الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي رَمَوْهُ بِهِ، وَقَالَ مُؤَرَّجٌ السُّدُوسِيُّ: السُّوءُ الْجُنُونُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ تَفْكِيكٌ لِنَظْمِ الْكَلَامِ وَاقْتِصَارٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابُ لَوْ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ فَقَطْ وَتَقْدِيرُ حُصُولِ عِلْمِ الْغَيْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأمر أن لَا أَحَدُهُمَا فَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ جَوَابًا قَاصِرًا.
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ أَخْبَرَ بِمَا بُعِثَ بِهِ مِنَ النِّذَارَةِ وَمُتَعَلِّقُهَا الْمُخَوَّفَاتُ والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُمَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ منفعتهما معا وجدوا هما لَا يَحْصُلُ إِلَّا لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ «1» . وَقِيلَ مَعْنَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ أَجْمَعُ، وَقِيلَ: أَخْبَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَتَمَّ الْكَلَامُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَذِيرٌ لِلْعَالَمِ كُلِّهِمْ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ بَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَهُوَ وَعْدٌ لِمَنْ حَصُلَ لَهُ الْإِيمَانُ، وَقِيلَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ النِّذَارَةِ وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ إِثْبَاتُ مُقَابِلِهِ وَالتَّقْدِيرُ نَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ كَمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي قَوْلِهِ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» أَيْ وَالْبَرْدَ وَبَدَأَ بِالنِّذَارَةِ لِأَنَّ السَّائِلِينَ عَنِ السَّاعَةِ كَانُوا كُفَّارًا إِمَّا مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَإِمَّا الْيَهُودُ فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ آكَدُ وَأَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
(1) سورة يونس: 10/ 101.
(2)
سورة النحل: 16/ 81. [.....]
صَمَتَ يَصْمُتُ بِضَمِّ الْمِيمِ صَمْتًا وَصُمَاتًا سَكَتَ وَإِصْمِتْ فَلَاةَ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مُسَمَّاةٌ بِفِعْلِ الْأَمْرِ قُطِعَتْ هَمْزَتُهُ إِذْ ذَاكَ قَاعِدَةٌ فِي تسمية بِفِعْلٍ فِيهِ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَكُسِرَتِ الْمِيمُ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ يَأْنَسُ بِالتَّغْيِيرِ وَلِئَلَّا يَدْخُلَ فِي وَزْنٍ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ. الْبَطْشُ الْأَخْذُ بِقُوَّةٍ بَطَشَ يَبْطِشُ بِضَمِّ الطَّاءِ وكسرها، النزغ أَدْنَى حَرَكَةٍ وَمِنَ الشَّيْطَانِ أَدْنَى وَسْوَسَةٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَرَكَةٌ فِيهَا فَسَادٌ وَقَلَّمَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي فِعْلِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ حَرَكَاتِهِ مُسْرِعَةٌ مُفْسِدَةٌ، وَقِيلَ هُوَ لُغَةُ الْإِصَابَةِ تَعْرِضُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِغْرَاءُ وَالْإِغْضَابُ الْإِنْصَاتُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ يُقَالُ: نَصَتَ وَأَنْصَتَ وَانْتَصَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ وَرَدَ الْإِنْصَاتُ مُتَعَدِّيًا فِي شِعْرِ الْكُمَيْتِ قَالَ:
أَبُوكَ الَّذِي أَجْدَى عَلَيْهِ بِنَصْرِهِ
…
فَأَنْصَتَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلَّ قَائِلِ
قَالَ: يُرِيدُ فَأَسْكَتَ عَنِّي. الْآصَالُ جَمْعُ أَصْلٍ وَهُوَ الْعَشِيُّ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ أَوْ جَمْعُ أَصِيلٍ كَيَمِينٍ وَأَيْمَانٍ وَلَا حَاجَةَ لِدَعْوَى أَنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ
أَصْلًا مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ جَمْعُ أَصِيلٍ عَلَى أُصُلٍ فَيَكُونُ جَمْعًا كَكَثِيبٍ وكثب، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آصَالًا جَمْعُ أَصْلٍ وَمُفْرَدُ أَصْلٍ أَصِيلٌ الْفَرَّاءُ وَيُقَالُ: جِئْنَاهُمْ مُوصِلِينَ أَيْ عِنْدَ الْأَصِيلِ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أنه تَقَدَّمَ سُؤَالُ الْكُفَّارِ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَإِنْشَائِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ مُمْكِنَةٌ، كَمَا أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَانَ مُمْكِنًا وَإِذَا كَانَ إِبْرَازُهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ إِلَى الْوُجُودِ وَاقِعًا بِالْفِعْلِ وَإِعَادَتُهُ أَحْرَى أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَيَشْتَقُّونَ مِنْهَا أَسْمَاءً لِآلِهَتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكَ مِنْ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَزَوْجَتِهِ حِينَ تَمَنَّيَا الْوَلَدَ الصَّالِحَ وَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُمَا فَأَدْخَلَ إِبْلِيسُ عَلَيْهِمَا الشِّرْكَ بِقَوْلِهِ سَمِّيَاهُ عبد الحرث فَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ الدَّالِّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَسَّمَ خَلْقَهُ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَنَفَى قُدْرَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ ضَرِّهَا رَجَعَ إِلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ انْتَهَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدَمُ عليه السلام فَالْخِطَابُ بِخَلَقَكُمْ عَامٌّ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَفَرَّعْتُمْ مِنْ آدَمَ عليه السلام وَأَنَّ مَعْنَى وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا هِيَ حَوَّاءُ ومِنْها إِمَّا مِنْ جِسْمِ آدَمَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «1» وَقَدْ مَرَّ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ مَشْرُوحَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ وَأَفْسَدَهُ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ وَلَمْ يَجْرِ لِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ، الثَّالِثُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَالْمَعْنَى فِي هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ مِنْ هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَكْلٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أَيْ مِنْ جِنْسِهَا ثُمَّ ذَكَرَ
(1) سورة النحل: 16/ 72.
حَالَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْخَلْقِ وَمَعْنَى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أَيْ حَرَّفَاهُ عَنِ الْفِطْرَةِ إِلَى الشِّرْكِ كَمَا
وَقَالَ الْقَفَّالُ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا وَذَكَرَ حَالَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وجَعَلا أَيِ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، لِلَّهِ تَعَالَى شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا لِأَنَّهُمَا تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ انْتَهَى، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ، وَقِيلَ الْخِطَابُ بِخَلَقَكُمْ خَاصٌّ وَهُوَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا يُقَرِّبُونَ الْمَوْلُودَ لِلَّاتَ وَالْعُزَّى وَالْأَصْنَامِ تَبَرُّكًا بِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَنْقَطِعُونَ بِأَمَلِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْوَلَدِ إِلَى انْفِصَالِهِ ثُمَّ يُشْرِكُونَ فَحَصَلَ التَّعَجُّبُ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ خَاصٌّ أَيْضًا وَهُوَ لِقُرَيْشٍ الْمُعَاصِرِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ونَفْسٍ واحِدَةٍ هُوَ قَضَى مِنْهَا أَيْ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَةٌ عَرَبِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَالصَّالِحُ الْوَلَدُ السَّوِيُّ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ قُصَيٍّ وَعَبْدَ الدَّارِ وَالضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ انْتَهَى.
لِيَسْكُنَ إِلَيْها لِيَطْمَئِنَّ وَيَمِيلَ وَلَا يَنْفِرَ لِأَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ وَبِهِ آنَسُ وَإِذَا كَانَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَالسُّكُونُ وَالْمَحَبَّةُ أَبْلَغُ كَمَا يَسْكُنُ الْإِنْسَانُ إِلَى وَلَدِهِ وَيُحِبُّهُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِكَوْنِهِ بَعْضًا مِنْهُ وَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ مِنْها ذَهَابًا إِلَى لَفْظِ النَّفْسِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ لِيَسْكُنَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى النَّفْسِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الذَّكَرُ آدَمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ وَكَانَ الذَّكَرُ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ إِلَى الْأُنْثَى وَيَتَغَشَّاهَا فَكَانَ التَّذْكِيرُ أَحْسَنَ طِبَاقًا لِلْمَعْنَى.
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ إِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ آدَمَ فَخَلْقُ حَوَّاءَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا التَّغَشِّي وَالْحَمْلُ فَكَانَا فِي الْأَرْضِ وَالتَّغَشِّي وَالْغَشَيَانُ وَالْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَى الْخِفَّةِ أَنَّهَا لَمْ تَلْقَ بِهِ مِنَ الْكَرْبِ مَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْحَبَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَمْلًا مَصْدَرًا وَأَنْ يَكُونَ مَا فِي الْبَطْنِ وَالْحَمْلُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَا كَانَ فِي بَطْنٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَبِالْكَسْرِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى رَأْسِ غَيْرِ شَجَرَةٍ، وَحَكَى يَعْقُوبُ فِي حَمْلِ النَّخْلِ، وَحَكَى أَبُو سَعِيدٍ في حمل المرأة حمل وَحَمَلَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحَمْلُ الْخَفِيفُ هُوَ الْمَنِيُّ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي فَرْجِهَا، وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ حَمْلًا بِكَسْرِ
الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَمَرَّتْ بِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى الْقَلْبِ أَيْ فَمَرَّ بِهَا أَيِ اسْتَمَرَّ بِهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ، وَقِيلَ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يَعْنِي النُّطْفَةَ فَمَرَّتْ بِهِ فَقَامَتْ بِهِ وَقَعَدَتْ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ انْتَهَى، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَ النَّقَّاشُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَأَيُّوبُ فَمَرَّتْ بِهِ خَفِيفَةَ الرَّاءِ مِنَ الْمِرْيَةِ أَيْ فَشَكَّتْ فِيمَا أَصَابَهَا أَهُوَ حَمْلٌ أَوْ مَرَضٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْتَمَرَّتْ بِهِ لَكِنَّهُمْ كَرِهُوا التَّضْعِيفَ فَخَفَّفُوهُ نَحْوَ وَقَرَنَ فِيمَنْ فَتَحَ مِنَ الْقَرَارِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بن العاصي وَالْجَحْدَرِيُّ: فَمَارَتْ بِهِ بِأَلِفٍ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ جَاءَتْ وَذَهَبَتْ وَتَصَرَّفَتْ بِهِ كَمَا تَقُولُ مَارَتِ الرِّيحُ مَوْرًا وَوَزْنُهُ فَعَلَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمِرْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَتُمارُونَهُ «1» وَمَعْنَاهُ وَمَعْنَى الْمُخَفَّفَةِ فَمَرَتْ وَقَعَ فِي نَفْسِهَا ظَنُّ الْحَمْلِ وَارْتَابَتْ بِهِ وَوَزْنُهُ فَاعَلَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَاسْتَمَرَّتْ بِحَمْلِهَا، وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْجِرْمِيُّ فَاسْتَمَارَتْ بِهِ وَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى الْمِرْيَةِ بَنَى مِنْهَا اسْتَفْعَلَ كَمَا بَنَى مِنْهَا فَاعَلَ فِي قَوْلِكَ مَارَيْتُ.
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. أَيْ دَخَلَتْ فِي الثِّقَلِ كَمَا تَقُولُ أَصْبَحَ وَأَمْسَى أَوْ صَارَتْ ذَاتَ ثِقْلٍ كَمَا تَقُولُ أَتْمَرَ الرَّجُلُ وَأَلْبَنَ إِذَا صَارَ ذَا تَمْرٍ وَلَبَنٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِهَا كَقَوْلِهِ أَقْرَبَتْ، وقرىء أَثْقَلَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ رَبَّهُما أَيْ مَالِكَ أَمْرِهِمَا الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ أَنْ يُدْعَى وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ جَوَابِ الْقَسَمِ أَيْ دَعَوَا اللَّهَ وَرَغِبَا إِلَيْهِ فِي أَنْ يُؤْتِيَهُمَا صالِحاً ثُمَّ أَقْسَمَا عَلَى أَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الشَّاكِرِينَ إِنْ آتَاهُمَا صَالِحًا لِأَنَّ إِيتَاءَ الصَّالِحِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى وَالِدَيْهِ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ»
فَذَكَرَ الْوَلَدَ الصَّالِحَ يَدْعُو لِوَالِدِهِ فَيَنْبَغِي الشُّكْرُ عَلَيْهَا إِذْ هِيَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَمَعْنَى صالِحاً مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ وَلَدًا طَائِعًا أَوْ وَلَدًا ذَكَرًا لِأَنَّ الذُّكُورَةَ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْجَوْدَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: سَمَّيَاهُ غُلَامًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَشَرًا سَوِيًّا سَلِيمًا، ولَنَكُونَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَقْسَمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا أَوْ مُقْسِمِينَ لَئِنْ آتَيْتَنا وَانْتِصَابُ صالِحاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِآتَيْتَنَا وَفِي الْمُشْكِلِ لِمَكِّيٍّ أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ أَيِ ابْنًا صَالِحًا.
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ جَعَلَ الضَّمَائِرَ وَالْأَخْبَارَ لَهُمَا وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَاتٍ جَرَتْ بَيْنَ إِبْلِيسَ وآدم وحواء لم
(1) سورة النجم: 53/ 12.
تَثْبُتْ فِي قُرْآنٍ وَلَا حَدِيثٍ صَحِيحٍ فَأَطْرَحْتُ ذِكْرَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ تَنَاسَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا فَلَمَّا آتاهُما مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ آتَى أَوْلَادَهُمَا وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حَيْثُ جَمَعَ الضَّمِيرَ، وَآدَمُ وَحَوَّاءُ بَرِيئَانِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَعْنَى إِشْرَاكِهِمْ فِيمَا آتَاهُمُ اللَّهُ بِتَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبْدِ الرَّحِيمِ انْتَهَى، وَفِي كَلَامِهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلَامِ عَنْ سِيَاقِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ جَعَلَ الْكَلَامَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ جَعَلَ الشِّرْكَ تَسْمِيَتَهُمَا الْوَلَدَ الثَّالِثَ عبد الحرث إِذْ كَانَ قَدْ مَاتَ لَهُمَا وَلَدَانِ قَبْلَهُ كَانَا سَمَّيَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدَ اللَّهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِمَا إِبْلِيسُ فِي أَنْ يُسَمِّيَا هذا الثالث عبد الحرث فَسَمَّيَاهُ بِهِ حِرْصًا عَلَى حَيَاتِهِ فَالشِّرْكُ الَّذِي جَعَلَا لِلَّهِ هُوَ فِي التَّسْمِيَةِ فَقَطْ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي يُشْرِكُونَ عَائِدًا عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ لِأَنَّهُ مُدَبِّرٌ مَعَهُمَا تَسْمِيَةَ الْوَلَدِ عَبْدَ الحرث، وَقِيلَ جَعَلا أَيْ جَعَلَ أَحَدُهُمَا يَعْنِي حَوَّاءَ وَإِمَّا مِنْ جَعْلِ الْخِطَابِ لِلنَّاسِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ بِالنَّفْسِ وَزَوْجِهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ أَوْ جَعَلَ الْخِطَابَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ لِقُرَيْشٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَّسِقُ الْكَلَامُ اتِّسَاقًا حَسَنًا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَفْكِيكٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالطَّبَرِيُّ: ثُمَّ أَخْبَرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي قَوْلِهِ فِيمَا آتَاهُمَا وَقَوْلُهُ فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ يُرَادُ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى إِبْلِيسَ فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ وَكَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْوَلَدِ الصَّالِحِ وَفُسِّرَ الشِّرْكُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَا قَبْلَهُ يَأْكُلَانِ وَيَشْرَبَانِ وَحْدَهُمَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يَعْنِي الْكُفَّارَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبَّانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ شِرْكًا عَلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذَا شِرْكٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقُ الشِّرْكُ عَلَى الشَّرِيكِ كَقَوْلِهِ: زَيْدٌ عَدْلٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَحْدَثَا لِلَّهِ إِشْرَاكًا فِي الْوَلَدِ انْتَهَى، وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمر وشركاء عَلَى الْجَمْعِ وَيَبْعُدُ تَوْجِيهُ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَتَظْهَرُ بَاقِي الْأَقْوَالِ عَلَيْهَا، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أَشْرَكَا فِيهِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَمَّا تُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ لِلْخِطَابِ وَكَانَ الضَّمِيرُ بِالْوَاوِ وَانْتِقَالًا مِنَ التَّثْنِيَةِ لِلْجَمْعِ وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى مَنْ يَعُودُ.
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَيْ أَتُشْرِكُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَيْ يَخْلُقُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُوجِدُهُمْ كَمَا يُوجِدُكُمْ أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَهُمْ يُنْحَتُونَ وَيُصْنَعُونَ فَعَبَدَتُهُمْ يَخْلُقُونَهُمْ وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ فَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ عَبَدَتِهِمْ وَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَا وَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى لَفْظِ مَا فِي يَخْلُقُ وَعَبَّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ وَهُمْ كَأَنَّهَا تَعْقِلُ عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ فِيهَا وَبِحَسَبِ أَسْمَائِهِمْ. وَقِيلَ أَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَنْ عَبَدَ الشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ بَنِي آدَمَ فَغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ عَائِدًا عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي أَيُشْرِكُونَ أَيْ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَخْلُقُونَ أَيْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ فَيَجْعَلُوا إِلَهَهُمْ خَالِقَهُمْ لَا مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَتُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقٍ فَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ عَائِدًا عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ جَاءَ إِلَى آدَمَ وَقَدْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ أَنْ يَعِيشَ لَكَ الْوَلَدُ فَسَمِّهِ عَبْدَ شَمْسٍ فَسَمَّاهُ كَذَلِكَ فَإِيَّاهُ عنى بقوله أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ عَائِدٌ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالِابْنِ الْمُسَمَّى عَبْدَ شَمْسٍ.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ وَلَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ لِمَنْ يَعْبُدُهُمْ عَلَى نَصْرٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِنْ حَدَثَ بِهِمْ حَادِثٌ بَلْ عَبَدَتُهُمُ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ عَنْهَا وَيَحْمُونَهَا وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِ نَفْسِهِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِ غَيْرِهِ.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ انْتَقَلَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ بَعْدُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الضَّمَائِرُ قَبْلُ وَهُوَ الْأَصْنَامُ وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَدْعُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ إِلَى مَا هُوَ هُدًى وَرَشَادٌ أَوْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ كَمَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ الْهُدَى وَالْخَيْرَ لَا يَتَّبِعُوكُمْ عَلَى مرادكم ولا يجبوكم أَيْ لَيْسَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةُ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَيْ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ وَصَمْتُكُمْ عَنْهُمْ سِيَّانِ فَكَيْفَ يُعْبَدُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ؟ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَضَمِيرُ النَّصْبِ لِلْكُفَّارِ أَيْ وَإِنْ تَدْعُوا الْكُفَّارَ إِلَى الْهُدَى لَا يَقْبَلُوا مِنْكُمْ فَدُعَاؤُكُمْ وَصَمْتُكُمْ سِيَّانِ أَيْ لَيْسَتْ فِيهِمْ قَابِلِيَّةُ قَبُولٍ وَلَا هُدًى، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يَتَّبِعُوكُمْ مُشَدَّدًا هُنَا وَفِي الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «1» مِنِ اتَّبَعَ ومعناها
(1) سورة الشعراء: 26/ 224.
لَا يَقْتَدُوا بِكُمْ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِيهِمَا لَا يَتْبَعُوكُمْ مُخَفَّفًا مِنْ تَبِعَ وَمَعْنَاهُ لَا يَتْبَعُوا آثَارَكُمْ وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ أَمْ صَمَتُّمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَفِي قَوْلِهِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ عَطَفَ الِاسْمَ عَلَى الْفِعْلِ إِذْ التَّقْدِيرُ أَمْ صَمَتُّمْ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَوَاءٌ عَلَيْكَ النَّفْرُ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً
…
بِأَهْلِ الْقِبَابِ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عَامِرِ
انْتَهَى. وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَأَمَّا الْبَيْتُ فَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَى الِاسْمِ الْمُقَدَّرِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِذْ أَصْلُ التَّرْكِيبِ سَوَاءٌ عَلَيْكَ أَنَفَرْتَ أَمْ بِتَّ لَيْلَةً فَأَوْقَعَ النَّفْرَ مَوْقِعَ أَنَفَرْتَ وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الثانية اسمية لمراعاة رؤوس الْآيِ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالْحُدُوثِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَكَانُوا إِذَا دَهَمَهُمْ أَمْرٌ مُعْضِلٌ فَزِعُوا إِلَى أَصْنَامِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ بَقُوا سَاكِتِينَ فَقِيلَ لا فرق بين أن تُحْدِثُوا لَهُمْ دُعَاءً وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَى صَمْتِكُمْ فَتَبْقُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَادَةِ صَمْتِكُمْ وَهِيَ الْحَالَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهَا فِي انْتِفَاءِ كَوْنِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ قَادِرَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ أَيِ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ وَتُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَدَهَا وَأَوْجَدَكُمْ هُمْ عِبَادٌ وَسَمَّى الْأَصْنَامَ عِبَادًا وَإِنْ كَانَتْ جَمَادَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةً وأَمْثالُكُمْ. قَالَ الْحَسَنُ فِي كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فِي كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانَتْ تَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ فَأَعْلَمَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُهُمْ لَا آلِهَةٌ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا جَاءَ الْإِخْبَارُ إِخْبَارًا عَنِ الْعُقَلَاءِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ أَيْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَحْيَاءَ عُقَلَاءَ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ لَا تَفَاضُلَ بَيْنَكُمْ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها انْتَهَى؟ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَدْعُوِّينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُ الدَّاعِينَ فَلَا يُقَالُ فِي الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ثُمَّ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فَقَالَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ لَيْسَ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ إِمَّا فِي أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ أَوْ
فِي أَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ مَقْهُورُونَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّهُمْ دُونَكُمْ فِي انْتِفَاءِ الْآلَاتِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ ثُبُوتِ كَوْنِهِمْ أَمْثَالَكُمْ فِيمَا ذُكِرَ وَلَا يَدُلُّ إِنْكَارُ هَذِهِ الْآلَاتِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمِثْلِيَّةِ فِيمَا ذُكِرَ وَأَيْضًا فَالْأَبْطَالُ لَا يُتَصَوَّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ «1» .
وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ إِنْ خَفِيفَةً وَعِبَادًا أَمْثَالَكُمْ بِنَصْبِ الدَّالِ وَاللَّامِ وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ أَعُمِلَتْ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ فَرَفَعَتِ الِاسْمَ وَنَصَبَتِ الْخَبَرَ فَعِبَادًا أَمْثَالَكُمْ خَبَرٌ مَنْصُوبٌ قَالُوا: وَالْمَعْنَى بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَحْقِيرُ شَأْنِ الْأَصْنَامِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِمْ لِلْبَشَرِ بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَحْقَرُ إِذْ هِيَ جَمَادَاتٌ لَا تَفْهَمُ وَلَا تَعْقِلُ وَإِعْمَالُ إِنَّ إِعْمَالَ مَا الْحِجَازِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ أَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَأَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ وَمِنَ الْبَصْرِيِّينَ ابْنُ السِّرَاجِ وَالْفَارِسِيِّ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَمَنَعَ مِنْ إِعْمَالِهِ الْفَرَّاءُ وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْمُبَرِّدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ إِعْمَالَهَا لُغَةٌ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُشْبَعًا فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ قِرَاءَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِهَا لثلاث جِهَاتٍ إِحْدَاهَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسَّوَادِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يَخْتَارُ الرَّفْعَ فِي خَبَرِ إِنَّ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى مَا فَيَقُولُ: إِنْ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ لِأَنَّ عَمَلَ مَا ضَعِيفٌ وَإِنْ بِمَعْنَاهَا فَهِيَ أَضْعَفُ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ أَنَّ الْكِسَائِيَّ رَأَى أَنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى مَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ انْتَهَى وَكَلَامُ النَّحَّاسِ هَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ تَابِعِيٍّ جَلِيلٍ وَلَهَا وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا الثَّلَاثُ جِهَاتٍ الَّتِي ذَكَرَهَا فَلَا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَمَّا كَوْنُهَا مُخَالِفَةً لِلسَّوَادِ فَهُوَ خِلَافٌ يَسِيرٌ جِدًّا لَا يَضُرُّ وَلَعَلَّهُ كُتِبَ الْمَنْصُوبُ عَلَى لُغَةِ رَبِيعَةَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُنَوَّنِ الْمَنْصُوبِ بِغَيْرِ أَلْفٍ فَلَا تَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلسَّوَادِ وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفَهْمُ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فِي إِنْ وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فَالنَّقْلُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ حَكَى إِعْمَالَهَا وَلَيْسَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ الَّذِي خَرَّجُوهُ مِنْ أَنَّ إِنْ لِلنَّفْيِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ الْأَصْنَامِ عِبَادًا أَمْثَالَ عَابِدِيهَا وَهَذَا التَّخْرِيجُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْآخَرَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ عَلَى وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَعْمَلَهَا عَمَلَ الْمُشَدَّدَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ إِنِ الْمُخَفَّفَةَ يَجُوزُ إِعْمَالُهَا عَمَلَ الْمُشَدَّدَةِ في غير
(1) سورة الأعراف: 7/ 179.
الْمُضْمَرِ بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا وَبِنَقْلِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ نَصَبَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَبَرَهَا نَصْبَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ فِي قَوْلِهِ:
إِذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأْتِ وَلْتَكُنْ
…
خُطَاكَ خِفَافًا إِنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ إِلَى جَوَازِ نَصْبِ أَخْبَارِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدَ ظَاهِرَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ وَتَأَوَّلَهَا الْمُخَالِفُونَ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَوْ تَتَأَوَّلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُخَالِفِينَ لِأَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا الْمَنْصُوبَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ:
يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا إِنَّ تَقْدِيرَهُ أَقْبَلَتْ رَوَاجِعًا فَكَذَلِكَ تُؤَوَّلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَدْعُونَ عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ، وَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ قَدْ تَوَافَقَتَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِخْبَارُ أَنَّهُمْ عِبَادٌ، وَلَا يَكُونُ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُمَا وَتَخَالُفٌ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وقرىء أَيْضًا إِنْ مُخَفَّفَةً وَنَصْبُ عِبَادًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ مِنَ الصِّلَةِ عَلَى الَّذِينَ وَأَمْثَالُكُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ عِبَادًا أَمْثَالَكُمْ فِي الْخَلْقِ أَوْ فِي الْمِلْكِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً فَادْعُوهُمْ أَيْ فَاخْتَبِرُوهُمْ بِدُعَائِكُمْ هَلْ يَقَعُ مِنْهُمْ إِجَابَةٌ أَوْ لَا يَقَعُ وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِجَابَةِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبُوا كَمَا قَالَ: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ «1» وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَى إِلَهِيَّتِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِ عِبَادَتِهِمْ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِأَبِيهِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
«2» .
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها. هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَعْجِيبٍ وَتَبْيِينُ أَنَّهُمْ جَمَادٌ لَا حَرَاكَ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ فَاقِدُونَ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا الَّتِي خُلِقَتْ لِأَجْلِهَا فَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَذَلَّكُمْ هَذَا التَّصَرُّفُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ قَدْ يَتَوَجَّهُ الْإِنْكَارُ فِيهِ إِلَى انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَانْتِفَاءِ مَنَافِعِهَا فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا فَسَّرْنَاهُ لِأَنَّ تَصْوِيرَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِلْأَصْنَامِ لَيْسَتْ أَعْضَاءً حَقِيقَةً وَقَدْ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَى الْوَصْفِ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مُصَوَّرَةً فَقَدِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ الَّتِي لِلْأَعْضَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ أَفْضَلُ مِنَ الأصنام بهذه
(1) سورة فاطر: 35/ 14.
(2)
سورة مريم: 19/ 42.
الْأَعْضَاءِ النَّافِعَةِ وأَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةً فَتُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ وَهُوَ إِضْرَابٌ عَلَى مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَا عَلَى مَعْنَى الْإِبْطَالِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ عَلَى نَفْيِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ وَكَانَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ هَكَذَا لأنه بدىء بِالْأَهَمِّ ثُمَّ أُتْبِعَ بِمَا هُوَ دُونَهُ إِلَى آخِرِهَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَنَافِعٌ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ بِضَمِّهَا وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: تَعَلَّقَ بَعْضُ الْأَغْمَارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا:
جَعَلَ عَدَمَهَا لِلْأَصْنَامِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَهُ تَعَالَى لَكَانَ عَدَمُهَا دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْإِلَهِيَّةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهَا لَهُ تَعَالَى وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ حَالًا مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّهُ لَهُ رِجْلٌ مَاشِيَةٌ وَيَدٌ بَاطِشَةٌ وَعَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَأُذُنٌ سَامِعَةٌ وَالصَّنَمُ وَإِنْ صُوِّرَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَالْإِنْسَانُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ الْأَدْوَنِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلُ وهي لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يَعْنِي كَيْفَ يَحْسُنُ عِبَادَةُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ انْتَفَتْ عَنْهَا هَذِهِ الْأَعْضَاءُ وَمَنَافِعُهَا فَلَيْسَتْ قَادِرَةً عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ فَامْتَنَعَ كَوْنُهَا آلِهَةً أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَالِيًا عَنْ هَذِهِ الأعضاء فهو موصوف وبكمال الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ وَبِكَمَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ لَمَّا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَحَقَّرَ شَأْنَهَا وَأَظْهَرَ كَوْنَهَا جَمَادًا عَارِيَةً عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُدْرَةِ أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ لَا مُبَالَاةَ بِكُمْ وَلَا بِشُرَكَائِكُمْ فَاصْنَعُوا ما تشاؤون وَهُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ دُعَاءٌ لِأَصْنَامِكُمْ وَلَا كَيْدٌ لِي وَكَانُوا قَدْ خَوَّفُوهُ آلِهَتَهُمْ، وَمَعْنَى ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ اسْتَعِينُوا بِهِمْ عَلَى إِيصَالِ الضَّرِّ إِلَيَّ ثُمَّ كِيدُونِ أَيِ امْكُرُوا بِي وَلَا تُؤَخِّرُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ بِي مِنَ الضُّرِّ وَهَذَا كَمَا قَالَ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ «1» وَسَمَّى الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ لَهُمْ نِسْبَةً إِلَيْهِمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ آلِهَةً وَشُرَكَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ بِخِلَافٍ عنه فَكِيدُونِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَصْلًا وَوَقْفًا وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا.
(1) سورة هود: 11/ 54، 55.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ لَمَّا أَحَالَهُمْ عَلَى الِاسْتِنْجَادِ بِآلِهَتِهِمْ فِي ضَرِّهِ وَأَرَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالِاسْتِنَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِعْلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ جِهَةَ نَصْرِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ كِتَابَهُ وَأَعَزَّهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ وَلَا يَخْذُلُهُمْ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ وَهِيَ يَاءُ فَعِيلٍ أُدْغِمَتْ فِي لَامِ الْكَلِمَةِ وَبِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَهَا مَفْتُوحَةً، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ الْجَلَالَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُدْغِمَ الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فِي ياء الإضافة وهولا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ الْإِدْغَامُ الْأَوَّلُ أَوْ تُدْغَمُ يَاءُ فَعِيلٍ فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَيُحْذَفُ لَامُ الْفِعْلِ فَلَيْسَ إِلَّا هَذَا انْتَهَى وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وَلِيٌّ مُضَافًا إِلَى يَاءِ مُتَكَلِّمٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ نَكِرَةٌ اسْمُ إِنَّ والخبر ل اللَّهُ وَحُذِفَ مِنْ وَلِيٍّ التَّنْوِينُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ «1» وقوله وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ وَلِيًّا حَقَّ وَلِيٍّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَجَعْلُ اسْمِ إِنَّ نَكِرَةً وَالْخَبَرُ مَعْرِفَةٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ حَرَامًا أَنْ أَسُبَّ مُجَاشِعًا
…
بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الْخَضَارِمِ
وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ سَهْلٌ وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ فَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ فِي شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ إِنَّ وَلِيِّ بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ لَمَّا سَكَنَتِ الْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَتْ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ صَاحِبِي الرَّجُلُ الَّذِي تَعَلَّمَ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مَنْصُوبَةٍ مُضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ وَذَكَرَهَا الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ وَخَرَّجَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ جِبْرِيلَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: فَيَصِيرُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ مِنْ صِفَةِ جِبْرِيلَ بِدَلَالَةِ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «2» ، وَفِي قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ هُوَ قَوْلَهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: فَأَمَّا وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جِبْرِيلُ وَإِنِ احْتَمَلَهَا لَفْظُ الْآيَةِ لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا مَا بَعْدَهَا وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى جِبْرِيلَ أحدهما أن يكون وليّ اللَّهُ اسْمَ إِنَّ وَالَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ هُوَ الْخَبَرُ على تقدير
(1) سورة الإخلاص: 112/ 1، 2.
(2)
سورة النحل: 16/ 102.
حَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَالْمَوْصُولُ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ الشَّخْصُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ عَلَيْهِ فَحَذَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لم لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطُ جَوَازِ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ لَكِنَّهُ قَدْ جَاءَ نَظِيرُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ لِسَانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا
…
وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
التَّقْدِيرُ وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلْقَمُ. وَقَالَ الْآخَرُ:
فَأَصْبَحَ مِنْ أَسْمَاءَ قَيْسٌ كَقَابِضٍ
…
عَلَى الْمَاءِ لَا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ
التَّقْدِيرُ بِمَا هُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْآخَرُ:
لَعَلَّ الَّذِي أَصْعَدَتْنِي أَنْ يَرُدَّنِي
…
إِلَى الْأَرْضِ إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْخَيْرَ قَادِرُهْ
يُرِيدُ أَصْعَدْتَنِي بِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ:
فَأَبْلِغَنَّ خَالِدَ بْنَ نَضْلَةَ
…
وَالْمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلَوْمِ مَنْ يَثِقُ
يُرِيدُ يَثِقُ بِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ:
وَمِنْ حسد يجوز عَلَيَّ قَوْمِي
…
وَأَيُّ الدَّهْرِ ذَرْ لَمْ يَحْسُدُونِي
يُرِيدُ لَمْ يَحْسُدُونِي فِيهِ. وَقَالَ الْآخَرُ:
فَقُلْتُ لَهَا لَا وَالَّذِي حَجَّ حَاتِمٌ
…
أَخُونُكِ عَهْدًا إِنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ
قَالُوا يُرِيدُ حَجَّ حَاتِمٌ إِلَيْهِ فَهَذِهِ نَظَائِرُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ عَلَيْهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ إِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ مَنْ هُوَ صَالِحٌ أَوِ الصَّالِحُ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ وَحَذْفُ خَبَرِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ «1» الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» الْآيَةَ وَسَيَأْتِي تَقْدِيرُ حَذْفِ الْخَبَرِ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَتَعَيَّنُ عَوْدُ الضَّمِيرَ فِي مِنْ دُونِهِ عَلَى اللَّهِ وَبِذَلِكَ يَضْعُفُ مَنْ فَسَّرَ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ بجبريل، هذه الْآيَةُ بَيَانٌ لِحَالِ الْأَصْنَامِ وَعَجْزِهَا عَنْ نُصْرَةِ أَنْفُسِهَا فَضْلًا عَنْ نُصْرَةِ غَيْرِهَا
(1) سورة فصلت: 41/ 41.
(2)
سورة الحج: 22/ 25.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ وَهَذَا مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ تَجُوزُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَبَيْنَ مَنْ لَا تَجُوزُ كَأَنَّهُ قِيلَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ صَالِحَةً لِلْإِلَهِيَّةِ انْتَهَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى جِهَةِ التقريع أن قوله: ولا يَسْتَطِيعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَا يَخْلُقُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ مَنْ لا يمكن أن يوجد شَيْئًا وَلَا يُنْشِئَهُ وَلَا يَنْصُرَ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَمَا ذُكِرَ جَاءَتْ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ وَمُنْدَرِجَةً تَحْتَ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا فَهَذِهِ الْجُمَلُ مَأْمُورٌ بِقَوْلِهَا وَخِطَابُ الْمُشْرِكِينَ بِهَا إِذْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الرَّسُولَ عليه السلام بِآلِهَتِهِمْ فَأَمَرَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِهَذِهِ الْجُمَلِ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ وَإِخْبَارًا لَهُمْ بِأَنَّ وَلَيَّهُ هُوَ اللَّهُ فَلَا مُبَالَاةَ بِهِمْ وَلَا بِأَصْنَامِهِمْ.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.
تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ يَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ فِي وَإِنْ تَدْعُوهُمْ هُوَ لِلْأَصْنَامِ وَنَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعَ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تُحِسُّ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّظَرَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ صَوَّرُوهُمْ ذَوِي أَعْيُنٍ فَهُمْ يُشْبِهُونَ مَنْ يَنْظُرُ وَمَنْ قَلَبَ حَدَقَتَهُ لِلنَّظَرِ ثُمَّ نَفَى عَنْهُمُ الإبصار كقوله يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
«1» وَمَعْنَى إِلَيْكَ أَيُّهَا الدَّاعِي وَأَفْرَدَ لِأَنَّهُ اقْتَطَعَ قَوْلَهُ: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَاسْتَأْنَفَ الإخبار عنهم بحالهم السيّء فِي انْتِفَاءِ الْإِبْصَارِ كَانْتِفَاءِ السَّمَاعِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أَيْ يُحَاذُونَكَ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَنَازِلُ تَتَنَاظَرُ إِذَا كَانَتْ مُتَحَاذِيَةً يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ وَلَا يَرَوْنَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْأَصْنَامِ مَجَازٌ مَحْضٌ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْأَصْنَامِ اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ:
وَمَعْنَى الْآيَةِ تَبْيِينُ جُمُودِهَا وَصِغَرِ شَأْنِهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ الْقَوْلُ فِي هَذَا وَتَرَدَّدَتِ الْآيَاتُ فِيهِ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَصْنَامِ وَتَعْظِيمَهَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ وَمُسْتَوْلِيًا عَلَى عُقُولِهَا لُطْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تَدْعُوهُمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ إِذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ فَائِدَةٌ وَلَا حَصَلُوا مِنْهُ بِطَائِلٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَيَكُونُ إِثْبَاتُ النَّظَرِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْآيَةُ بَعْدَ هَذِهِ إِذْ فِي آخِرِهَا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي
(1) سورة مريم: 19/ 42.
الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ فَتَكُونُ مُرَتَّبَةً عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ وَهِيَ الْجَهْلُ.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. هَذَا خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعُمُّ جَمِيعَ أُمَّتِهِ وَهِيَ أَمْرٌ بِجَمِيعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير وَمُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ وَالْجُمْهُورُ: أَيِ اقْبَلْ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمُعَاشَرَتِهِمْ بِمَا أَتَى عَفْوًا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَرُّجٍ وَالْعَفْوُ ضِدُّ الْجَهْدِ أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنْهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْفِرُوا وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِقَوْلِهِ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» .
وَقَالَ حَاتِمٌ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي
…
وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَقَالَ الْآخَرُ:
إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا
…
فَخُذْهَا فَالْغِنَى مَرْعَى وَشُرْبُ
إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سِلْمٌ
…
فَلَا تَرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سأل الرسول صلى الله عليه وآله جِبْرِيلَ عليه السلام عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ، فَأَخْبَرَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي الْأَمْوَالِ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ أَمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مَا سَهُلَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ أَيْ مَا فَضَلَ وَزَادَ ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ فَنُسِخَتْ هَذِهِ، وَتُؤْخَذُ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَالَ مَكِّيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ إِنَّ الْعَفْوَ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَةُ جَمِيعُهَا فِي مُدَارَاةِ الْكُفَّارِ وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ انْتَهَى، وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّهُ أَمَرَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ فِي النَّاسِ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ أَدْخَلَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ عَلَى عُمَرَ فَكَلَّمَ عُمَرَ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَهُمَّ بِهِ فَتَلَا الْحُرُّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عُمَرَ فَقَرَّرَهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا.
وَالْعُرْفُ الْمَعْرُوفُ وَالْجَمِيلُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْعُرْفِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ حَضٌّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالْحِلْمِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ مُنَازَعَةِ السُّفَهَاءِ وَعَلَى الْإِغْضَاءِ عَمَّا يَسُوءُ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَقَوْلِ الْآخَرَانِ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ وَكَالَّذِي جَذَبَ رِدَاءَهُ حتى حزّ فِي عُنُقِهِ وَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ،
وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ مَا وَصَّاهُ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم «اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُحَقِّرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ فَضْلِ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ
الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ سَبَّكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْكَ فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَكَ اللَّهُ» .
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ يَنْخَسَنَّكَ بِأَنْ يَحْمِلَكَ بِوَسْوَسَتِهِ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ فَاطْلُبِ الْعِيَاذَةَ بِاللَّهِ مِنْهُ وَهِيَ اللِّوَاذُ وَالِاسْتِجَارَةُ،
قِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ خُذِ الْعَفْوَ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ وَالْغَضَبُ فَنَزَلَتْ
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ وَفَاعِلُ يَنْزَغَنَّكَ هُوَ نَزْغٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ جِدُّ جَدُّهُ أَوْ عَلَى إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَازَغَ وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تكون بالنسيان ولا تجدي إِلَّا بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَاهَا فَالْمَعْنَى سَمِيعٌ لِلْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْآيَةُ وَصِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم تَعُمُّ أُمَّتَهُ رَجُلًا رَجُلًا وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ عَامٌّ فِي الْغَضَبِ وَتَحْسِينِ الْمَعَاصِي وَاكْتِسَابِ الْغَوَائِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً»
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الِاسْتِعَاذَةَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ انْتَهَى. وَاسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِطَلَبِ الِاسْتِجَارَةِ بِاللَّهِ أَيْ لَا تَسْتَعِذْ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُ أَوِ السَّمِيعُ لِمَا تَقُولُهُ الْكُفَّارُ فِيكَ حِينَ يَرُومُونَ إِغْضَابَكَ الْعَلِيمُ بِقَصْدِكَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَوِ الْعَلِيمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُهُمْ مِنَ الْكَيْدِ لَكَ فَهُوَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُجِيرُكَ مِنْهُمْ.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ النَّزْغُ مِنَ الشَّيْطَانِ أحفّ مِنْ مَسِّ الطَّائِفِ مِنَ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ النَّزْغَ أَدْنَى حَرَكَةٍ وَالْمَسَّ الْإِصَابَةُ وَالطَّائِفُ مَا يَطُوفُ بِهِ وَيَدُورُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْلَغُ لَا مَحَالَةَ فَحَالُ الْمُتَّقِينَ تَزِيدُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَالِ الرَّسُولِ، وَانْظُرْ لِحُسْنِ هَذَا الْبَيَانِ حَيْثُ جَاءَ الْكَلَامُ لِلرَّسُولِ كَانَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ إِنْ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْوُقُوعِ وَلِعَدَمِهِ، وَحَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ لِلْمُتَّقِينَ كَانَ الْمَجِيءُ بِإِذَا الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّحْقِيقِ أَوْ لِلتَّرْجِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّزْغُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَقَعَ وَالْمَسُّ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ يُرَجَّحُ وُقُوعُهُ وَهُوَ إِلْصَاقُ الْبَشَرَةِ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَفِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ أُمِرَ هُوَ صلى الله عليه وسلم بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَهُنَا جَاءَتِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً فِي ضِمْنِهَا الشَّرْطُ وَجَاءَ الْخَبَرُ تَذَكَّرُوا فَدَلَّ عَلَى تَمَكُّنِ مَسِّ الطَّائِفِ حَتَّى حَصَلَ نِسْيَانٌ فَتَذَكَّرُوا مَا نَسُوهُ وَالْمَعْنَى تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَبِنَفْسِ التَّذَكُّرِ حَصَلَ إِبْصَارُهُمْ فَاجَأَهُمْ إِبْصَارُ الحقّ والسداد فاتبعوه وطردوا عَنْهُمْ مَسَّ الشَّيْطَانِ الطَّائِفِ،
واتَّقَوْا قِيلَ: عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يُتَّقَى، وَقِيلَ: الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَقِيلَ: عِقَابَ اللَّهِ، وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: طَيْفٌ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ طَافَ يَطِيفُ طَيْفًا أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَنَّى أَلَمَّ بِكَ الخيال يطيف
…
ومطابه لك ذكره وشغوف
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَفَّفًا مِنْ طَيِّفٍ كَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ أَوْ كَلَيْنٍ مِنْ لَيِّنٍ لِأَنَّ طَافَ الْمُشَدَّدَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَافَ يَطِيفُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَافَ يَطُوفُ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ طائِفٌ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ، وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ فَيْعِلٌ وَإِلَى أَنَّ الطَّيْفَ مَصْدَرٌ مَالَ الْفَارِسِيُّ جَعَلَ الطَّيْفَ كَالْخَطِرَةِ وَالطَّائِفَ كَالْخَاطِرِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الطَّيْفُ اللَّمَمُ وَالطَّائِفُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَيْفَ هَذَا؟ وَقَدْ قَالَ الْأَعْشَى:
وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا
…
أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
انْتَهَى. وَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِسَائِيِّ الطَّائِفَ بِأَنَّهُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ مَعْنَى مَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَعَجُّبُهُ وَإِنْكَارُهُ مِنْ حَيْثُ خُصِّصَ الْإِنْسَانُ وَالَّذِي قَالَهُ الْأَعْشَى تَشْبِيهٌ لِأَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا وَإِنْ كَانَ تَعَجُّبُهُ مِنْ حَيْثُ فَسَّرَ بِأَنَّهُ مَا طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ، فَطَائِفُ الْجِنِّ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ طَافَ حَوْلَ الْإِنْسَانِ وَشَبَّهَ هُوَ النَّاقَةَ فِي سُرْعَتِهَا وَنَشَاطِهَا وَقَطْعِهَا الْفَيَافِيَ عَجِلَةً بِحَالَتِهَا إِذَا أَلَمَّ بِهَا أَوْلَقَ مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: طَافَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَافًا وَأَطَافَ اسْتَدَارَ الْقَوْمَ وَأَتَاهُمْ مِنْ نَوَاحِيهِمْ، وَطَافَ الْخَيَالُ أَلَمَّ يَطِيفُ طَيْفًا وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلِ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ الْخَيَالُ قَالَ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةٌ وَأَمَّا فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ فَلَا يُقَالُ فِيهِ طَيْفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً انْتَهَى، وَقَالَ حَسَّانُ:
جِنِّيَّةٌ أَرَّقَنِي طَيْفُهَا
…
تَذْهَبُ صُبْحًا وَتُرَى فِي الْمَنَامِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمَّا بِمَعْنَى النَّزْعِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الطَّيْفُ الْجُنُونُ، وَالطَّائِفُ الْغَضَبُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُمَا بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى اللَّمَمِ وَالْخَيَالِ، وَقِيلَ:
الطَّيْفُ النَّخِيلُ، وَالطَّائِفُ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّيْفُ الْغَضَبُ وَيُسَمَّى الْجُنُونُ وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير وَالسُّدِّيُّ: إِذَا زَلُّوا تَابُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا هَمُّوا بِذَنْبٍ ذَكَرُوا اللَّهَ فَتَرَكُوهُ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا غَضِبَ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا أَصَابَهُ نَزْغٌ تَذَكَّرَ وَعَرَفَ أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ نَزَعَ عَنْهَا مَخَافَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: ابْتَهَلُوا، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَاذُوا بِذِكْرِ اللَّهِ،
وَقِيلَ: تَفَكَّرُوا فَأَبْصَرُوا وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ وَسَبَّ عِصَامُ بْنُ الْمُصْطَلِقِ الشَّامِيِّ الْحُسَيْنَ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه سَبًّا مُبَالِغًا
وَأَبَاهُ إِذْ كَانَ مُبْغِضًا لِأَبِيهِ فَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ، ثُمَّ قَالَ: خَفِّضْ عَلَيْكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ وَدَعَا لَهُ فِي حِكَايَةٍ فِيهَا طُولٌ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ وَسَعَةِ صَدْرِهِ وَحَوَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْقَدْرِ مَا صَيَّرَ عِصَامًا أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لَهُ وَلِأَبِيهِ
وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَخْذٌ بِهَا، ومُبْصِرُونَ هُنَا مِنَ الْبَصِيرَةِ لَا مِنَ الْبَصَرِ، وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الشَّيْطَانِ تَأَمَّلُوا وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا، وَقِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ.
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ. الضَّمِيرُ فِي وَإِخْوانُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْجَاهِلِينَ أَوْ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَهُمْ غَيْرُ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَدُلُّ عَلَى مُقَابِلِهِ فَيُضْمَرُ ذَلِكَ الْمُقَابِلُ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ وَعَنَى بِالْإِخْوَانِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الشَّيَاطِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالشَّيَاطِينُ الَّذِينَ هُمْ إِخْوَانُ الْجَاهِلِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ يَمُدُّونَ الجاهلين أو غير المتقين في الغيّ قالوا وفي يَمُدُّونَهُمْ ضَمِيرُ الْإِخْوَانِ فَيَكُونُ الْخَبَرُ جَارِيًا عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ وَالْمَنْصُوبُ لِلْكُفَّارِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَا جَمِيعًا عَلَى الشَّيَاطِينِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ فِي الْغَيِّ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ فِي اللَّهِ يَمُدُّونَ الشَّيَاطِينَ أَيْ بِطَاعَتِهِمْ لَهُمْ وَقَبُولِهِمْ مِنْهُمْ وَلَا يَتَرَتَّبُ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الغَيِّ بِالْإِمْدَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَ لَا يعوذون الشَّيَاطِينَ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الغَيِّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِقَوْلِهِ يَمُدُّونَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ يَمُدُّونَهُمْ بِسَبَبِ غَوَايَتِهِمْ نَحْوَ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» أَيْ بِسَبَبِ هِرَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الغَيِّ حَالًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ كَائِنِينَ وَمُسْتَقِرِّينَ فِي الْغَيِّ فَيَبْقَى فِي الغَيِّ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَإِخْوانُهُمْ وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَلَوْ قُلْتَ:
مُطْعِمُكَ زَيْدٌ لَحْمًا تُرِيدُ مُطْعِمُكَ لَحْمًا زَيْدٌ فَتَفْصِلُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَمَعْمُولِهِ بِالْخَبَرِ لَكَانَ فِي جَوَازِهِ نَظَرٌ لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ لَهُمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا لِأَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَ الضَّمِيرُ فَيَكُونُ فِي وَإِخْوانُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ الدَّالِّ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أَوْ عَلَى الشَّيْطَانِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ نَحْوَ قَوْلِهِ:
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1» الْمَعْنَى الطَّوَاغِيتُ وَيَكُونُ فِي يَمُدُّونَهُمْ عَائِدٌ على الكفار
(1) سورة البقرة: 2/ 257.
وَالْوَاوُ فِي يَمُدُّونَهُمْ عَائِدَةٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَيَكُونُ الْخَبَرُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، لِأَنَّ الْإِمْدَادَ مُسْنَدٌ إِلَى الشَّيَاطِينِ لَا لِإِخْوَانِهِمْ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ:
قَوْمٌ إِذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِي كَوَاثِيهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ أَوْجُهٌ لِأَنَّ إِخْوانُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَقَرَأَ نَافِعٌ يَمُدُّونَهُمْ مُضَارِعُ أَمَدَّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَمُدُّونَهُمْ مِنْ مَدَّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «1» ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ يُمَادُّونَهُمْ مِنْ مَادَّ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا يُقْصِرُونَ مِنْ أَقْصَرَ أَيْ كَفَّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُكَ مَا قَلْبِي إِلَى أَهْلِهِ بِحُرْ
…
وَلَا مُقْصِرٌ يَوْمًا فَيَأْتِيَنِي بقر
أي ولا نَازِعٌ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ مِنْ قَصَرَ أَيْ ثُمَّ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ إِمْدَادِهِمْ وَغَوَايَتِهِمْ وَقَدْ أَبْعَدَ الزَّجَّاجُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِخْوانُهُمْ
الْآيَةَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَنَاسِقٌ أَخَذَ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُتَّقِينَ مَعَ الشَّيَاطِينِ بَيَّنَ حَالَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ مَعَهُمْ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَنْفُسُ مَا يَمَسُّهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ مَاسٌ أَقْلَعُوا عَلَى الْفَوْرِ وَهَؤُلَاءِ فِي إِمْدَادٍ مِنَ الْغَيِّ وَعَدَمِ نُزُوعٍ عَنْهُ.
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها.
رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَتَأَخَّرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَانًا فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: هَلَّا اجْتَبَيْتَهَا
وَمَعْنَى اللَّفْظَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَخَيَّرْتَهَا وَاصْطَفَيْتَهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمُ: الْمُرَادُ هَلَّا اخْتَرَعْتَهَا وَاخْتَلَقْتَهَا مَنْ قِبَلِكَ وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَكَ كُلَّهُ كَذَلِكَ عَلَى مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدَّعِيهِ كما قَالُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ «2» ، قَالَ الْفَرَّاءُ تَقُولُ الْعَرَبُ اجْتَبَيْتُ الْكَلَامَ وَاخْتَلَقْتُهُ وَارْتَجَلْتُهُ إِذَا افْتَعَلْتَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اجْتَبَى الشَّيْءَ بِمَعْنَى جَبَاهُ لِنَفْسِهِ أي جمعه كقوله اجتمعه أَوْ جَبَى إِلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ أَيْ أَخَذَهُ كَقَوْلِكَ: جَلَيْتُ الْعَرُوسَ إِلَيْهِ فَاجْتَلَاهَا وَالْمَعْنَى هَلَّا اجْتَمَعْتَهَا افْتِعَالًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ: هَلَّا تَلَقَّيْتَهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَلَّا أَخَذْتَهَا مُنَزَّلَةً عَلَيْكَ مُقْتَرَحَةً انْتَهَى، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مِنْ نَتَائِجِ الْإِمْدَادِ فِي الغيّ
(1) سورة البقرة: 2/ 15. [.....]
(2)
سورة سبأ: 34/ 43.
كَانُوا يَطْلُبُونَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةً عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَقَلْبِ الصَّفَا ذَهَبًا وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَتَفْجِيرِ الْأَنْهَارِ وَكَمْ جَاءَتْهُمْ مِنْ آيَةٍ فَكَذَّبُوا بِهَا وَاقْتَرَحُوا غَيْرَهَا.
قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَجِيءُ الْآيَاتِ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُتَّبِعٌ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَلَسْتُ بِمُفْتَعِلِهَا وَلَا مُقْتَرِحِهَا.
هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ هَذَا الْمُوحَى إِلَيَّ الَّذِي أَنَا أَتَّبِعُهُ لَا أَبْتَدِعُهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ بَصائِرُ أَيْ حُجَجٌ وَبَيِّنَاتٌ يُبْصَرُ بِهَا وَتَتَّضِحُ الْأَشْيَاءُ الْخَفِيَّاتُ وَهِيَ جَمْعُ بَصِيرَةٍ كَقَوْلِهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «1» أَيْ عَلَى أَمْرٍ جَلِيٍّ مُنْكَشِفٍ وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى سُوَرٍ وَآيَاتٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف أي ذُو بَصَائِرَ.
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أَيْ دَلَالَةٌ إِلَى الرُّشْدِ وَرَحْمَةٌ فِي الدَّارَيْنِ وَفِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَسْتَبْصِرُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْوَحْيِ يَتَّبِعُونَ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ وَيَجْتَنِبُونَ مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَصْلُ الْبَصِيرَةِ الْإِبْصَارُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ سَبَبًا لِبَصَائِرِ الْعُقُولِ فِي دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَصِيرَةِ تَسْمِيَةً لِلسَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ وَالنَّاسُ فِي مَعَارِفِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا:
الَّذِينَ بَالَغُوا فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ إِلَى حَيْثُ صَارُوا كَالْمُشَاهِدِينَ لَهَا وَهُمْ أَصْحَابُ عَيْنِ الْيَقِينِ فَالْقُرْآنُ فِي حَقِّهِمْ بَصَائِرُ، وَالثَّانِي: الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَاتِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِلْمِ الْيَقِينِ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ هُدًى، وَالثَّالِثُ: مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمَ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْمُسْتَدِلِّينَ وَهُمْ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ رَحْمَةٌ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى، وَفِيهِ تَكْمِيلٌ وَبَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَائِرُ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ أَمَرَ بِاسْتِمَاعِهِ إِذَا شُرِعَ فِي قِرَاءَتِهِ وَبِالْإِنْصَاتِ وَهُوَ السُّكُوتُ مَعَ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ الْبَصَائِرِ وَالْهُدَى وَالرَّحْمَةِ حَرِيٌّ بِأَنْ يُصْغَى إِلَيْهِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ لِلْمُنْصِتِ هَذِهِ النَّتَائِجُ الْعَظِيمَةُ وَيَنْتَفِعَ بِهَا فَيَسْتَبْصِرَ مِنَ الْعَمَى وَيَهْتَدِي مِنَ الضَّلَالِ وَيُرْحَمُ بِهَا وَالظَّاهِرُ اسْتِدْعَاءُ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ إِذَا أَخَذَ فِي قراءة القرآن ومتى قرىء،
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا صَلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
(1) سورة يوسف: 12/ 108.
فَنَزَلَتْ جَوَابًا لَهُمْ
، وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا يُقْرَأُ فِي الْخُطْبَةِ مِنَ الْقُرْآنِ قَلِيلٌ وَبِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَالْخُطْبَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ إِنَّهَا فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَفِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: كَانَ يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ وَيُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهِ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عباس: قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَرَأَ الصَّحَابَةُ رَافِعِي أَصْوَاتِهِمْ فَخَلَطُوا عَلَيْهِ فَالْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ والإنصات إذا أَدَّى الْوَحْيَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ وَلَا غَيْرَهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ وَلَا تُجَاوِزُوهُ، كَقَوْلِكَ: سَمِعَ اللَّهُ دُعَاءَكَ أَيْ أَجَابَكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ عَلَى عُمُومِهَا فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ قرىء الْقُرْآنُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ اسْتِمَاعُهُ وَالسُّكُوتُ وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَاسْتَمِعُوا إِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ فَتُرْجَى لَهُمُ الرَّحْمَةُ بِاسْتِمَاعِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ وَإِنْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَرَحْمَتُهُمْ هُوَ ثَوَابُهُمْ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْجَمِيعِ فَرَحْمَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَلَعَلَّ بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ تَوَقُّعِ التَّرَجِّي، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّعْلِيلِ.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. لَمَّا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ إِذَا شُرِعَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ارْتَقَى مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ بِحَيْثُ يُرَاقِبُهُ وَيَذْكُرُهُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ وَهِيَ الْحَالَةُ الشَّرِيفَةُ الْعُلْيَا، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ يَذْكُرَهُ بِالْقَوْلِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّلِ وَالْخُشُوعِ مِنْ غَيْرِ صِيَاحٍ وَلَا تَصْوِيتٍ شَدِيدٍ كَمَا تُنَاجَى الْمُلُوكُ وَتَسْتَجْلَبُ مِنْهُمُ الرَّغَائِبُ، وَكَمَا
قَالَ لِلصَّحَابَةِ وَقَدْ جَهَرُوا بِالدُّعَاءِ «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا اربؤوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ»
وَكَانَ كَلَامِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم سِرَارًا وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ «1» وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ «2» لِأَنَّ فِي الْجَهْرِ عَدَمَ مُبَالَاةٍ بِالْمُخَاطَبِ وَظُهُورَ اسْتِعْلَاءٍ وَعَدَمَ تَذَلُّلٍ والذكر شامل
(1) سورة الحجرات: 49/ 4.
(2)
سورة الحجرات: 49/ 2.
لِكُلٍّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَانْتَصَبَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَانِ مِنْ أَجْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُمَا الذِّكْرُ وَهُوَ التَّضَرُّعُ فِي اتِّصَالِ الثَّوَابِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ مُتَضَرِّعًا وَخَائِفًا أَوْ ذَا تضرّع وخيفة، وقرىء وَخِفْيَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاذْكُرْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: خِطَابٌ لِكُلِّ ذَاكِرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خِطَابٌ لَهُ وَيَعُمُّ جَمِيعَ أُمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الذِّكْرِ بِالرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ اسْتِحْضَارَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ اسْتِحْضَارٌ لِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَاذْكُرْ نِعَمَ رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ بِاسْتِدَامَةِ الْفِكْرِ حَتَّى لَا تَنْسَى نِعَمَهُ الْمُوجِبَةَ لِدَوَامِ الشُّكْرِ، وَفِي لَفْظَةِ رَبَّكَ مِنَ التَّشْرِيفِ بِالْخِطَابِ وَالْإِشْعَارِ بِالْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَالِكِ لِلْمُلُوكِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَاذْكُرِ اللَّهَ وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَنَاسَبَ أَيْضًا لَفْظَ الرَّبِّ قَوْلُهُ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً لِأَنَّ فِيهِ التَّصْرِيحَ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» حَالَةٌ مُغَايِرَةٌ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِكَ لِعَطْفِهَا عَلَيْهَا وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ لَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ وَلَا يُرَاعَى إِلَّا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فَهَذِهِ مَرْتَبَةُ السِّرِّ وَالْمُخَافَتَةِ بِاللَّفْظِ انْتَهَى، وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا زَعَمَ بَلِ الظَّاهِرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَأَنَّهُمَا ذِكْرَانِ نَفْسَانِيٌّ وَلِسَانِيٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَكَلِّمًا كَلَامًا دُونَ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ أَدْخَلُ فِي الْإِخْلَاصِ وَأَقْرَبُ إِلَى جِنْسِ التَّفَكُّرِ انْتَهَى، وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَتَيِ الذِّكْرِ وَسَبَبَهُمَا وَهُمَا التَّضَرُّعُ وَالْخُفْيَةُ ذَكَرَ أَوْقَاتَ الذِّكْرِ فَقِيلَ: أَرَادَ خُصُوصِيَّةَ الْوَقْتَيْنِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي وَقْتَيْنِ قَبْلَ فَرْضِ الْخَمْسِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغُدُوُّ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْآصالِ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَعَبَّرَ بِالطَّرَفَيْنِ الْمُشْعِرَيْنِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْغُدُوُّ، قِيلَ: جَمْعُ غَدْوَةٍ فَعَلَى هَذَا تَظْهَرُ الْمُقَابَلَةُ لِاسْمِ جِنْسٍ بِجَمْعٍ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغَدَوَاتِ وَالْعَشَايَا وَإِنْ كَانَ مَصْدَرَ الْغَدَاءِ فَالْمُرَادُ بِأَوْقَاتِ الْغُدُوِّ حَتَّى يُقَابَلَ زَمَانٌ مَجْمُوعٌ بِزَمَانٍ مَجْمُوعٍ. وَقَرَأَ أبو مجلز لا حق بْنُ حُمَيْدٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ وَالْإِيصَالُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا لِقَوْلِهِمْ آصَلْتُ أَيْ دَخَلْتُ فِي وَقْتِ الْأَصِيلِ فَيَكُونُ قَدْ قَابَلَ مَصْدَرًا بِمَصْدَرٍ وَيَكُونُ كَأَعْصَرَ أَيْ دَخَلَ فِي الْعَصْرِ وَهُوَ الْعَشِيُّ وَأَعْتَمَ أَيْ دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغَافِلِينَ أَيِ اسْتَلْزِمِ الذِّكْرَ وَلَا تَغْفُلْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عليه السلام تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ لِعِصْمَتِهِ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ عليهم السلام وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ الزُّلْفَى وَالْقُرْبُ مِنْهُ تَعَالَى بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ لِتَوَفُّرِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالذِّكْرِ وَرَغَّبَ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَخْبَارٍ ثَلَاثَةٍ، الْأَوَّلُ: نَفْيُ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَذَلِكَ هُوَ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَنَفْيُ الِاسْتِكْبَارِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلطَّاعَاتِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِصْيَانِ لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ يَرَى لِنَفْسِهِ شُفُوفًا وَمَزِيَّةً فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَةِ، الثَّانِي: إِثْبَاتُ التَّسْبِيحِ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَالتَّطْهِيرُ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالثَّالِثُ: السُّجُودُ لَهُ قِيلَ:
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ أَيْ لَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لَهُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ لِيَقَعَ الْفِعْلُ فَاصِلَةً فَأَخَّرَهُ لِذَلِكَ لِيُنَاسِبَ مَا قَبْلَهُ مِنْ رؤوس الْآيِ وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ نَاشِئَةً عَنِ انْتِفَاءِ الِاسْتِكْبَارِ وَكَانَتْ عَلَى قِسْمَيْنِ عِبَادَةٍ قَلْبِيَّةٍ وَعِبَادَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ ذَكَرَهُمَا، فَالْقَلْبِيَّةُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَالْجُسْمَانِيَّةُ السُّجُودُ وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَفِي الْحَدِيثِ «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ»
وَلَهُ يَسْجُدُونَ هُوَ مَكَانُ سَجْدَةٍ وَقِيلَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ ألم تَنْزِيلُ «1» وحم تَنْزِيلُ «2» وَالنَّجْمِ وَالْعَلَقِ وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا عُشْرٌ أَسْقَطَ آخِرَ الْحَجِّ وَص وَثَلَاثًا فِي الْمُفَصَّلِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِحْدَى عَشْرَةَ أَسْقَطَ آخِرَةَ الْحَجِّ وَثَلَاثَ الْمُفَصَّلِ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ أَسْقَطَ ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَأَثْبَتَ ص وَعَكَسَ الشَّافِعِيُّ وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا وَابْنِ حَبِيبٍ خَمْسَ عَشْرَةَ آخِرُهَا خَاتِمَةُ الْعَلَقِ وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ وَزَادَ سَجْدَةَ الْحِجْرِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ وَاجِبٌ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَرْطَهُ شَرْطُ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ خَبَثٍ وَحَدَثٍ وَنِيَّةٍ وَاسْتِقْبَالٍ وَوَقْتٍ إِلَّا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عمر وَابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ الْيَدَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ يُكَبِّرُ لَهَا فِي الْخَفْضِ، وَالرَّفْعِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَاخْتُلِفَ عَنْهُ وَيُسَلِّمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَإِسْحَاقُ: لَا يُسَلِّمُ وَوَقْتُهَا سَائِرُ الْأَوْقَاتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا صَلَاةٌ بِسَبَبٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُسْفِرْ وَلَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَقِيلَ:
لَا يَسْجُدُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَقِيلَ بَعْدَ الصُّبْحِ لَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَثَلَاثَةُ الأقوال هذه في
(1) سورة السجدة: 32/ 1.
(2)
سورة غافر: 40/ 1 وغيرها
مَذْهَبِ مَالِكٍ،
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه السلام: كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ «اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا»
، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ فِي الْفَرِيضَةِ سِرًّا كَانَتْ أَوْ جَهْرًا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى السامع قصد الاستماع أوّلا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا.