الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه، وقيل: الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره: الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه، وقال الشعبي: الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة.
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي علا وعظم ولما تقدّم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ صدر الآية جاء آخرها فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وجاء الْعالَمِينَ أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ مُنَاجَاةُ اللَّهِ بِنِدَائِهِ لِطَلَبِ أَشْيَاءَ وَلِدَفْعِ أَشْيَاءَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى اعْبُدُوا وَانْتَصَبَ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً عَلَى الْحَالِ أَيْ مُتَضَرِّعِينَ وَمُخْفِينَ أَوْ ذَوِي تَضَرُّعٍ وَاخْتِفَاءٍ فِي دُعَائِكُمْ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا»
وَكَانَ الصَّحَابَةُ حِينَ أَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ قَدْ جَهَرُوا بِالذِّكْرِ أَمَرَ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ مَقْرُونًا بِالتَّذَلُّلِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِاخْتِفَاءِ إِذْ ذَاكَ أَدْعَى لِلْإِجَابَةِ وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالدُّعَاءُ خُفْيَةً أَفْضَلُ مِنَ الْجَهْرِ وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى زَكَرِيَّا عليه السلام فَقَالَ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «1»
وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ»
وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يُفْتَرَضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْجَهْرِ. قَالَ الْحَسَنُ:
أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلٌ يُقَدِّرُونَ أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ جَهْرًا أَبَدًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ هُوَ إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ
(1) سورة مريم: 19/ 3.
انْتَهَى وَلَوْ عَاشَ الْحَسَنُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ الْعَجِيبِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ نَاسٌ يَتَسَمَّوْنَ بِالْمَشَايِخِ يَلْبَسُونَ ثِيَابَ شُهْرَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالصَّلَاحِ ويتركون الاكتساب ويتركون لَهُمْ أَذْكَارًا لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ يَجْهَرُونَ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَيَجْمَعُونَ لَهُمْ خُدَّامًا يَجْلِبُونَ النَّاسَ إِلَيْهِمْ لِاسْتِخْدَامِهِمْ وَنَتْشِ أَمْوَالِهِمْ وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كَرَامَاتٍ وَيَرَوْنَ لَهُمْ مَنَامَاتٍ يُدَوِّنُونَهَا فِي أَسْفَارٍ وَيَحُضُّونَ عَلَى تَرْكِ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالِ بِالسُّنَّةِ وَيَرَوْنَ الْوُصُولَ إِلَى اللَّهِ بِأُمُورٍ يُقَرِّرُونَهَا مِنْ خَلَوَاتٍ وَأَذْكَارٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَيَتَعَاظَمُونَ عَلَى النَّاسِ بِالِانْفِرَادِ عَلَى سَجَّادَةٍ وَنَصْبِ أَيْدِيهِمْ لِلتَّقْبِيلِ وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وَتَعْيِينِ خَادِمٍ يَقُولُ الشَّيْخُ مَشْغُولٌ فِي الْخَلْوَةِ رَسَمَ الشَّيْخُ قَالَ الشَّيْخُ رَأَى الشَّيْخُ الشَّيْخُ نَظَرَ إِلَيْكَ الشَّيْخُ كَانَ الْبَارِحَةَ يَذْكُرُكَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَخُشُّونَ بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ وَيَجْلِبُونَ بِهَا عُقُولَ الْجَهَلَةِ هَذَا إِنْ سَلِمَ الشَّيْخُ وَخَادِمُهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي غَلَبَ الْآنَ عَلَى مُتَصَوِّفَةِ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ أَوِ الْقَوْلِ بِالْوَحْدَةِ فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُنْسَلِخًا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّعَجُّبِ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ كَيْفَ تُرَتَّبُ لَهُمُ الرَّوَاتِبُ وَتُبْنَى لَهُمُ الرُبُطُ وَتُوقَفُ عَلَيْهَا الْأَوْقَافُ وَيَخْدِمُهُمُ النَّاسُ فِي عِرْوِهِمْ عَنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَقْرَبُ إِلَى أَشْبَاهِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ أَشْبَاهِهِمْ وَقَدْ أَطَلْنَا فِي هَذَا رَجَاءَ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ ضَمَّةِ الْخَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى ادِّعَاءِ الْقَلْبِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَنَقَلَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّ فِرْقَةً قَرَأَتْ وَخِيفَةً مِنَ الْخَوْفِ أَيِ ادْعُوهُ بِاسْتِكَانَةٍ وَخَوْفٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ فِيمَا زَعَمُوا.
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أن اللَّهَ جَعَلَ مَكَانَ الْمُضْمَرِ الْمُظْهَرَ وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ أَوَّلًا الدُّعَاءُ عَلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ عَدَمِ التَّضَرُّعِ وَعَدَمِ الْخُفْيَةِ بِأَنْ يَدْعُوَهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِالْكِبْرِ وَالزَّهْوِ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُ فِي الْمَوَاعِيدِ وَالْمَدَارِسِ فَصَارَ ذَلِكَ لَهُ صَنْعَةً وَعَادَةً فَلَا يَلْحَقُهُ تَضَرُّعٌ وَلَا تَذَلُّلٌ وَبِأَنْ يَدْعُوهُ بِالْجَهْرِ الْبَلِيغِ وَالصِّيَاحِ كَدُعَاءِ النَّاسِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ وَالْمَزَارَاتِ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ وَأَنْ يَدْعُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ وَأَنْ يَدْعُوَ بِمُحَالٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الشَّطَطِ وَأَنْ يَدْعُوَ طَالِبُ مَعْصِيَةٍ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكَلْبِيُّ الِاعْتِدَاءُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَعَنْهُ الصِّيَاحُ فِي الدُّعَاءِ مَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ وَقِيلَ هُوَ الْإِسْهَابُ فِي الدُّعَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ وُجُوهًا مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُقَفَّاةً وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً وَقَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لِهَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمَشَايِخَ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا
فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ يَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْخِزْيِ وَالشِّرْكِ وَاللَّعْنَةِ،
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» زَادَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَحَسْبُ الْمَرْءِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. هَذَا نَهْيٌ عَنْ إِيقَاعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِدْخَالِ مَاهِيَّتِهِ فِي الْوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنْ إِيقَاعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَإِدْخَالِ مَاهِيَّتِهِ فِي الْوُجُودِ فَيَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ مِنْ إِفْسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَمَعْنَى بَعْدَ إِصْلاحِها بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ اللَّهُ خَلْقَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُلَائِمِ لِمَنَافِعِ الْخَلْقِ وَمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ وَمَا رُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ تَعْيِينِ نَوْعِ الْإِفْسَادِ وَالْإِصْلَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التمثيل إذا ادِّعَاءُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَالظُّلْمِ بَعْدَ الْعَدْلِ أَوِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الطَّاعَةِ أَوْ بِالْمَعْصِيَةِ فَيُمْسِكُ اللَّهُ الْمَطَرَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْمَطَرِ وَالْخِصْبِ أَوْ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ بَقَائِهِ أَوْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بَعْدَ الْوَحْيِ أَوْ بِتَغْوِيرِ الْمَاءِ الْمَعِينِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ ضِرَارًا أَوْ بِقَطْعِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ بِتِجَارَةِ الْحُكَّامِ أَوْ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بَعْدَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَتَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَإِيضَاحِ الْمِلَّةِ.
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ كَرَّرَهُ فَقَالَ أَوَلًا ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ مِنَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالِاسْتِكَانَةَ وَإِخْفَاءَ الصَّوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَيْ وَجِلِينَ مُشْفِقِينَ وَرَاجِينَ مُؤَمِّلِينَ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ ثُمَّ ثَانِيًا بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَانْتَصَبَ خَوْفاً وَطَمَعاً عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوِ انْتِصَابُ الْمَفْعُولِ لَهُ وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ مُتَسَاوِيَيْنِ لِيَكُونَا لِلْإِنْسَانِ كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ يَحْمِلَانِهِ فِي طَرِيقِ اسْتِقَامَةٍ فَإِنِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا هَلَكَ الْإِنْسَانُ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الخوف الرّجاء طُولِ الْحَيَاةِ فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ غَلَبَ الرَّجَاءُ وَرَأَى كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ أَغْلَبَ وَمِنْهُ تَمَنِّي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ آخِرُ مَنْ يَدْخَلُ الْجَنَّةَ وَتَمَنَّى سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ وَسَالِمٌ هَذَا مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ
بحيث قال فيه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَلَامًا مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ الْخِلَافَةَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى خَوْفًا مِنَ الرَّدِّ وَطَمَعًا في الإجابة.
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «1» ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الرَّحْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُحْسِنِ وَهُوَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَهَذَا كُلُّهُ حَمْلُ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّحْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ فَقِيَاسُهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا إِخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ فَيُقَالُ قَرِيبَةٌ، فَقِيلَ: ذُكِرَ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى الرَّحِمِ وَالتَّرَحُّمِ، وَقِيلَ: ذُكِرَ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى الْغُفْرَانِ وَالْعَفْوِ قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ بِمَعْنَى الْمَطَرِ قَالَهُ الْأَخْفَشُ أَوِ الثَّوَابِ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ فَالرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَدَلٌ عَنْ مُذَكَّرٍ. وَقِيلَ: التَّذْكِيرُ عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ أَيْ ذَاتُ قُرْبٍ، وَقِيلَ: قَرِيبٌ نَعْتٌ لِمُذَكَّرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: قَرِيبٌ مُشَبَّهٌ بِفَعِيلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ نحو خضيب وَجَرِيحٍ كَمَا شُبِّهَ فَعِيلٌ بِهِ فَقِيلَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ فَقِيلَ فِي جَمْعِهِ فُعَلَاءُ كَأَسِيرٍ وَأُسَرَاءٍ وَقَتِيلٍ وَقُتَلَاءٍ كَمَا قَالُوا: رَحِيمٌ وَرُحَمَاءٌ وَعَلِيمٌ وَعُلَمَاءٌ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ كَالضَّغِيثِ وَهُوَ صَوْتُ الْأَرْنَبِ وَالنَّقِيقِ وَإِذَا كَانَ مصدر أصح أَنْ يُخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ لِأَنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ إِلَّا مَعَ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا التَّأْنِيثُ تَقُولُ الشَّمْسُ طَالِعَةٌ وَلَا يَجُوزُ طَالِعٌ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فَيَجُوزُ أَطَالِعَةٌ الشَّمْسُ وَأَطَالِعٌ الشَّمْسُ كَمَا يَجُوزُ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَطَلَعَ الشَّمْسُ وَلَا يَجُوزُ طَلَعَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَقِيلَ: فَعِيلٌ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مُقَرَّبَةٌ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ كَفٍّ خَضِيبٍ وَعَيْنٍ كَحِيلٍ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ وَهَذَا بِمَعْنَى مُقَرَّبَةٍ فَهُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمَزِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ فَهُوَ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَلَا بُدَّ تَقُولُ هَذِهِ قَرِيبَةُ فُلَانٍ وإذا اسْتُعْمِلَتْ فِي قُرْبِ الْمَسَافَةِ أَوِ الزَّمَنِ فَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْمُؤَنَّثِ بِتَاءٍ وَقَدْ تَجِيءُ بِغَيْرِ تَاءٍ تَقُولُ دَارُكَ مِنِّي قَرِيبٌ وَفُلَانَةٌ مِنَّا قَرِيبٌ، وَمِنْهُ هَذَا وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَشِيَّةَ لَا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ
…
فَتَدْنُو وَلَا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فَجَمَعَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي كِتَابِهِ وَقَدْ مَرَّ فِي كُتُبِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مُغَيَّرًا انْتَهَى، وَرَدَّ الزَّجَّاجُ وَقَالَ هَذَا عَلَى الْفَرَّاءِ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ سَبِيلَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ أَنْ يَجْرِيَا عَلَى أَفْعَالِهِمَا وَقَالَ مَنِ احْتَجَّ لَهُ هَذَا كَلَامُ العرب، قال
(1) سورة طه: 20/ 82. [.....]