الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنفال
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)
النَّفْلُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ وَسُمِّيَتِ الْغَنِيمَةُ بِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِحِمَايَةِ الْحَوْزَةِ قَالَ لَبِيَدٌ:
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ
…
وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ
أَيْ خَيْرُ غَنِيمَةٍ وَقَالَ غَيْرُهُ:
إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الوغاء ذوي الغنى
…
وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ
الْوَجَلُ: الْفَزَعُ. الشَّوْكَةُ قَالَ الْمُبَرِّدُ السِّلَاحُ وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّوْكِ النَّبْتُ الَّذِي لَهُ خَرْبَشَةٌ السِّلَاحُ بِهِ يُقَالُ رَجُلٌ شَاكِي السِّلَاحِ إِذَا كَانَ حَدِيدَ السِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَأَصْلُهُ شَائِكُ وَهُوَ اسْمُ فعل مِنَ الشَّوْكَةِ قَالَ:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ
…
لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّاكِي وَالشَّائِكُ جَمِيعًا ذُو الشَّوْكَةِ وَانْجَرَّ فِي سِلَاحِهِ وَيُوصَفُ بِهِ السِّلَاحُ كَمَا يُوصَفُ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ:
وَأَلْبَسُ مِنْ رِضَاهُ فِي طَرِيقِي
…
سِلَاحًا يَذْعَرُ الْأَبْطَالَ شَاكَا
وَيُقَالُ: رَجُلٌ شَاكٍ وَسِلَاحٌ شَاكٍ وَشَاكٍ فَشَاكٍ أَصْلُهُ شَوْكٌ نَحْوَ كَبْشٌ صَافٍ أَيْ صُوفٌ وَشَاكٍ إِمَّا مَحْذُوفَةٌ أَوْ مَقْلُوبٌ وَإِيضَاحُ هَذَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَالنَّصْرِ غَوَثَ الرَّجُلُ قَالَ وواغوثاه وَالِاسْمُ الْغَوْثُ وَالْغِوَاثُ وَالْغَوَاثُ. وَقِيلَ الِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ سُرِّ الْخَلَّةِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ الِاسْتِجَارَةُ. رَدَفَ وَأَرْدَفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَبِعَ وَيُقَالُ أَرْدَفْتُهُ إِيَّاهُ أَيِ اتَّبَعْتَهُ.
الْعُنُقُ معروف وجعه فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَعْنَاقٍ وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى عُنُوقٍ. الْبَنَانُ الْأَصَابِعُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ بَنَانَةُ وَقَالُوا فِيهِ الْبَنَامُ بِالْمِيمِ بَدَلَ النُّونِ قَالَ رُؤْبَةُ:
يَا سَالَ ذَاتَ الْمَنْطِقِ التِّمْتَامِ
…
وكفك المخضّب البنام
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا سَبْعَ
آيَاتٍ أَوَّلُهَا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ غَيْرَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ وَقَعَتْ بِمَكَّةَ وَيُمْكِنُ أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَأَمْرِ غَنَائِمِهِ وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا فِي تَعْيِينِ مَا كَانَ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمُلَخَّصُهَا: أَنَّ نُفُوسَ أَهْلِ بَدْرٍ تَنَافَرَتْ وَوَقَعَ فِيهَا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ مِنْ إِرَادَةِ الْأَثَرَةِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي مَنْ أَبْلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَنَزَلَتْ وَرَضِيَ الْمُسْلِمُونَ وَسَلَّمُوا وَأَصْلَحَ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي الْغَنَائِمَ مُجْمَلَةً قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنَ اللَّهِ لِدَفْعِ الشَّغَبِ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ «2» الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ لَا نَسْخَ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ الْغَنَائِمَ لِلَّهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِلْكُهُ وَرِزْقُهُ وَلِلرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَيِّنٌ لِحُكْمِ اللَّهِ وَالْمُضَارِعُ فِيهَا لِيَقَعَ التَّسْلِيمُ فِيهَا مِنَ النَّاسِ وَحُكْمُ الْقِسْمَةِ قَاتِلٌ خِلَالَ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ سَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَالْحَسَنُ: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ الْخُمُسُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ أَيْضًا: الْأَنْفالِ فِي الْآيَةِ مَا شَذَّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَالْفَرَسِ الْغَائِرِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَهُوَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْأَنْفَالُ فِي الْآيَةِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ مُخَالَفَةٌ لِمَا تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ النُّزُولِ الْمَرْوِيَّةُ وَالْجَيِّدُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَنْفالِ الْأَسْرَى وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ وَقَدْ طَوَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ فِي أَحْكَامٍ مَا يَنْقُلُهُ الْإِمَامُ وَحُكْمِ السَّلْبِ وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ كُتُبِ الْفِقْهِ وضمير الفاعل في يَسْئَلُونَكَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ إِنَّمَا يُفَسِّرُهُ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَأَنَّ السَّائِلَ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالسُّؤَالُ قَدْ يَكُونُ لِاقْتِضَاءِ مَعْنًى في نفس المسئول فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ بِعْنَ كَمَا قَالَ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ «3» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «4» وَكَذَا
(1) سورة الأنفال: 8/ 30.
(2)
سورة الأنفال: 8/ 41.
(3)
سورة الأعراف: 7/ 187.
(4)
سورة البقرة: 2/ 217.
هنا يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ حُكْمِهَا وَلِمَنْ تَكُونُ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ لِاقْتِضَاءِ مَالٍ وَنَحْوِهِ فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِمَفْعُولَيْنِ تَقُولُ سَأَلْتُ زِيَادًا مَالًا وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى وَادَّعَى زِيَادَةَ عَنِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ يَسْأَلُونَكَ الْأَنْفَالَ، وَهَذَا لَا ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ،
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِإِسْقَاطِ عَنْ عَلَى إِرَادَتِهَا لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مُرَادٌ مَعْنًى، أَسْهَلُ مِنْ زِيَادَتِهِ لِغَيْرِ مَعْنًى غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ سعد بن أبي وقاص وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَوَلَدَيْهِ زَيْدٍ وَمُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ وَوَلَدِهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ
وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وَقِيلَ عَنِ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ يَسْأَلُونَكَ مِنَ الْأَنْفَالِ وَلَا ضَرُورَةَ تدعوا إِلَى تَضْمِينِ الْحَرْفِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَنْفَالِ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ وَاعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ الْمُعَارِضَةِ فَأَدْغَمَ نَحْوَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ.
وَمَعْنَى قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لَيْسَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَا فُوِّضَ إِلَى أَحَدٍ بَلْ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ لِلَّهِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ وَلِلرَّسُولِ حَيْثُ هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ الْأَحْكَامَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَزُولَ عَنْهُمُ التَّخَاصُمُ وَيَصِيرُوا مُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مُبَايَنَةٌ وَمُبَاعَدَةٌ رُبَّمَا خِيفَ أَنْ تُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى فَسَادِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمُعَافَاةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذاتَ فِي قَوْلِهِ بِذاتِ الصُّدُورِ «1» ، وَالْبَيْنُ هُنَا الْفِرَاقُ والتباعد وذاتَ هُنَا نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَأَصْلِحُوا أَحْوَالًا ذاتَ افْتِرَاقِكُمْ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْوَالُ مُلَابِسَةً لِلْبَيْنِ أُضِيفَتْ صِفَتُهَا إِلَيْهِ كَمَا تَقُولُ اسْقِنِي ذَا إِنَائِكَ أَيْ مَاءُ صاحب إنائك لما لا بس الْمَاءُ الْإِنَاءَ وُصِفَ بِذَا وَأُضِيفَ إِلَى الْإِنَاءِ وَالْمَعْنَى اسْقِنِي مَا فِي الْإِنَاءِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذاتَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ بَيْنِكُمْ هُوَ مَعْنَى يَعُمُّ جَمِيعَ الْوَصْلِ وَالِالْتِحَامَاتِ وَالْمَوَدَّاتِ وَذَاتَ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِصْلَاحِهَا أَيْ نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ فَحَضَّ اللَّهُ عَلَى إِصْلَاحِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ حَصَلَ إِصْلَاحُ مَا يَعُمُّهَا وَهُوَ الْبَيْنُ الَّذِي لَهُمْ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ الذَّاتِ عَلَى أَنَّهَا لَزِيمَةُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسَهُ وَعَيْنَهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2» وذاتِ الشَّوْكَةِ وَيُحْتَمَلُ ذَاتُ الْبَيْنِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ وَقَدْ يُقَالُ الذَّاتُ أَيْضًا بِمَعْنًى آخَرَ وَإِنْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُمْ فَعَلْتُ كَذَا ذَاتَ يَوْمٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ
…
ذَاتَ الْعِشَاءِ وَلَا تسري أفاعيها
(1) سورة آل عمران: 3/ 119 وغيرها.
(2)
سورة المائدة: 5/ 7 وغيرها.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ ذاتَ بَيْنِكُمْ الْحَالَ الَّتِي بَيْنَكُمْ كَمَا ذَاتَ الْعِشَاءِ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا الْعِشَاءُ وَوَجَّهَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ بَيِّنُ الِانْتِقَاضِ انْتَهَى وَتَلَخَّصَ أَنَّ الْبَيْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِرَاقِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ هُنَا قَالَ وَمِثْلُهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» وَيَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنَى وَسَطَ، وَيُحْتَمَلُ ذاتَ أَنْ تُضَافَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا فِي أَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِرَاقِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ أَشْهَرُ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْوَصْلِ وَلِأَنَّ إِضَافَةَ ذَاتٍ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ إِضَافَةِ ذَاتٍ إِلَى بَيْنٍ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَثِيرَةَ التَّصَرُّفِ بَلْ تَصَرُّفُهَا كَتَصَرُّفِ أَمَامٍ وَخَلْفٍ وَهُوَ تَصَرُّفٌ مُتَوَسِّطٌ لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَأَمَرَ تَعَالَى أَوَّلًا بِالتَّقْوَى لِأَنَّهَا أَصْلٌ لِلطَّاعَاتِ ثُمَّ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ نَتَائِجِ التَّقْوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تَشَاجَرُوا فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ كُنْتُمْ كَامِلِي الْإِيمَانِ، وَتَسَنَّنَ هَنَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَاضْطَرَبَ فَقَالَ: وَقَدْ جَعَلَ التَّقْوَى وَإِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَطَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوَفُّرِ عَلَيْهَا وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ كَامِلِي الْإِيمَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا أَيْ إِنْ كَنْتَ كَامِلَ الرُّجُولِيَّةِ، قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَطِيعُوا هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ مُتَأَخِّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَطِيعُوا وَمَذْهَبُهُ فِي هَذَا أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَلَى الشَّرْطِ انْتَهَى. والذي مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النُّحَاةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ جَوَازُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ وَهَذَا النَّقْلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ قرىء وَجِلَتْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ لُغَةٌ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَرِقَتْ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ فَزِعَتْ وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى التَّفْسِيرِ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أَيِ الْكَامِلُو الْإِيمَانِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَوْصُولٍ وُصِلَ بِثَلَاثِ مَقَامَاتٍ عَظِيمَةٍ مَقَامِ الْخَوْفِ، وَمَقَامِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِنْ يُذْكَرِ اسْمُهُ وَيُلْفَظْ بِهِ تَفْزَعْ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِهِ اسْتِعْظَامًا لَهُ وَتَهَيُّبًا وَإِجْلَالًا وَيَكُونُ هَذَا الذِّكْرُ مُخَالِفًا لِلذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «2» لأنّ
(1) سورة الأنعام: 6/ 94.
(2)
سورة الزمر: 39/ 23. [.....]
ذِكْرَ اللَّهِ هُنَاكَ رَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَثَوَابُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذُكِرَ اللَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذُكِرَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَا خَوَّفَ بِهِ مَنْ عَصَاهُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَفْزَعُ عَنْهَا
وَفِي الْحَدِيثِ فِي السَّبْعِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةُ ذَاتُ جِمَالٍ وَمَنْصِبٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»
، وَمَعْنَى زادَتْهُمْ إِيماناً أَيْ يَقِينًا وَتَثْبِيتًا لِأَنَّ تَظَاهُرَ الْأَدِلَّةِ وَتَظَافُرَهَا أَقْوَى عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَأَرْسَخُ لِقَدَمِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْمَعْ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ زَادَ إِيمَانًا إِلَى سَائِرِ مَا قَدْ آمَنَ بِهِ إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَبَّرَ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ عَنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ. وَقِيلَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ كِنَايَةٌ عَنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ لِلْإِيمَانِ سُنَّةً وَفَرَائِضَ وَشَرَائِعَ فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَقِيلَ هَذَا فِي الظَّالِمِ يُوعَظُ فَيُقَالُ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَيُقْلِعُ فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ إيمانا والظهر أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دَاخِلٌ فِي صِلَةِ الَّذِينَ كَمَا قُلْنَا قَبْلُ، وَقِيلَ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ فَبَدَأَ بِمَقَامِ الْخَوْفِ إِمَّا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَإِمَّا خَوْفُ الْعِقَابِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْإِيمَانِ بِالتَّكَالِيفِ الْوَارِدَةِ، ثُمَّ ثَالِثًا بِالتَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَرُخْصِ مَا سِوَاهُ.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صِفَةً لِلَّذِينَ السَّابِقَةِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَيِّزِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِثَلَاثٍ الصِّفَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَعَنْهُمْ بِالصِّفَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالصِّفَةِ الْمَالِيَّةِ وَجَمَعَ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ وَجَمَعَ فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ لأنهما عمود أَفْعَالٍ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَالتَّبْرِيزِيُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هُمُ الَّذِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلِهِ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عَامٌّ فِي الزَّكَاةِ وَنَوَافِلِ الصَّدَقَاتِ وَصِلَاتِ الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَبَارِّ الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ خَصَّ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِالزَّكَاةِ لِاقْتِرَانِهَا بِالصَّلَاةِ.
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ غَيْرُ الْمُنْتَقِلِ وَالْعَامِلُ فِيهِ أَحَقَّ ذَلِكَ حَقًّا انْتَهَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنَ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ وَأَنَّهُ لَا مَجَازَ فِي ذَلِكَ الْإِسْنَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَقًّا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا حَقًّا وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ قَالَ: الْإِيمَانُ إيمانان فإن كانت تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لَا أَدْرِي أَمِنْهُمْ أَنَا أَمْ لَا وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ ثَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَّ حَقًّا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ أَيْ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ وَهَذَا لِأَنَّ انْتِصَابَ حَقًّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَنْ تَمَامِ جُمْلَةِ الِابْتِدَاءِ بِمَكَانِ التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لَمَّا تَقَدَّمَتْ ثَلَاثُ صِفَاتٍ قَلْبِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ فَقُوبِلَتِ الْأَعْمَالُ الْقَلْبِيَّةُ بِالدَّرَجَاتِ، وَالْبَدَنِيَّةُ بِالْغُفْرَانِ،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مَا يَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرَ الْوَطْءِ، فَسَأَلَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ أَصَلَّيْتَ مَعَنَا فَقَالَ نعم فقال له:«1» وَقُوبِلَتِ الْمَالِيَّةُ بِالرِّزْقِ بِالْكَرِيمِ
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ بَدِيعِ عِلْمِ الْبَيَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ الْمُرَادَ مَرَاتِبُ الْجَنَّةِ وَمَنَازِلُهَا وَدَرَجَاتُهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا دَرَجَاتُ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُرِيدُ بِهِ مَآكِلَ الْجَنَّةِ وَمَشَارِبَهَا وكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي رَفْعَ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ ثَوْبٌ كِرِيمٌ وَحَسَبٌ كَرِيمٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ دَرَجَاتُ شَرَفٍ وَكَرَامَةٌ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ وَمَغْفِرَةٌ وَتَجَاوُزٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ يَعْنِي مَنَافِعَ حَسَنَةً دَائِمَةً عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَهَذَا مَعْنَى الثَّوَابِ انْتَهَى. وَقَالَ عَطَاءٌ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ يَرْتَقُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حِصْنُ الْفَرَسِ الْمُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً وَقِيلَ مَرَاتِبُ وَمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ أهل الجنة ليتراؤون أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا يَتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ»
وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ الدَّرَجَاتُ حَقِيقَةً وَعَنْ مُجَاهِدٍ دَرَجَاتُ أَعْمَالٍ رَفِيعَةٌ.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَاخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا. أَحَدُهَا أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى وَاوِ الْقَسَمِ وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي وَاقِعَةٌ عَلَى ذِي الْعِلْمِ وَهُوَ اللَّهُ كَمَا وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «2» وَجَوَابُ الْقَسَمِ يُجادِلُونَكَ، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ الَّذِي أَخْرَجَكَ من
(1) هكذا بياض بعموم الأصول التي وقفنا عليها وليحرر اه مصحح.
(2)
سورة الليل: 92/ 3.
بَيْتِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَانَ ضَعِيفًا فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ هَذَا سَهْوٌ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْكَافُ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ بِالْمُضَارِعِ الْمُثْبَتِ جَاءَ بِغَيْرِ لَامٍ وَلَا نُونِ تَوْكِيدٍ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ مِنْ مُعَاقَبَةِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْكَافَ بِمَعْنَى إِذْ وَمَا زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ إِذْ أَخْرَجَكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى إِذْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا تُزَادُ بَعْدَ هَذَا غَيْرَ الشَّرْطِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَا تُزَادُ مَا ادُّعِيَ أَنَّهُ بِمَعْنَاهَا، الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْكَافُ بِمَعْنَى عَلَى وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي تَقْدِيرُهُ امْضِ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْكَافَ تَكُونُ بِمَعْنَى عَلَى وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَوْصُولُ إِلَى عَائِدٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ قَالَ عِكْرِمَةُ: التَّقْدِيرُ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا أَخْرَجَكَ فِي الطَّاعَةِ خَيْرٌ لَكُمْ كَمَا كَانَ إِخْرَاجُكَ خَيْرًا لَهُمُ، الْقَوْلُ الْخَامِسُ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَذَلِكَ يُجَادِلُونَكَ فِي قِتَالِ كُفَّارِ مَكَّةَ وَيَوَدُّونَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَفْعَلُ مَا أُمِرْتَ بِهِ لَا مَا يُرِيدُونَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ مُجَادَلَةً لِكَرَاهَتِهِمْ إِخْرَاجَ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ فَالْمُجَادَلَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَثَابَةِ الْكَرَاهَةِ وَكَذَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ في المعنى وقائل هذا الْمَقَالَةِ يَقُولُ إِنَّ الْمُجَادِلِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ إِنْ كَرِهُوا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْعِبَارَةُ بِقَوْلِهِ امْضِ لِأَمْرِكَ وَنَفِّلْ مَنْ شِئْتَ غَيْرُ مُحَرَّرَةٍ وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدِي أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْكَافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي هِيَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بِالْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَنْفَالِ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ النَّفْلِ وَتَشَاجَرُوا فَأَخْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَكَانَتْ هَذِهِ الْخِيَرَةُ كَمَا كَرِهُوا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ انْبِعَاثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ اللَّهُ مِنْ بَيْتِهِ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ وَتَشَاجُرُهُمْ فِي النَّفْلِ بِمَثَابَةِ كَرَاهِيَتِهِمْ هَاهُنَا الْخُرُوجَ، وَحُكْمَ اللَّهِ فِي النَّفْلِ بِأَنَّهُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَهُوَ بِمَثَابَةِ إِخْرَاجِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِهِ ثُمَّ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي الْقِصَّتَيْنِ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يُجادِلُونَكَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ أَيْ يُجَادِلُونَكَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ يُجَادِلُونَكَ فِي الْكُفَّارِ مَنْصُوصٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَانَ قَوْلَانِ مُطَّرِدَانِ يَتِمُّ بِهِمَا الْمَعْنَى وَيَحْسُنُ وَصْفُ اللَّفْظِ انْتَهَى. وَنَعْنِي بِالْقَوْلَيْنِ قَوْلَ الْفَرَّاءِ وَقَوْلَ الْكِسَائِيِّ وَقَدْ كَثُرَ الْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ وَلَا يَظْهَرَانِ وَلَا يَلْتَئِمَانِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةِ الْعَاطِفِ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ قَالَ الْأَخْفَشُ: الْكَافُ نَعْتٌ لِحَقًّا وَالتَّقْدِيرُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَمَا زَادَ لَا يَتَنَاسَقُ.
الْقَوْلُ الثَّامِنُ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالتَّقْدِيرُ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فَاتَّقُوا اللَّهَ كَأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْمَعْنَى وَضَعَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ وَلَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْآيَةِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ.
الْقَوْلُ التَّاسِعُ قَالَ الزَّجَّاجُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالتَّقْدِيرُ الْأَنْفَالُ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ ثَبَاتًا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَهَذَا الْفِعْلُ أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَحَسَّنَهُ. فَقَالَ يَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ فِي قَوْلِهِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيِ الْأَنْفَالُ اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَثَبَتَتْ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ ثَبَاتًا مِثْلَ ثَبَاتِ إِخْرَاجِ ربك إياك من بيتك وَهُمْ كَارِهُونَ انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ كَبِيرُ مَعْنًى لِتَشْبِيهِ هَذَا بِهَذَا بَلْ لَوْ كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّشْبِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ.
الْقَوْلُ الْعَاشِرُ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَالتَّقْدِيرُ لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هَذَا وَعْدُ حَقٍّ كَما أَخْرَجَكَ وَهَذَا فِي حَذْفِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَلْتَئِمِ التَّشْبِيهُ وَلَمْ يَحْسُنِ.
الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْضًا وَالْمَعْنَى وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ كَما أَخْرَجَكَ فَالْكَافُ نَعْتٌ لِخَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ حَذْفٌ وَطُولٌ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَأَصْلِحُوا وَبَيْنَ كَما أَخْرَجَكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ أَنَّهُ شَبَّهَ كَرَاهِيَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ تَحَقَّقُوا خُرُوجَ قُرَيْشٍ لِلدَّفْعِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَحِفْظِ غَيْرِهِ بِكَرَاهِيَتِهِمْ نَزْعَ الْغَنَائِمِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَجَعْلَهَا لِلرَّسُولِ أَوِ التَّنْفِيلَ مِنْهَا وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَحَسَّنَهُ فَقَالَ: يَرْتَفِعُ مَحَلُّ الْكَافِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا الْحَالُ كَحَالِ إِخْرَاجِكَ يَعْنِي أَنَّ حَالَهُمْ فِي كَرَاهَةِ مَا رَأَيْتَ مِنْ تَنْفِيلِ الْقِرَاءَةِ مِثْلَ حَالِهِمْ فِي كَرَاهَةِ خُرُوجِهِمْ لِلْحَرْبِ وَهَذَا النَّهْيُ قَالَهُ
هَذَا الْقَائِلُ وَحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَ الْفَرَّاءِ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْكَافُ شَبَّهَتْ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي هِيَ إِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْتِهِ بِالْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ سُؤَالُهُمْ عَنِ الْأَنْفَالِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ الْمَعْنَى قِسْمَتُكَ لِلْغَنَائِمِ حَقٌّ كَمَا كَانَ خُرُوجُكَ حَقًّا.
الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ بَيْنَ إِخْرَاجَيْنِ أَيْ إِخْرَاجُكَ رَبُّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ وَهُوَ مَكَّةُ وَأَنْتَ كَارِهٌ لِخُرُوجِكَ وَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالنَّصْرَ وَالظَّفَرَ كَإِخْرَاجِ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ كَارِهٌ يَكُونُ عَقِيبُ ذَلِكَ الظَّفَرَ وَالنَّصْرَ.
الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ كَمَا وَجَّهْتُكَ إِلَى أَعْدَائِي فَاسْتَضْعَفُوكَ وَسَأَلْتَ مَدَدًا فَأَمْدَدْتُكَ وَقَوَّيْتُكَ وَأَزَحْتُ عِلَلَكَ فَخُذْهُمُ الْآنَ فَعَاقِبْهُمْ بكذا وكم كَسَوْتُكَ وَأَجْرَيْتُ عَلَيْكَ الرِّزْقَ فَاعْمَلْ كَذَا وَكَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ مَا شَكَرْتَنِي عَلَيْهِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَغَشَّاكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ يَعْنِي بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ مَعَهُ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةً مُرْدِفِينَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَزَحْتُ عِلَلَكُمْ وَأَمْدَدْتُكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فَاضْرِبُوا مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَهُوَ الْقَتْلُ لِتَبْلُغُوا مُرَادَ اللَّهِ فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْقَوْلِ الطَّوِيلِ أَنَّ كَما أَخْرَجَكَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَاضْرِبُوا وَفِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَالْبُعْدِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ وَقَدِ انْتَهَى ذِكْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي وَقَفْنَا عَلَيْهَا.
وَمَنْ دَفَعَ إِلَى حَوْكِ الْكَلَامِ وَتَقَلَّبَ فِي إِنْشَاءِ أَفَانِينِهِ وَزَاوَلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ لَمْ يَسْتَحْسِنْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ قَائِلِهَا لَهُ إِمَامَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَرُسُوخُ قَدَمٍ لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَطْ بِلَفْظِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي طَبْعِهِ صَوْغُهُ أَحْسَنَ صَوْغٍ وَلَا التَّصَرُّفُ فِي النَّظَرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَمَا بِهِ يَظْهَرُ الْإِعْجَازُ. وَقَبْلَ تَسْطِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُنَا وَقَعْتُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فَلَمْ يَلْقَ لِخَاطِرِي مِنْهَا شَيْءٌ فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنَّنِي أَمْشِي فِي رَصِيفٍ وَمَعِي رَجُلٌ أُبَاحِثُهُ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فَقُلْتُ لَهُ مَا مَرَّ بِي شَيْءٌ مُشْكِلٌ مِثْلُ هَذَا وَلَعَلَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى وَمَا وَقَفْتُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى شَيْءٍ طَائِلٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ظَهَرَ لِيَ السَّاعَةَ تَخْرِيجُهُ وَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ هُوَ نَصَرَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ أَنَا وَذَلِكَ الرَّجُلُ هَذَا التَّخْرِيجَ ثُمَّ انْتَبَهْتُ مِنَ النَّوْمِ وَأَنَا أَذْكُرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِسَبَبِ إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ شَرِيعَتِهِ وَقَدْ كَرِهُوا خُرُوجَكَ تَهَيُّبًا لِلْقِتَالِ وَخَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ إِذْ كَانَ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخُرُوجِهِمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْخُرُوجِ
وَجَادَلُوكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وَأَمَدَّكَ بِمَلَائِكَتِهِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ الْكَلَامُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ الْآيَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْكَافَ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ الْمَنَامِيِّ لَيْسَتْ لِمَحْضِ التَّشْبِيهِ بَلْ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُحْدِثُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَخَرَّجُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «1» وَأَنْشَدُوا:
لَا تَشْتُمُ النَّاسَ كَمَا لَا تُشْتَمِ أَيْ لِانْتِفَاءِ أَنْ يَشْتُمَكَ النَّاسُ لَا تَشْتُمْهُمْ وَمِنَ الْكَلَامِ الشَّائِعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تُطِيعُ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَيْ لِأَجْلِ طَاعَتِكَ اللَّهَ يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ فَكَانَ الْمَعْنَى إِنْ خَرَجْتَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَقَتْلِ أَعْدَائِهِ نَصَرَكَ اللَّهُ وَأَمَدَّكَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْوَاوُ فِي وَإِنَّ فَرِيقاً وَاوُ الْحَالِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ بَيْتِكَ هُوَ مَقَامُ سُكْنَاهُ وَقِيلَ الْمَدِينَةُ لِأَنَّهَا مُهَاجَرُهُ وَمُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَقِيلَ مَكَّةُ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ فَصَرْفُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَمَفْعُولُ لَكارِهُونَ هُوَ الْخُرُوجُ أَيْ لَكَارِهُونَ الْخُرُوجَ مَعَكَ وَكَرَاهَتُهُمْ ذَلِكَ إِمَّا لِنَفْرَةِ الطَّبْعِ أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا أَوِ الْعُدُولُ مِنَ الْعِيرِ إِلَى النَّفِيرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَلِمَا فِي هَذَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، أَوْ لِتَرْكِ مَكَّةَ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الرَّفْعِ فِي يُجادِلُونَكَ عَائِدٌ عَلَى فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ وَجِدَالُهُمْ قَوْلُهُمْ مَا كَانَ خُرُوجُنَا إِلَّا لِلْعِيرِ وَلَوْ عَرَفْنَا لَاسْتَعْدَدْنَا لِلْقِتَالِ وَالْحَقُّ هُنَا نُصْرَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَجِدَالُهُمْ فِي الْحَقِّ هُوَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بُعْدَ مَا بَيَّنَ بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ إِنْكَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ مَنْ جَادَلَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَتَّضِحْ كَانَ أَخَفَّ عَتْبًا أَمَّا مَنْ نَازَعَ فِي أَمْرٍ وَاضِحٍ فَهُوَ جَدِيرٌ بِاللَّوْمِ وَالْإِنْكَارِ ثُمَّ شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي فَرْطِ فَزَعِهِمْ وَهُمْ يُسَارُ بِهِمْ إِلَى الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ بِحَالِ مَنْ يُسَاقُ عَلَى الصَّفَا إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ مُشَاهِدٌ لِأَسْبَابِهِ نَاظِرٌ إِلَيْهَا لَا يَشُكُّ فِيهَا، وَقِيلَ كَانَ خَوْفُهُمْ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً، وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسَانِ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي نَحْوِ أَلْفِ رَجُلٍ وَقِصَّةُ بَدْرٍ هَذِهِ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَقَدْ لَخَّصَ مِنْهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كتابيهما.
(1) سورة البقرة: 2/ 198.
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ وَالطَّائِفَتَانِ هُمَا كطائفة غير قُرَيْشٍ وَكَانَتْ فِيهِمَا تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ وَمَعَهَا أَرْبَعُونَ رَاكِبًا فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَمْرُو بْنُ هِشَامٍ وَطَائِفَةُ الَّذِينَ اسْتَنْفَرَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَكَانُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وغَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ هِيَ الْعِيرُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِتَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ وَمَعْنَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ تَثْبِيتُهُ وَإِعْلَاؤُهُ وبِكَلِماتِهِ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ فِي مُحَارَبَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَبِمَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُزُولِهِمْ لِلنُّصْرَةِ وَبِمَا قَضَى مِنْ أَسْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَطَرْحِهِمْ فِي قَلِيبِ بَدْرٍ وَبِمَا ظَهَرَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَطْعُ الدَّابِرِ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِئْصَالِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَرْغَبُونَ فِي إِبْقَاءِ الْعَاجِلَةِ وَسَلَامَةِ الْأَحْوَالِ وَسَفْسَافِ الْأُمُورِ وَإِعْلَاءِ الْحَقِّ وَالْفَوْزِ فِي الدَّارَيْنِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُرَادَيْنِ، وَلِذَلِكَ اخْتَارَ لَكُمْ ذَاتَ الشَّوْكَةِ وَأَرَاكَهُمْ عِيَانًا خَذَلَهُمْ وَنَصَرَكُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَأَعَزَّكُمْ وَحَصَّلَ لَكُمْ مَا أَرْبَى عَلَى دَائِرَةِ الْعِيرِ وَمَا أَدْنَاهُ خَيْرٌ مِنْهُمَا، وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ يَعِدُكُمُ بِسُكُونِ الدَّالِ لِتَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ اللَّهُ إِحْدَى بِإِسْقَاطِ هَمْزَةِ إِحْدَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَحَدَ عَلَى التَّذْكِيرِ إِذْ تَأْنِيثُ الطَّائِفَةِ مَجَازٌ، وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو الشَّوْكَةِ تَكُونُ، وَقَرَأَ مُسْلِمُ بْنُ مُحَارِبٍ بِكَلِمَتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ شَيْبَةَ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَنَافِعٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَأَطْلَقَ الْمُفْرَدَ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ لِلْعِلْمِ بِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ كَلِمَةُ تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ كُنْ قِيلَ وَكَلِمَاتُهُ هِيَ مَا وَعَدَ نَبِيَّهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ فَقَالَ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ «1» أَيْ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ، وَقِيلَ مَوَاعِيدُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقِيلَ كَلِمَاتُهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْأَزَلِ.
وَمَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِيُظْهِرَ مَا يَجِبُ إِظْهَارُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَعَلَ ذَلِكَ وَقِيلَ الْحَقَّ الْقُرْآنُ والْباطِلَ إِبْلِيسُ وَتَتَعَلَّقُ هَذِهِ اللَّامُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ مَا فَعَلَهُ إِلَّا لَهُمَا وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارُهُ وَإِبْطَالُ الْكُفْرِ وَمَحْوُهُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَكْرِيرٍ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ تَبْيِينٌ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ وَالثَّانِي بَيَانٌ لِمَا فُعِلَ مِنِ اخْتِيَارِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَهُمْ وَنُصْرَتِهِمْ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ مَا نَصَرَهُمْ وَلَا خَذَلَ أُولَئِكَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ إِلَّا لِهَذَا الْمَقْصِدِ الَّذِي هُوَ أَسْنَى الْمَقَاصِدِ وَتَقْدِيرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مُتَأَخِّرًا أَحْسَنُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَحْذُوفُ مُتَأَخِّرًا حَتَّى يُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وينطبق عليه
(1) سورة الدخان: 44/ 16.
الْمَعْنَى انْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَالْمَجْرُورِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ بِمَا قُدِّمَ لَا عَلَى تَخْصِيصٍ وَلَا حَصْرٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ لِيُحِقَّ بِقَوْلِهِ وَيَقْطَعَ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَوْ كَرِهَ أَيْ وَكَرَاهَتُكُمْ وَاقِعَةٌ فَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ انْتَهَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ وَمَثَّلْنَا ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ «اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فرس
عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُنَافِي الصَّدَقَةَ عَلَى السَّائِلِ» ، وَأَنْ وَلَوْ هَذِهِ تَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا بَطَنَ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ لِمُلَاقَاةِ الَّتِي بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَبَيْنَ الْمُسْنَدِ الَّذِي قَبْلَهُمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَقَدِّمَتَانِ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وَفِي الْقِرَاءَةِ بَعْدَهُمَا لِتَقَابُلِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ وَالْكَرَاهَةِ بِالْكَرَاهَةِ انْتَهَى، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ تَضْطَرُّنَا إِلَى تَصْحِيحِهَا.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
اسْتَغَاثَ طَلَبَ الْغَوْثَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْقِتَالِ شَرَعُوا فِي طَلَبِ الْغَوْثِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ بِالنُّصْرَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ وَتَوَدُّونَ وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ كَما أَخْرَجَكَ ويُجادِلُونَكَ هُوَ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ فَالْخِطَابَانِ مُخْتَلِفَانِ،
وَقِيلَ الْمُسْتَغِيثُ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ وَإِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْنِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ العصابة لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه كَفَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنَاشَدَتَكَ اللَّهَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، قَالُوا فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ خِطَابُ الْجَمِيعِ، وَرُوِيَ أن أبا جهل عند ما اصْطَفَّ الْقَوْمُ قَالَ:
اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ
وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ يَعِدُكُمُ اذْكُرْ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُحِقَّ ويُبْطِلَ وَأَجَازَ هُوَ وَالْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِيَعِدُكُمْ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً عَلَى إِضْمَارِ وَاذْكُرُوا وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِتَوَدُّونَ وَاسْتَغَاثَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ وَيَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِغَاثَةِ، وَفِي بَابِ ابْنِ مَالِكٍ فِي النَّحْوِ الْمُسْتَغَاثُ وَلَا يَقُولُ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ فِي الْقُرْآنِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ قَالَ الْمُسْتَغَاثُ
وَلَمْ يُعَدِّهِ بِالْبَاءِ كَمَا عَدَّاهُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيُّونَ وَزَعَمَ أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَكَلَامُهُ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَمَا جَاءَ مُعَدًّى بِالْبَاءِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
حَتَّى اسْتَغَاثَ بِمَاءٍ لَا رِشَاءَ لَهُ
…
مِنَ الْأَبَاطِحِ فِي حَاجَاتِهِ الْبُرَكُ
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّبْتِ تَنْسُجُهُ
…
رِيحٌ حَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ حُبُكُ
كَمَا اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ قَبْرُ عَنْطَلَةٍ
…
خَافَ الْعُيُونَ وَلَمْ يُنْظَرْ بِهِ الْحَشَكُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنِّي بِفَتْحٍ أَيْ بأني وعيسى بن عمرو رَوَاهَا عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَإِنِّي بِكَسْرِهَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى الْحِكَايَةِ بِاسْتَجَابَ لِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْفِعْلِ إِذْ سَوَّى فِي مَعْنَاهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ اسْتَجَابَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِأَلْفٍ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْجَحْدَرِيُّ بِآلُفٍ عَلَى وَزْنِ أَفْلُسٍ وَعَنْهُ وَعَنِ السدّي بالألف وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ أَنْ يُحْمَلَ الْإِفْرَادُ عَلَى مَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى الْوُجُوهِ الَّذِينَ مَنْ سِوَاهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ مُرْدَفِينَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ بِكَسْرِهَا أَيْ مُتَابِعًا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلْفَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ وَرَاءَهُ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ مُرْدِفِينَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً أَصْلُهُ مُرْتَدِفِينَ فَأُدْغِمَ وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ وَقَدْ يَجُوزُ فَتْحُ الرَّاءِ فِرَارًا إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ أَوْ لِثِقَلِ حَرَكَةِ التَّاءِ إِلَى الرَّاءِ عِنْدَ الْإِدْغَامِ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ أَثَرًا انْتَهَى وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ يُضَمُّ الرَّاءُ اتباعا لحركة الميم كقولهم مخضم وقرىء كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الدَّالِ أَوْ حُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ مَعَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ كَسْرُ الْمِيمِ وَلَا أَحْفَظُهُ قِرَاءَةً كَقَوْلِهِمْ مُخَضَّمٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَهَلْ قَاتَلَتْ أَمْ لَمْ تُقَاتِلْ فِي آلِ عِمْرَانَ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِقِتَالِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ مُرْدِفِينَ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ بِأَلْفٍ أَيْ أَرْدَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ يُرَادَ بِالْمُرْدَفِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ أُرْدِفُوا بِالْمَلَائِكَةِ فَمُرْدَفِينَ عَلَى هَذَا حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَرْدَفْتُهُ إِيَّاهُ إِذَا أَتْبَعْتَهُ وَيُقَالُ أَرْدَفْتُهُ كَقَوْلِكَ أَتْبَعْتُهُ إِذَا جِئْتَ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو الْمَكْسُورُ الدَّالِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَوْ مُتَّبَعِينَ فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ مُتْبِعِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ إِيَّاهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ يَتَقَدَّمُونَهُمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَوْ مُتْبِعِينَ لَهُمْ يُشَيِّعُوهُمْ وَيُقَدِّمُونَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ عَلَى سَاقَتِهِمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَعْيُنِهِمْ وَحِفْظِهِمْ أَوْ
بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَنْفُسَهُمْ مَلَائِكَةً آخَرِينَ أَوْ مُتْبِعِينَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيُعَضِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «1» بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «2» انْتَهَى. وَهَذَا تَكْثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ اتَّبَعَ مُشَدَّدًا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَأَتْبَعَ مُخَفَّفًا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ وَأَرْدَفَ أَتَى بمعناهما والمفعول لا تبع محذوف والمفعولان لا تَبِعَ مَحْذُوفَانِ فَيُقَدَّرُ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ أَوْ مُتْبِعِينَ إِيَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ فَصْلِ الضَّمِيرِ بَلْ مِمَّا يُتَّصَلُ وَتُحْذَفُ لَهُ النُّونُ لَا يُقَالُ هَؤُلَاءِ كَاسُّونَ إِيَّاكَ ثَوْبًا بَلْ يُقَالُ كَاسُوكَ فَتَصْحِيحُهُ أَنْ يَقُولَ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِيهِمُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ يَقُولَ أَوْ بِمَعْنَى مُتْبِعِينَ أَنْفُسَهُمُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْمَعْنَى إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَأُثْبِتَ فِي آلِ عِمْرَانَ لِأَنَّ الْقِصَّةَ فِيهَا مُسْهِبَةٌ وَهُنَا مُوجَزَةٌ فَنَاسَبَ هُنَا الْحَذْفُ وَهُنَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ هُنَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَنُّنِ وَالِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ وَهُنَا جَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُرَاعَاةً لِأَوَاخِرِ الْآيِ وَهُنَاكَ لَيْسَتْ آخِرَ آيَةٍ لِتَعَلُّقِ يَقْطَعَ بِمَا قَبْلَهُ فَنَاسَبَ أَنْ يَأْتِيَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» عَلَى سَبِيلِ الصِّفَةِ وَكِلَاهُمَا مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ كَمَا تَقُولُ أَكْرِمْ زَيْدًا الْعَالِمَ وَأَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ وَالضَّمِيرُ فِي وَما جَعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِمْدَادِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ أَوْ عَلَى الْمَدَدِ أَوْ عَلَى الْوَعْدِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يَعِدُكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ عَلَى الْأَلْفِ أَوْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ أَوْ عَلَى الْإِرْدَافِ أَوْ عَلَى الْخَبَرِ بِالْإِمْدَادِ أَوْ عَلَى جِبْرِيلَ أَقْوَالٌ مُحْتَمَلَةٌ مَقُولَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَدَلٌ ثَانٍ مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ أَوْ مَنْصُوبٌ بِالنَّصْرِ أَوْ بِمَا فِي عِنْدِ اللَّهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ أَوْ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرِ انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ بَدَلًا ثَانِيًا مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ فَوَافَقَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فَإِنَّ الْعَامِلَ فِي إِذْ هُوَ الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ يَعِدُكُمُ بِتَقْدِيرِ تَكْرَارِهِ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْعَامِلِ الْأَوَّلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ عَطْفٍ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعَدِّدَ نِعَمَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَقَالَ وَاذْكُرُوا إِذْ فَعَلْنَا بِكُمْ كَذَا اذْكُرُوا إِذْ فَعَلْنَا كَذَا وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِالنَّصْرِ فَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِيهِ أَلْ وَفِي إِعْمَالِهِ خِلَافٌ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إعماله،
(1) سورة آل عمران: 3/ 124.
(2)
سورة آل عمران: 3/ 125.
(3)
سورة آل عمران: 3/ 126.
الثَّانِي أَنَّهُ مَوْصُولٌ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِعْمَالٌ لَا يَجُوزُ لَا يُقَالُ ضَرْبُ زَيْدٍ شَدِيدٌ عَمْرًا، الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعْمَالُ مَا قَبْلَ إِلَّا فِي مَا بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ مُسْتَثْنًى أَوْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ أَوْ صِفَةً لَهُ وَإِذْ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَجُوزُ مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِمَا فِي عِنْدِ اللَّهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ فَيُضَعِّفُهُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْتِقْرَارُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِالظَّرْفِ وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُطْلَقًا فِي وَقْتِ غَشْيِ النُّعَاسِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْصُوبًا بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْحَوْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا لِطُولِ الْفَصْلِ وَلِكَوْنِهِ مَعْمُولَ مَا قَبْلَ إِلَّا وَلَيْسَ أَحَدَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ الْعَامِلَ فِي إِذْ قَوْلُهُ وَلِتَطْمَئِنَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَعَ احْتِمَالِهِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: وَلَوْ جُعِلَ الْعَامِلُ فِي إِذْ شَيْئًا قَرَنَهَا بِمَا قَبْلَهَا لَكَانَ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَ فِي إِذْ حَكِيمٌ لِأَنَّ إِلْقَاءَ النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ وَجَعْلَهُ أَمَنَةً حِكْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل انْتَهَى، وَالْأَجْوَدُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ يَكُونَ بَدَلًا.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ مُضَارِعُ غَشِيَ والنُّعاسَ رُفِعَ بِهِ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ نِصَاحٍ وَأَبُو حَفْصٍ وَنَافِعٌ يُغَشِّيكُمُ مُضَارِعُ أَغْشَى، وَقَرَأَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكُوفِيُّونَ يُغَشِّيكُمُ مُضَارِعُ غَشَّى والنُّعاسَ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْصُوبٌ وَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ وَنَاسَبَتْ قِرَاءَةُ نَافِعٍ قَوْلَهُ يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ «1» وَقِرَاءَةَ الْبَاقِينَ وَيُنَزِّلُ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفِ الْفَاعِلُ وَمَعْنَى يُغَشِّيكُمْ يُعْطِيكُمْ بِهِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ جَعَلَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّعَاسِ غَشَيَانًا لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ النُّعاسَ وأَمَنَةً فِي آلِ عِمْرَانَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَانْتَصَبَ أَمَنَةً، قِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ فَأَمِنْتُمْ أَمَنَةً وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ فِي قِرَاءَةِ يُغَشِّيكُمُ لِاتِّحَادِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُغَشِّيَ وَالْمُؤَمِّنَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا عَلَى قراءة يُغَشِّيكُمُ فَالْفَاعِلُ مُخْتَلِفٌ إِذْ فَاعِلُ يُغَشِّيكُمُ هُوَ النُّعاسَ وَالْمُؤَمِّنُ هُوَ اللَّهُ وَفِي جَوَازِ مَجِيءِ الْمَفْعُولِ لَهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِ خِلَافٌ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، (فَإِنْ قُلْتَ) : أَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ وَاحِدًا، قُلْتُ بَلَى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ معنى يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ
تُتَغَشَّوْنَ انْتَصَبَ أَمَنَةً عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ وَالْأَمَنَةَ لَهُمْ وَالْمَعْنَى إِذْ تُتَغَشَّوْنَ أَمَنَةً بِمَعْنَى أَمْنًا أَيْ لأمنكم
(1) سورة آل عمران: 3/ 154.
ومِنْهُ صِفَةٌ لَهَا أَيْ أَمَنَةً حَاصِلَةً لَكُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، (فَإِنْ قُلْتَ) : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّ الْأَمَنَةَ لِلنُّعَاسِ الذي هو يُغَشِّيكُمُ أَيْ يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ لِأَمْنِهِ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ الْأَمْنِ إِلَى النُّعَاسِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ وَهُوَ لِأَصْحَابِ النُّعَاسِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ إمامكم فِي وَقْتِهِ كَانَ مِنْ حَقِّ النُّعَاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَخُوفِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى غِشْيَانِكُمْ وَإِنَّمَا غَشَّاكُمْ أَمَنَةً حَاصِلَةً مِنَ الله تعالى لولا ها لم يغشاكم عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، (قُلْتُ) : لَا تَتَعَدَّى فَصَاحَةُ الْقُرْآنِ عَنِ احْتِمَالِهِ وَلَهُ فِيهِ نَظَائِرُ وَلَقَدْ أَلَمَّ بِهِ مَنْ قَالَ:
يَهَابُ النَّوْمُ أَنْ يَغْشَى عُيُونًا
…
تَهَابُكَ فَهْوَ نَفَّارٌ شُرُودُ
وقرىء أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ وَنَظِيرُ أَمِنَ أَمَنَةً حَيِيَ حَيَاةً وَنَحْوُ أَمِنَ أَمْنَةً رَحِمَ رَحْمَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّوْمِ فَلَمَّا طَامَنَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ أَمَّنَهُمْ وَأَقَرُّوا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الصَّلَاةِ وَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ انْتَهَى، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَبِيهُ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ النُّعَاسُ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ عَلَامَةُ أَمْنٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا طَرِيقَةُ الْوَحْيِ فَهُوَ لَا محالة يسنده انْتَهَى، وَالَّذِي قَرَأَ أَمَنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ هُوَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَرُوِيَتْ عَنِ النَّخَعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَغِشْيَانُ النَّوْمِ إِيَّاهُمْ قِيلَ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَمَضَى مِثْلُ هَذَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ الْقِتَالُ فِي غَدِهَا امْتُنَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّوْمِ مَعَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي غَدٍ لِيَسْتَرِيحُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَنْشَطُوا فِي غَدِهَا لِلْقِتَالِ وَيَزُولَ رُعْبُهُمْ، وَيُقَالُ: الْأَمْنُ مُنِيمٌ وَالْخَوْفُ مُسْهِرٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي الزَّمَانِ كَتَرْتِيبِهَا فِي التِّلَاوَةِ فَيَكُونَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ تَأَخَّرَ عَنْ غِشْيَانِ النُّعَاسِ، وَعَنِ ابْنِ نَجِيحٍ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ قَبْلَ النُّعَاسِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ وَنُزُولُ الْمَاءِ كَانَ قَبْلَ تَغْشِيَةِ النُّعَاسِ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ إِذِ الْقَصْدُ مِنْهَا تَعْدِيدُ النِّعَمِ فَقَطْ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَيُنَزِّلُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَاءً بِالْمَدِّ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ مَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، حَكَاهُ ابْنُ جِنِّيٍّ، صَاحِبُ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ، وَخَرَّجَاهُ عَلَى أَنَّ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَصِلَتُهُ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ هُوَ وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ انْتَهَى، وَظَاهِرُ هَذَا التَّخْرِيجِ فَاسِدٌ لِأَنَّ لَامَ كَيْ لَا تَكُونُ صِلَةً وَمِنْ حَيْثُ جَعْلِ الضَّمَائِرِ هُوَ وَقَالَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلَا تَكُونُ لَامُ كَيْ هِيَ الصِّلَةُ بَلِ الصِّلَةُ هُوَ وَلَامُ الْجَرِّ وَالْمَجْرُورِ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ مَا مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا حَرْفُ الْجَرِّ بِمَا جَرَّهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا لِلطَّهُورِ انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ مَا قُلْنَا مِنْ مَجِيءِ لَامِ كَيْ صِلَةً وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى
وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ مَا لَيْسَ مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي وَأَنَّهُ بِمَعْنَى مَاءً الْمَحْدُودِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَكَوْا أَنَّ الْعَرَبَ حَذَفَتْ هَذِهِ الْهَمْزَةَ فَقَالُوا مًا يَا هَذَا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَنْوِينِ الْمِيمِ فَيُمْكِنُ أَنْ تُخَرَّجَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْرَوُا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ فَحَذَفُوا التَّنْوِينَ لِأَنَّكَ إِذَا وَقَفْتَ عَلَى شَرِبْتُ مًا قُلْتَ شَرِبْتُ مَا بِحَذْفِ التَّنْوِينِ وَإِبْقَاءِ الْأَلِفِ إِمَّا أَلِفُ الْوَصْلِ الَّذِي هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ وَهِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَإِمَّا الْأَلِفُ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ من التَّنْوِينِ حَالَةَ النَّصْبِ.
وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لِيُطَهِّرَكُمْ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَمَعْنَى لِيُطْهِرَكُمْ مِنَ الْجَنَابَاتِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَحِقَ أَكْثَرَهُمْ فِي سَفَرِهِمُ الْجَنَابَاتُ وَعَدِمُوا الْمَاءَ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ طَوِيلَةٌ مِنْ رَمْلٍ دَهْسٍ لَيِّنٍ تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقُوهُمْ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَلِ الْمُؤْمِنُونَ سَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ بِبَدْرٍ وَكَانَ نُزُولُ الْمَطَرِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبَقُوا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ لَا مَاءَ لَهُمْ فَوَجَسَتْ نُفُوسُهُمْ وَعَطِشُوا وَأَجْنَبُوا وَصَلَّوْا كَذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمْ نَزْعُمُ أَنَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ، وَحَالُنَا هَذِهِ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ لَيْلَةَ بَدْرٍ السَّابِعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى سَالَتِ الْأَوْدِيَةُ فَشَرِبَ النَّاسُ وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوُا الظَّهْرَ وَتَلَبَّدَتِ السَّبْخَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى ثَبَتَتْ فِيهَا أَقْدَامُ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ الْقِتَالِ وَكَانَتْ قَبْلَ الْمَطَرِ تَسُوخُ فِيهَا الْأَرْجُلُ فَلَمَّا نَزَلَ تَلَبَّدَتْ قَالُوا فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أَيْ مِنَ الْجَنَابَاتِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أَيْ عَذَابَهُ لَكُمْ بِوَسْوَاسِهِ وَالرِّجْزُ الْعَذَابُ، وَقِيلَ رِجْزُهُ كَيْدُهُ وَوَسْوَسَتُهُ، وَقِيلَ الْجَنَابَةُ مِنَ الِاحْتِلَامِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَوَرَدَ مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ إِنَّمَا الِاحْتِلَامُ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو يُذْهِبَ بِجَزْمِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ رِجْزَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ رِجْسَ بِالسِّينِ وَمَعْنَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ هُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ وَالتَّشْجِيعُ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَالصَّبْرُ عَلَى مُكَافَحَةِ العدو والربط الشد وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ فَاسْتُعِيرَ مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ التَّزَلْزُلِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الرَّبْطِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الصَّبْرُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ الْإِيمَانُ، وَقِيلَ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَمَا بَعْدَهُ تَعْلِيلٌ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَثْبِيتَ الْأَقْدَامِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ اللِّقَاءُ كَانَ رَمْلًا تَغُوصُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَلَبَّدَهُ الْمَطَرُ حَتَّى ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَطَرِ، وَقِيلَ التَّثْبِيتُ لِلْأَقْدَامِ مَعْنَوِيٌّ وَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ لَا يَفِرُّ وَقْتَ الْقِتَالِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَلِيَرْبِطَ وَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ مَجِيءِ هَذِهِ
التَّعْلِيلَاتِ بَدَأَ أَوَّلًا مِنْهَا بِالتَّعْلِيلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ تَطْهِيرُهُمْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ جُسْمَانِيٌّ أَعْنِي اغْتِسَالَهُمْ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ لَامِ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مِنْ لَازِمِ التَّطْهِيرِ وَهُوَ إِذْهَابُ رِجْزِ الشَّيْطَانِ حَيْثُ وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ عَطَفَ بِلَامِ الْعِلَّةِ مَا لَيْسَ بِفِعْلٍ جُسْمَانِيٍّ، وَهُوَ فِعْلٌ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ التَّشْجِيعُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالصَّبْرُ عَلَى اللِّقَاءِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ لَامِ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مِنْ لَازِمِهِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ لَا يَفِرُّونَ وَقْتَ الْحَرْبِ فَحِينَ ذَكَرَ التَّعْلِيلَ الظَّاهِرَ الْجُسْمَانِيَّ وَالتَّعْلِيلَ الْبَاطِنَ الْقَلْبِيَّ ظَهَرَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ وَحِينَ ذَكَرَ لَازِمَهَا لَمْ يُؤَكِّدْ بِلَامِ التَّعْلِيلِ وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالتَّطْهِيرِ لِأَنَّهُ الْآكَدُ وَالْأَسْبَقُ فِي الْفِعْلِ وَلِأَنَّهُ الَّذِي تُؤَدَّى بِهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَتَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ هَذَا أَيْضًا مِنْ تَعَدُّدِ النِّعَمِ إِذِ الْإِيحَاءُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَهُمْ أَيْ يَنْصُرُهُمْ وَيُعِينُهُمْ وَأَمْرُهُمْ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْإِخْبَارُ بِمَا يَأْتِي بَعْدُ مِنْ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ وَالْأَمْرُ بِالضَّرْبِ فَوْقَ أَعْنَاقِهِمْ وَكُلَّ بَنَانٍ مِنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَفِي ذَلِكَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْغَلَبَةَ وَالظَّفَرَ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذْ يُوحِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا ثَالِثًا مِنْ إِذْ يَعِدُكُمُ وَأَنْ يَنْتَصِبَ بِثَبِّتْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْعَامِلُ فِي إِذِ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهَا وَلَوْ قَدَّرْنَاهُ قَرِيبًا لَكَانَ قَوْلُهُ وَيُثَبِّتَ عَلَى تَأْوِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الرَّبْطِ وَأَمَّا عَوْدُهُ عَلَى الْمَاءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ وَيُثَبِّتَ فِي إِذْ انْتَهَى وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِاخْتِلَافِ زَمَانِ التَّثْبِيتِ عِنْدَهُ وَزَمَانِ هَذَا الْوَحْيِ لِأَنَّ زَمَانَ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ تَعَالِيلِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَغْشِيَةِ النُّعَاسِ وَالْإِيحَاءِ كَانَا وَقْتَ الْقِتَالِ وَهَذَا الْوَحْيُ إِمَّا بِإِلْهَامٍ وَإِمَّا بِإِعْلَامٍ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِخِلَافٍ عَنْهُ إِذْ مَعَكُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ يُوحِي مَجْرَى تَقُولُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الَّذِينَ أُمِدَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ الْخِطَابُ لَهُمْ بِيَغْشَاكُمْ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ وَيُطَهِّرَكُمْ وَيُذْهِبَ رِجْزَ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ إِذْ كَانَ فِي هَذِهِ أَشْيَاءُ لَا تُنَاسِبُ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَحْيَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَتَى بِخِطَابِ الرَّسُولِ وَحْدَهُ فَقَالَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ فَفِي ذَلِكَ تَشْرِيفٌ بِمُوَاجَهَتِهِ بِالْخِطَابِ وَحْدَهُ أَيْ مُرَبِّيكَ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكَ.
وَيُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا. قَالَ الْحَسَنُ بِالْقِتَالِ أَيْ فَقَاتِلُوا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ بَشِّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ فَكَانَ الْمَلَكُ يَسِيرُ أَمَامَ الصَّفِّ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ
أَنَّهُمْ يُثَبِّتُونَهُمْ بِأَشْيَاءَ يُلْقُونَهَا فِي قُلُوبِهِمْ تَقْوَى بِهَا، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَنَحْوُهُ قَالَ: صَحِّحُوا عَزَائِمَهُمْ وَنِيَّاتِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّثْبِيتُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ مَا يُلْقِيهِ الْمَلَكُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَوَهُّمِ الظَّفَرِ وَاحْتِقَارِ الْكُفَّارِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ خَوَاطِرِ تَشْجِيعِهِ وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ مُطَابَقَةُ قَوْلِهِ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وَإِنْ كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ يُطَابِقُ التَّثْبِيتَ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ كَانَ التَّثْبِيتُ وَلَكِنَّهُ أَشْبَهُ بِهَذَا إِذْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِيءُ قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مُخَاطَبَةً لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْلِهِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ صُورَةِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ إِذَا وَصَفْتَ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ لَقِينَا الْقَوْمَ وَهَزَمْنَاهُمْ فَاضْرِبْ بِسَيْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ وَاقْتُلْ وَخُذْ أَسِيرَكَ، أَيْ هَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْحَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأُلْقِي إِلَى آخِرِ الْآيَةِ خَبَرًا يُخَاطِبُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكَفَّارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا فَعَلَهُ فِي الْمَاضِي ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِضَرْبِ الرِّقَابِ وَالْبَنَانِ تَشْجِيعًا لَهُمْ وَحَضًّا عَلَى نُصْرَةِ الدِّينِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمَعْنَى أَنِّي مُعِينُكُمْ عَلَى التَّثَبُّتِ فَثَبِّتُوهُمْ فَقَوْلُهُ سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا وَلَا مَعُونَةَ أَعْظَمُ مِنْ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكَفَرَةِ وَلَا تَثْبِيتَ أَبْلَغُ مِنْ ضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ وَاجْتِمَاعُهُمَا غَايَةُ النُّصْرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ تَفْسِيرٍ وَأَنْ يُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ أَنْ يُخْطِرُوا بِبَالِهِمْ مَا تَقْوَى بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَصِحُّ عَزَائِمُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ وَأَنْ يُظْهِرُوا مَا يَتَيَقَّنُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُمَدُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ كَانَ الْمَلَكُ يَتَشَبَّهُ بِالرَّجُلِ الَّذِي يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَئِنْ حَمَلُوا عَلَيْنَا لَنَنْكَشِفَنَّ وَيَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَيَقُولُ أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْبُدُونَهُ انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَأُلْقِي- إِلَى قَوْلِهِ- كُلَّ بَنانٍ عَقِيبَ قَوْلِهِ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا تَلْقِينًا لِلْمَلَائِكَةِ وَمَا يُثَبِّتُونَهُمْ بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ قُولُوا لَهُمْ سَأُلْقِي وَالضَّارِبُونَ عَلَى هَذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا بَعْدَ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَكُلَّ بَنَانٍ، وَقَالَ السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ: كُنَّا إِذَا سَأَلْنَا يَزِيدَ بن عامر السّواي عَنِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَيْفَ كَانَ يَأْخُذُ الْحَصَا ويرمي به الطست فيظن فَيَقُولُ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْرَجُ الرُّعْبَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَوْقَ قَالَ الْأَخْفَشُ: زَائِدَةٌ أَيْ فَاضْرِبُوا الْأَعْنَاقَ وَهُوَ قَوْلُ عَطِيَّةَ وَالضَّحَّاكِ فَيَكُونُ الْأَعْنَاقُ هِيَ الْمَفْعُولُ بِاضْرِبُوا هَذَا
لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فَوْقَ اسْمُ ظَرْفٍ وَالْأَسْمَاءُ لَا تُزَادُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَوْقَ بِمَعْنَى عَلَى تَقُولُ ضَرَبْتُهُ فَوْقَ الرَّأْسِ وَعَلَى الرَّأْسِ وَيَكُونُ مَفْعُولُ فَاضْرِبُوا عَلَى هَذَا مَحْذُوفًا أَيْ فَاضْرِبُوهُمْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِإِبْقَاءِ فَوْقَ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الظَّرْفِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ بَيِّنٌ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّبْسُ مِنْ قَوْلِهِ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها «1» فِي الْقِلَّةِ وَالصِّغَرِ فَأَشْبَهَ الْمَعْنَى دُونَ انْتَهَى. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ يَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا أَيْ فَاضْرِبُوهُمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَوْقَ عَلَى بَابِهَا وَأَرَادَ الرُّؤُوسَ إِذْ هِيَ فَوْقَ الْأَعْناقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي ضَرْبَ الْهَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَضْرِبُ هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَالَ آخَرُ:
غَشِيتُهُ وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَةٍ
…
عَضْبًا أَصَابَ سوء الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا
انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَنْبَلُهَا وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَوْقَ الْأَعْناقِ وَصْفَ أَبْلَغِ ضَرَبَاتِ الْعُنُقِ وَأَحْكَمِهَا وَهِيَ الضَّرْبَةُ الَّتِي تَكُونُ فَوْقَ عَظْمِ الْعُنُقِ وَدُونَ عَظْمِ الرَّأْسِ فِي الْمَفْصِلِ، وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ الْجَشَمِيِّ لِابْنِ الدَّغِنَةِ السُّلَمِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ خُذْ سَيْفِي وَارْفَعْ عَنِ الْعَظْمِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ فَهَكَذَا كُنْتُ أَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْأَبْطَالِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
جعل السَّيْفَ بَيْنَ الْجِيدِ مِنْهُ
…
وَبَيْنَ أَسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارًا
فَيَجِيءُ عَلَى هَذَا فَوْقَ الْأَعْناقِ مُتَمَكِّنًا انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَحَسَنٌ وَيَكُونُ مَفْعُولُ فَاضْرِبُوا مَحْذُوفًا وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ فَوْقَ هُوَ الْمَضْرُوبُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ فَوْقَ مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا لَا تَكُونُ مُبْتَدَأَةً وَلَا مَفْعُولًا بِهَا وَلَا مُضَافًا إِلَيْهَا إِنَّمَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِحَرْفِ جَرٍّ كَقَوْلِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ «2» هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي فَوْقَ وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ فِي الْآيَةِ مَفْعُولًا بِهِ وَأَجَازَ فِيهَا التَّصَرُّفَ قَالَ:
تَقُولُ فَوْقُكَ رَأَسُكَ بِالرَّفْعِ وَفَوْقَكَ قَلَنْسُوَتُكَ بِالنَّصْبِ وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ قَالَ:
فَوْقَ الْأَعْناقِ أَرَادَ أَعَالِيَ الْأَعْنَاقِ الَّتِي هِيَ الْمَذَابِحُ لِأَنَّهَا مَفَاصِلُ فَكَانَ إِيقَاعُ الضَّرْبِ فِيهَا جَزًّا وَتَطْيِيرًا لِلرَّأْسِ انْتَهَى، وَالْبَنَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ الْبَنَانُ هِيَ الْمَفَاصِلُ حَيْثُ كَانَتْ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ الْبَنَانُ الْأَصَابِعُ من
(1) سورة البقرة: 2/ 26.
(2)
سورة الزمر: 39/ 16.