْتِ وَهُمْ مَا سَمِعُوا لِأَنَّ لَفْظَ الْمُضِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحَالِ وَلَا دَيْمُومَتِهِ بِخِلَافِ نَفْيِ الْمُضَارِعِ فَكَمَا يَدُلُّ إِثْبَاتُهُ عَلَى الدَّيْمُومَةِ فِي قَوْلِهِمْ هُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ كَذَلِكَ يَجِيءُ نَفْيُهُ وَجَاءَ حَرْفُ النَّفْيِ لَا لِأَنَّهَا أوسع في نفي الْمُضَارِعِ مِنْ مَا وَأَدَلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمَاعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ هُمْ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْمَعَ.

(1) سورة التوبة: 9/ 62.

ص: 299

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشَبَّهَ بِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ أَخْبَرَ أَنَّ شَرَّ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَدِبُّ الصُّمُّ أَوْ أَنَّ شَرَّ الْبَهَائِمِ فَجَمَعَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ جَمْعِ الدَّوَابِّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَرُّ الْحَيَوَانِ مُطْلَقًا وَمَعْنَى الصُّمُّ عَنْ مَا يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ الْبُكْمِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ ثُمَّ جَاءَ بِانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمُنْتِجِ لَهُمُ الصَّمَمَ وَالْبَكَمَ النَّاشِئَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ الْعَقْلُ وَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالصَّمَمِ لِأَنَّهُ ناشىء عَنْهُ الْبَكَمُ إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصَمَّ خَلَقَهُ أَبْكَمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتَلَقَّنُهُ وَيَتَعَلَّمُهُ مَنْ كَانَ سَالِمَ حَاسَّةِ السَّمْعِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ «1» إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي هَذَا وَصْفَ الْعَمَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ قَبُولِهِمْ لِلْإِيمَانِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ لَا نَسْمَعُهُ وَلَا نُجِيبُهُ فَقُتِلُوا جَمِيعًا بِبَدْرٍ وَكَانُوا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ.

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهِمْ وَهُدَاهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَسَبَقَ مِنْ قَضَائِهِ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةٍ بَلِيغَةٍ فِي ذَمِّهِمْ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَالْمُرَادُ لَأَسْمَعَهُمْ إِسْمَاعَ تَفَهُّمٍ وَهُدًى ثُمَّ ابْتَدَأَ عز وجل الْخَبَرَ عَنْهُمْ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ خَتْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَقَالَ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أَيْ وَلَوْ فَهَّمَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ فِيهِمْ وَلَأَعْرَضُوا عَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ الصُّمِّ الْبُكْمِ خَيْرًا أَيِ انْتِفَاعًا بِاللُّطْفِ لَأَسْمَعَهُمُ اللُّطْفَ بِهِمْ حَتَّى سَمِعُوا سَمَاعَ الْمُصَدِّقِينَ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا يَعْنِي وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ لَمَا نَفَعَهُمُ اللُّطْفُ فَلِذَلِكَ مَنَعَهُمْ أَلْطَافَهُ أَيْ وَلَوْ لَطَفَ بِهِمْ فَصَدَّقُوا لَارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَّبُوا وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَأَسْمَعَهُمْ جواب كلما سَأَلُوا، وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَأَسْمَعَهُمْ كَلَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ طَلَبُوا إِحْيَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِحْيَاءَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ وَغَيْرِهِ لِيَشْهَدُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: التَّعْبِيرُ عَنْ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ بِعَدَمِ عِلْمِ اللَّهِ بِوُجُودِهِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ حَصَلَ فِيهِمْ خَيْرٌ لَأَسْمَعَهُمْ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْمَوَاعِظَ سَمَاعَ تَعْلِيمٍ مُفْهِمٍ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَتَوَلَّوْا وَهُمْ معرضون، وقال أيضا:

(1) سورة البقرة: 2/ 171.

ص: 300

مَعْلُومَاتُ اللَّهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: جُمْلَةُ الْمَوْجُودَاتِ، الثَّانِي: جُمْلَةُ الْمَعْدُومَاتِ، الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَوْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ حَالُهُ، الرَّابِعُ: إِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَكَيْفَ حَالُهُ فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ عِلْمٌ بِالْوَاقِعِ وَالْقِسْمَانِ الثَّانِيَانِ عِلْمٌ بِالْمَقْدُورِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَقَوْلُهُ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَقْدُورَاتِ وَلَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ بِالْوَاقِعَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْمُنَافِقِينَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ

وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1» فَقَالَ تَعَالَى لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ «2» فَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3» أَخْبَرَ عَنِ الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: ظَاهِرُ هَاتَيْنِ الْمُلَازَمَتَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ إِسْمَاعٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ خَيْرًا فِيهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ تَوَلِّيهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِسْمَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فَأَنْتَجَ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ تَوَلِّيهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ تَعَالَى خَيْرًا فِيهِمْ وَذَلِكَ بِحَرْفِ الْوَاسِطَةِ لِأَنَّ الْمُرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَهَذَا لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّوَلِّي عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ فِيهِمْ خَيْرًا وَيَصِيرُ الْكَلَامُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ فِي تَقْدِيرِ كَلَامٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا فَأَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا مَا تَوَلَّوْا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اسْتَجَابَ فِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي دَعاكُمْ كَمَا أَفْرَدَهُ فِي وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالِاسْتِجَابَةُ هُنَا الِامْتِثَالُ وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّحْرِيضِ وَالْبَعْثِ عَلَى مَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ وَظَاهِرُ اسْتَجِيبُوا الْوُجُوبُ، وَلِذَلِكَ

قَالَ صلى الله عليه وسلم: لِأُبَيٍّ حِينَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مُتَلَبِّثٌ: «مَا مَنَعَكَ عَنِ الِاسْتِجَابَةِ أَلَمْ تُخْبَرْ فِيمَا أوحي إليّ استجيبوا الله وَلِلرَّسُولِ»

؟ وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ لِما بِقَوْلِهِ دَعاكُمْ وَدَعَا يَتَعَدَّى بِاللَّامِ. قَالَ:

دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَقَالَ آخَرُ:

وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ من حماتها

(1) سورة الحشر: 59/ 11.

(2)

سورة الحشر: 59/ 12.

(3)

سورة الأنعام: 6/ 28.

ص: 301

وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى وَيَتَعَلَّقُ بِاسْتَجِيبُوا فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بِإِلَى حَتَّى يَتَغَايَرَ مَدْلُولُ اللَّامِ فَيَتَعَلَّقُ الْحَرْفَانِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَوَامِرَ ونواهي فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السرمديّة، وقيل: لِما يُحْيِيكُمْ هُوَ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهَا لَغَلَبُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ «1» ، وَقِيلَ:

الشَّهَادَةُ لِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «2» قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: لِمَا يُحْيِيكُمْ مِنْ عُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حِلْيَتُهُ

فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ

وَهَذَا نَحْوٌ مَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمُجَاهِدٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لِما يُحْيِيكُمْ هُوَ الْحَقُّ، وَقِيلَ: هُوَ إِحْيَاءُ أُمُورِهِمْ وَطِيبُ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتُهُمْ، يُقَالُ: حَيِيَتْ حَالُهُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، وَقِيلَ: مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ فِي الْجِهَادِ وَيَعِيشُونَ مِنْهَا، وَقِيلَ: الْجُثَّةُ وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ فَالَّذِي يَحْيَا بِهِ مِنَ الْجَهْلِ هُوَ سَمَاعُ مَا يَنْفَعُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فَيَمْتَثِلُ الْمَأْمُورَ بِهِ وَيَجْتَنِبُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فيؤول إِلَى الْحَيَاتَيْنِ الطَّيِّبَتَيْنِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ قَلْبُهُ فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ إِذَا دَعَاهُ إِذْ بِيَدِهِ تَعَالَى مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَزِمَامُهُ وَفِي ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبِدَارِ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَعَقْلِهِ فَلَا يَدْرِي مَا يَعْمَلُ عُقُوبَةً عَلَى عِنَادِهِ فَفِي التَّنْزِيلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «3» أَيْ عَقْلٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَحُولُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ وَقَلْبِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَوَاهُ وَهَذَانِ رَاجِعَانِ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ أَنْ يَتَوَفَّاهُ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمَلِ قَلْبِهِ وَهَذَا حَثٌّ عَلَى انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ قَبْلَ الْوَفَاةِ الَّتِي هُوَ وَاجِدُهَا وَهِيَ التمكن من إخلاص سلب وَمُخَالَجَةِ أَدْوَائِهِ وَعِلَلِهِ وَرَدِّهِ سَلِيمًا كَمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ فاغتنموا هذه

(1) سورة البقرة: 2/ 179.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 169.

(3)

سورة ق: 5/ 37.

ص: 302

الْفُرْصَةَ وَأَخْلِصُوا قُلُوبَكُمْ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى هُوَ الرُّمَّانِيُّ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَمْلِكُ عَلَى العبد قلبه فيفسخ وَقِيلَ: يُبَدِّلُ الْجُبْنَ جَرَاءَةً وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ بِقَوْلِهِ اسْتَجِيبُوا وَيَكْشِفُ حَقِيقَتَهُ

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ وَتَأْوِيلُهُ بَيْنَ أَثَرَيْنِ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ» .

وَقِيلَ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْمَعَاصِي الَّتِي يَهُمُّ بِهَا قَلْبُهُ بِالْعِصْمَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ الْمَرْءَ بِبَالِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ضَمَائِرِهِ فَكَأَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنْ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا شَاءَ حَتَّى لَا يُدْرِكَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: بَيْنَ الْمَرْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ إِذْ فِي الْمَرْءِ لُغَتَانِ: فَتْحُ الْمِيمِ مُطْلَقًا وَإِتْبَاعُهَا حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: بَيْنَ الْمَرِّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ غير همز وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ شَدَّدَهَا كَمَا تُشَدَّدُ فِي الْوَقْفِ وَأَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ وَكَثِيرًا مَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ تُجْرِي الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ وَحَيْلُولَتَهُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَقَاصِدِ قَلْبِهِ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَحْشُرُهُمْ فَيُثِيبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ تِذْكَارٌ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً هَذَا الْخِطَابُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ بِاتِّقَاءِ الْفِتْنَةِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالظَّالِمِ بَلْ تَعُمُّ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ

فَفِي الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ

،

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ:

«نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»

، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ، وَقِيلَ لِأَهْلِ بَدْرٍ،

وَقِيلَ لِعَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ

، وَقِيلَ لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُسَمِّهِمَا وَالْفِتْنَةُ هُنَا الْقِتَالُ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ أَوِ الضَّلَالَةُ أَوْ عَدَمُ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ أَوْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ أَوْ بِظُهُورِ الْبِدَعِ أَوِ الْعُقُوبَةُ أَقْوَالٌ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَوْمَ الْجَمَلِ: مَا عَلِمْتُ أَنَّا أُرِدْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْيَوْمَ وَمَا

ص: 303

كُنْتُ أَظُنُّهَا إِلَّا فِيمَنْ خُوطِبَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ خَبَرِيَّةٌ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ فِتْنَةً أَيْ غَيْرَ مُصِيبَةٍ الظَّالِمَ خَاصَّةً إِلَّا أَنَّ دُخُولَ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَى الْمَنْفِيِّ بِلَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ لَا يُجِيزُونَهُ وَيَحْمِلُونَ مَا جَاءَ مِنْهُ عَلَى الضَّرُورَةِ أَوِ النُّدُورِ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الْجَوَازُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وَإِذَا كَانَ قَدْ جَاءَ لَحَاقُهَا الْفِعْلَ مَبْنِيًّا بِلَا مَعَ الْفَصْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ:

فَلَا ذَا نَعِيمٌ يُتْرَكَنْ لِنَعِيمِهِ

وَإِنْ قَالَ قَرِّظْنِي وَخُذْ رِشْوَةً أَبَى

وَلَا ذَا بَئِيسٌ يُتْرَكَنَّ لِبُؤْسِهِ

فَيَنْفَعُهُ شَكْوَى إِلَيْهِ إِنِ اشْتَكَى

فَلَأَنْ يَلْحَقُهُ مَعَ غَيْرِ الْفَصْلِ أَوْلَى نَحْوُ لَا تُصِيبَنَّ وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ وَهِيَ نَهْيٌ قَالَ وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَهُ صِفَةً عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً مَقُولًا فِيهَا لَا تُصِيبَنَّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:

حَتَّى إِذَا جنّ الظلام واختلط

جاؤوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ

أَيْ بِمَذْقٍ مَقُولٌ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ فِيهِ لَوْنُ الزُّرْقَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الذِّئْبِ انْتَهَى. وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْمُولَةٌ لِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ نَحْوُ قَوْلِكَ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ أَيْ إِنْ تَنْزِلْ عَنْهَا لَا تطرحك، قَالَ: وَمِنْهُ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ «1» أَيْ إِنْ تَدْخُلُوا لَا يَحْطِمَنَّكُمْ فَدَخَلَتِ النُّونُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ انْتَهَى، وَهَذَا الْمِثَالُ بِقَوْلِهِ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ لَيْسَ نَظِيرَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ مِنَ الْمِثَالِ وَالْآيَةُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ كَمَا قُدِّرَ وَلَا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ هُنَاكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ إِنْ تَتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ إِذْ ذَاكَ عَلَى الشَّرْطِ مُقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَ الْفَرَّاءِ وَزَادَهُ فَسَادًا وَخَبَّطَ فِيهِ فَقَالَ وَقَوْلُهُ لَا تُصِيبَنَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ أَوْ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ أَوْ صِفَةً لفتنة فَإِذَا كَانَ جَوَابًا فَالْمَعْنَى إِنْ أَصَابَتْكُمْ لَا تُصِبِ الظَّالِمِينَ مِنْكُمْ خَاصَّةً وَلَكِنَّهَا تَعُمُّكُمُ انْتَهَى تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ فَانْظُرْ كَيْفَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ اتَّقُوا ثُمَّ قَدَّرَ أَدَاةَ الشَّرْطِ دَاخِلَةً عَلَى غَيْرِ مُضَارِعِ اتَّقُوا فَقَالَ فَالْمَعْنَى إِنْ أَصَابَتْكُمْ يَعْنِي الْفِتْنَةَ وَانْظُرْ كَيْفَ قَدَّرَ الْفَرَّاءُ فِي انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ وَفِي قَوْلِهِ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ فَأَدْخَلَ أَدَاةَ الشَّرْطِ عَلَى مُضَارِعِ فِعْلِ الْأَمْرِ وَهَكَذَا يُقَدَّرُ مَا كَانَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُصِيبَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وقيل لا

(1) سورة النمل: 27/ 18.

ص: 304

نَافِيَةٌ وَشُبِّهَ النَّفْيُ بِالْمُوجَبِ فَدَخَلَتِ النُّونُ كَمَا دَخَلَتْ فِي لَتَضْرِبَنَّ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ لَا تُصِيبَنَّ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَوْ جَوَابُ أَمْرٍ أَوْ جَوَابُ قَسَمٍ تَكُونُ النُّونُ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمَنْفِيِّ بِلَا وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ مُوجَبَةٌ فَدَخَلَتِ النُّونُ فِي مَحَلِّهَا وَمُطِلَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ لَا وَالْمَعْنَى لَتُصِيبَنَّ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْبَاقِرِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ لَتُصِيبَنَّ وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلظَّالِمِينَ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ خَرَّجَ ابْنُ جِنِّي أَيْضًا قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ لَا تُصِيبَنَ

وَكَوْنُ اللَّامِ مُطِلَتْ فَحَدَثَتْ عَنْهَا الْأَلِفُ إِشْبَاعًا لِأَنَّ الْإِشْبَاعَ بَابُهُ الشِّعْرُ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ مَعَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا تُصِيبَنَّ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا وَاكْتِفَاءً بِالْحَرَكَةِ كَمَا قَالُوا أَمْ وَاللَّهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ مَا وَهِيَ أُخْتُ لَا فِي قَوْلِهِ أَمْ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَشِبْهِهِ انْتَهَى وَلَيْسَتْ لِلنَّفْيِ، وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِتْنَةً أَنْ تُصِيبَ، وَعَنِ الزُّبَيْرِ: لَتُصِيبَنَّ وَخَرَّجَ الْمُبَرِّدُ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ قِرَاءَةَ لَا تُصِيبَنَّ عَلَى أَنْ تَكُونَ نَاهِيَةً.

وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّقُوا فِتْنَةً وَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ ثُمَّ ابْتُدِئَ نَهْيُ الظَّلَمَةِ خَاصَّةً عَنِ التَّعَرُّضِ لِلظُّلْمِ فَتُصِيبُهُمُ الْفِتْنَةُ خَاصَّةً وَأُخْرِجَ النَّهْيُ عَلَى جِهَةِ إِسْنَادِهِ لِلْفِتْنَةِ فَهُوَ نَهْيٌ مُحَوَّلٌ كَمَا قَالُوا لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا أَيْ لَا تَكُنْ هُنَا فَيَقَعَ مِنِّي رُؤْيَتُكَ وَالْمُرَادُ هُنَا لَا يَتَعَرَّضُ الظَّالِمُ لِلْفِتْنَةِ فَتَقَعَ إِصَابَتُهَا لَهُ خَاصَّةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْوَجْهِ وَإِذَا كَانَتْ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَاحْذَرُوا ذَنْبًا أَوْ عِقَابًا ثُمَّ قِيلَ لَا تَتَعَرَّضُوا لِلظُّلْمِ فَيُصِيبَ الْعِقَابُ أَوْ أَثَرُ الذَّنْبِ مَنْ ظَلَمَ مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَا تُصِيبَنَّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ انْتَهَى وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ اسْتِبْعَادُ دُخُولِ نُونِ التَّوْكِيدِ فِي الْمَنْفِيِّ بِلَا وَاعْتِيَاضُ تَقْرِيرِهِ نَهْيًا فَعَدَلَ إِلَى جَعْلِهِ دُعَاءً فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَا أَصَابَتِ الْفِتْنَةُ الظَّالِمِينَ خَاصَّةً وَاسْتَلْزَمَتِ الدُّعَاءَ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِينَ فَصَارَ التَّقْدِيرُ لَا أَصَابَتْ ظَالِمًا وَلَا غَيْرَ ظَالِمٍ فَكَأَنَّهُ وَاتَّقُوا فِتْنَةً، لَا أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَحَدٍ، فَتُلَخَّصَ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ أَقْوَالُ الدُّعَاءِ وَالنَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ وَجَوَابُ أَمْرٍ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ وَصِفَةٌ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ تَدْخُلَ النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، (قُلْتُ) : لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمَنِّي إِذَا قُلْتَ انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحْكَ فَلِذَلِكَ جَازَ لَا تَطْرَحَنَّكَ وَلَا تُصِيبَنَّ وَلَا يَحْطِمَنَّكُمُ انْتَهَى، وَإِذَا قُلْتَ لَا تَطْرَحْكَ وَجَعَلْتَهُ جَوَابًا لِقَوْلِكَ انْزِلْ وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ بَلْ نَفْيٌ مَحْضٌ جَوَابُ الْأَمْرِ نُفِيَ بِلَا وَجَزَمَهُ عَلَى الْجَوَابِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي

ص: 305

جَوَابِ الْأَمْرِ وَالسِّتَّةُ مَعَهُ هَلْ ثَمَّ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْفِيُّ بِلَا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ النُّونُ لِلتَّوْكِيدِ لَمْ يَجُزِ انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، (قُلْتُ) : التَّبْعِيضُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالتَّبْيِينُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا تُصِيبُكُمْ خَاصَّةً عَلَى ظُلْمِكُمْ لِأَنَّ الظُّلْمَ مِنْكُمْ أَقْبَحُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ انْتَهَى، وَيَعْنِي بِالْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا بَعْدَ أَمْرٍ وَبِالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَهْيًا بَعْدَ أَمْرٍ وَخَاصَّةً أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ محذوف أي إصابة خَاصَّةٌ وَهِيَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي لَا تُصِيبَنَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيْ مَخْصُوصِينَ بِهَا بَلْ تَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أن تكون خَاصَّةً حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي ظَلَمُوا وَلَا أَتَعَقَّلُ هَذَا الْوَجْهَ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً إِذْ فِيهِ حَثٌّ عَلَى لُزُومِ الِاسْتِقَامَةِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ لَا يُقَالُ كَيْفَ يُوصِلُ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ الْفِتْنَةَ وَالْعَذَابَ لِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ، (قُلْتُ) : لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ كَمَا قَدْ يُنْزِلُ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ بِعَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَيَحْسُنُ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ اشْتِمَالَ ذَلِكَ عَلَى مَزِيدِ ثَوَابٍ لِمَنْ أُوقِعَ بِهِ ذَلِكَ.

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ بَدْرٍ، فَقِيلَ خِطَابٌ لِلْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً كَانُوا بِمَكَّةَ قَلِيلِي الْعَدَدِ مَقْهُورِينَ فِيهَا يَخَافُونَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَآوَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَأَيَّدَهُمْ بِالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ والطَّيِّباتِ الْغَنَائِمُ وَمَا فُتِحَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَهِيَ حَالُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ والطَّيِّباتِ الْغَنَائِمُ وَالنَّاسُ عَسْكَرُ مَكَّةَ وَسَائِرُ الْقَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ وَالتَّأْيِيدُ هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالتَّغَلُّبُ عَلَى الْعَدَدِ، وَقَالَ وَهْبٌ وَقَتَادَةُ الْخِطَابُ لِلْعَرَبِ قَاطِبَةً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَعْرَى النَّاسِ أَجْسَامًا وَأَجْوَعَهُمْ بُطُونًا وَأَقَلَّهُمْ حَالًا حَسَنَةً وَالنَّاسُ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالْمَأْوَى النُّبُوَّةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالتَّأْيِيدُ بِالنَّصْرِ فَتْحُ الْبِلَادِ وَغَلَبَةُ الْمُلُوكِ والطَّيِّباتِ تَعُمُّ الْمَآكِلَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يَرُدُّهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَافِرَةً إِلَّا الْقَلِيلَ وَلَمْ تَتَرَتَّبِ الْأَحْوَالُ الَّتِي ذَكَرَ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَاطِبَ الْعَرَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ زَمَانِ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنْ تَمَثَّلَ أَحَدٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِحَالِ الْعَرَبِ فَتَمْثِيلُهُ صَحِيحٌ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَةُ الْعَرَبِ هِيَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ فَبَعِيدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْدِيلٌ لِنِعَمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ

ص: 306

أَنْتُمْ

نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لا ذكروا ظَرْفٌ أَيِ اذْكُرُوا وَقْتَ كَوْنِكُمْ أَقِلَّةً أَذِلَّةً انْتَهَى، وَفِيهِ التَّصَرُّفُ فِي إِذْ بِنَصْبِهَا مُفْعُولَةً وَهِيَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا تَتَصَرَّفُ إِلَّا بِأَنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا الْأَزْمَانُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإِذْ ظَرْفٌ لِمَعْمُولِ واذْكُرُوا تَقْدِيرُهُ وَاذْكُرُوا حَالَكُمُ الْكَائِنَةَ أَوِ الثَّابِتَةَ إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذْ ظرفا لا ذكر وَإِنَّمَا تُعْمَلُ اذْكُرْ فِي إِذْ لَوْ قَدَّرْنَاهَا مَفْعُولَةً انْتَهَى، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ إِذْ أَنْتُمْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرُوا انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى أَصْلًا لِأَنَّ اذْكُرْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ ظَرْفُهُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا وَإِذْ ظَرْفٌ مَاضٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْمُسْتَقْبَلُ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَآواكُمْ وَمَا بَعْدَهُ أَيْ فَعَلَ هَذَا الْإِحْسَانَ لِإِرَادَةِ الشُّكْرِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَنْصَحَتْهُ قُرَيْظَةُ لَمَّا أَتَى الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتٍ وَأَرِيحَا كَفِعْلِهِ بِبَنِي النَّضِيرِ فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ إِلَى حَلْقِهِ أَيْ لَيْسَ عِنْدَ الرَّسُولِ إِلَّا الذَّبْحُ فَكَانَتْ هَذِهِ خِيَانَتَهُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ

، وَقَالَ جَابِرٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَتَبَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وقال الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُشْبِهُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِالْآيَةِ فِي قَتْلِهِ فَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ خِيَانَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْأَمَانَاتِ انْتَهَى، وَقِيلَ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِخُرُوجِ الرسول صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا، وَقِيلَ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ فَيُفْشُونَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُشْرِكِينَ وَخِيَانَتُهُمُ اللَّهَ فِي عَدَمِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي سِرٍّ وَخِيَانَةُ الرَّسُولِ فِيمَا اسْتَحْفَظَ وَخِيَانَةُ الْأَمَانَاتِ إِسْقَاطُهَا وَعَدَمُ الِاعْتِبَارِ بِهَا، وَقِيلَ وتَخُونُوا ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَبِعَةَ ذَلِكَ وَوَبَالَهُ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ لَكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخِيَانَةِ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الذَّنْبِ يَكُونُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، وَقِيلَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْخِيَانَةَ تُوجَدُ مِنْكُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ لَا عَنْ سَهْوٍ، وَقِيلَ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ تَعْلَمُونَ قُبْحَ الْقَبِيحِ وَحُسْنَ الْحَسَنِ وَجَوَّزُوا فِي وَتَخُونُوا أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى لَا تَخُونُوا وَمَنْصُوبًا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ وَكَوْنُهُ مَجْزُومًا هُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّ النَّصْبَ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ وَالْجَزْمُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ أَمَانَتَكُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو.

وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

أَيْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ وَهِيَ الْإِثْمُ أَوِ الْعَذَابُ أَوْ مِحْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لَكُمْ وَكَيْفَ تُحَافِظُونَ عَلَى حُدُودِهِ فِيهَا فَفِي

ص: 307

كَوْنِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنْ لَا يُفْتَنَ الْمَرْءُ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ فَيُؤْثِرَ مَحَبَّتَهُ لَهُمَا عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ فَيَجْمَعَ الْمَالَ وَيُحِبَّ الْوَلَدَ حَتَّى يُؤْثِرَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ لِأَجْلِ كَوْنِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ كَانُوا عِنْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فُرْقَانًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. مَخْرَجًا، وَقَرَأَ مَالِكٌ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» وَالْمَعْنَى مَخْرَجًا فِي الدِّينِ مِنَ الضَّلَالِ، وَقَالَ مِزْرَدُ بْنُ ضِرَارٍ:

بَادَرَ الْأُفْقَ أَنْ يَغِيبَ فَلَمَّا

أَظْلَمَ اللَّيْلُ لَمْ يَجِدْ فرقانا

وقال الآخر:

مالك مِنْ طُولِ الْأَسَى فُرْقَانُ

بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَكَيْفَ أُرَجِّي الْخُلْدَ وَالْمَوْتُ طَالِبِي

وَمَا لِيَ مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ فُرْقَانُ

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: نَجَاةً، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فَتْحًا وَنَصْرًا وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ يُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ وَالْكُفَّارَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرْقًا بَيْنَ حَقِّكُمْ وَبَاطِلِ مَنْ يُنَازِعُكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ عَلَيْهِمْ وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرٌ مِنْ فَرَقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ حَالَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصْرًا لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ بِإِذْلَالِ حِزْبِهِ وَالْإِسْلَامِ بِإِعْزَازِ أَهْلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ الْفُرْقانِ «2» أَوْ بَيَانًا وَظُهُورًا يَشْهَدُ أَمْرَكُمْ وَيُثَبِّتُ صِيتَكُمْ وَآثَارَكُمْ فِي أَقْطَارِ الأرض بِتُّ أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى سَطَعَ الْفُرْقَانُ أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ مَخْرَجًا مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَوْفِيقًا وَشَرْحًا لِلصُّدُورِ أَوْ تَفْرِقَةً بَيْنِكُمْ وَبَيْنَ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَفَضْلًا وَمَزِيَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى، وَلَفْظُ فُرْقاناً مُطْلَقٌ فَيَصْلُحُ لِمَا يَقَعُ بِهِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالتَّقْوَى هُنَا إِنْ كَانَتْ مِنِ اتِّقَاءِ الْكَبَائِرِ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ الصَّغَائِرُ لِيَتَغَايَرَ الشَّرْطُ وَالْجَوَازُ وَتَكْفِيرُهَا فِي الدُّنْيَا وَمَغْفِرَتُهَا إِزَالَتُهَا فِي الْقِيَامَةِ وَتَغَايَرَ الظَّرْفَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فِي الْبَقَرَةِ.

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ

(1) سورة الطلاق: 65/ 2.

(2)

سورة الأنفال: 8/ 41.

ص: 308

وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ

لَمَّا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ ذَكَّرَهُ صلى الله عليه وسلم نِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ تَشَاوَرُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ بِمَا تَفْعَلُ بِهِ فَمِنْ قَائِلٍ: يُحْبَسُ وَيُقَيَّدُ وَيُتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبُ الْمَنُونِ وَمِنْ قَائِلٍ: يُخْرَجُ مِنْ مَكَّةَ تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وَتَصَوَّرَ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ وَقِيلَ هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ وَمِنْ قَائِلٍ: يَجْتَمِعُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ وَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِأَسْيَافِهِمْ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَلَا تَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ لِمُحَارَبَةِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا فَيَرْضَوْنَ بِأَخْذِ الدِّيَةِ فَصَوَّبَ إِبْلِيسُ هَذَا الرَّأْيَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ وَأَذِنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ وَيَتَّشِحَ بِبُرْدَتِهِ وَبَاتُوا رَاصِدِينَ فَبَادَرُوا إِلَى الْمَضْجَعِ فَأَبْصَرُوا عَلِيًّا فَبُهِتُوا وَخَلَّفَ عَلِيًّا لِيَرُدَّ وَدَائِعَ كَانَتْ عِنْدَهُ وَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لِيُثْبِتُوكَ أَيْ يُقَيِّدُوكَ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: لِيُثْخِنُوكَ بِالْجَرْحِ وَالضَّرْبِ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبُوهُ حَتَّى أَثْبَتُوهُ لَا حَرَاكَ بِهِ وَلَا بَرَاحَ وَرَمَى الطَّائِرَ فَأَثْبَتَهُ أَيْ أَثْخَنَهُ.

قَالَ الشَّاعِرُ:

فَقُلْتُ وَيْحَكَ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكُمْ

قَالَ الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعَا

أَيْ مُثْخَنًا. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ لِيُبَيِّتُوكَ مِنَ الْبَيَاتِ وَهَذَا الْمَكْرُ هُنَا هُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ كَسَائِرِ السُّورَةِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ عَقِيبَ كِفَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى قِصَّةِ الْآيَةِ إِلَى وَقْتِ نُزُولِهَا وَتَكَرَّرَ وَيَمْكُرُونَ إِخْبَارًا بِاسْتِمْرَارِ مَكْرِهِمْ وَكَثْرَتِهِ وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلِ بَاقِي الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ.

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا. قَائِلُ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَاتَّبَعَهُ قَائِلُونَ كَثِيرُونَ وَكَانَ مِنْ مَرَدَةِ قُرَيْشٍ سَافَرَ إِلَى فَارِسَ وَالْحِيرَةِ وَسَمِعَ مِنْ قَصَصِ الرُّهْبَانِ وَالْأَنَاجِيلِ وَأَخْبَارِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ وَيَرَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبْرًا بِالصَّفْرَاءِ بِالْأَثِيلِ مِنْهَا مُنْصَرَفَهُ مِنْ بَدْرٍ، وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ جَوَازُ وُقُوعِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ إِذَا وَجَوَابُهُ الْمَاضِي جَوَازًا فَصِيحًا بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ نَحْوَ:

مَنْ يَكِدْنِي بِشَيْءٍ كُنْتُ مِنْهُ وَمَعْنَى قَدْ سَمِعْنا قَدْ سَمِعْنَا وَلَا نُطِيعُ أَوْ قَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ هَذَا وَقَوْلُهُمْ لَوْ نَشاءُ أَيْ لَوْ نَشَاءُ الْقَوْلَ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ وَذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الْمَتْلُوِّ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَهْتِ

ص: 309

وَالْمُصَادَمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ فَقَدْ طُولِبُوا بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا وَكَانَ أَصْعَبَ شَيْءٍ إِلَيْهِمُ الْغَلَبَةُ وَخُصُوصًا فِي بَابِ الْبَيَانِ فَقَدْ كَانُوا يَتَمَالَطُونَ وَيَتَعَارَضُونَ وَيُحْكَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى قَهْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يُحِيلُونَ الْمُعَارَضَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا لَقَالُوا مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ.

إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْأَنْعَامِ.

وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قَائِلُ ذَلِكَ النَّضْرُ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ:

قَائِلُ ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ إِنْ كانَ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم من التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ أَوْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قُرَيْشٍ أَقْوَالٌ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّهُمَّ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هُوَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ جَعَلُوا هُوَ فَصْلًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالرَّفْعِ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَرْفَعُونَ بَعْدَ هُوَ الَّتِي هِيَ فَصْلٌ فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ:

وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالْمَلَا أَنْتَ أَقْدَرُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَصْلِ وَفَائِدَتِهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ رَفْعُ الْحَقَّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَذَا الْجَائِزِ، وَقِرَاءَةُ النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ بِنَصْبِ الْحَقَّ انْتَهَى، وَقَدْ ذُكِرَ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي إِنْكَارِ الْحَقِّ عَظِيمَةٌ أَيْ إِنْ كَانَ حَقًّا فَعَاقِبْنَا عَلَى إِنْكَارِهِ بِإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْنَا أَمْ بِعَذَابٍ آخَرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُرَادُهُ نَفْيُ كَوْنِهِ حَقًّا فَإِذَا انْتَفَى كَوْنُهُ حَقًّا لَمْ يَسْتَوْجِبْ مُنْكِرُهُ عَذَابًا فَكَانَ تَعْلِيقُ الْعَذَابِ بِكَوْنِهِ حَقًّا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ كَتَعْلِيقِهِ بِالْمُحَالِ فِي قَوْلِهِ إِنْ كَانَ الْبَاطِلُ حَقًّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِّ وَقَوْلُهُ هُوَ الْحَقَّ تَهَكُّمٌ بِمَنْ يَقُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْيِينِ هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَيُقَالُ أَمْطَرَتْ كَأَنْجَمَتْ وَأَسْبَلَتْ وَمَطَرَتْ كَهَتَفَتْ وَكَثُرَ الْأَمْطَارُ فِي مَعْنَى الْعَذَابِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ مِنَ السَّماءِ وَالْأَمْطَارُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهَا، (قُلْتُ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا السِّجِّيلَ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُسَوَّمَةُ لِلْعَذَابِ مَوْضِعُ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ مَوْضِعُ السِّجِّيلِ، كَمَا يُقَالُ صَبَّ عَلَيْهِ مَسْرُودَةً مِنْ حَدِيدٍ يُرِيدُ دِرْعًا انْتَهَى، وَمَعْنَى جَوَابِهِ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السَّماءِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ حَدِيدٍ مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ لِأَنَّ الْمَسْرُودَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ حَدِيدٍ كَمَا أَنَّ الْأَمْطَارَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُمْ مِنَ السَّماءِ مُبَالَغَةٌ وَإِغْرَاقٌ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ

ص: 310

حِكْمَةَ قَوْلِهِمْ مِنَ السَّماءِ هِيَ مُقَابَلَتُهُمْ مَجِيءَ الْأَمْطَارِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ جِهَتِهَا أَيْ إِنَّكَ تَذْكُرُ أَنَّهُ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ فَأْتِنَا بِعَذَابٍ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يَأْتِيكَ مِنْهَا الْوَحْيُ إِذْ كَانَ يَحْسُنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ إِرْسَالِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ السَّمَاءِ بِقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً، وَقَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِاعْتِقَادِ أن ما أتي به لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقِيلَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ وَاسْتَبْعَدَ هَذَا الثَّانِيَ ابْنُ فُورَكٍ قَالَ: وَلَا يَقُولُ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ عَاقِلٌ انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» وَقِصَّةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:

فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» ،

وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ: «وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»

أَوْ كَلَامٌ يُقَارِبُهُ وَاقْتِرَاحُهُمْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هُوَ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ اقْتِرَاحُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَسَأَلَ يَهُودِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِمَّنْ أَنْتَ قَالَ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَنْتَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ، فَهَلَّا قَالُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَنْتَ يَا إِسْرَائِيلِيٌّ مِنَ الَّذِينَ لَمْ تَجِفَّ أَرْجُلُهُمْ مِنْ بَلَلِ الْبَحْرِ الَّذِي أُغْرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ حَتَّى قَالُوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «3» فَأَطْرَقَ الْيَهُودِيُّ مُفْحَمًا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ سَبَأٍ مَا أَجْهَلَ قَوْمَكَ حِينَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ امْرَأَةً فَقَالَ أَجْهَلُ مِنْ قَوْمِي قَوْمُكَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُولُوا: فَاهْدِنَا لَهُ.

وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ إِلَى يَعْلَمُونَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ حِكَايَةً عَمَّا حَصَلَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: الْجُمْلَةُ الْأُولَى بِمَكَّةَ إِثْرَ قَوْلِهِ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، وَالثَّالِثَةُ بَعْدَ بَدْرٍ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا عَلَّقُوا إِمْطَارَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْإِتْيَانَ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَيْنُونَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم حَقًّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّو الْعَذَابِ لَكِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إِكْرَامًا لَهُ وَجَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى مَعَ مُكَذِّبِي أَنْبِيَائِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْبِيَاؤُهُمْ مُقِيمُونَ فِيهِمْ عَذَابًا يَسْتَأْصِلُهُمْ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ تُعَذَّبْ أُمَّةٌ قَطُّ وَنَبِيُّهَا فِيهَا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُتَأَوِّلِينَ فَالْمَعْنَى فَمَا كَانَتْ لِتُعَذَّبَ أُمَّتُكَ وَأَنْتَ فِيهِمْ بَلْ كَرَامَتُكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَعْظَمُ وَقَالَ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «4» وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ لَا يعذّبهم والرسول فيهما

(1) سورة النمل: 27/ 14. [.....]

(2)

سورة البقرة: 2/ 89.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 138.

(4)

سورة الأنبياء: 21/ 107.

ص: 311

وَلَمَّا كَانَ الْإِمْطَارُ لِلْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْعَذَابِ كَانَ النَّفْيُ مُتَسَلِّطًا عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي إِمْطَارُ الْحِجَارَةِ نَوْعٌ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ولم يجىء التَّرْكِيبُ، وَمَا كَانَ اللَّهُ ليمطر أوليائي بِعَذَابٍ وَتَقْيِيدُ نَفْيِ الْعَذَابِ بِكَيْنُونَةِ الرَّسُولِ فِيهِمْ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَفَارَقَهُمْ عَذَّبَهُمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ إِكْرَامًا لَهُ مَعَ كَوْنِهِمْ بِصَدَدِ مَنْ يُعَذَّبُ لِتَكْذِيبِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٍ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى، وَبِفَتْحِ اللَّامِ فِي لِيُعَذِّبَهُمْ قَرَأَ أَبُو السَّمَالِ، وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو بِالْفَتْحِ فِي لَامِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ «1» ، وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ كُلَّ لَامٍ إِلَّا فِي نَحْوِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ انْتَهَى، يَعْنِي لَامَ الْجَرِّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الظَّاهِرِ أَوْ عَلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالظَّرْفِيَّةُ فِي فِيهِمْ مَجَازٌ وَالْمَعْنَى: وَأَنْتَ مُقِيمٌ بينهم غير راجل عَنْهُمْ.

وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. انْظُرْ إِلَى حُسْنِ مَسَاقِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لَمَّا كَانَتْ كَيْنُونَتُهُ فِيهِمْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ تَعْذِيبِهِمْ أَكَّدَ خَبَرَ كَانَ بِاللَّامِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ جَعَلَ خَبَرَ كَانَ الْإِرَادَةَ الْمَنْفِيَّةَ عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ لِلْعَذَابِ أَبْلَغُ مِنِ انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُهُمْ دُونَ تِلْكَ الْكَيْنُونَةِ الشَّرِيفَةِ لَمْ يُؤَكِّدْ بِاللَّامِ بَلْ جَاءَ خَبَرُ كانَ قَوْلُهُ مُعَذِّبَهُمْ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ اسْتِغْفَارِهِمْ وَكَيْنُونَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي الْجُمَلِ عَائِدَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبْزَى وَأَبُو مَالِكٍ وَالضَّحَّاكُ مَا مُقْتَضَاهُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ مُعَذِّبَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَقُوا بَعْدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رُدَّ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَا مُقْتَضَاهُ إِنَّ الضَّمِيرَيْنِ عَائِدَانِ عَلَى الْكُفَّارِ وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ غُفْرَانَكَ وَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ فَجَعَلَهُ اللَّهُ أَمَنَةً مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا تَرَكَّبَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَمَنَتَيْنِ كَوْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّاسِ وَالِاسْتِغْفَارَ فَارْتَفَعَتِ الْوَاحِدَةُ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُسْلِمَ وَيَسْتَغْفِرَ فَالْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ الكفار ومنهم من

(1) سورة عبس: 80/ 24.

ص: 312

يَسْتَغْفِرُ وَيُؤْمِنُ فِي ثَانِي حَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ وَذَرِّيَّتُهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَيُؤْمِنُونَ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِمْ إِذْ ذُرِّيَّتُهُمْ مِنْهُمْ وَالِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ:

مَعْنَى يَسْتَغْفِرُونَ يُصَلُّونَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: يُسْلِمُونَ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَنَّهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ أَيْ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَلَا يُعَذَّبُونَ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ فِيهِمْ فَلَا يُعَذَّبُونَ فَكِلَا الْحَالَيْنِ مَوْجُودٌ كَوْنُ الرَّسُولِ فِيهِمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الِاسْتِغْفَارِ عَنْهُمْ أَيْ وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنَ الْكُفْرِ لَمَا عَذَّبَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «1» وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ وَلَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يُتَوَقَّعُ ذَلِكَ منهم انتهى، وما قال تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمَعْنَى وَهُمْ بِحَالِ تَوْبَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ مِنْ كُفْرِهِمْ أَنْ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ.

وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ لَهُمْ فِي انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ أَيْ كَيْفَ لَا يُعَذَّبُونَ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَهِيَ صَدُّهُمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَيْسُوا بِوُلَاةِ الْبَيْتِ وَلَا مُتَأَهِّلِينَ لِوِلَايَتِهِ وَمِنْ صَدِّهِمْ مَا فَعَلُوا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِخْرَاجُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلٌ فِي الصَّدِّ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ نَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ زَائِدَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَرَفَعَ تَعْذِيبَهُمُ انْتَهَى، فَكَانَ يَكُونُ الْفِعْلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ «2» وَمَوْضِعُ أَنْ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ عَلَى الخلاف إذ حذف منه وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ لَهُمْ فِي أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَالْمَعْنَى لَا حَظَّ لَهُمْ فِي انْتِفَاءِ الْعَذَابِ وَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ فَهُمْ مُعَذَّبُونَ وَلَا بُدَّ وَتَقْدِيرُ الطَّبَرِيِّ وَمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذَّبُوا هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تفسير إِعْرَابٍ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا قُدْرَتُهُمْ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ مُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي أَوْلِياءَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِقُرْبِهِ وَصِحَّةِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ مَا لِلنَّفْيِ فَيَكُونُ إِخْبَارًا أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أَيْ ليس ينتفي العذاب عنم مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي أَوْلِياءَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ أَيْ وَمَا اسْتَحَقُّوا أَنْ يَكُونُوا ولاة أمره

(1) سورة هود: 11/ 17.

(2)

سورة المائدة: 5/ 84.

ص: 313

إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أَيِ الْمُتَّقُونَ لِلشِّرْكِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا الْمُتَّقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَلِيَ أَمْرَهُ إِنَّمَا يَسْتَأْهِلُ وِلَايَتَهُ مَنْ كَانَ بَرًّا تَقِيًّا فَكَيْفَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ انْتَهَى؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ مَعْطُوفًا عَلَى وَهُمْ يَصُدُّونَ فَيَكُونُ حَالًا وَالْمَعْنَى كَيْفَ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ صَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَانْتِفَاءِ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ أَيْ أَوْلِيَاءَ الْمَسْجِدِ أَيْ لَيْسُوا وُلَاتَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصُدُّوا عَنْهُ أَوْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَهُمْ كُفَّارٌ فَيَكُونُ قَدِ ارْتَقَى مِنْ حَالٍ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهَا وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ فَمَنْ كَانَ صَادًّا عَنِ الْمَسْجِدِ كَافِرًا بِاللَّهِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّعْذِيبِ وَالضَّمِيرُ فِي إِنْ أَوْلِياؤُهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّعْذِيبِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ امْتَنَعَ بِشَيْئَيْنِ كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ وَاسْتِغْفَارِ مَنْ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بِالْهِجْرَةِ وَقَعَ بِالْبَاقِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ وَقَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا التَّعْذِيبُ غَيْرُ ذَلِكَ فَالْأَوَّلُ: اسْتِئْصَالُ كُلِّهِمْ فَلَمْ يَقَعْ لِمَا عَلِمَ مِنْ إِسْلَامِ بَعْضِهِمْ وَإِسْلَامِ بَعْضِ ذَرَارِيهِمْ، وَالثَّانِي: قَتْلُ بَعْضِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوَّلُ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ لِاسْتِغْفَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ وَمُتَعَلِّقُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ بَلْ يظنون أنهم أولياؤه الظاهر اسْتِدْرَاكُ الْأَكْثَرِ فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَفِي خِلَالِهِمْ مَنْ جَنَحَ إِلَى الْإِيمَانِ فَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ الصَّادِّينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ الْبَيْتِ أَوْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَيْ أَكْثَرَ الْمُقِيمِينَ بِمَكَّةَ لَا يَعْلَمُونَ لِتُخْرِجَ مِنْهُمُ الْعَبَّاسَ وَأُمَّ الْفَضْلِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ إِذْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُهُ وَهُوَ يُعَانِدُ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ أَوْ أُرِيدَ بِالْأَكْثَرِ الْجَمِيعُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَمَا قِيلَ: قَلَّمَا رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ الْمَحْضِ وَإِبْقَاءُ الْأَكْثَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى وَكَوْنُهُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمِيعُ هُوَ تَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ.

وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.

لَمَّا نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا وُلَاةَ الْبَيْتِ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِمُ الْقَبِيحِ مَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَا ذَكَرَ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَهُ فَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ صَلَاتِهِمْ هُوَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ وَضَعُوا مَكَانَ الصَّلَاةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ التَّصْفِيرَ وَالتَّصْفِيقَ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً، رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ مُشَبِّكِينَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا قَرَأَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَخْلِطُونَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ كَانَتْ عُقُوبَتُكَ عُزْلَتَكَ أَيِ الْقَائِمُ مَقَامَ الْعُقُوبَةِ هُوَ الْعَزْلُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

ص: 314

وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ

أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُدَحْرَجَةً سُمْرَا

أَقَامَ مَقَامَ الْعَطَاءِ الْقُيُودَ وَالسِّيَاطَ كَمَا أَقَامُوا مَقَامَ الصَّلَاةِ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَا نَفَى تَعَالَى وَلَايَتَهُمْ لِلْبَيْتِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَرِضَ مُعْتَرِضٌ بِأَنْ يَقُولَ كَيْفَ لَا نَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ وَنَحْنُ نَسْكُنُهُ وَنُصَلِّي عِنْدَهُ فَقَطَعَ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، وَما كانَ صَلاتُهُمْ إِلَّا المكاء والتصدية كما يقال الرَّجُلُ: أَنَا أَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا فِعْلُكَ الْخَيْرَ إِلَّا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ وَتَقْتُلَ أَيْ هَذِهِ عَادَتُكَ وَغَايَتُكَ قَالَ: وَالَّذِي مَرَّ بِي مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِ مَا دِيوَانٍ أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ كَانَا مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ قَدِيمًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ وَالتَّشَرُّعِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَقْوِيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُ كَانَ يَمْكُو عَلَى الصَّفَا فَيُسْمَعُ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ تَعْيِيرُهُمْ وَتَنْقِيصُهُمْ بِأَنَّ شَرْعَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ رَهْبَةً وَلَا رَغْبَةً إِنَّمَا كَانَتْ مُكاءً وَتَصْدِيَةً مِنْ نَوْعِ اللَّعِبِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَيَّدُونَ فِيهَا وَقْتَ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَشْغَلُوهُ وَأَمَتَّهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا الْمُكَاءُ إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَالتَّصْدِيَةُ الصَّفِيرُ وَالصَّفِيرُ بِالْفَمِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ فِي الْفَمِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ يُشَارِكُ الْأَنْفُ يُرِيدُونَ أَنْ يَشْغَلُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: التَّصْدِيَةُ صَدُّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِنَّ صَلَاتَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ غَيْرُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ ثَوَابًا إلا كما يجيب الصدا الصَّائِحَ فَتَلَخَّصَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَتَعَبُّدٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا جَدْوَى لَهَا وَلَا ثَوَابَ فَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا أَصْوَاتُ الصَّدَا حَيْثُ لَهَا حَقِيقَةٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ لَكِنَّهُمْ أَقَامُوا مَقَامَهَا الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ،

وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا هِيَ الطَّوَافُ وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً

، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا صَلاتُهُمْ بِالنَّصْبِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً بِالرَّفْعِ وَخَطَّأَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِجَعْلِ الْمَعْرِفَةِ خَبَرًا وَالنَّكِرَةِ اسْمًا قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ كَقَوْلِهِ:

يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ وَخَرَّجَهَا أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ اسْمُ جِنْسٍ وَاسْمُ الْجِنْسِ تَعْرِيفُهُ وَتَنْكِيرُهُ وَاحِدٌ انْتَهَى، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ نَسْلَخُ صِفَةً لِلَّيْلِ فِي قَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» وَيَسُبُّنِي صِفَةً لِلَّئِيمِ في قوله:

(1) سورة يس: 36/ 37.

ص: 315

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يسبني وقرأ أبو عمر وفيما رُوِيَ عَنْهُ إِلَّا مُكًا بِالْقَصْرِ مُنَوَّنًا فَمَنْ مَدَّ فَكَالثُّغَاءِ وَالرُّغَاءِ وَمَنْ قَصَرَ فَكَالْبُكَا فِي لُغَةِ مَنْ قَصَرَ وَالْعَذَابُ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ «1» ، قِيلَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ هُوَ قَتْلُهُمْ وَأَخْذُ غَنَائِمِهِمْ بِبَدْرٍ وَأَسْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ وَلَا بُدَّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْكُلَّ بَعْدَ بَدْرٍ حِكَايَةٌ عَنْ مَاضٍ وَكَوْنُ عَذَابِهِمْ بِالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ هُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ جُرَيْجٍ.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبَّهٌ ابنا حجّاج وأبو البختري بْنُ هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ يُطْعِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَ جَزَائِرَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبْزَى: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ يُقَاتِلُ بِهِمُ النبي صلى الله عليه وسلم سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ، وَفِيهِمْ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:

فَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطُهُ

أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ

ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ بَقِيَّةُ

ثَلَاثِ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ

وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَنْفَقَ عَلَى الْأَحَابِيشِ وَغَيْرِهِمْ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي نَفَقَةِ الْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ إِلَى بَدْرٍ كَانُوا يَنْحَرُونَ يَوْمًا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَيَوْمًا تِسْعًا وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالِهِ لَمَّا رَجَعَ فُلُّ قُرَيْشٍ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَدْرٍ وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِهِ كَلَّمَ أَبْنَاءُ مَنْ أُصِيبَ بِبَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَتُجَّارُ الْعِيرِ فِي الْإِعَانَةِ بِالْمَالِ الَّذِي سُلِّمَ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ ثَأْرًا لِمَنْ أُصِيبَ فَفَعَلُوا فَنَزَلَتْ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حبان وَعَاصِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ وَالْحَصِينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذكر مَنْ شَرَحَ أَحْوَالَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ صَلَاتُهُمْ شَرَحَ حَالَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ وَهِيَ إِنْفَاقُهُمْ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْكُفَّارِ بِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ لَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ سَبَبُهُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذَا الْعُمُومِ وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالسَّبَبُ خَاصًّا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْصِدُونَ بِنَفَقَتِهِمُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وغلبة

(1) سورة آل عمران: 3/ 106 وغيرها.

ص: 316

الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَكْسُ مَا قَصَدُوا وَهُوَ تَنَدُّمُهُمْ وَتَحَسُّرُهُمْ عَلَى ذَهَابِ أموالهم ثم غلبتهم الْآخِرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ فَسَيُنْفِقُونَها إِلَى آخِرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَكُونُ قَبْلَ كَوْنِهِ ثُمَّ كَانَ كَمَا أَخْبَرَ وَالْإِخْبَارُ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ يَدُلُّ عَلَى إِنْفَاقٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَبَدْرٍ وَأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنْ عُلُوِّ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَةِ أَهْلِهِ، وَكَذَا وَقَعَ فَتَحُوا الْبِلَادَ وَدَوَّخُوا الْعِبَادَ وَمَلَأَ الْإِسْلَامُ مُعْظَمَ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَاتَّسَعَتْ هَذِهِ الْمِلَّةُ اتِّسَاعًا لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنَ الْمِلَلِ السَّابِقَةِ.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ هَذَا إِخْبَارٌ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ إِذْ أَخْبَرَ بِمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَسْرَتِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مَغْلُوبِينَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ وَأَعَادَ الظَّاهِرَ لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَامُ لِيَمِيزَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يُحْشَرُونَ، والْخَبِيثَ والطَّيِّبِ وَصْفَانِ يَصْلُحَانِ لِلْآدَمِيِّينَ وَلِلْمَالِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَنَحْوُهُ، قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ قَالَا: أَرَادَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَحْرِيرَهُ لِيَمِيزَ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرِيقَ الْخَبِيثَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْفَرِيقِ الطَّيِّبِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَعْنَى جَعْلِ الْخَبِيثِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَرَكْمِهِ ضَمُّهُ وَجَمْعُهُ حَتَّى لَا يُفْلِتَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَاحْتَمَلَ الْجَعْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّصْيِيرِ وَمِنْ بَابِ الْإِلْقَاءِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِتَأْخِيرِ عَذَابِ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَسْتَخْرِجَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْلَابِ الْكُفَّارِ انْتَهَى، فَعَلَى مَا سَبَقَ يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِي الْآخِرَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَأَوَّلَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ وَالزَّجَّاجُ: الْمَعْنِيُّ بِالْخَبِيثِ الْمَالُ الَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَالِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا الْمُنْفَقِ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ فِي الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والطَّيِّبِ هُوَ مَا أَنْفَقَهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَالِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَامُ لِيَمِيزَ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يُغْلَبُونَ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَالْمَعْنَى لِيَمِيزَ اللَّهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخَبِيثَ والطَّيِّبِ فيخذل أهل الخبث وَيَنْصُرَ أَهْلَ الطَّيِّبِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ مِنْ

ص: 317

جُمْلَةِ مَا يُعَذَّبُونَ بِهِ كَقَوْلِهِ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «1» قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقِيلَ الْخَبِيثُ مَا أُنْفِقَ فِي الْمَعَاصِي وَالطَّيِّبُ مَا أُنْفِقَ فِي الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ الْمَالُ الْحَرَامُ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ، وَقِيلَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ مِنَ الَّذِي أدّيت زكاته، وقل هُوَ عَامٌّ فِي الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَرَكْمُهَا خَتْمُهَا وَجَعْلُهَا قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِ عُمَّالِهَا فِي النَّارِ وَلِكَثْرَتِهَا جَعَلَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِالْخَبِيثِ الْأَمْوَالَ الَّتِي أَنْفَقُوهَا فِي حَرْبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ:

الْفَائِدَةُ فِي إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَزِيزَةً فِي أَنْفُسِهَا عَظِيمَةً بَيْنَهُمْ أَلْقَاهَا اللَّهُ فِي النَّارِ ليريهم هو أنها كَمَا تُلْقَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي النَّارِ لِيَرَى مَنْ عَبَدَهُمَا ذُلَّهُمَا وَصَغَارَهُمَا وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِالْخَبِيثِ الْكُفَّارُ وَبِالطَّيِّبِ الْمُؤْمِنُونَ إِذِ الْكُفَّارُ أُولَاهُمُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ، وَقَوْلِهِ فَسَيُنْفِقُونَها وبقوله ثم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ وَأُخْرَاهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَلَمَّا كَانَ تَغَلُّبُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ يَرْجُو بِذَلِكَ حُصُولَ الرِّبْحِ لَهُ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا فِي إِنْفَاقِهِمْ وَأَخْفَقَتْ صَفْقَتُهُمْ حَيْثُ بَذَلَ أَعَزَّ مَا عِنْدَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا خُسْرَانَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي قِرَاءَةِ لِيَمِيزَ فِي قَوْلِهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «2» وَيُقَالَ مَيَّزْتُهُ فَتَمَيَّزَ وَمَيَّزْتُهُ فَانْمَازَ حَكَاهُ يَعْقُوبُ، وَفِي الشَّاذِّ وَانْمَازُوا الْيَوْمَ وَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

لَمَّا ثَنَى اللَّهُ عَنِّي شَرَّ عُذْرَتِهِ

وَانْمَزْتُ لا منسأ ذعرا وَلَا رَجُلَا

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَجَعْلِهِمْ فِيهَا وَخُسْرِهِمْ تَلَطَّفَ بِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِذَا انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَآمَنُوا غُفِرَتْ لَهُمْ ذُنُوبُهُمُ السَّالِفَةُ وَلَيْسَ ثَمَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِانْتِهَاءِ عَنْهُ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ سِوَى الْكُفْرِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَعْنَى إِنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّبْلِيغِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ أَلْفَاظُ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَسَوَاءٌ قَالَهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَمْ غَيْرِهَا، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ اللَّامَ لَامَ الْعِلَّةِ، فَقَالَ: أَيْ قُلْ لِأَجْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ إِنْ يَنْتَهُوا ولو كان بمعنى خاطبتهم بِهِ لَقِيلَ إِنْ تَنْتَهُوا نَغْفِرْ لَكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوُهُ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «3» خَاطَبُوا بِهِ غيرهم ليسمعوه انتهى، وقرىء يُغْفَرْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالضَّمِيرُ لله تعالى.

(1) سورة التوبة: 9/ 35.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 179.

(3)

سورة الأحقاف: 46/ 11.

ص: 318