المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ تَعَدَّتِ اتَّخَذَ هنا المفعولين، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ حُذَيْفَةُ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَحَرَّمُوهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيِّ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْجُدُونَ لَهُمْ كَمَا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، وَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَجَازًا. وَقِيلَ: عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحُلُولَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَجَلَّى فِي بَوَاطِنِهِمْ فَيَسْجُدُونَ لَهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّ فِيهِمْ وَتَجَلَّى فِي سَرَائِرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً. وَمَذْهَبُ الْحُلُولِ فَشَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرًا، وَقَالُوا بِالِاتِّحَادِ. وَأَكْثَرُ مَا فَشَا فِي مَشَائِخِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ فِي وَقْتِنَا هَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَكَابِرُ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أَنَّهُ كَانَ فَاشِيًا فِي زَمَانِهِ، حَكَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَرْوَزِيِّينَ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ عَبِيدِي، وإذا خلا ببعض الحمقا مِنْ أَتْبَاعِهِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ انْتَهَى! وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ، وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا الْمُحَدِّثُ الْمُتَصَوِّفُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَسْطَلَانِيُّ كِتَابًا فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ، فَذَكَرَ فِيهِمُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّوْذِيَّ كَانَ بِتِلْمِسَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَهَّانٍ عُرِفَ بِابْنِ الْمَرْأَةِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحلى المتأمر بلورقة، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْفَارِضِ، وَعَبْدَ الْحَقِّ بْنَ سَبْعِينَ، وَأَبَا الْحَسَنِ الشَّشْتُرِيَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنَ مُطَرِّفٍ الْأَعْمَى مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَحْلَى، وَالصُّفَيْفِيرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَالْعَفِيفَ التِّلْمِسَانِيَّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا المذهب. وقال السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَحْمَرِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ الصُّفَيْفِيرَ بِغَرْنَاطَةَ وَأَنَابَهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ الْعَفِيفَ الْكُوفِيَّ وَأَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ يَتَكَتَّمُ هذا المذهب.

وكان بو عَبْدِ اللَّهِ الْأَيْكِيُّ شَيْخُ خَانْكَاهْ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ مُخَالِطًا لَهُ خُلْطَةً كَثِيرَةً، وَكَانَ مُتَهَمًا بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَخَرَجَ التِّلْمِسَانِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ. وَأَمَّا مُلُوكُ العبيدتين بِالْمَغْرِبِ وَمِصْرَ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، وَأَوَّلُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ

ص: 404

الْمُتَلَقِّبُ بِالْمَهْدِيِّ، وَآخِرُهُمْ سُلَيْمَانُ الْمُتَلَقِّبُ بِالْعَاضِدِ. وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ عُبَّادُ النَّصَارَى الَّذِينَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَانْقَطَعُوا عَنِ الْخَلْقِ فِي الصَّوَامِعِ. أَخْبَرَ عَنِ الْمَجْمُوعِ، وعاد كل مَا يُنَاسِبُهُ. أَيْ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ، وَالنَّصَارَى رُهْبَانَهُمْ. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَطْفٌ عَلَى رُهْبَانَهُمْ.

وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي اتَّخَذُوا، أَيْ: أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ:

فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَعَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ وَالنُّصُوصِ فِي الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ عليه السلام، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.

وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَّخِذِينَ أَرْبَابًا أَيْ: وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَيُوَحِّدُوهُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَابًا وَهُمْ مَأْمُورُونَ مُسْتَعْبَدُونَ؟ وَفِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الشِّرْكِ عَلَى الْيَهُودِ والنصارى.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ حَالِهِمْ فِي طَلَبِهِمْ أَنْ يُبْطِلُوا نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْذِيبِ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْفُخَ فِي نُورٍ عَظِيمٍ مُنْبَثٍّ فِي الْآفَاقِ، وَنُورُ اللَّهِ هُدَاهُ الصَّادِرُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ الْمُنْبَثِّ، فَمِنْ حَيْثُ سَمَّاهُ نُورًا سَمَّى مُحَاوَلَةَ إِفْسَادِهِ إِطْفَاءً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: النُّورُ الْقُرْآنُ وَكَنَّى بِالْأَفْوَاهِ عَنْ قِلَّةِ حِيلَتِهِمْ وَضِعْفِهَا. أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَمْرًا جَسِيمًا بِسَعْيٍ ضَعِيفٍ، فَكَانَ الْإِطْفَاءُ بِنَفْخِ الْأَفْوَاهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَقْوَالٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَا تَتَجَاوَزُ الْأَفْوَاهَ إِلَى فَهْمِ سَامِعٍ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ الْإِطْفَاءِ الْأَفْوَاهَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا مَقْرُونًا بِالْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسُنِ إِلَّا وَهُوَ زُورٌ، وَمَجِيءُ إِلَّا بَعْدَ وَيَأْبَى يَدُلُّ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُوجَبٌ، وَالْمُوجَبُ لَا تَدَخُلَ مَعَهُ إِلَّا، لَا تَقُولُ كَرِهْتُ إِلَّا زَيْدًا. وَتَقْدِيرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: جَازَ هَذَا فِي أَبَى، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَامْتِنَاعٌ، فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَى أَبَى هُنَا لَا يَرْضَى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بِدَوَامِ دِينِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: دَخَلَتْ إِلَّا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَجْرَى أَبَى مَجْرًى لَمْ يَرِدْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قُوبِلَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ، وَكَيْفَ أُوقِعَ مَوْقِعَ وَلَا يُرِيدُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؟

ص: 405

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، والهدى التَّوْحِيدُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ بَيَانُ الْفَرَائِضِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.

ودين الْحَقِّ: الْإِسْلَامِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِيُظْهِرَهُ عائد على الرسول لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، وَالدِّينُ هُنَا جِنْسٌ أَيْ: لِيُعْلِيَهُ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهِمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. فَهُوَ صلى الله عليه وسلم غَلَبَتْ أُمَّتُهُ الْيَهُودَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَغَلَبُوا النَّصَارَى عَلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى نَاحِيَةِ الرُّومِ وَالْمَغْرِبِ، وَغَلَبُوا الْمَجُوسَ عَلَى مُلْكِهِمْ، وَغَلَبُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا يَلِي التُّرْكَ وَالْهِنْدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُطْلِعُهُ عَلَى شَرَائِعَ الدِّينِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالدِّينُ هُنَا شَرْعُهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم على الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الدِّينِ،

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَاقِرُ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِظْهَارُ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَرُجُوعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ دِينٌ آخَرُ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لِيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا وَأَظْهَرُهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَانَ دُونَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى، بَلْ كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بَاقٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَدَّى الْخَرَاجَ. وَقِيلَ:

مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مَا أَبْقَى فِيهَا أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ:

مَخْصُوصٌ بِقُرْبِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا أَوَّلَ الْأَمْرِ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ: رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا انْقَطَعَتِ الرِّحْلَتَانِ لِمُبَايَنَةِ الدِّينِ وَالدَّارِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَالْمَعْنَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فِي بِلَادِ الرِّحْلَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ.

وَفِي الحديث: «رويت لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلِذَلِكَ اتَّسَعَ مَجَالُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَمْ يَتَّسِعْ فِي الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَلَا سِيَّمَا اتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي زَمَانِنَا، فَقَلَّ مَا بَقِيَ فِيهِ كَافِرٌ، بَلْ أَسْلَمَ مُعْظَمُ التُّرْكِ التَّتَارِ وَالْخَطَا،

(1) سورة آل عمران: 3/ 19.

ص: 406