الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكل من كان يناوىء الْإِسْلَامَ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَخُصَّ الْمُشْرِكُونَ هُنَا بِالذِّكْرِ لَمَّا كَانَتْ كَرَاهَةً مُخْتَصَّةً بِظُهُورِ دِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَخُصَّ الْكَافِرُونَ قَبْلُ لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ إِتْمَامِ نُورِ اللَّهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ، وَبَاقِيهِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ مِنْ لَدُنْ خَلْقِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِرَاضِهَا، وَوَقَعَتِ الْكَرَاهَةُ وَالْإِتْمَامُ مِرَارًا كَثِيرَةً.
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ (38)
إِلَاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَاّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
أَصْلُ الْكَنْزِ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. قَالَ:
لَا دَرَّ دَرِّيَ إِنْ أَطْعَمْتُ ضائعهم
…
قرف الجثى وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ
وَقَالُوا: رَجُلٌ مُكْتَنِزُ الْخُلُقِ أَيْ مُجْتَمِعُهُ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
عَلَى شَدِيدٍ لَحْمُهُ كِنَازٌ
…
بَاتَ يُنَزِّينِي عَلَى أَوْفَازِ
ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْمَدْفُونِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. الْكَيُّ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ إِلْزَاقُ الْحَارِّ بِعُضْوٍ مِنَ الْبَدَنِ حَتَّى يَتَمَزَّقَ الْجِلْدُ. وَالْجَبْهَةُ: مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ صَفْحَةٌ أَعْلَى الْوَجْهِ. وَالْغَارُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ نَقْرٌ فِي الْجَبَلِ يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْغَارُ الْكَهْفُ، وَالْغَارُ نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَالْغَارُ الْجَمَاعَةُ، وَالْغَارَانِ الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ. ثَبَّطَهُ عَنِ الْأَمْرِ أَبْطَأَ بِهِ عَنْهُ، وَنَاقَةٌ ثَبْطَةٌ أَيْ بَطِيئَةُ السَّيْرِ. وَأَصْلُ التَّثْبِيطِ التَّعْوِيقُ، وَهُوَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ
وَبَيْنَ أَمْرٍ يُرِيدُهُ بِالتَّزْهِيدِ فِيهِ. الزَّهَقُ: الْخُرُوجُ بِصُعُوبَةٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: بِالْكَسْرِ خُرُوجُ الرُّوحِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ: زَهَقَتْ نَفْسُهُ وَزَهِقَتْ لُغَتَانِ، وَالزَّهَقُ الْهَلَاكُ، وَزَهَقَ الْحَجَرُ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ الدَّابَّةِ إِذَا نَدَرَ، وَالزَّهُوقُ الْبُعْدُ، وَالزَّهُوقُ الْبِئْرُ الْبَعِيدَةُ الْمَهْوَاةُ. الْمَلْجَأُ:
مَفْعَلٌ مِنْ لَجَأَ إِلَى كَذَا انْحَازَ وَالْتَجَأَ وَأَلْجَأْتُهُ إِلَى كَذَا اضْطَرَرْتُهُ. جَمَحَ نَفَرَ بِإِسْرَاعٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ جَمُوحٌ أَيْ لَا يَرُدُّهُ اللِّجَامُ إِذَا حَمَلَ. قَالَ:
سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارُهَا
…
كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ
وَقَالَ مُهَلْهَلٌ:
وَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمْ
…
حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَجْسَامِهِمْ جَمَدُوا
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا جَمَحَتْ نِسَاؤُكُمُ إِلَيْهِ
…
أَشَظَّ كَأَنَّهُ مَسَدٌّ مُغَارُ
جَمَزَ قَفَرَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى جَمَحَ. قَالَ رُؤْبَةُ:
قَارَبْتُ بَيْنَ عُنُقِي وَجَمْزِي اللَّمْزُ قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ كَالْغَمْزِ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ اللَّمْزِ الدَّفْعُ، لَمَزْتُهُ دَفَعْتُهُ. الْغُرْمُ: أَصْلُهُ لُزُومُ مَا يَشُقُّ، وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ الشَّاقُّ، وَسُمِّيَ الْعِشْقُ غَرَامًا لِكَوْنِهِ شَاقًّا وَلَازِمًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَا هُوَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَنْقِيصًا مِنْ شَأْنِهِمْ وَتَحْقِيرًا لَهُمْ، وَأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُمْ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا لِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ: أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَكَنْزِ الْمَالِ إِنْ ضَنُّوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلُهُمُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ ضَرَائِبَ بِاسْمِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ بِهِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ كَالرَّاهِبِ الَّذِي اسْتَخْرَجَ سَلْمَانُ
كَنْزَهُ. وَكَمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَا فِي الْأَحْكَامِ، كَإِيهَامِ حِمَايَةِ دِينِهِمْ، وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَصُدُّونَ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ يَكْنِزُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ مِنْ أَوْصَافِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ.
وَقِيلَ: كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ بِهِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ السُّدِّيِّ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ كَمَا قُلْنَاهُ، فَيَقْرِنُ بَيْنَ الْكَانِزِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُرْتَشِينَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ تَغْلِيظًا وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّبْشِيرِ بِالْعَذَابِ. وَرُوِيَ الْعُمُومُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وَالْعُمُومَ. وَالظَّاهِرُ ذَمُّ مَنْ يَكْنِزُ وَلَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَا جَاءَ فِي ذَمِّ مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، وَأَنَّهُ يُكْوَى بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ أَحَادِيثَ هُوَ قَبْلُ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ، وَالتَّوَعُّدُ فِي الْكَنْزِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْمَالُ الْمَدْفُونُ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا أَحْرِزْ مَالَكَ الَّذِي أَخَذْتَ احْفِرْ لَهُ تَحْتَ فِرَاشِ امْرَأَتِكَ فَقَالَ: أَلَيْسَ بِكَنْزٍ، فَقَالَ:
«مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دَوَّنَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ.
وقال أبوذر وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ: مَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَنْزٌ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَقْتَضِيَانِ أَنَّ الذَّمَّ فِي جِنْسِ الْمَالِ، لَا فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ فَقَطْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» «1» فَأَتَى فَرْضُ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، كَأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ: لَا تَجْمَعُوا مَالًا فَتُعَذَّبُوا، فَنَسَخَهُ التَّقْرِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا مِنْ جِهَةٍ أَذِنَ لَهُ فِيهَا وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وطلحة بن عبيد الله، يَقْتَنُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَمَا عَابَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ أعرض
(1) سورة التوبة: 9/ 103.
عَنِ الْفِتْنَةِ، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ اخْتِيَارٌ لِلْأَفْضَلِ وَالْأَدْخَلِ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالِاقْتِنَاءُ مُبَاحٌ مُوَسَّعٌ لَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَلَامٌ فِي الْأَفْضَلِ.
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: يُكْنِزُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَمْوَالِ وَأَثْمَانُهَا، وَهُمَا لَا يُكْنَزَانِ إِلَّا عَنْ فَضْلَةٍ وَعَنْ كَثْرَةٍ، وَمَنْ كَنَزَهُمَا لَمْ يُعْدَمْ سَائِرَ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، وَكَنْزُهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ فِي:
وَلَا يُنْفِقُونَهَا، عَائِدٌ عَلَى الذَّهَبِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَهُ أَشْهَرُ، أَوْ عَلَى الْفِضَّةِ. وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَحْتَهُمَا أَنْوَاعًا، فَرُوعِيَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» أَوْ لِأَنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى جَمْعِ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى الْمَكْنُوزَاتِ، لِدَلَالَةِ يَكْنِزُونَ. أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ. وَلَا يُنْفِقُونَهَا، أَوْ عَلَى الزَّكَاةِ أَيْ: وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: عَادَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً «2» وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ هَذَا عَطْفٌ بَأَوْ، فَحُكْمُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاوِ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَالْفِضَّةَ بِمَعْنَى أَوْ لِيَمْكُنَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يُقَالُ: حَمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ أَيْ أَوْقَدْتُ عَلَيْهَا لِتُحْمَى، وَتَقُولَ: أَحَمَيْتُهَا أَدْخَلْتُهَا لِكَيْ تُحْمَى أَيْضًا فَحَمِيَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا بِالْيَاءِ، أَصْلُهُ يَحْمِي النَّارَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا حَذْفُ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْرُورِ، لَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ كَمَا تَقُولُ: رَفَعْتُ الْقِصَّةَ إِلَى الْأَمِيرِ. وَإِذَا حُذِفَتِ الْقِصَّةُ وَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهَا قُلْتَ: رُفِعَ إِلَى الْأَمِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مُسْنَدٌ إِلَى النَّارِ، قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ تُحْمَى بِالتَّاءِ. وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَالْمَعْنَى: يُحْمَى الْوَقُودُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فالمعنى: تحمى النار. والناصب لِيَوْمٍ أَلِيمٍ أَوْ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ عَذَابٌ أَيْ: يُعَذَّبُونَ يَوْمَ يُحْمَى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَيُكْوَى بِالْيَاءِ، لَمَّا كَانَ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ ليس تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، وَوَقَعَ الْفَصْلُ أَيْضًا ذُكِرَ، وَأَدْغَمَ قَوْمٌ جِبَاهُهُمْ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَذَلِكَ فِي الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، كَمَا أُدْغِمَ مناسككم وما سَلَكَكُمْ، وَخُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بِالْكَيِّ. قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الجهة أَشْنَعُ، وَفِي الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ أوجع. وقيل: لأنها
(1) سورة الحجرات: 49/ 9.
(2)
سورة الجمعة: 62/ 11.
مُجَوَّفَةٌ فَيَصِلُ إِلَى أَجْوَافِهَا الْحَرُّ، بِخِلَافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُكْوَوْنَ عَلَى الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ مَقَادِيمِهِمْ وَمَآخِرِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا طَلَبُوا الْمَالَ وَالْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهَمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنِ الْفَقِيرِ إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ ظُهُورُهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا بِأَمْوَالِهِمْ حَيْثُ لَمْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا الْأَغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ مِنْ وَجَاهَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَتَقَدُّمٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَاءُ وُجُوهِهِمْ مَصُونًا عِنْدَهُمْ يُتَلَقَّوْنَ بِالْجَمِيلِ، وَيُحَيَّوْنَ بِالْإِكْرَامِ، وَيَحْتَشِمُونَ، وَمِنْ أَكْلِ طَيِّبَاتٍ يَتَضَلَّعُونَ مِنْهَا، وَيَنْفُخُونَ جُنُوبَهُمْ، وَمِنْ لُبْسِ نَاعِمَةٍ مِنَ الثِّيَابِ يَطْرَحُونَهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ كَمَا تَرَى أَغْنِيَاءَ زَمَانِكَ هَذِهِ أَغْرَاضُهُمْ وَطَلَبَاتُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. لَا يُخْطِرُونَ بِبَالِهِمْ
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ»
وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَبْصَرُوا الْفَقِيرَ عَبَسُوا، وَإِذَا ضَمَّهُمْ وَإِيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرُّوا عَنْهُ، وَتَوَلَّوْا بِأَرْكَانِهِمْ، وَوَلَّوْا ظُهُورَهُمْ. وَأُضْمِرَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مَا كَنَزْتُمْ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ الْكَيِّ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْمَالِ الْمَكْنُوزِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَيِّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ مَا كَنَزْتُمْ، أَيْ: هَذَا الْكَيُّ نَتِيجَةُ مَا كَنَزْتُمْ، أَوْ ثَمَرَةُ مَا كَنَزْتُمْ. وَمَعْنَى لِأَنْفُسِكُمْ: لِتَنْتَفِعَ بِهِ أَنْفُسُكُمْ وَتَلْتَذَّ، فَصَارَ عَذَابًا لَكُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ. فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ أَيْ: وَبَالَ الْمَالِ الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: وَبَالَ كَوْنِكُمْ كَانِزِينَ. وقرىء يَكْنُزُونَ بِضَمِّ النُّونِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «بَشِّرِ الكانزين برصد يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ وَتُزَلْزِلُهُ وَتُكْوَى الْجِبَاهُ وَالْجُنُوبُ وَالظُّهُورُ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ»
وَفِي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ» .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا عَيْشَ لِأَكْثَرِهَا إِلَّا مِنَ الْغَارَاتِ وَأَعْمَالِ سِلَاحِهَا، فَكَانَتْ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ صَعُبَ عَلَيْهَا وَأَمْلَقُوا، وَكَانَ بَنُو فُقَيْمٍ مِنْ كِنَانَةَ أَهْلَ دِينٍ وَتَمَسُّكٍ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَانْتُدِبَ مِنْهُمُ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ الشُّهُورَ لِلْعَرَبِ، ثُمَّ خَلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ ابْنُهُ قَلَعٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفٌ، ثُمَّ ابْنُهُ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مَنْ حَجَّهَا جَاءَ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَقَالُوا: أَنْسِئْنَا شَهْرًا أَيْ: أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ، فَيُغِيرُونَ فِيهِ وَيَعِيشُونَ. ثُمَّ يَلْزَمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ لِيُوَافِقُوا عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الصَّفَرَ الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمُّونَ رَبِيعًا الْأَوَّلَ
صَفَرًا، وَرَبِيعًا الْآخَرَ رَبِيعًا الْأَوَّلَ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ يَسْتَقْبِلُونَ نَسِيئَهُمْ فِي الْمُحَرَّمِ الْمَوْضُوعِ لَهُمْ، فَيَسْقُطُ عَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُحَرَّمِ الَّذِي حُلِّلَ لَهُمْ، وَتَجِيءُ السَّنَةُ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ الْمُحَلَّلُ، ثُمَّ الْمُحَرَّمُ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ صَفَرٌ، ثُمَّ اسْتِقْبَالُ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: ثُمَّ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرَيْنِ وَلَاءً، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُبَدِّلُونَ فَيَحُجُّونَ عَامَيْنِ وَلَاءً، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَقِيقَةً، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ ذَا الْحِجَّةِ ثُمَّ حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَقِيقَةً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:«إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ والمحرم وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» .
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ قَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، ذَكَرَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْهُ وَهُوَ تَغْيِيرُ الْعَرَبِ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِي وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ فَقَدْ غَيَّرُوا حُكْمَ اللَّهِ. وَالشُّهُورُ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لَمَّا كَانَتْ أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ:«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» «1» فَجَاءَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَالْمَعْنَى: شُهُورُ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِالسَّنَةِ القمرية لا شمسية، تَوَارَثُوهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ، فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ عِدَّةُ الشُّهُورِ الَّتِي تُسَمَّى سَنَةً واثنا عَشَرَ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَشْهُرَ الْعَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ مَعَ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، كَمَا رُوِيَ: الْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ حَلْقَتَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: بِإِسْكَانِ الشِّينِ، وَانْتَصَبَ شَهْرًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُؤَكِّدِ كَقَوْلِكَ: عِنْدِي مِنَ الرِّجَالِ عِشْرُونَ رَجُلًا. وَمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي إِيجَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي حُكْمِهِ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «2» وَقَالَ:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ «3» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِيمَا كَتَبَهُ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ، فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ مِثْلُ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ انْتَهَى. وَعِنْدَ اللَّهِ متعلق بعدة. وقال الحوفي: في
(1) سورة البقرة: 2/ 197.
(2)
سورة يونس: 10/ 5.
(3)
سورة البقرة: 2/ 189.
كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضا بعدّة. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ في كتاب الله بعدة، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عِدَّةَ مَصْدَرٌ مثل العدد، وفي كِتَابِ اللَّهِ صِفَةٌ لَاثْنَا عشر، ويوم معمول لكتاب عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لَا جُثَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُثَّةً، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ انْتَهَى.
وَقِيلَ: انْتَصَبَ يَوْمَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُتِبَ ذلك يوم خلق السموات، وَلَمَّا كَانَتْ أَشْيَاءُ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ فِيهَا أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1» جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا تَعَارُضَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، لَا عَلَى الشُّهُورِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِاثْنَا عشر، وفي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ في مستقر.
وأربعة حُرُمٌ سُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، أَوْ لِتَعْظِيمِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِيهَا.
وَتَسْكِينُ الرَّاءِ لُغَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الَّتِي أُجِّلَ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا أَنْ يَسِيحُوا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. وَأَوَّلُهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَجَبٌ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَتَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: الْقَضَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْعَدَدُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، إِذْ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى الِاثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا حَلَالًا حَرَامًا، وَلَا حَرَامًا حَلَالًا كَفِعْلِ النَّسِيءِ. وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الظُّلْمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعِ الْحُرُمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، نَهَى عَنِ الْمَظَالِمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْظِيمًا بِالتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ: تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا. وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
أَحَلَّتِ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَأْثَمُوا فِيهِنَّ بَيَانًا لِعِظَمِ حُرْمَتِهِنَّ، كَمَا عُظِّمَ أَشْهُرُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2» وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ عَوْدَهُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ كَوْنُهَا أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ جَاءَ بِلَفْظِ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما
(1) سورة لقمان: 31/ 34.
(2)
سورة البقرة: 2/ 197.
جَاءَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْهَاءَ تَكُونُ لِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ تُعَامَلُ فِي الضَّمِيرِ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فَتَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، وَأَنَّ النُّونَ وَالْهَاءَ وَالنُّونَ لِلْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا إِلَى الثَّلَاثَةِ تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ يُعْكَسُ قَلِيلًا فَتَقُولُ: الْجُذُوعُ انْكَسَرْنَ، وَالْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ، وَالظُّلْمُ بِالْمَعَاصِي أَوْ بِالنَّسِيءِ فِي تَحْلِيلِ شَهْرٍ مُحَرَّمٍ وَتَحْرِيمِ شَهْرٍ حَلَّالٍ، أَوْ بِالْبُدَاءَةِ بِالْقِتَالِ، أَوْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ لِعَدَدِكُمْ أَقْوَالٌ.
وَانْتَصَبَ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا. وَلَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا تَدْخُلُهُ أَلْ، وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَالِ. وَتَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْمَعِيَّةُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِي ضِمْنِهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَالْحَثُّ عَلَيْهَا.
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ: يُقَالُ: نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ:
النَّسِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ إِذَا أَخَّرْتُهُ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى نَسِيءٍ كَمَا حُوِّلَ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. ورجل ناسىء، وَقَوْمٌ نَسَأَةٌ، مِثْلُ فَاسِقٍ وَفَسَقَةٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: النَّسِيءُ مَصْدَرٌ مِنْ أَنْسَأَ، كَالنَّذِيرِ مِنْ أَنْذَرَ، وَالنَّكِيرُ مِنْ أَنْكَرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ:
النَّسِيءُ تَأْخِيرُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: النَّسِيءُ بِالْهَمْزِ مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ انْتَهَى. فَإِذَا قُلْتَ: أَنْسَأَ الله اللَّهُ أَجَلَهُ بِمَعْنَى أَخَّرَ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ، فَلَيْسَ النَّسِيءُ مُرَادِفًا لِلزِّيَادَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَإِذَا كَانَ النَّسِيءُ مَصْدَرًا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَصْدَرٍ وَاضِحًا، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ إِمَّا فِي النَّسِيءِ أَيْ: إِنْ نَسَأَ النَّسِيءُ، أَوْ فِي زِيَادَةٍ أَيْ: ذُو زِيَادَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ هَذَا الْإِضْمَارِ يَرِدُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى قَوْلُهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ، وَالْمُؤَخَّرُ الشَّهْرُ، وَلَا يَكُونُ الشَّهْرُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النسيء مهموز عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو جَعْفَرَ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَالْحَلْوَانِيُّ: النَّسِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي نَبِيءٍ وَخَطِيئَةٍ فَقَالُوا: نَبِيٌّ وَخَطِّيَّةٌ بِالْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ.
(1) سورة البقرة: 2/ 208.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَشْهَبُ وشبل: النسء بإسكان السين. وَالْأَشْهَبُ: النَّسِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِثْلُ النَّدِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: النَّسُوءُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ عَنْ طَلْحَةَ وَالسُّلَمِيِّ. وَقَوْلُ أَبِي وَائِلٍ: إِنَّ النَّسِيءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أنسنا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ
…
شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا
وَقَالَ آخر:
نسؤ الشُّهُورَ بِهَا وَكَانُوا أَهْلَهَا
…
مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْعِزُّ لَمْ يَتَحَوَّلِ
وَأَخْبَرَ أَنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ أَيْ: جَاءَتْ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَحْدَثَ مَعْصِيَةً ازْدَادَ كُفْرًا. قَالَ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَحْدَثَ طَاعَةً ازْدَادَ إِيمَانًا. قَالَ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ «2» وَأَعَادَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى النَّسِيءُ، لَا عَلَى لَفْظِ زِيَادَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ والأخوان وحفص: يضل مبنيا للمفعول، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: زُيِّنَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ وَيَعْقُوبُ: يُضِلُّ أَيِ اللَّهُ، أَيْ: يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَتْبَاعَهُمْ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ: الْحَسَنِ، وَالْأَعْمَشِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي رَجَاءٍ.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يَضَلُّ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ ضَلِلْتُ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَضَلَّ بِفَتْحِ الضَّادِ مَنْقُولًا، فَتْحُهَا مِنْ فَتْحَةِ اللَّامِ إِذِ الْأَصْلُ أَضْلَلَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَمَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ: نُضِلُّ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ: نُضِلُّ نَحْنُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِهِمْ عَامًا وَتَحْلِيلِهِمْ عَامًا: لا يرادان ذَلِكَ، كَانَ مُدَاوَلَةً فِي الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَامٌ حَلَالٌ وَعَامٌ حَرَامٌ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ الْقِصَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَوَالِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَحَلَّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ صَفَرًا بَدَلًا مِنَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى أَسْمَائِهَا الْمَعْهُودَةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حُرِّمَ الْمُحَرَّمُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأُحِلَّ صَفَرٌ وَمَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً، وَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ حَالَ الْقَوْمِ.
وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الَّذِي انْتَدَبَ أَوَّلًا لِلنَّسِيءِ الْقَلَمَّسُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
الَّذِينَ شَرَعُوا النَّسِيءَ هُمْ بَنُو مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أول من فعل ذلك عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، أي ليوافقوا
(1) سورة التوبة: 9/ 125.
(2)
سورة التوبة: 9/ 124.
الْعُدَّةَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ وَلَا يُخَالِفُونَهَا، وَقَدْ خَالَفُوا التَّخْصِيصَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْوَاجِبَيْنِ. وَالْوَاجِبَانِ هُمَا الْعَدَدُ الَّذِي هُوَ أَرْبَعَةٌ فِي أَشْخَاصِ أَشْهُرٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ: رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ كما تقدم. ويقال: تواطؤوا عَلَى كَذَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطَأُ حَيْثُ يَطَأُ صَاحِبُهُ. وَمِنْهُ الْإِيطَاءُ فِي الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الشِّعْرِ بِقَافِيَتَيْنِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ عَيْبٌ إِنْ تَقَارَبَ. وَاللَّامُ فِي لِيُوَاطِئُوا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُونَهُ، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِعْمَالِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَهُ مَعًا، فَإِنَّهُ يُرِيدُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَحْفَظُوا فِي كُلِّ عَامٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي الْعَدَدِ، فَأَزَالُوا الْفَضِيلَةَ الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَحْدَهَا، بِمَثَابَةِ أَنْ يُفْطِرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومَ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ بِغَيْرِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ: لِيُوَاطِيُوا بِالْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ لَمَّا أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً عَامَلَ الْبَدَلَ مُعَامَلَةَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ ضَمُّ الطَّاءِ وَحَذْفُ الْيَاءِ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ الْهَمْزَةَ يَاءً خَالِصَةً عِنْدَ التَّخْفِيفِ. فَسُكِّنَتْ لِاسْتِثْقَالِ الضَّمَّةِ عَلَيْهَا، وَذَهَبَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبُدِّلَتْ كَسْرَةُ الطَّاءِ ضَمَّةً لِأَجْلِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ كَمَا قِيلَ فِي رَضِيُوا رَضُوا. وَجَاءَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: لِيُوَاطِيُّوا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، هَكَذَا التَّرْجَمَةُ عَنْهُ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ شِدَّةَ بَيَانِ الْيَاءِ وَتَخْلِيصِهَا مِنَ الْهَمْزِ دُونَ التَّضْعِيفِ، فَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ انْتَهَى. فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَيْ بِمُوَاطَأَةِ الْعِدَّةِ وَحْدَهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقِتَالِ، أَوْ مِنْ تَرْكِ الِاخْتِصَاصِ لِلْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ التَّزْيِينُ الشَّيْطَانَ، لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ سِيقَ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: زَيَّنَ لَهُمْ سُوءُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْيَاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَحَسِبُوا أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ حَسَنَةً. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي أَيْ:
لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، بَلْ يَخْذُلُهُمُ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَحْكُمُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ. وَقِيلَ: لَا يَفْعَلُ بِهِمْ خَيْرًا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ خَيْرٍ هُدًى، وَكُلَّ شَرٍّ ضَلَالَةً انْتَهَى. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِغَزَاةِ تَبُوكَ، وَكَانَ زَمَانَ جَدْبٍ وَحَرٍّ شَدِيدٍ وَقَدْ طَابَتِ الثِّمَارُ، عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
وَأَحَبُّوا الْمُقَامَ، نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ بِعَامٍ، غَزَا فِيهَا الرُّومَ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ رَاكِبٍ وَرَاجِلٍ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ قَبَائِلُ مِنَ النَّاسِ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَثِيرٌ وَمُنَافِقُونَ. وَخَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالْعِتَابِ الشَّدِيدِ بِحَسَبِ مَكَانِهِمْ مِنَ الصُّحْبَةِ، إِذْ هُمْ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَكَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا شَرَحَ مَعَاتِبَ الْكُفَّارِ رَغِبَ في مقابلتهم. وما لَكُمْ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّقْرِيعُ، وَبُنِيَ قِيلَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِلُ هُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُذْكَرْ إِغْلَاظًا وَمُخَاشَنَةً لَهُمْ وَصَوْنًا لِذِكْرِهِ. إِذْ أَخْلَدَ إِلَى الْهُوَيْنَا وَالدَّعَةِ: مَنْ أَخْلَدَ وَخَالَفَ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَثَاقَلْتُمْ وَهُوَ أَصْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اثَّاقَلْتُمْ، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي إِذَا أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْمَاضِي هُنَا بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ. أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي التَّثَاقُلِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ أَنْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْسَبِكُ مَصْدَرٌ إِلَّا مِنْ حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَحَذْفُ إِنَّ فِي نَحْوِ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا أَوْ ضَرُورَةٌ. وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي التَّثَاقُلِ فَلَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ فِي إِذَا، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّاصِبُ لِإِذَا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ فِي التَّثَاقُلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَكُمُ الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا. وقرىء: اثَّاقَلْتُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي إِذَا مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَعْمَلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا فِي مَا لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمْ، كَمَا تَعْمَلُهُ فِي الْحَالِ إِذَا قُلْتَ: مَا لَكَ قَائِمًا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ اثَّاقَلْتُمْ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: مِلْتُمْ إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا حِينَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ثِمَارَهَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَكَرِهْتُمْ مَشَاقَّ السَّفَرِ. وَقِيلَ مِلْتُمْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَرَضِيتُمْ، نَوْعٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِالنَّعِيمِ الْعَاجِلِ فِي الدُّنْيَا الزَّائِلِ بدل النعيم الباقي. ومن تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى بَدَلَ أَيْ: بَدَلَ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ:
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً «1» أَيْ بَدَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً
…
مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طهيان
(1) سورة الزخرف: 43/ 60. [.....]
أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَالطَّهَيَانِ عُودٌ يُنْصَبُ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ تُعَلَّقُ فِيهِ أَوْعِيَةُ الْمَاءِ حَتَّى تَبْرُدَ. وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَدَلِ. وَيَتَعَلَّقُ فِي الْآخِرَةِ بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَحْسُوبًا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَلِيلٍ، وَقَلِيلٌ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ. وَصَلُحَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ مُقَدَّمًا، لِأَنَّ رَائِحَةَ الْفِعْلِ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ. وَلَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ عَمْرًا إِلَّا يَضْرِبُ، لَمْ يَجُزْ.
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: هَذَا سُخْطٌ عَلَى الْمُتَثَاقِلِينَ عَظِيمٌ، حَيْثُ أَوْعَدَهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُطْلَقٍ يَتَنَاوَلُ عَذَابَ الدَّارَيْنِ، وَأَنَّهُ يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَبْدِلُ قَوْمًا آخَرِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَطْوَعَ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، لَا يَقْدَحُ تَثَاقُلُهُمْ فِيهَا شَيْئًا. وَقِيلَ: يُعَذِّبُكُمْ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْكُمْ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَنْفَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبِيلَةً فَقَعَدَتْ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَطَرَ وَعَذَّبَهَا بِهِ.
وَالْمُسْتَبْدَلُ الْمَوْعُودُ بِهِمْ، قَالَ: جَمَاعَةٌ أَهْلُ الْيَمَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ التَّابِعُونَ، وَالظَّاهِرُ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَدِينَةِ أَقْوَامًا يُعِينُونَهُ عَلَى الْغَزْوِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَقْوَامٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ هُنَاكَ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: وَلَا تَضُرُّوا دِينَهُ شَيْئًا. وَقِيلَ: عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَصَمَهُ وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَمَّا رَتَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ نَفْرِهِمُ التَّعْذِيبَ وَالِاسْتِبْدَالَ وَانْتِفَاءَ الضَّرَرِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِهِ قَدِيرٌ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّغْيِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فِيهِ انْتِفَاءُ النَّصْرِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ نَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ محذوف تفسيره: فَسَيَنْصُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ: يَنْصُرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا نَصَرَهُ فِي الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَسَيَنْصُرُهُ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهُ النُّصْرَةَ وَجَعَلَهُ مَنْصُورًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُخْذَلْ مِنْ بَعْدِهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ إِيجَابَ النُّصْرَةِ لَهُ أَمْرٌ سَبَقَ، وَالْمَاضِي
لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَالَّذِي يَظْهَرُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ. وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَّاهُ: فِعْلُهُمْ بِهِ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْخُرُوجِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَنُسِبَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِمْ مَجَازًا، كَمَا نُسِبَ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي أَخْرَجَتْكَ «1» وَقِصَّةُ خُرُوجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ مَذْكُورَةٌ فِي السِّيَرِ. وَانْتَصَبَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: أَحَدَ اثْنَيْنِ وَهُمَا:
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: «مَنْ يَخْرُجُ مَعِي؟» قَالَ: أَبُو بَكْرٍ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ خَرَجَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَإِنَّمَا الْمُعَاتَبَةُ لِمَنْ تَخَلَّفَ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنَوِّهَةٌ بِقَدْرِ أَبِي بَكْرٍ وَتَقَدُّمِهِ وَسَابِقَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، إِذْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ، إِذْ كَانَ فِي الْغَارِ وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ أَحَدٌ سِوَى أَبِي بَكْرٍ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: ثَانِي اثْنَيْنِ بِسُكُونِ يَاءِ ثَانِي. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَكَاهَا أَبُو عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ. وَالْغَارُ: نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ فِي يُمْنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ، مَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا. إِذْ هُمَا: بَدَلٌ. وإذ يَقُولُ: بَدَلٌ ثَانٍ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ كَفَرَ لِإِنْكَارِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ حَزْنِ أَبِي بَكْرٍ خَوْفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهَاهُ الرَّسُولُ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، يَعْنِي: بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ وَذَهَبَ دِينُ اللَّهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا ظَنَّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي
…
وَنَحْنُ فِي سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ
لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا
…
وَقَدْ تَكَفَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإِنَّمَا كَيْدُ مَنْ تخشى بوارده
…
كَيْدُ الشَّيَاطِينِ قَدْ كَادَتْ لِكُفَّارِ
وَاللَّهُ مُهْلِكُهُمْ طُرًّا بِمَا صَنَعُوا
…
وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّكِينَةُ الرَّحْمَةُ. وقال قتادة في
(1) سورة محمد: 47/ 13.
آخَرِينَ: الْوَقَارُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطُّمَأْنِينَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ عَلَيْهِمَا. وَأَفْرَدَهُ لِتَلَازُمِهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا وَأَيَّدَهُمَا. وَالْجُنُودُ:
الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأَحْزَابِ، وَحُنَيْنٍ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْوَقْتُ يُلْقُونَ الْبِشَارَةَ فِي قَلْبِهِ، وَيَصْرِفُونَ وُجُوهَ الْكُفَّارِ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ ثَابِتَ الْجَأْشِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَأَيَّدَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا جَاءَ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «1» يَعْنِي الرَّسُولَ، وَتُسَبِّحُوهُ:
يَعْنِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسَّكِينَةُ عِنْدِي إِنَّمَا هِيَ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنَ الْحِيَاطَةِ لَهُمْ، وَالْخَصَائِصِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ مَا صَنَعَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ إِلَى وَقْتِ تَبُوكَ مِنَ الظُّهُورِ وَالْفُتُوحِ، لَا أَنْ يَكُونَ هَذَا يَخْتَصُّ بِقِصَّةِ الْغَارِ. وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ الشِّرْكُ، وَهِيَ مَقْهُورَةٌ. وَكَلِمَةُ اللَّهِ: هِيَ التَّوْحِيدُ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَّمَهُ الْكَافِرِينَ مَا قَرَّرُوا بَيْنَهُمْ مِنَ الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: أَنَّهُ نَاصِرُهُ.
وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَلِمَةُ الْكُفَّارِ قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: يَا لِبَنِي فُلَانٍ، وَيَا لِفُلَانٍ.
وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «3» وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: اعْلُ هُبَلَ، يَعْنُونَ صَنَمَهُمُ الْأَكْبَرَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَيَدَهُ وَالْجُمْهُورُ وَأَيَّدَهُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وقرىء: وَكَلِمَةُ اللَّهِ بِالنَّصْبِ أَيْ: وَجَعَلَ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ أَثْبَتُ فِي الْإِخْبَارِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعَلْيَاءَ، وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَصْنَعُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ عَادَاهُمْ مِنْ إِعْزَازِ دِينِهِ وَإِخْمَادِ الْكُفْرِ.
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: لَمَّا تَوَعَّدَ تَعَالَى مَنْ لَا يَنْفِرُ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ لَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا ضَرَبَ، أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَزْمَ. وَالْمَعْنَى: انْفِرُوا عَلَى الْوَصْفِ الذي يحف عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجِهَادُ، أَوْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَثْقُلُ. وَالْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَنْ يُمْكِنُهُ السَّفَرُ بِسُهُولَةٍ،
(1) سورة الفتح: 48/ 9.
(2)
سورة البقرة: 2/ 248.
(3)
سورة المجادلة: 58/ 21.
وَمَنْ يُمْكِنُهُ بِصُعُوبَةٍ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ كَالْأَعْمَى وَنَحْوِهِ فَخَارِجٌ عَنْ هَذَا.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى نَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «1»
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ أَشْيَاءَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ. قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: شَبَابًا وَشُيُوخًا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عُزْبَانًا وَمُتَزَوِّجِينَ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ: أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ أَيْ مُقِلِّينَ فِيهِ، وَثِقَالًا أَيْ مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خِفَافًا مِنَ الْأَشْغَالِ وَثِقَالًا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِفَافًا مِنَ الْعِيَالِ، وَثِقَالًا بِهِمْ. وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ: خِفَافًا من الأتباع والحاشية، ثقالا بِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مِنْ خِفَّةِ الْيَقِينِ وَثِقَلِهِ عِنْدَ الْكَرَاهَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: خِفَافًا إِلَى الطَّاعَةِ، وَثِقَالًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْفِتْيَانِ: خِفَافًا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، وَثِقَالًا فِي الْمُصَابَرَةِ. وَحَكَى أَيْضًا: خِفَافًا بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، وَثِقَالًا بَعْدَ التَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ، وَغَيْرُ ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الْخَفِيفُ. وحكى النقاش: شجعانا وجبنا. ويقل: مَهَازِيلَ وَسِمَانًا. وَقِيلَ: سِبَاقًا إِلَى الْحَرْبِ كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ، وَالثِّقَالُ الْجَيْشُ بِأَسْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: النَّشِيطُ وَالْكَسْلَانُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عُنِيَ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» وَانْتَصَبَ خِفَافًا وَثِقَالًا عَلَى الْحَالِ. وَذُكِرَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إِذْ ذَلِكَ وَصْفٌ لِأَكْمَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَادِ وَأَنْفَعِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَافِ وَقُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ إِذْ هِيَ أَوَّلُ مَصْرِفٍ وَقْتَ التَّجْهِيزِ، وَذُكِرَ مَا الْمُجَاهِدُ فِيهِ وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ. وَالْخَيْرِيَّةُ هِيَ فِي الدُّنْيَا بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَدْ غَزَا أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى غَزَا فِي الْبَحْرِ وَمَاتَ فِيهِ، وَغَزَا الْمِقْدَادُ عَلَى ضَخَامَتِهِ وَسِمَنِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَ كَوْنِهِ أَعْمَى.
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ: أَيْ لَوْ كَانَ مَا
(1) سورة النور: 24/ 61.
(2)
سورة التوبة: 9/ 122.
دُعُوا إِلَيْهِ غُنْمًا قَرِيبًا سَهْلَ الْمَنَالِ، وَسَفَرًا قَاصِدًا وَسَطًا مُقَارِبًا. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ حِينَ اسْتَنْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ فَنَفَرُوا، وَاعْتَذَرَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ لِأَصْحَابِهِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْقَبَائِلِ الْمُجَاوِرَةِ للمدينة. وليس قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ «1» خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً، بَلْ هُوَ عَامٌّ. وَاعْتَذَرَ الْمُنَافِقُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ، فَابْتَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وكشف ضمائرهم.
لا تبعوك: لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا لِظُهُورِ كَلِمَتِهِ، وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أَيْ:
الْمَسَافَةُ الطَّوِيلَةُ فِي غَزْوِ الرُّومِ. وَالشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيَابِ، وَالشُّقَّةُ أَيْضًا السَّفَرُ الْبَعِيدُ، وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ قَالَهُ: الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الشُّقَّةُ الْغَايَةُ الَّتِي تُقْصَدُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الشُّقَّةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ يَشُقُّ رُكُوبُهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشُّقَّةُ الْمَسِيرُ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّقِّ، أَوْ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بَعِدَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ، وَافَقَهُ الْأَعْرَجُ فِي بَعِدَتْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ فِي اللَّفْظَيْنِ انْتَهَى. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: شُقَّةً وَشِقَّةً. وَسَيَحْلِفُونَ: أَيِ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِغَيْبٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، مَا نَصُّهُ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِسَيَحْلِفُونَ، أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْقَوْلُ مُرَادٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ: سَيَحْلِفُونَ مُتَخَلِّصِينَ عِنْدَ رُجُوعِكَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مُعْتَذِرِينَ، يَقُولُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، أَوْ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يَقُولُونَ لَوِ اسْتَطَعْنَا. وَقَوْلُهُ: لَخَرَجْنَا سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا وَالْإِخْبَارُ بِمَا سَوْفَ يَكُونُ بَعْدَ الْقَوْلِ مِنْ حَلِفِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ. وَمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ اسْتِطَاعَةُ الْعُدَّةِ، وَاسْتِطَاعَةُ الْأَبْدَانِ، كَأَنَّهُمْ تَمَارَضُوا انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَخَرَجْنَا، سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ لِلنَّحْوِيِّينَ فِي هَذَا مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى قَاعِدَةِ اجْتِمَاعِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بن عصفور. والآخران لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ لَوْ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ لَوْ وَجَوَابُهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ مَالِكٍ. أَنَّ لَخَرَجْنَا يَسُدُّ مسدهما، فلا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ جَوَابُ لَوْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ جُعِلَ، كَأَنَّهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ لَوْ جَمِيعًا.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوِ اسْتَطَعْنَا بِضَمِّ الْوَاوِ، فرّ مِنْ ثِقَلِ الْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ وَشَبَّهَهَا بِوَاوِ الْجَمْعِ عِنْدَ تَحْرِيكِهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا كَمَا جاء:
(1) سورة التوبة: 9/ 38.
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «1» بِالْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، أَيْ: يُوقِعُونَهَا فِي الْهَلَاكِ بِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةُ اسْتِئْنَافِ إِخْبَارٍ مِنْهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيَحْلِفُونَ، أَوْ حَالًا بِمَعْنَى مُهْلِكِينَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُوقِعُونَهَا فِي الْهَلَاكِ بِحَلِفِهِمُ الكاذب، وما يحلفون عَلَيْهِ مِنَ التَّخَلُّفِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ قَوْلِهِ: لَخَرَجْنَا أَيْ، لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ وَإِنْ أَهْلَكْنَا أَنْفُسَنَا وَأَلْقَيْنَاهَا فِي التَّهْلُكَةِ بِمَا يَحْمِلُهَا مِنَ الْمَسِيرِ فِي تِلْكَ الشُّقَّةِ، وَجَاءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُخْبَرٌ عَنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قيل:
سيلحفون بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا؟ يُقَالُ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَالْغَيْبَةُ عَلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ، وَالتَّكَلُّمُ على الحكام انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُ يُهْلِكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيَحْلِفُونَ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْحَلِفِ، وَلَا هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَلِفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ فِعْلٌ مِنْ فِعْلٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادِفًا لَهُ أَوْ نَوْعًا مِنْهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لَخَرَجْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَخَرَجْنَا فِيهِ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ، فَالَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. فَلَوْ كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَخَرَجْنَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ: نُهْلِكُ أَنْفُسَنَا أَيْ: مُهْلِكِي أَنْفُسِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ ذَلِكَ عَلَى حَلِفٍ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجْرَاهُ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لَوْ قُلْتُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ وَأَنَا قَائِمٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَأَنَا قَائِمٌ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَيَفْعَلَنَّ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا عَكْسُهُ نَحْوُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَأَفْعَلَنَّ يَقُومُ، تُرِيدُ قَائِمًا لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَاءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُخْبَرٌ عَنْهُمْ فَهِيَ مُغَالَطَةٌ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، بَلْ هُوَ حَاكٍ لَفْظَ قَوْلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَرَى لَوْ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا إِلَى آخِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، بَلْ حِكَايَةً. وَالْحَالُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَحَالِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَامِلِ. لَوْ قُلْتَ: قَالَ زَيْدٌ: خَرَجْتُ يَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ أَضْرِبُ خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قُلْتَ: قَالَتْ هِنْدُ: خَرَجَ زَيْدٌ أَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ خَرَجَ زَيْدٌ ضَارِبًا خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي صِنْفٍ مُبَالِغٍ فِي النِّفَاقِ. وَاسْتَأْذَنُوا دُونَ اعْتِذَارٍ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي، والجد بن قيس، وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي.
(1) سورة البقرة: 2/ 16.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ائْذَنَّ لَنَا فِي الْإِقَامَةِ، فَأَذِنَ لَهُمُ اسْتِبْقَاءً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذًا بِالْأَسْهَلِ مِنَ الْأُمُورِ، وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: نَسْتَأْذِنُهُ، فَإِنْ أَذِنَ فِي الْقُعُودِ قَعَدْنَا، وإن لم يأذن قعدتا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ النجوي الدَّاوُدِيُّ الْمَنْبُوذُ بِنَفْطَوَيْهِ: ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَمَا
قَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً»
لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «1» لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ. وَاسْتَأْذَنَهُ الْمُخَلَّفُونَ فِي التَّخَلُّفِ وَاعْتَذَرُوا، اخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَأَقَامُوا لِلنِّفَاقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْكَ عِنْدَهُ افْتِتَاحُ كَلَامٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنَ الْإِذْنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَفْوًا عَنْ ذَنْبٍ، إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الْإِذْنِ لَهُمْ كَمَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ»
وَمَا وَجَبَتَا قَطُّ وَمَعْنَاهُ: تَرَكَ أَنْ يُلْزِمَكُمْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَقَالُوا: ذِكْرُ الْعَفْوِ هُنَا لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَدُّمِ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ جَرَتْ عَادَةُ العربان تُخَاطِبَ بِمِثْلِهِ لِمَنْ تُعَظِّمُهُ وَتَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الدُّعَاءَ لَهُ فَيَقُولُونَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَعَلَى هَذَا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ انْتَهَى.
وَلِمَ وَلَهُمْ مُتَعَلِّقَانِ بِأَذِنْتَ، لَكِنَّهُ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ اللَّامَيْنِ، إِذْ لَامُ لِمَ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَامُ لَهُمْ لِلتَّبْلِيغِ، فَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَمُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَمَا قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقُعُودُ أَيْ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزْوِ حَتَّى تَعْرِفَ ذَوِي الْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ هُوَ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْغَزْوِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَيْنًا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «2» وَكَانُوا يَخْذُلُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَهُ لَيْسَ مَصْلَحَةً بِقَوْلِهِ:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «3» . وَحَتَّى غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ أَيْ: مَا كَانَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنْ لَهُ الْعُذْرُ، هَكَذَا قَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ
(1) سورة الأحزاب: 33/ 51.
(2)
سورة التوبة: 9/ 47.
(3)
سورة التوبة: 9/ 47.
مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ تَقْدِيرُهُ: هَلَّا أَخَّرْتَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَوْ لِيَتَبَيَّنَ. وَقَوْلُهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ حَتَّى بِأَذِنْتَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، أَوْ لِأَجْلِ التَّبْيِينِ، وَهَذَا لَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، مِمَّا يَجِبُ اطِّرَاحُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُذْكَرَ فَيُرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ: فِي اسْتِئْذَانِكَ. وَأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ خَرَجُوا مَعَكَ. وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ: تُرِيدُ فِي أَنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوكَ يُظْهِرُونَ لَكَ أَنَّهُمْ يَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّكَ وَهُمْ كَذَبَةٌ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الْعِصْيَانِ أَذِنْتَ لَهُمْ أَوْ لَمْ تَأْذَنْ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: حَتَّى تَعْلَمَ الصَّادِقِينَ فِي أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا، وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فِي أن الأعذار لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ النُّورِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ. وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ النُّورَ نَزَلَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فِي اسْتِئْذَانِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّسُولَ فِي بَعْضِ شَأْنِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ أَنْ يَأْذَنَ، فَتَبَايَنَتِ الْآيَتَانِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَعْنَى.
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِئْذَانِ هُوَ أَنْ يُجَاهِدُوا أَيْ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي أَنْ يُجَاهِدُوا، وَكَانَ الْخُلَّصُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَدًا، وَيَقُولُونَ: لَنُجَاهِدَنَّ مَعَهُ بِأَمْوَالِنَا وَأَنْفُسِنَا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْخُرُوجِ وَلَا الْقُعُودِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا، بَلْ إِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ ابْتَدَرُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ، شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالِانْتِظَامِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ، وَعِدَةٌ لَهُمْ بِأَجْزَلِ الثَّوَابِ.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. وَمَعْنَى ارْتَابَتْ: شَكَّتْ. وَيَتَرَدَّدُونَ:
يَتَحَيَّرُونَ، لَا يَتَّجِهُ لَهُمْ هُدًى فَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ صِحَّةُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَالرَّاحِلَةِ، لِأَنَّ سَفَرَهُمْ بَعِيدٌ فِي زَمَانِ حَرٍّ شَدِيدٍ. وَفِي تَرْكِهِمُ الْعُدَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّخَلُّفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى
تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ وَالْأُهْبَةِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعُدَّةُ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ فِي الْجِهَادِ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: كُلُّ مَا يُعَدُّ لِلْقِتَالِ مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ: عُدَّ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: تَسْقُطُ التَّاءُ لِلْإِضَافَةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ أَيْ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ لَا يَقِيسُ ذَلِكَ، إِنَّمَا نَقِفُ فِيهِ مَعَ مَوْرِدِ السَّمَاعِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لَمَّا أضاف جعل الكناية تائبة عَنِ التَّاءِ فَأَسْقَطَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَّ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَلَا تَقْدِيرُهَا هُوَ الْبَثْرُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعُ عُدَّةٍ كَبُرَّةٍ وَبُرٍّ وَدُرَّةٍ وَدُرٍّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ عُدَدٌ، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ خط المصحف. وقرأ ذر بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: عِدَّهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهَاءِ إِضْمَارٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدِي اسْمٌ لِمَا يُعَدُّ كَالذَّبْحِ وَالْقَتْلِ لِلْعَدِّ، وَسُمِّيَ قَتْلًا إِذْ حقه أن يقتل.
وقرىء أَيْضًا: عِدَّةً بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَبِالتَّاءِ دُونَ إِضَافَةٍ أَيْ: عِدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ، أَوْ مِمَّا لَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَدَدِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا وَلَكِنْ، وَكَانَتْ لَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ نَقِيضَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، لَا بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ، وَكَانَ ظَاهِرُ مَا بَعْدَ لَكِنْ مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كيف مَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مُعْطِيًا مَعْنَى نَفْيِ خُرُوجِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْغَزْوِ. قِيلَ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا خَرَجُوا وَلَكِنْ تَثَبَّطُوا عَنِ الْخُرُوجِ لِكَرَاهَةِ انْبِعَاثِهِمْ، كَمَا تَقُولُ:
مَا أَحْسَنَ إِلَيَّ زِيدٌ وَلَكِنْ أَسَاءَ إِلَيَّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَظِيرَ هَذَا الْمِثَالِ، لِأَنَّ الْمِثَالَ وَاقِعٌ فِيهِ لَكِنْ بَيْنَ ضِدَّيْنِ، وَالْآيَةُ وَاقِعٌ فِيهَا لَكِنْ بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَالِانْبِعَاثُ الِانْطِلَاقُ وَالنُّهُوضُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَثَبَّطَهُمْ كَسَلُهُمْ وَفَتْرُ نِيَّاتِهِمْ. وَبُنِيَ وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ: إِذْنَ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، أَوْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى، أَوْ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي سَابِقِ قَضَائِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ إِلْقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ أَمْرًا بِالْقُعُودِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
كَيْفَ جَازَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْهَامِ الْقَبِيحِ. (قُلْتُ) : خُرُوجُهُمْ كَانَ مَفْسَدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «1» فَكَانَ إِيقَاعُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ فِي نُفُوسِهِمْ حَسَنًا وَمَصْلَحَةً انْتَهَى. وَهَذَا
(1) سورة التوبة: 9/ 47.
السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ فِي الْمَفْسَدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ذَمٌّ لَهُمْ وَتَعْجِيزٌ، وَإِلْحَاقٌ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْقُعُودُ وَالْجُثُومُ فِي الْبُيُوتِ، وَهُمُ الْقَاعِدُونَ وَالْخَالِفُونَ وَالْخَوَالِفُ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ «1» وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخَلُّفِ وَالتَّرَاخِي كَمَا قَالَ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
…
وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ:
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَنْ تَخَلَّفَ فَنَزَلَتْ بِعُرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ كَارِهُونَ.
وَفِيكُمْ أَيْ: فِي جَيْشِكُمْ أَوْ فِي جُمْلَتِكُمْ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَمُرَاعَاةُ إِخْمَادِ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَكْرُ وَالْغَدْرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى:
الِاضْطِرَابُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الشَّرُّ، وَقَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: إِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالْأَرَاجِيفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْخَبَالِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ مُفَرَّغٌ، إِذِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِزَادَ لَمْ يُذْكَرْ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُنَافِقُونَ كَثِيرٌ، وَلَهُمْ لَا شَكَّ خَبَالٌ، فَلَوْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ لَتَأَلَّبُوا فَزَادَ الْخَبَالُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، فَكَانَ هُوَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لأنّ بَعْضُ أَعَمِّ الْعَامِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا إِلَّا خَبَالًا. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَسْكَرِ الرَّسُولِ خَبَالٌ. فَالْمَعْنَى: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَلَا شِدَّةً لَكِنْ خَبَالًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا زَادُوكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، يَعْنِي: مَا زَادَكُمْ خُرُوجُهُمْ إِلَّا خَبَالًا. وَالْإِيضَاعُ الْإِسْرَاعُ قَالَ:
أُرَانَا مُوضِعِينَ لأمر غريب
…
وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
وَيُقَالُ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ تَضَعُ وَضْعًا وَوُضُوعًا قَالَ:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
…
أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَأَسْرَعُوا بِالنَّمِيمَةِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: لَأَسْرَعُوا بِالْفِرَارِ.
وَمَفْعُولُ أَوْضَعُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَوْضَعُوا رَكَائِبَكُمْ بَيْنَكُمْ، لِأَنَّ الراكب أسرع من
(1) سورة التوبة: 9/ 87.
الْمَاشِي. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ: وَلَأَوْفَضُوا أَيْ أَسْرَعُوا كَقَوْلِهِ: إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «1» وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: ولأوفضوا بِالرَّاءِ مِنْ رَفَضَ أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ رَفْضًا وَرَفَضَانًا قَالَ حَسَّانُ:
بِزُجَاجَةٍ رَفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا
…
رَفْضَ الْقَلُوصِ بِرَاكِبٍ مُسْتَعْجِلِ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
وَالرَّافِضَاتُ إِلَى مِنًى فالقبقب والخلاف جَمْعُ الْخَلَلِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: تَخَلَّلْتُ الْقَوْمَ دَخَلْتُ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وَخِلَالِهِمْ، وَجَلَسْنَا خِلَالَ الْبُيُوتِ وَخِلَالَ الدُّورِ أَيْ: بَيْنَهَا، وَيَبْغُونَ حَالٌ أَيْ: بَاغِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَبْغُونَهَا لَكُمْ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا الْكُفْرُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالضَّحَّاكُ. أَوِ الْعَيْبُ وَالشَّرُّ قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ. أَوْ تَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ أَوِ النَّمِيمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحَاوِلُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِأَنْ يُوقِعُوا الْخِلَافَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَيُفْسِدُوا نِيَّاتِكُمْ فِي مَغْزَاكُمْ. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ: نَمَّامُونَ يَسْمَعُونَ حَدِيثَكُمْ فَيَنْقُلُونَهُ إِلَيْهِمْ، أَوْ فِيكُمْ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ انْتَهَى. فَاللَّامُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي الثَّانِي لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «2» وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَهُ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، قَالُوا: مَعْنَاهُ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مُطِيعُونَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.
وَمَعْنَى وَفِيكُمْ فِي خِلَالِكُمْ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِيهِ عَلَى ظُلْمِهِ. وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَقْبَلُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ رُجُوعِ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ، حَقَّرَ شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدِيمًا سَعَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ سَعْيَهُمْ، وَفِي الْأُمُورِ الْمُقَلَّبَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغَوْا لَكَ الْغَوَائِلَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَفَ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الثَّنِيَّةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَيْ يَفْتِكُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: احْتَالُوا فِي تَشْتِيتِ أَمْرِكَ وَإِبْطَالِ دِينِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانْصِرَافِ ابْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ
(1) سورة المعارج: 70/ 43. [.....]
(2)
سورة هود: 11/ 107.
أُحُدٍ بِأَصْحَابِهِ. وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْغَزَاةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُجُوعِهِمْ عَنْهُ فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا. وَتَقْلِيبُ الْأُمُورِ: هُوَ تَدْبِيرُهَا ظهر البطن، وَالنَّظَرُ فِي نَوَاحِيهَا وَأَقْسَامِهَا، وَالسَّعْيُ بِكُلِّ حِيلَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبُ الْمَكِيدَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
هُوَ حُوَّلٌ قُلَّبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: وَقَلَبُوا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ أَيْ: الْقُرْآنُ وَشَرِيعَةُ الرسول صلى الله عليه وسلم. وَلَفْظَةُ جَاءَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ. وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَصَفَهُ بِالظُّهُورِ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمَسْتُورِ أَيْ: غَلَبَ وَعَلَا دِينُ اللَّهِ. وَهُمْ كَارِهُونَ لِمَجِيءِ الْحَقِّ وَظُهُورِ دِينِ اللَّهِ. وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِثَارَةِ الشَّرِّ فَإِنَّهُمْ مُذْ رَامُوا ذَلِكَ رَدَّهُ اللَّهُ فِي نَحْرِهِمْ، وَقَلَبَ مُرَادَهُمْ، وَأَتَى بِضِدِّ مَقْصُودِهِمْ، فَكَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ:
نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ بِالْغَزْوِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ حَرَّضَ النَّاسَ فَقَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ:«هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ» وَقَالَ لَهُ وَلِلنَّاسِ:
«اغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ» .
فَقَالَ الْجَدُّ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلَا تفتني بكر بَنَاتِ الْأَصْفَرِ، فَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي لَا أَتَمَالَكُ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا رَأَيْتُهُنَّ وتفتني، وَلَا تَفْتِنِّي بِالنِّسَاءِ.
هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: وَلَا تَفْتِنِّي أَيْ وَلَا تُصَعِّبْ عَلَيَّ حَتَّى أَحْتَاجَ إِلَى مواقعة معصيتك فسهّل أنت عَلَيَّ، وَدَعْنِي غَيْرَ مُخْتَلِجٍ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ قَالُوا: لَا تُكْسِبُنِي الْإِثْمَ بِأَمْرِكَ إِيَّايَ بِالْخُرُوجِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَسِّرٍ لِي، فَآثَمُ بِمُخَالَفَتِكَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُكَفِّرْنِي بِإِلْزَامِكَ الْخُرُوجَ مَعَكَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا تَصْرِفْنِي عَنْ شُغْلِي فَتُفَوِّتْ عَلَيَّ مَصَالِحِي وَيَذْهَبْ أَكْثَرُ ثِمَارِي. وَقِيلَ: ولا تفتني فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنِّي إِذَا خَرَجْتُ مَعَكَ هَلَكَ مَالِي وَعِيَالِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي. وَمُتَعَلَّقُ الْإِذْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي الْقُعُودِ وَفِي مُجَاوَرَتِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَلَى نِفَاقِهِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ ائْذَنْ لِي بِإِبْدَالِهَا وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ أو الفاء على أأئذن، فَهِجَاؤُهَا فِي الْخَطِّ أَلِفٌ وَذَالٌ وَنُونٌ بِغَيْرِ يَاءٍ، أَوْ ثُمَّ فَالْهِجَاءُ أَلِفٌ وَيَاءٌ وَذَالٌ وَنُونٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ ثُمَّ يُوقَفُ عَلَيْهَا وَتَنْفَصِلُ بِخِلَافِهِمَا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: لَا تُفْتِنِّي بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى مِنْ أَفْتَنَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهِيَ أيضا قراءة ابن السميفع، وَنَسَبَهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ. وَجَمَعَ الشَّاعِرُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فَقَالَ:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي فَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ
…
سَعِيدًا فَأَمْسَى قَدْ قَلَا كُلَّ مُسْلِمِ
وَالْفِتْنَةُ الَّتِي سَقَطُوا فِيهَا هِيَ فِتْنَةُ التَّخَلُّفِ، وَظُهُورُ كُفْرِهِمْ، وَنِفَاقِهِمْ. وَلَفْظَةُ سَقَطُوا تنبيء عَنْ تَمَكُّنِ وُقُوعِهِمْ فِيهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِثْمُ بِخِلَافِهِمُ الرَّسُولَ فِي أَمْرِهِ، وَإِحَاطَةُ جَهَنَّمَ بِهِمْ إِمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوِ الْآنَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. لِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِحَاطَةِ مَعَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ فِي وَسَطِهَا، أَوْ لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَيْهَا.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَسَنَةُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْمُصِيبَةُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى التَّمْثِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَحْبُوبٍ وَمَكْرُوهٍ، وَسِيَاقُ الْحَمْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْغَزْوِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الْحَسَنَةُ الظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ، وَالْمُصِيبَةُ الْخَيْبَةُ وَالْهَزِيمَةُ، مِثْلُ مَا جَرَى فِي أَوَّلِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَمَعْنَى أَمْرَنَا الَّذِي نَحْنُ مُتَّسِمُونَ بِهِ مِنَ الْحَذَرِ وَالتَّيَقُّظِ وَالْعَمَلِ بِالْحَزْمِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، مِنْ قَبْلِ مَا وَقَعَ مِنَ الْمُصِيبَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّوَلِّي حَقِيقَةً أَيْ: وَيَتَوَلَّوْا عَنْ مَقَامِ التَّحْدِيثَ بِذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَهُمْ مَسْرُورُونَ. وَقِيلَ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: عَنِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ التَّوَلِّي مَجَازًا.
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: هَلْ يُصِيبُنَا مَكَانَ لَنْ يُصِيبَنَا. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ أَيْضًا وَأَعْيَنُ قَاضِي الرَّيِّ: هَلْ يُصَيِّبُنَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مُضَارِعُ فَيْعَلَ نَحْوُ: بَيْطَرَ، لَا مُضَارِعَ فَعَلَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ صَوَّبَ مُضَاعَفَ الْعَيْنِ. قَالُوا: صَوَّبَ رَأْيَهُ لَمَّا بَنَاهُ عَلَى فَعَّلَ، لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. وَقَالُوا: صَابَ يَصُوبُ وَمَصَاوِبُ جَمْعُ مُصِيبَةٍ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: صَابَ السَّهْمُ يُصِيبُ، جَعَلَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُصِيبُنَا مُضَارِعَ صَيَبَ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، وَالصَّيِّبُ يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ أَعْيَنَ قَاضِي الرَّيِّ يَقُولُ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَّا بِتَشْدِيدِ النُّونِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النُّونَ لَا تَدْخُلُ مَعَ لَنْ، وَلَوْ كَانَتْ لِطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ لَحَارَتْ، لِأَنَّهَا مَعَ هَلْ. قَالَ تَعَالَى: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ «1» انْتَهَى. وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَشْبِيهُ لَنْ بِلَا وَبِلَمْ، وَقَدْ سُمِعَ لَحَاقُ هَذِهِ النُّونِ بِلَا وَبِلَمْ، فَلَمَّا شَارَكَتْهُمَا لَنْ فِي النَّفْيِ لَحِقَتْ مَعَهَا نُونُ التَّوْكِيدِ، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ.
أَيْ: مَا أَصَابَنَا فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَا بِكُمْ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَصَابَنَا وَكَتَبَ أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، وَمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، أو ما قضى
(1) سورة الحج: 22/ 15.
وَحَكَمَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: هُوَ مَوْلَانَا، أَيْ نَاصِرُنَا وَحَافِظُنَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: مَالِكُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلِهَذَا يَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَ. فَيَجِبُ الرِّضَا بِمَا يَصْدُرُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَالَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ، فَهُوَ مَوْلَانَا الَّذِي يَتَوَلَّانَا وَنَتَوَلَّاهُ.
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ: أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْعَاقِبَتَيْنِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هِيَ الْحُسْنَى مِنَ الْعَوَاقِبِ: إِمَّا النُّصْرَةُ، وَإِمَّا الشَّهَادَةُ. فَالنُّصْرَةُ مَآلُهَا إِلَى الْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَالشَّهَادَةُ مَآلُهَا إِلَى الْجَنَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَةُ وَالشَّهَادَةُ. وَقِيلَ: الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ وَالْمَغْفِرَةُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ هُنَا الصَّوَاعِقُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَوْتُ. وَقِيلَ: قَارِعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ تُهْلِكُهُمْ كَمَا نَزَلَتْ عَلَى عَادٍ وَثَمُودَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوَعُّدًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِأَيْدِينَا بِالْقَتْلِ عَلَى الْكُفْرِ. فَتَرَبَّصُوا مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ إِظْهَارَ دِينِهِ وَاسْتِئْصَالَ مَنْ خَالَفَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَرَبَّصُوا بِنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَوَاقِبِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مَا هُوَ عَاقِبَتُكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ نَلْقَى كُلُّنَا مَا نَتَرَبَّصَهُ لَا نَتَجَاوَزُهُ انْتَهَى. وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ الإحدى: بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
فَوَصَلَ أَلِفَ إِحْدَى وَهَذِهِ لُغَةٌ وَلَيْسَتْ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا بَا الْمُغِيرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ وَنَحْوُ قَوْلِ الْآخَرِ:
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسْنِي بُرْقُعًا انْتَهَى.
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ: كُرْهًا بِضَمِّ الْكَافِ، وَيَعْنِي: فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ. قِيلَ: وَهُوَ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّوْبِيخُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ أَمْرٌ فِي مَعْنَى الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا
«1» وَمَعْنَاهُ لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» وَقَوْلُهُ: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا ملومة. أي لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أو لا تستغفر لهم، وَلَا نَلُومَكِ أَسَأْتِ إِلَيْنَا أَمْ أَحْسَنْتِ انْتَهَى.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ غَيْرُ هَذَا بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ أَيْ: إِنْ تُنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْكُمْ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَبَيَّتَ كَثِيرٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنْفِقُوا أَمْرٌ فِي ضِمْنِهِ جَزَاءٌ، وَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مَعَهُ جَزَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُنْفِقُوا لَنْ نَتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. وَأَمَّا إِذَا عُرِّيَ الْأَمْرُ مِنَ الْجَوَابِ فَلَيْسَ يَصْحَبُهُ تَضَمُّنُ الشَّرْطِ انْتَهَى. وَيَقْدَحُ فِي هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ الْجَوَابُ كَجَوَابِ الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ فَلَنْ يُتَقَبَّلَ بِالْفَاءِ، لِأَنَّ لَنْ لَا تَقَعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِلَّا بِالْفَاءِ، فَكَذَلِكَ مَا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ. أَلَا تَرَى جَزْمَهُ الْجَوَابَ فِي مِثْلِ اقْصِدْ زَيْدًا يُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَانْتَصَبَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا عَلَى الْحَالِ، وَالطَّوْعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكَرْهُ إِلْزَامُ ذَلِكَ. وَسُمِّيَ الْإِلْزَامُ كراها لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَصَارَ الْإِلْزَامُ شَاقًّا عَلَيْهِمْ كَالْإِكْرَاهِ. أَوْ يكون من غير إلزام مِنْ رُؤَسَائِكُمْ، أَوْ إِلْزَامٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِمَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ وَقَالَ:
هَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ أَوَّلُهُ وَلِمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُ. فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَأَهْلَكَ الْبَاقُونَ، وَنَفَى التَّقَبُّلَ إِمَّا كَوْنُ الرَّسُولِ لَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُمْ وَرَدَّهُ، وَإِمَّا كَوْنُ اللَّهِ لَا يُثِيبُ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ انْتِفَاءَ التَّقَبُّلِ بِالْفِسْقِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ التَّمَرُّدُ وَالْعُتُوُّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِسْقَ يُؤَثِّرُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَكَّدَ الْجُبَّائِيُّ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ الْمَشْهُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِسْقَ يُوجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالطَّاعَةَ تُوجِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ الدَّائِمَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِهِمَا مُحَالًا، وَقَدْ أَزَالَ اللَّهُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَهُمْ «3» الْآيَةَ وَأَنَّ تَصْرِيحَ هَذَا اللَّفْظِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَبُولِ إِلَّا الْكُفْرُ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْفِسْقِ لَا يُحْبِطُ الطَّاعَاتِ، فَنَفَى تَعَالَى أَنَّ عَدَمَ القبول
(1) سورة مريم: 19/ 75.
(2)
سورة التوبة: 9/ 80.
(3)
سورة التوبة: 9/ 54.
لَيْسَ مُعَلَّلًا بِعُمُومِ كَوْنِهِ فِسْقًا، بَلْ بِخُصُوصِ وَصْفِهِ وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفِسْقُ كُفْرًا، فَثَبَتَ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْجُبَّائِيِّ بَاطِلٌ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ.
ذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي هُوَ بِمُفْرَدِهِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَأَتْبَعَهُ بما هو ناشىء عَنِ الْكُفْرِ وَمُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ إِتْيَانُ الصَّلَاةِ وَهُمْ كُسَالَى، وَإِيتَاءُ النَّفَقَةِ وَهُمْ كَارِهُونَ. فَالْكَسَلُ فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكُ النَّشَاطَ إِلَيْهَا وَأَخْذُهَا بِالْإِقْبَالِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْكُفْرِ، فَإِيقَاعُهَا عِنْدَهُمْ لَا يَرْجُونَ بِهِ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا عِقَابًا. وَكَذَلِكَ الْإِنْفَاقُ لِلْأَمْوَالِ لَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ لَا يَرْجُونَ بِهِ ثَوَابًا. وَذَكَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنَّفَقَةُ، وَاكْتَفَى بِهِمَا وَإِنْ كَانُوا أَفْسَدَ حَالًا فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ، وَهُمَا وَصْفَانِ الْمَطْلُوبُ إِظْهَارُهُمَا فِي الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَعْدَادُ الْقَبَائِحِ يَزِيدُ الْمَوْصُوفَ بِهَا ذَمًّا وَتَقْبِيحًا. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنْ يُقْبَلَ بِالْيَاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ، وَنَفَقَاتُهُمْ بِالْجَمِيعِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِخِلَافٍ عَنْهُ: أَنْ تُقْبَلَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقِ نَفَقَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ. وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتَهُمْ بِالنُّونِ وَنَصْبِ النَّفَقَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِرَاءَةُ السُّلَمِيِّ أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ مَنَعَ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنَّهُمْ أَيْ كُفْرُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظَ الْجَلَالَةِ أَيْ: وَمَا مَنَعَهُمُ اللَّهُ، وَيَكُونُ إِلَّا أَنَّهُمْ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. وَأَنْ تُقْبَلَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِمَّا لِوُصُولِ مَنَعَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ: لَمَّا قَطَعَ رَجَاءَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ جَمِيعِ مَنَافِعَ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنْ بَابِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَيْ: وَلَا يُعْجِبُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ بِمَعْنًى لَا يُسْتَحْسَنُ وَلَا يُفْتَتَنُ بِمَا أُوتُوا مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَفِي هَذَا تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: فلا تعجبك أموالهم ولا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَيَكُونُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا جُمْلَةَ اعْتِرَاضِ فِيهَا تَشْدِيدٌ لِلْكَلَامِ وَتَقْوِيَةٌ لِانْتِفَاءِ الْإِعْجَابِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَآلُ إِتْيَانِهِ الْمَالَ وَالْوَلَدَ لِلتَّعْذِيبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحْسَنَ حَالُهُ وَلَا يُفْتَتَنَ بِهَا، إِلَّا أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِيجَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الَّذِي يَكُونُ نَاشِئًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَنَفْيُ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ بِخِلَافِ التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعَ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَخَّصَهُ أَصْحَابُنَا بِالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَجْهُ فِي التَّعْذِيبِ أَنَّهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ فِيهَا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهَا، عَائِدٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ فَقَطْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: التَّعْذِيبُ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَرَزَايَاهَا هِيَ لَهُمْ عَذَابٌ، إِذْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا انْتَهَى. وَيَتَقَوَّى هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ تَعْذِيبَهُمْ بِإِلْزَامِ الشَّرِيعَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ بِسَائِرِ الرَّزَايَا، وَذَلِكَ لِاقْتِرَانِ الذِّلَّةِ وَالْغَلَبَةِ وَأَمْرِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ جَمَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا كُلَّهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ لِلْعَذَابِ بِأَنْ عَرَّضَهُمْ لِلْمَغْنَمِ وَالسَّبْيِ، وَبَلَاهُمْ فِيهِ بِالْآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ، وَكَلَّفَهُمُ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ فِي أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَهُمْ كَارِهُونَ لَهُ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ، وَأَذَاقَهُمْ أَنْوَاعَ الْكُلَفِ وَالْمَجَاشِمِ فِي جَمْعِهِ وَاكْتِسَابِهِ وَفِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ. وَقِيلَ: أَمْوَالُهُمُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ آبَاءَهُمُ الْمُنَافِقِينَ حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقِيلَ: يَتَمَكَّنُ حُبُّ الْمَالِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّعَبُ فِي جَمْعِهِ، وَالْوَصْلُ فِي حِفْظِهِ، وَالْحَسْرَةُ عَلَى تَخْلِفَتِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، ثُمَّ يَقْدُمُ عَلَى مَلِكٍ لَا يَعْذُرُهُ. وَقَدَّمَ الْأَمْوَالَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْلَقَ بِقُلُوبِهِمْ، وَنُفُوسُهُمْ أَمْيَلُ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ ذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ صَحَّ تَعْلِيقُ الْعَذَابِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا بَالُ زُهُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ الِاسْتِدْرَاجُ بِالنِّعَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» كَأَنَّهُ قِيلَ: وَيُرِيدُ أَنْ يُدِيمَ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ مُلْتَهُونَ بِالتَّمَتُّعِ عَنِ النَّظَرِ لِلْعَاقِبَةِ انْتَهَى. وَهُوَ بَسْطُ كَلَامِ ابْنِ عِيسَى وَهُوَ الرُّمَّانِيُّ، وَهُمَا كِلَاهُمَا مُعْتَزِلِيَّانِ. قَالَ ابْنُ عِيسَى: الْمَعْنَى أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُمْلِيَ لَهُمْ وَيَسْتَدْرِجَهُمْ لِيُعَذِّبَهُمُ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ عَطَفَ وَتَزْهَقَ عَلَى ليعذب أن المعنى
(1) سورة الإسراء: 17/ 31.
(2)
سورة آل عمران: 7/ 178.
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ بِعِلَّتِهِ وَهُوَ زُهُوقُ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا عُذِّبَ فِي الْآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ زُهُوقَ النَّفْسِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ شِدَّةِ التَّعْذِيبِ الَّذِي يَنَالُهُمْ.
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ: أَيْ لَمِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ. وَمَعْنَى يَفْرَقُونَ: يَخَافُونَ الْقَتْلَ. وَمَا يُفْعَلُ بِالْمُشْرِكِينَ فَيَتَظَاهَرُونَ بِالْإِسْلَامِ تَقِيَّةً، وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ، أَوْ يَخَافُونَ إِطْلَاعَ اللَّهِ المؤمنين على باطنهم فَيَحِلُّ بِهِمْ مَا يَحِلُّ بِالْكُفَّارِ. وَلَمَّا حَقَّرَ تَعَالَى شَأْنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَصَالِحِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ فَقَالَ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِي سَتْرِ أَشْخَاصِ الْعُصَاةِ.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ: لَمَّا ذَكَرَ فَرْقَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مَعَهُمْ مِمَّا يُوجِبُهُ الْفَرْقُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ أَمْكَنَهُمُ الْهُرُوبُ مِنْهُمْ لَهَرَبُوا، وَلَكِنْ صُحْبَتُهُمْ لَهُمْ صُحْبَةُ اضْطِرَارٍ لَا اخْتِيَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْمَلْجَأُ الْحِرْزُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحِصْنُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَهْرَبُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْمَكَانُ الَّذِي يَتَحَصَّنُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْقَوْمُ يَأْمَنُونَ مِنْهُمْ. وَالْمَغَارَاتُ جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهِيَ الْغَارُ، وَيُجْمَعُ عَلَى غِيرَانٍ بُنِيَ مِنْ غَارَ يَغُورُ إِذَا دَخَلَ مَفْعَلَةٌ لِلْمَكَانِ كَقَوْلِهِمْ: مَزْرَعَةٌ.
وَقِيلَ: الْمَغَارَةُ السِّرْبُ تَحْتَ الْأَرْضِ كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ.
وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مُغَارَاتٍ بِضَمِّ الْمِيمِ، فَيَكُونُ مِنْ أَغَارَ. قِيلَ:
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: غَارَ الرَّجُلُ وَأَغَارَ بِمَعْنَى دَخَلَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَغَارَاتٍ مِنْ أَغَارَ اللَّازِمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغَارَ الْمَنْقُولِ بِالْهَمْزَةِ مِنْ غَارَ، أَيْ أَمَاكِنَ فِي الْجِبَالِ يُغِيرُونَ فِيهَا أَنْفُسَهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَبَلٌ مَغَارٌ أَيْ مَفْتُولٌ. ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُحْكَمِ الْمُبْرَمِ، فَيَجِيءُ التَّأْوِيلُ عَلَى هَذَا لَوْ يَجِدُونَ نُصْرَةً أَوْ أُمُورًا مُرْتَبِطَةً مُشَدَّدَةً تَعْصِمُهُمْ مِنْكُمْ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغَارَ الثَّعْلَبُ إِذَا أَسْرَعَ، بِمَعْنَى مَهَارِبٍ وَمَغَارٍ انْتَهَى. وَالْمُدَّخَلُ قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْقِلُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: السِّرْبُ يَسِيرُونَ فِيهِ عَلَى خَفَاءٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَفَقًا كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجْهًا يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: قَبِيلَةٌ يَدْخُلُونَ فِيهَا تَحْمِيهِمْ مِنَ
الرَّسُولِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مُدَّخَلًا وَأَصْلُهُ مُدْتَخَلٌ، مُفْتَعَلٌ مِنِ ادَّخَلَ، وَهُوَ بِنَاءُ تَأْكِيدٍ وَمُبَالَغَةٍ، وَمَعْنَاهُ السِّرْبُ وَالنَّفَقُ فِي الْأَرْضِ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ. بدىء أَوَّلًا بِالْأَعَمِّ وَهُوَ الْمَلْجَأُ، إِذْ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَغَارَاتِ وَهِيَ الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْمُدَّخَلِ وَهُوَ النَّفَقُ بَاطِنُ الْأَرْضِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُدَّخَلُ قَوْمٌ يُدْخِلُونَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِخِلَافٍ عَنْهُ: مَدْخَلًا بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ دَخَلَ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ: مُدْخَلًا بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَدْخَلَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَالْأَعْمَشُ: مُدَّخَّلًا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْخَاءِ مَعًا أَصْلُهُ مُتَدَخِّلٌ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ مُنْدَخَلًا بِالنُّونِ مَنِ الدخل. قَالَ:
وَلَا يَدِي فِي حميت السمن تَنْدَخِلُ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قِرَاءَةُ أُبِيٍّ مُتْدَخَلًا بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: لَوَالَوْا إِلَيْهِ أَيْ لَتَابَعُوا إِلَيْهِ وَسَارَعُوا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ قَرَأَ لَوَالَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ، وَأَنْكَرَهَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَقَالَ: أَظُنُّهَا لو ألوا بمعنى للجأوا. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا مِمَّا جَاءَ فِيهِ فَاعَلَ وَفَعُلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ ضَاعَفَ وَضَعُفَ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مُتْدَخَلًا لَوَالَوْا إليه لا لتجأوا إِلَيْهِ انْتَهَى. وَعَنْ أُبَيٍّ لَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَطْفُ بَأَوْ عَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا عَلَى قَاعِدَةِ النَّحْوِ فِي أَوْ، فَاحْتَمَلَ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَلْجَأِ، أَوْ عَلَى الْمُدَّخَلِ، فَلَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنْ يَعُودَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْمَغَارَاتِ لِتَذْكِيرِهِ، وَأَمَّا بِالتَّأْوِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهَا. وَهُمْ يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُمْ شَيْءٌ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْأَعْمَشُ: وَهُمْ يَجْمَزُونَ. قِيلَ: يَجْمَحُونَ، وَيَجْمَزُونَ، وَيَشْتَدُّونَ وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجْمَزُونَ يُهَرْوِلُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ:
اللَّامِزُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ رَأْسِ الْخَوَارِجِ، كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَدِيثَ.
وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ الْجَوَّاظِ الْمُنَافِقُ قَالَ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى صَاحِبِكُمْ إِنَّمَا يُقَسِّمُ صَدَقَاتِكُمْ فِي رُعَاةِ الْغَنَمِ. وَقِيلَ:
ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُعْطِي مُحَمَّدٌ قُرَيْشًا.
وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى الرَّسُولَ بِصَدَقَةٍ يُقَسِّمُهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ؟ وَهَذِهِ نَزْغَةُ مُنَافِقٍ.
وَالْمَعْنَى: مَنْ يَعِيبُكَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ. وَضَمِيرُ وَمِنْهُمْ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْكَافُ لِلرَّسُولِ. وَهَذَا الترديدين الشَّرْطَيْنِ يَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ طِبَاعِهِمْ وَنَجَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّ لَمْزَهُمُ الرَّسُولَ إِنَّمَا هُوَ لِشَرَهِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةِ الْمَالِ، وَأَنَّ رِضَاهُمْ وَسُخْطَهُمْ إِنَّمَا مُتَعَلَّقُهُ الْعَطَاءُ. وَالظَّاهِرُ حُصُولُ مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ أَوْ نَفْيِهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا كَثِيرًا يَرْضَوْا، وَإِنْ لَمْ يُعْطُوا مِنْهَا كَثِيرًا بَلْ قَلِيلًا، وَمَا أَحْسَنَ مَجِيءَ جَوَابِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ! لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُقَارِنَهُ وَلَا أَنْ يَعْتَقِبَهُ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ نَحْوُ: إِنْ أَسْلَمْتَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ، فَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقُ التَّرَتُّبِ. وَأَمَّا جَوَابُ الشَّرْطِ الثَّانِي فَجَاءَ بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْطَوْا فَاجَأَ سُخْطُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَأَخُّرُهُ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَالشَّرَهِ فِي تَحْصِيلِهَا.
وَمَفْعُولُ رَضُوا مَحْذُوفٌ أَيْ: رَضُوا مَا أُعْطُوهُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى رَضُوا عَنِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، وَلِأَنَّ رِضَاهُمْ وَسُخْطَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الدِّينِ، بَلْ لِلدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَلْمِزُكَ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَغَيْرُهُمْ:
بِضَمِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَلْمَزُكَ. وَرَوَى أَيْضًا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: يُلَامِزُكَ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ من واحد.
وقيل: وفرق الرسول صلى الله عليه وسلم قَسْمَ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْغَنَائِمِ اسْتِعْطَافًا لِقُلُوبِهِمْ، فَضَجَّ الْمُنَافِقُونَ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ: هَذَا وَصْفٌ لِحَالِ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي دِينِهِمْ، أَيْ رَضُوا قِسْمَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقالوا: كفانا فضل الله، وَعَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِمَا سَيُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُمْ، وَكَانَتْ رَغْبَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ دَلِيلًا عَلَى انْتِقَالِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ إِلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَمَّنَ الرِّضَا بِقَسْمِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارَ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ إِذْ كَانُوا يَقُولُونَ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ. وَقِيلَ: جَوَابُ لَوْ هُوَ قَوْلُهُ: وَقَالُوا عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا أَصَابَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَطَابَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ وَإِنْ قَلَّ نَصِيبُهُمْ، وَقَالُوا: كَفَانَا فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَصُنْعُهُ، وَحَسْبُنَا مَا قَسَمَ لَنَا سَيَرْزُقُنَا غَنِيمَةً أُخْرَى، فَسَيُؤْتِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ مِمَّا آتَانَا الْيَوْمَ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُغَنِّمَنَا وَيُخَوِّلَنَا فَضْلَهُ رَاغِبُونَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
رَاغِبُونَ فِيمَا يَمْنَحُنَا مِنَ الثَّوَابِ وَيَصْرِفُ عَنَّا مِنَ الْعِقَابِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: رَاغِبُونَ فِي أَنْ
يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِينَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَقِيلَ: مَا آتَاهُمُ اللَّهُ بِالتَّقْدِيرِ، وَرَسُولُهُ بِالْقَسْمِ انْتَهَى. وَأَتَى أَوَّلًا بِمَقَامِ الرِّضَا وَهُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَتَبِ وَالْخَطَأِ عَلِيمٌ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ قَضَائِهِ صَوَابٌ وَحَقٌّ، لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ ثَنَّى بِإِظْهَارِ آثَارِ الْوَصْفِ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، فَحَسْبُنَا مَا رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا دَامُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَادٌّ لَهُمْ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ حَسَنٌ إِذْ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَنِعَمُ اللَّهِ مُتَرَادِفَةٌ عَلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا، إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ أَتَى رَابِعًا بِالْجُمْلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَيْهِ، فَلَا يُطْلَبُ بِالْإِيمَانِ أَخْذُ الْأَمْوَالِ وَالرِّئَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ مُتَغَايِرَتَيْنِ وَهُمَا مَا تَضَمَّنَ الرِّضَا بِالْقَلْبِ، وَمَا تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ، تَعَاطَفَتَا. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ مِنْ آثَارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ لَمْ تَتَعَاطَفَا، إِذْ هُمَا كَالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنَا اللَّهُ، فَلَا تَغَايُرَ بَيْنَهُمَا.
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَعِيبُ الرَّسُولَ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بِأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ، أَوْ يَخُصُّ أَقَارِبَهُ، أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَا بَقِيَ. وَكَانُوا يَسْأَلُونَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَيَّنَ تَعَالَى مصرف الصدقات، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَسَمَ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَفْظَةُ إِنَّمَا إِنْ كَانَتْ وُضِعَتْ للحصر فالحصر مستفاد من لَفْظِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُوضَعْ لِلْحَصْرِ فَالْحَصْرُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَوْصَافِ، إِذْ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَطْفَ مُشْعِرٌ بالتغاير، فتكون الفقراء عين الْمَسَاكِينِ. وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ دَائِمًا، إِذْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَالْخِلَافُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ. فَأَمَّا أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ، وَيَجُوزَ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى جَمِيعِهَا. فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَمُعَاذٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ النَّخَعِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، قَالُوا: فِي أَيِّ صِنْفٍ مِنْهَا وَضَعْتَهَا أَجْزَأَتْكَ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَوْ نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَخَيَّرْتَهُمْ بِهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَيْهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ غَيْرُهُ: وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ
الْأَصْنَافِ مِنْهُمْ: زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، بَلْ يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. وَقَدْ كَتَبَ الزُّهْرِيُّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يُفَرِّقُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: إِلَّا الْمُؤَلِّفَةَ، فَإِنَّهُمُ انْقَطَعُوا. وَأَمَّا أَنَّ الْفُقَرَاءَ غَيْرُ الْمَسَاكِينِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ، وَهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ سُمِّيَ بِاسْمَيْنِ لِيُعْطَى سَهْمَيْنِ نَظَرًا لَهُمْ وَرَحْمَةً. قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا صِنْفَانِ يَجْمَعُهُمَا الْإِقْلَالُ وَالْفَاقَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ الْفَرْقُ. فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْفَقِيرُ: أَبْلَغُ فَاقَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، وَابْنُ السِّكِّيتِ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمِسْكِينُ أَبْلَغَ فَاقَةً، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ. وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ الشَّيْءِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُقَرَاءُ هُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِينُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. لَا نَقُولُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَسَاكِينُ. وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْعَكْسِ حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ، سَائِلًا كَانَ أَوْ مُتَعَفِّفًا. وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَهُ حِرْفَةٌ أَوْ مَالٌ وَلَكِنْ لَا يُغْنِيهِ ذَلِكَ سَائِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ الزَّمِنُ الْمُحْتَاجُ، وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَكَمُ، وَمُقَاتِلٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْمَسَاكِينُ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ وَيَسْأَلُونَ، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ الَّذِينَ يَتَعَاوَنُونَ.
وَأَمَّا بَقَاءُ الْحُكْمِ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّهُ انْقَطَعَ صِنْفُ الْمُؤَلَّفَةِ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى سُقُوطِ سَهْمِهِمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَقَطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أُعْطُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مَوْجُودُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الثُّغُورَ وَجَدْتَ فِيهَا الْحَاجَةَ إِلَى الِائْتِلَافِ انْتَهَى. وَقَالَ يُونُسُ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ نَسْخًا فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: فعل هَذَا الْحُكْمُ فِيهِمْ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يُحْتَاجُ إِلَى تَأَلُّفِهِ وَيُخَافُ أَنْ تَلْحَقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ آفَةٌ أَوْ يُرْجَى حُسْنُ إِسْلَامِهِ بَعْدَ دَفْعٍ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا، وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ، كَمَا كَانَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ. فَإِنَّ
فِي الصَّحِيحِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ»
وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعَامِلُ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مَفْقُودَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، بَقِيَتِ الْأَصْنَافُ السِّتَّةُ، فَالْأَوْلَى صَرْفُهَا إِلَى السِّتَّةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ دَفَعَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ إِلَى فَقِيرَيْنِ ضَمِنَ نَصِيبَ الثَّالِثِ وَهُوَ ثُلْثُ سَهْمٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَاحِدًا، وَاللَّامُ فِي لِلْفُقَرَاءِ. قِيلَ: لِلْمِلْكِ. وَقِيلَ:
لِلِاخْتِصَاصِ.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَقَارِبُ وَالْأَجَانِبُ وَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَأَمَّا ذَوُو قُرْبَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ: آلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ، وَيَخُصُّ التَّحْرِيمُ الْفَرْضَ لَا صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ، وَيَحِلُّ التَّطَوُّعُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْرُمُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُعْطَى بَنُو هَاشِمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا مِنَ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى آلُ مُحَمَّدٍ مِنَ التَّطَوُّعِ.
وَأَمَّا أَقَارِبُ الْمُزَكِّي فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى مِنْهَا وَالِدٌ وَإِنْ عَلَا، وَلَا ابْنٌ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا زَوْجَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ: لَا يُعْطِي مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا يُعْطِي قَرَابَتَهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ، وَإِنَّمَا يُعْطِي مَنْ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يَتَخَطَّى بِزَكَاةِ مَالِهِ فُقَرَاءَ أَقَارِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ عِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ غَيْرِ زَكَاةِ مَالِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْفَرْضُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا لَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا أَعْطَى الذِّمِّيَّ، فَكَأَنَّهُ يَعْنِي الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُعْطِي الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ: تُعْطِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
الْمِقْدَارِ الَّذِي إِذَا مَلَكَهُ الْإِنْسَانُ دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ. فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: حَتَّى يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الذَّهَبِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: حَتَّى تَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنَ الذَّهَبِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
وَعَبْدِ اللَّهِ وَالشَّعْبِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: حَتَّى تَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ عرض أو غره فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَأَثَاثٍ وَفَرْشٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. فَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَوْ ذِمِّيٌّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَقْتَ الدَّفْعِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِئُهُ.
وَالْعَامِلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَنِيبُهُ الْإِمَامُ في السعي في جمع الصَّدَقَاتِ، وَكُلُّ مَنْ يَصْرِفُ مِمَّنْ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِيهَا فَهُوَ مِنَ الْعَامِلِينَ، وَيُسَمَّى جَابِيَ الصَّدَقَةَ وَالسَّاعِيَ قَالَ:
إِنَّ السُّعَاةَ عَصَوْكَ حِينَ بَعَثْتَهُمْ
…
لَمْ يَفْعَلُوا مِمَّا أَمَرْتَ فَتِيلًا
وَقَالَ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَيِّدًا
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
أَرَادَ بِالْعِقَالِ هُنَا زَكَاةَ السَّنَةِ، وَتَعَدَّى بِعَلَى وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا، لِأَنَّ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ. الْمُشْعِرِ بِالْوِلَايَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ قَدْرَ سَعْيِهِ، وَمُؤْنَتَهُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَوْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ:
يَتِمُّ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْصِبَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ الثَّمَنُ عَلَى قَسْمِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَدَاوُدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْهُ: يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْإِمَامِ، هَلْ لَهُ حق في الصدقات؟ فهمنهم مَنْ قَالَ: هُوَ الْعَامِلَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ وَمَنِ اسْتَنَابَهُ، فَلَوْ فَرَّقَهَا الْمُزَكِّي بِنَفْسِهِ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ أَخَذَهَا مِنْهُ ثَانِيًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَيَأْخُذَ عَمَالَتَهُ مِنْهَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ لَهُمْ بِالْعَمَالَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقِيلَ: إِنْ عَمِلَ أُعْطِيهَا مِنَ الْخُمُسِ.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَشْرَافُ الْعَرَبِ مُسْلِمُونَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَعْطَاهُمْ
لِيَتَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَوْ كُفَّارٌ لَهُمْ أَتْبَاعٌ أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمُؤَلِّفَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَمِنَ الْمُؤَلِّفَةِ: أَبُو سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَرْثُ بْنُ هِشَامٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَالْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، فَهَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَعِيرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ. وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهَبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بن عمرو لعايدي، أَعْطَاهُمْ دُونَ الْمِائَةِ. وَمِنَ الْمُؤَلَّفَةِ: سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْحَرْثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَحَسُنَ إِسْلَامُ الْمُؤَلَّفَةِ حَاشَا عُيَيْنَةَ فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَفِي الرِّقَابِ فَالتَّقْدِيرُ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ فَيُعْطِي مَا حَصَلَ بِهِ فَكُّ الرِّقَابِ مِنِ ابْتِدَاءِ عِتْقٍ يَشْتَرِي مِنْهُ الْعَبْدَ فَيُعْتَقُ، أَوْ تَخْلِيصِ مُكَاتَبٍ أَوْ أَسِيرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سيرين: لا يجزيء أَنْ يُعْتِقَ مِنَ الزَّكَاةِ رَقَبَةً كَامِلَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُعْتِقُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِلْمُعَتَقِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا، وَلَا عَبْدٌ كَانَ مَوْلَاهُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمَالِكٍ: هُوَ ابْتِدَاءُ الْعِتْقِ وَعَوْنِ الْمُكَاتَبِ بِمَا يَأْتِي عَلَى حُرِّيَّتِهِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ فَكَّ رِقَابِ الْأُسَارَى يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ، فَيُصْرَفُ فِي فِكَاكِهَا مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَهْمُ الرِّقَابِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ لِلْمُكَاتَبِينَ، وَنِصْفٌ يُعْتَقُ مِنْهُ رِقَابٌ مُسْلِمُونَ مِمَّنْ صَلَّى.
وَالْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا إِسْرَافٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ إِذْ هُوَ غَارِمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يُقْضَى مِنْهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْوُهَا مِنْ صُنُوفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحْبَسُ فِيهِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِي الْغَارِمِينَ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَاتٍ فِي إِصْلَاحٍ وَبِرٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ.
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْمُجَاهِدُ يُعْطَى مِنْهَا إِذَا كَانَ فَقِيرًا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مَا يُنْفِقُ فِي غَزْوَتِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَجَمَاعَةٌ:
لَا يُعْطَى الْغَنِيُّ إِلَّا إِنِ احْتَاجَ فِي غَزْوَتِهِ، وَغَابَ عَنْهُ وَفْرُهُ. وقال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحَبَاهُ:
لَا يُعْطَى إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ مُنْقَطِعًا بِهِ، وَإِذَا أُعْطِيَ مَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي غَزْوَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُجْعَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْهَا إِلَى الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ، وَالْحَجِيجِ الْمُنْقَطَعِ بِهِمُ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ تَعْدَادُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، وَاشْتِرَاطُ الْفَقْرِ فِي بَعْضِهَا يَقْضِي بِالتَّدَاخُلِ. فَإِنْ كَانَ الْغَازِي أَوِ الْحَاجُّ شَرْطُ إِعْطَائِهِ الْفَقْرَ، فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْفُقَرَاءِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ بِوَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جَازَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الَّذِي اقْتَضَى الصَّرْفَ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُعْطَى مِنْهَا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، وَلَا قَنْطَرَةٍ، وَلَا شِرَاءِ مُصْحَفٍ انْتَهَى.
وَابْنُ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَابِرُ السَّبِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي آخَرِينَ: هُوَ الضَّيْفُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ. وَقَالَتْ جماعة: هو إلحاح الْمُنْقَطِعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الَّذِي قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. وَفِي كِتَابِ سَحْنُونَ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وُجِدَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ مَنْ يُسْلِفُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالظَّاهِرُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَا يُغْنِيهِ فِي طَرِيقِهِ لِأَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ لَا يُعْطَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلَ عَنِ اللَّامِ إِلَى فِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ؟
(قُلْتُ) : لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ فِي لِلْوِعَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقَاتُ وَيُجْعَلُوا مَظِنَّةً لَهَا وَمَصَبًّا، وَذَلِكَ لِمَا فِي فَكِّ الرِّقَابِ من الكتابة أو الرق أَوِ الْأَسْرِ، وَفِي فَكِّ الْغَارِمِينَ مِنَ الْغُرْمِ مِنَ التَّخْلِيصِ وَالْإِنْقَاذِ، وَلِجَمْعِ الْغَازِي الْفَقِيرِ أَوِ الْمُنْقَطِعِ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جَامِعٌ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَتَكْرِيرُ فِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي سبيل الله وابن السبيل، فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَضَاعِيفِ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَمَكَائِدِهِمْ؟ (قُلْتُ) : دَلَّ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ