المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا منهم حسما لا طعامهم وَإِشْعَارًا بِاسْتِيجَابِهِمُ الْحِرْمَانَ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا وَعَنْ مَصَارِفِهَا، فَمَا لَهُمْ وَلَهَا، وَمَا سَلَّطَهُمْ عَلَى الْكَلَامِ لَهَا وَلِمَنْ قَاسَمَهَا. وَانْتَصَبَ فَرِيضَةً لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، مَعْنَاهُ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ الصَّدَقَاتُ لهم. وقرىء فَرِيضَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تِلْكَ فَرِيضَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فَرِيضَةً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الفقر، أَيْ مَفْرُوضَةً.

قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَمَا تَقُولُ هِيَ لَكَ طَلَقًا انْتَهَى. وَذُكِرَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ:

فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْقَطْعِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ هُوَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِخَلْقِهِ وَحِكْمَةٍ مِنْهُ فِي الْقِسْمَةِ، أَوْ عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ، حَكِيمٌ لَا يَشْرَعُ إِلَّا مَا هُوَ الأصلح.

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

ص: 446

الِاعْتِذَارُ التَّنَصُّلُ مِنَ الذَّنْبِ، فَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَحْوُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: اعْتَذَرَتِ الْمَنَازِلُ وَدَرَسَتْ، فَالْمُعْتَذِرُ يُحَاوِلُ إِزَالَةَ ذَنْبِهِ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:

قَدْ كُنْتَ تَعْرِفُ آيَاتٍ فَقَدْ جَعَلَتْ

إِطْلَالَ إِلْفِكَ بِالْوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ

وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: أَنَّ الِاعْتِذَارَ هُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ عُذْرَةُ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهَا تُعْذَرُ أَيْ تُقْطَعُ، وَاعْتَذَرَتِ الْمِيَاهُ انْقَطَعَتْ، وَالْعُذْرُ سَبَبٌ لِقَطْعِ الذَّمِّ. عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِنُ عُدُونًا أَقَامَ، قَالَهُ:

أَبُو زَيْدٍ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الْأَعْشَى:

وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ

يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنَ

وَتَقُولُ الْعَرَبُ: تُرِكَتِ إِبِلُ فُلَانٍ عَوَادِنَ بِمَكَانِ كَذَا، وَهُوَ أَنْ تَلْزَمَ الْإِبِلُ الْمَكَانَ فَتَأْلَفَهُ وَلَا تَبْرَحَهُ. وَسُمِّيَ الْمَعْدِنُ مَعْدِنًا لِإِنْبَاتِ اللَّهِ الْجَوْهَرَ فِيهِ وَإِثْبَاتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى عَدَنَ فِيهَا أَيْ ثَبَتَ. وَعَدَنٌ مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَدَائِنِ الْيَمَنِ قُطَّانًا وَدُورًا.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:

كَانَ

ص: 447

قُدَّامُ بْنُ خَالِدٍ وَعُبَيْدُ بْنُ هِلَالٍ وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي آخَرِينَ يُؤْذُونَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ فَيُوقِعَ بِنَا. فَقَالَ الْجُلَاسُ: بَلْ نَقُولُ بِمَا شِئْنَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أُذُنٌ سَامِعَةٌ، ثُمَّ نَأْتِيهِ فَيُصَدِّقُنَا فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَبْتَلَ بن الحرث كَانَ يَنُمُّ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ.

وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ وَزَمْعَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي آخَرِينَ أَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي الرَّسُولِ وَعِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فَحَقَرُوهُ، فَقَالُوا: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَغَضِبَ الْغُلَامُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَنْتُمْ لَشَرُّ مِنَ الْحَمِيرِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَدَعَاهُمْ، فَسَأَلَهُمْ، فَحَلَفُوا إِنَّ عَامِرًا كَاذِبٌ، وَحَلَفَ عَامِرٌ إِنَّهُمْ كَذَبَةٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: أُذُنٌ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُذُنُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، وَيَقْبَلُ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ، سُمِّيَ بِالْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ السَّمَاعِ، كَأَنَّ جُمْلَتَهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لِلرِّئْيَةِ: عَيْنٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قَدْ صِرْتُ أُذُنًا لِلْوُشَاةِ سَمِيعَةً

يَنَالُونَ مِنْ عِرْضِي وَلَوْ شِئْتُ مَا نَالُوا

وَهَذَا مِنْهُمْ تَنْقِيصٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ وَصَفُوهُ بِقِلَّةِ الْحَزَامَةِ وَالِانْخِدَاعِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ذُو أُذُنٍ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أُذُنٌ حَدِيدُ السَّمْعِ، رُبَّمَا سَمِعَ مَقَالَتَنَا. وَقِيلَ: أُذُنٌ وَصْفٌ بُنِيَ عَلَى فَعَلَ مِنْ أَذَنَ يَأْذَنُ أُذُنًا إِذَا اسْتَمَعَ، نَحْوَ أَنَفَ وَشَلَلَ وَارْتَفَعَ. أُذُنٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ نَظِيرُهَا قَوْلُهُمْ:

رَجُلُ صِدْقٍ، تُرِيدُ الْجَوْدَةَ وَالصَّلَاحَ. كَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ، وَلَكِنْ نِعْمَ الْأُذُنُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُوَ أُذُنٌ فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَمَا يَجِبُ سَمَاعُهُ وَقَبُولُهُ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عليه خير ورحمة فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَرَّهَا عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُمَا وَلَا يَقْبَلُهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ قُلْ: أُذُنٌ بِالتَّنْوِينِ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ. وَجَوَّزُوا فِي أُذُنٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وخير خَبَرٌ ثَانٍ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ أَيْ: هُوَ أُذُنٌ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ وَلَا يُكَافِئُكُمْ عَلَى سُوءِ خَلَّتِكُمْ. وَأَنْ يَكُونَ خير صفة لأذن أَيْ: أُذُنٌ ذُو خَيْرٍ لَكُمْ. أَوْ عَلَى أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: أَكْثَرُ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ أُذُنٌ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ خبر. وَجَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِالنَّكِرَةِ عَنِ النَّكِرَةِ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ فِيهِ قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ وَصْفٍ أَيْ:

ص: 448

أُذُنٌ لَا يُؤَاخِذُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَانَ خَائِفًا مِنْهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ بِالْبَاطِلِ. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: يَسْمَعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُسَلِّمُ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ وَيُصَدِّقُهُمْ لِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، فَهُمْ صادقون. وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِمْ، وَخُصُّوا هُنَا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْعَالَمِينَ لِحُصُولِ مَزِيَّتِهِمْ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مُبَيِّنَةٌ جِهَةَ الخيرية، ومظهرة كونه صلى الله عليه وسلم أُذُنَ خَيْرٍ. وَتَعَدِّيَةُ يُؤْمِنُ أَوَّلًا بِالْبَاءِ، وَثَانِيًا بِاللَّامِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُمَا زَائِدَانِ، وَالْمَعْنَى: يُصَدِّقُ اللَّهَ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ التَّصْدِيقَ بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْكُفْرِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَقَصَدَ الِاسْتِمَاعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «1» مَا أنباه عَنِ الْبَاءِ وَنَحْوُهُ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ «2» أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «3» آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «4» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي رَدِفَ لَكُمْ «5» وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِيمَانُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَتَصْدِيقُهُ. وَقِيلَ: يُقَالُ آمَنْتُ لَكَ بِمَعْنَى صَدَّقْتُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «6» وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الَّتِي مَعَهَا اللَّامُ فِي ضِمْنِهَا بَاءٌ فَالْمَعْنَى: وَيُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمَا نَقُولُهُ لَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، والأعمش، وَحَمْزَةُ: وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا على خبر، فَالْجُمْلَةُ مِنْ يُؤْمِنُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُؤْمِنُ، ويؤمن صفة لأذن خَيْرٍ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً يَأْذَنُ لَكُمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَيْهِ. وَأَبْرَزَ اسْمَ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ضَمِيرًا عَلَى نَسَقِ يُؤْمِنُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجَمْعًا لَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْرِيفِهِ، وَحَتَمَ عَلَى مَنْ أَذَاهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَذَوْا هَذَا الْإِيذَاءَ الخاص وغيرهم.

(1) سورة يوسف: 12/ 17.

(2)

سورة يونس: 10/ 83.

(3)

سورة الشعراء: 26/ 111.

(4)

سورة الأعراف: 7/ 123.

(5)

سورة النمل: 27/ 72.

(6)

سورة يوسف: 12/ 17.

ص: 449

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَحْلِفُونَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يقولون: هو أذن أنكره وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ. وَقِيلَ:

عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ اعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا وَاعْتَلُّوا، قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ حَلَفَ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ، فَقَبِلَ الرَّسُولُ أَعْذَارَهُمْ وَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِالْحَقِّ ثَلَاثَةٌ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَهَلَكُوا جَمِيعًا بِآفَاتٍ، وَنَجَا الَّذِينَ صَدَقُوا. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ حَلَفُوا أن لا يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الدِّينِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ وَحَرْبٍ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَاللَّامُ فِي لِيُرْضُوكُمْ لَامُ كَيْ، وَأَخْطَأَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي أَنْ يُرْضُوهُ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَرْضِيٍّ وَاحِدٍ، إِذْ رِضَا اللَّهِ هُوَ رِضَا الرَّسُولِ، أَوْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ، حُذِفَتِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ

كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ حُذِفَتِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمَا عَائِدًا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَيْفَ تَقُولُ حُذِفَتِ الْأُولَى وَلَمْ تُحْذَفِ الْأُولَى؟ إِنَّمَا حُذِفَ خَبَرُهَا، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، فَلَا يَكُونُ جُمْلَةً إِلَّا بِاعْتِقَادِ كَوْنِ أن يرضوه مبتدأ وأحق الْمُتَقَدِّمُ خَبَرَهُ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الْقَوْلُ: إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُفْرَدًا بِأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَحَقُّ بِأَنْ يُرْضُوهُ. وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَاللَّهُ إِرْضَاؤُهُ أَحَقُّ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ

ص: 450

وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ. إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَزْعُمُونَ، فَأَحَقُّ مَنْ يُرْضُونَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم بِالطَّاعَةِ وَالْوِفَاقِ.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيْ أَلَمْ يَعْلَمِ الْمُنَافِقُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرَ. وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ فَهُوَ خِطَابُ تَعْظِيمٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّعَجُّبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا تَعْجَبَ مِنْ جَهْلِهِمْ فِي مُحَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ أَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ عليه السلام انْتَهَى.

وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلسَّامِعِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَلَمْ تَعْلَمْ، الْخِطَابُ لِمَنْ حَاوَلَ تَعْلِيمَ إِنْسَانٍ شَيْئًا مُدَّةً وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ فَلَمْ يَعْلَمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ بَعْدَ الْمَبَاحِثِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَالَ مُكْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، وَكَثُرَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّرْغِيبُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُحَادَّةُ الْمُخَالَفَةُ، حَادَدْتُهُ خَالَفْتُهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَدِّ أَيْ كَانَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ حَادَّةٍ كَقَوْلِكَ: شَاقَّهُ، كَانَ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:

الْمُحَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ، حَدِيدِ السِّلَاحِ. وَالْمُحَادَّةُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُخَالَفَةُ.

وَقِيلَ: الْمُحَارَبَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَانَدَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَادَاةُ. وَقِيلَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمُخَالَفَةِ.

وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَنَّ لَهُ بِالْفَتْحِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ. فَتَقْتَضِي جُمْلَةً وإنّ لَهُ مُفْرَدٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقَدَّمًا نَكِرَةً أَيْ:

فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: مُتَأَخِّرًا أَيْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَاجِبٌ، قَالَهُ: الْأَخْفَشُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَنَّ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو حَاتِمٍ الِابْتِدَاءَ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَالْأَخْفَشُ خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ. أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَنَّ لَهُ النَّارَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ:

وَقَالَ الْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرَّدُ: أَنَّ الثَّانِيَةُ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ، وَكَرَّرَ أَنَّ تَوْكِيدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَنَّ لَهُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّهُ، عَلَى أَنَّ جَوَابَ مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَهْلَكْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ انْتَهَى، فَيَكُونُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ، أو مضارعا مجزوما بلم، فَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ تَفْعَلْ، وَهُنَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ،

ص: 451

وَفِعْلُ الشَّرْطِ لَيْسَ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَلَا مُضَارِعًا مَقْرُونًا بلم، وَذَلِكَ إِنْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ فَمَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ. وَأَيْضًا فَتَجِدُ الْكَلَامَ تَامًّا دُونَ تَقْدِيرِ هَذَا الْجَوَابِ. وَنَقَلُوا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ أَنَّ بَدَلٌ مِنْ أَنَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ حَتَّى يُسْتَوْفَى.

وَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَأْتِ خَبَرُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتِمَّ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ هِيَ الْخَبَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاءَ مَانِعُ الْبَدَلِ وَأَيْضًا، فَهِيَ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَيَقْلَقُ الْبَدَلُ. وَإِذَا تُلُطِّفَ لِلْبَدَلِ فَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهَذَا يَعْنِي الْبَدَلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ الَّتِي مَعَهَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَعْلَهَا بَدَلًا يُوجِبُ سُقُوطَ جَوَابِ الْكَلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ أَيْ: فَلِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، فَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا يَتِمُّ بِهِ جَوَابُ الشَّرْطِ جُمْلَةً أَيْ:

فَمُحَادَّتُهُ لِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَإِنَّ لَهُ بِالْكَسْرِ فِي الْهَمْزَةِ حَكَاهَا عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَحْبُوبٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوِيٌّ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي الِاسْتِئْنَافَ، وَالْكَسْرُ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، بِخِلَافِ الْفَتْحِ. وَقَالَ الشَّاعِرِ:

فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي

وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ

وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي أَنَّ بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ وَجْهَانِ: الْفَتْحُ، وَالْكَسْرُ. ذَلِكَ لِأَنَّ كَيْنُونَةَ النَّارِ لَهُ خَالِدًا فِيهَا هُوَ الْهَوَانُ الْعَظِيمُ كَمَا قَالَ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1» .

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ:

كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَعِيبُونَ الرَّسُولَ وَيَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أن لا يُفْشِيَ سِرَّنَا فَنَزَلَتْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدِدْتُ أَنِّي جُلِدْتُ مِائَةً وَلَا يَنْزِلُ فِينَا شَيْءٌ يَفْضَحُنَا، فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَقَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِهِ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ:

أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَحُصُونُهَا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فأنزل الله قل استهزؤوا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْذَرُ خَبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ. فَقِيلَ: هُوَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَمَّا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَكْتُمُونَهُ، وَقَعَ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: كَانُوا يَعْرِفُونَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَفَرُوا حَسَدًا، وَاسْتَبْعَدَ الْقَاضِي فِي العالم بالله

(1) سورة آل عمران: 3/ 192. [.....]

ص: 452

وَرَسُولِهِ وَصِحَّةِ دِينِهِ أَنْ يَكُونَ مُحَادًّا لَهُمَا وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَحْكَمَ الْحَسَدُ نَازَعَ الْحَاسِدُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ حَذَرٌ أَظْهَرُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ حِينَ رَأَوُا الرَّسُولَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ وَأَنَّهَا عَنِ الْوَحْيِ وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ مُظْهِرٌ سِرَّهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُلْ استهزؤوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى التَّحَرُّزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُمْ عِنَادًا: هُوَ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ: لِيَحْذَرَ الْمُنَافِقُونَ، وَيُبْعِدُهُ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ، وأن تُنَزَّلَ مَفْعُولُ يَحْذَرُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ:

حَذَرَ أُمُورًا لَا تَضُرُّ وَآمَنَ

مَا لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنَ الْأَقْدَارِ

وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «1» لَمَّا كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، عَدَّاهُ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: حَذَرَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَيْئَاتِ الْأَنْفُسِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى مِثْلُ فَزَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ: أَلَا تَرَى أَنَّ خَافَ مِنْ هَيْئَاتِ النَّفْسِ وَتَتَعَدَّى؟ وَالظَّاهِرُ أن قوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أنّ فِيهِمَا عَائِدَانِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَجَاءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ السُّورَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي مَعْنَاهُمْ فَهِيَ نَازِلَةٌ عَلَيْهِمْ قَالَهُ: الْكَرْمَانِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا عَلَيْكَ لَا لَكَ.

وَمَعْنَى تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ: تُذِيعُ أَسْرَارَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوهَا مُذَاعَةً مُنْتَشِرَةً، فَكَأَنَّهَا تُخْبِرُهُمْ بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قُلُوبِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ، وَصَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَعُودُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِهْزَاءِ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «2» وَمَعْنَى مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ مُبْرِزٌ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ، مَا تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِنْزَالِ السُّورَةِ، أَوْ مُظْهِرٌ مَا كُنْتُمْ تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِظْهَارِ نِفَاقِكُمْ. وَفَعَلَ ذَلِكَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهِيَ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، لِأَنَّهَا فَضَحَتِ الْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَنْزَلَ اللَّهُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ وَنُسِخَ رَحْمَةً وَرَأْفَةً مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَبْنَاءَهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ: أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْقَبِيحِ فِي حَقِّكَ وَحَقِّ أَصْحَابِكَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ قُصُورَ الشَّامِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَأَنَّكُمْ غَدًا فِي الْجِبَالِ أَسْرَى لِبَنِي الْأَصْفَرِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَا رَأَيْتُ كَهَؤُلَاءِ لَا أَرْغَبَ بُطُونًا ولا أكثر

(1) سورة آل عمران: 3/ 28.

(2)

سورة فصلت: 41/ 40.

ص: 453

كَذِبًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَعَنَّفَهُمْ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ وَلَا أَمْرِ أَصْحَابِكَ، إِنَّمَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ، كُنَّا فِي غَيْرِ جِدٍّ. قل: أبا لله تَقْرِيرٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ، وَلَمْ يَعْبَأْ بِاعْتِذَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، فَجُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِاسْتِهْزَائِهِمْ وَبِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مِنْهُمْ، حَتَّى وُبِّخُوا بِأَخْطَائِهِمْ مَوْضِعَ الِاسْتِهْزَاءِ، حَيْثُ جُعِلَ الْمُسْتَهْزَأُ بِهِ عَلَى حَرْفِ التَّقْرِيرِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِهْزَاءِ وَثُبُوتِهِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَتَقْدِيمُ بِاللَّهِ وَهُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَعْنِي: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَةُ تَنْكُتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ يقول:«أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون؟»

وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ.

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: نُهُوا عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّهَا اعْتِذَارَاتٌ كَاذِبَةٌ فَهِيَ لَا تَنْفَعُ. قَدْ كَفَرْتُمْ أَظْهَرْتُمُ الْكُفْرَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أَيْ: بَعْدَ إِظْهَارِ إِيمَانِكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ فَأَظْهَرُوهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ، وَجَاءَ التَّقْسِيمُ بِالْعَفْوِ عَنْ طَائِفَةٍ، وَالتَّعْذِيبِ لِطَائِفَةٍ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ أُمِرَ بِجِهَادِهِمْ: «جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» «1» وَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُعْلِنُونَ بِالْأَرَاجِيفِ، فَعُذِّبُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْكِشَافِ مُعْظَمِ أَحْوَالِهِمْ. وَصِنْفٌ ضَعَفَةٌ مُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ، لَمْ يؤذوا الرسول فعفى عَنْهُمْ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْعَفْوُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهَا مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيُخْلِصُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَيُخْلِصُونَ الْإِيمَانَ، وَالْمُعَذَّبُونَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ مَخْشِيُّ بْنُ حمير بضم الخاء وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، كَانَ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا:«إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «2» وَقِيلَ: كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مُخْلِصًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ وَقَدْ كَانَ تَابَ، وَيُسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَدَعَا اللَّهُ أَنْ يستشهدوا وَيُجْهَلَ أَمْرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْيَمَامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَاصِمُ مِنَ السَّبْعَةِ: إِنْ نَعْفُ بِالنُّونِ، نُعَذِّبْ بِالنُّونِ طَائِفَةً. وَلَقِيَنِي شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَامِلُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحِّلِ

(1) سورة التوبة: 9/ 73.

(2)

سورة التوبة: 9/ 65.

ص: 454

الْمَالِقِيُّ بِغَرْنَاطَةَ فَسَأَلَنِي قِرَاءَةُ مَنْ تَقْرَأُ الْيَوْمَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الطباغ؟ فَقُلْتُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ، فَأَنْشَدَنِي:

لِعَاصِمٍ قِرَاءَةْ

لِغَيْرِهَا مُخَالِفَةْ

إن نعف عن طائفة

مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةْ

وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: أَنْ تَعْفُ تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: إِنْ يَعْفُ يُعَذِّبُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا، أَيْ: إِنْ يَعْفُ اللَّهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: إِنْ تُعْفَ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، تُعَذَّبْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِالتَّاءِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ تُعْفَ هَذِهِ الذُّنُوبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجْهُ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الظَّرْفُ كَمَا تَقُولُ: سِيَرَ بِالدَّابَّةِ، وَلَا تَقُولُ سِيرَتْ بِالدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تُرْحَمْ طَائِفَةٌ فَأَنَّثَ لِذَلِكَ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْجَيِّدُ قِرَاءَةُ العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طَائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ انْتَهَى.

مُجْرِمِينَ: مُصِرِّينَ عَلَى النِّفَاقِ غَيْرَ تَائِبِينَ.

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ «1» بَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالنِّفَاقِ، فَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيضِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَوَصَفَهُمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكِرِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْمَعَاصِي، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ قُدْرَةٍ وَلَا أَفْعَالٍ ظَاهِرَةٍ، وَذَلِكَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ. وَقَبْضُ الْأَيْدِي عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَنِ الْجِهَادِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنِ الرَّفْعِ فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ فِي النَّفَقَاتِ فِي الْمَبَارِّ وَالْوَاجِبَاتِ، وَالنِّسْيَانُ هُنَا التَّرْكُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرَكُوا طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَنَسِيَهُمْ، أَيْ: تَرَكَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَّا مِنَ الشَّرِّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَغْفَلُوا ذِكْرَهُ فَنَسِيَهُمْ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَيُعَبَّرُ بِالنِّسْيَانِ عَنِ التَّرْكِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالٍ. هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ: هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ التَّمَرُّدُ في

(1) سورة التوبة: 9/ 56.

ص: 455

الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَكَفَى الْمُسْلِمَ زَاجِرًا أَنْ يُلِمَّ بِمَا يُكْسِبُ هَذَا الِاسْمَ الْفَاحِشَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ: الْكُفَّارُ هُنَا الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ، وخالدين فِيهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْخُلُودَ لَمْ يُقَارِنِ الْوَعْدَ. وحسبهم كَافِيهُمْ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي عظم عَذَابِهِمْ، إِذْ عَذَابُهُمْ شَيْءٌ لا يزاد عليه، ولعنهم أَهَانَهُمْ مَعَ التَّعْذِيبِ وَجَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ مُلْحَقِينَ بِالشَّيَاطِينِ الْمَلَاعِينِ كَمَا عَظَّمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. مُقِيمٌ: مُؤَبَّدٌ لَا نَقْلَةَ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ مَعَهُمْ فِي الْعَاجِلِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ تَعَبِ النِّفَاقِ. وَالظَّاهِرُ الْمُخَالِفُ لِلْبَاطِنِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْذَرُونَهُ أَبَدًا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ إِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ أَيْ: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَعَدَ كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِوَعَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا قَلَقٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ التَّقْدِيرُ أَنْتُمْ كَالَّذِينَ. وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْخَوْضِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا أَشَدَّ، تَفْسِيرٌ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ، وَتَمْثِيلٌ لِفِعْلِهِمْ بِفِعْلِهِمْ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ أَيْ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ مُغْنٍ عَنْهُ، كَمَا أَغْنَى كَالَّذِي خَاضُوا؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ أَنْ قَدَّمَ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَرِضَاهُمْ بِهَا، وَالْتِهَائِهِمْ، فَشَبَّهُوا بِهِمُ الْفَانِيَةَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَطَلَبِ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُخَسَّسَ أَمْرُ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُهَجَّنَ أَمْرَ الرَّاضِي بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِهِمْ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى سَمَاجَةِ فِعْلِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَيُعَذِّبُ وَيَعْسِفُ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَأَمَّا وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ مُسْتَغْنٍ

ص: 456

بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَنْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ انْتَهَى. يَعْنِي: اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ، وَخَاضُوا فَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ وَأَعْظَمَ فَعَصَوْا فَهَلَكُوا، فَأَنْتُمْ أَحْرَى بِالْإِهْلَاكِ لِمَعْصِيَتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ وَالْمَعْنَى: عَجَّلُوا حَظَّهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَتَرَكُوا بَابَ الْآخِرَةِ، فَاتَّبَعْتُمُوهُمْ أَنْتُمْ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ تَشْبِيهَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ وَذَكَرَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ شِدَّةِ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَاسْتِمْتَاعِهِمْ بِمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْصِبَاءِ، شَبَّهَ اسْتِمْتَاعَ الْمُنَافِقِينَ بِاسْتِمْتَاعِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَبْرَزَهُمْ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ، وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ كَمَا اسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْقِيرِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَدُلُّ بِإِعَادَةِ الظَّاهِرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، كَذَلِكَ يَدُلُّ بِإِعَادَتِهِ عَلَى التَّحْقِيرِ وَالتَّصْغِيرِ لِشَأْنِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا «1» وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّهُ كَانَ، ولا أنهم هم. وخضتم: أَيْ دَخَلْتُمْ فِي اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْخَوْضِ فِي الْمَاءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْبَاطِلِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ، وَأُمُورُ الْبَاطِلِ إِنَّمَا هِيَ خَوْضٌ. وَمِنْهُ: رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَالَّذِي خَاضُوا: أَيْ كَالْخَوْضِ الَّذِي خَاضُوا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: كَالْخَوْضِ الَّذِينَ خَاضُوا. وَقِيلَ: النُّونُ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: كَالَّذِينَ خَاضُوا، أَيْ كَخَوْضِ الَّذِينَ. وَقِيلَ: الَّذِي مَعَ مَا بَعْدَهَا يُسْبَكُ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ أَيْ: كَخَوْضِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالشِّدَّةِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ يُحْبِطُ أَعْمَالَكُمْ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يُرِيدَ بِأُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيَا مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّعَبِ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ نَارٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا جزاء. ويقوي الإشارة بأولئك إِلَى الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَلَمْ يَأْتِهِمْ «3» فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، نَقِيضُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «4» .

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ:

لَمَّا شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ لَفْظُ الذين

(1) سورة مريم: 19/ 44.

(2)

سورة التوبة: 9/ 67.

(3)

سورة التوبة: 9/ 70.

(4)

سورة العنكبوت: 29/ 27.

ص: 457

مِنْ قَبْلِكُمْ فِيهِ إِبْهَامٌ، نَصَّ عَلَى طَوَائِفَ بِأَعْيَانِهَا سِتَّةٍ، لِأَنَّهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَنْبَائِهِمْ، وَكَانَتْ بِلَادُهُمْ قَرِيبَةً مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا أَكْثَرَ الْأُمَمِ عَدَدًا، وَأَنْبِيَاؤُهُمْ أَعْظَمَ الْأَنْبِيَاءِ:

نُوحٌ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَإِبْرَاهِيمُ الْأَبُ الْأَقْرَبُ لِلْعَرَبِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأُمَمِ مُقَارِبُونَ لَهُمْ فِي الشِّدَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. فَقَوْمُ نُوحٍ أُهْلِكُوا بِالْغَرَقِ، وَعَادٌ بِالرِّيحِ، وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ، حَتَّى سُلِّطَتِ الْبَعُوضَةُ عَلَى نَمْرُودَ مَلِكِهِمْ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِجَعْلِ أَعَالِي أَرْضِهَا أَسَافِلَ، وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ.

قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الِائْتِفَاكِ الِانْقِلَابُ، أَفَكْتُهُ فَائْتَفَكَ أَيْ قَلَبْتُهُ فَانْقَلَبَ.

وَالْمُؤْتَفِكَاتُ صِفَةٌ لِلْقُرَى الَّتِي ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا، فَجُعِلَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ: قَرْيَاتُ قَوْمِ لُوطٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ. وَائْتِفَاكُهُنَّ: انْقِلَابُ أَحْوَالِهِنَّ عَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ أَهْلُ الْقُرَى الْأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: التِّسْعَةُ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهِمْ لُوطٌ عليه السلام، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَمِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ:

لِمَنْطِقٍ مُسْتَبِينٍ غَيْرِ مُلْتَبِسٍ

بِهِ اللِّسَانُ وَرَأْيٍ غَيْرِ مُؤْتَفِكِ

أَيْ غَيْرِ مُنْقَلِبٍ مُتَصَرِّفٍ مُضْطَرِبٍ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرِّيحِ: مُؤْتَفِكَةٌ لِتَصَرُّفِهَا، وَمِنْهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «1» وَالْإِفْكُ صَرْفُ الْقَوْلِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْكَذِبِ انْتَهَى.

وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ، تَذْكِيرٌ بِأَنْبَاءِ الْمَاضِينَ وَتَخْوِيفٌ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمَمِ، وَقَدْ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي أَشْعَارِ جَاهِلِيَّتِهِمْ كَالْأَفْوَهِ الْأَزْدِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ وَتَفَاصِيلِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَمِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلنَّبَأِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ خَاصَّةً، وَأَتَى بِلَفْظِ رُسُلٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا دَاعِيًا، فَهُمْ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ أَيْ: أَتَاهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ. وَالْبَيِّنَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، وَهِيَ وَأَصْحَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَظْلِمَهُمْ لِيُهْلِكَهُمْ حَتَّى يبعث فيهم

(1) سورة المائدة: 5/ 75.

ص: 458

نَبِيًّا يُنْذِرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: فَمَا كَانَ اللَّهَ لِيَضَعَ عُقُوبَتَهُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا، إِذِ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ إِذْ عَصَوُا اللَّهَ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ حَتَّى أَسْخَطُوا رَبَّهُمْ وَاسْتَوْجَبُوا الْعُقُوبَةَ، فَظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لِيَظْلِمَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ، يَظْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ وَهُوَ حَكِيمٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقَبِيحُ، وَأَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ فَاسْتَحَقُّوا عِقَابَهُ انْتَهَى. وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقَوْلِهِ: فَمَا كَانَ كَلَامًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَكَذَّبُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَقَالَ فِي أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي هَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذْ لَا وِلَايَةَ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَفَاعَةَ لَهُمْ، وَلَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ هُنَا الْوِلَايَةَ فِي اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَ الْأَتْبَاعِ وَكُفْرَهُمْ حَصَلَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ، وَسَبَبِ مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ وَالْعَادَةِ. أَمَّا الْمُوَافَقَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ لَا بِسَبَبِ الْمَيْلِ وَالْعَادَةِ، بَلْ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ. وَلَمَّا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لَهُ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُمَيَّزُ بِهَا الْمُؤْمِنُ عَلَى الْمُنَافِقِ. فَالْمُنَافِقُ يَأْمُرُ بِالْمُنْكِرِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ وَلَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا وَهُوَ كَسْلَانُ، وَيَبْخَلُ بِالزَّكَاةِ، وَيَتَخَلَّفُ بِنَفْسِهِ عَنِ الْجِهَادِ، وَإِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَثَبَّطَ وَثَبَّطَ غَيْرَهُ. وَالْمُؤْمِنُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْجِهَادِ. وَهُوَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَهُوَ دُعَاءٌ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالشَّيَاطِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُونُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَدْحُ عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغُ، إِذْ مَنْ يُقِيمُ النَّوَافِلَ أَجْدَى بِإِقَامَةِ الْفُرُوضِ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ جَامِعٌ لِلْمَنْدُوبَاتِ انْتَهَى، سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

ص: 459

السِّينُ مُدْخِلَةٌ فِي الْوَعْدِ مُهْلَةً، لِتَكُونَ النُّفُوسُ تَتَنَعَّمُ بِرَجَائِهِ وَفَضْلِهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تؤكد الوعيد كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتُنِي وَإِنْ تَبَطَّأَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ «2» سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «3» انْتَهَى. وَفِيهِ دَفِينَةٌ خَفِيَّةٌ مِنَ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ:

السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثَابَةُ الطَّائِعِ، كَمَا تَجِبُ عُقُوبَةُ الْعَاصِي. وَلَيْسَ مَدْلُولُ السِّينِ تَوْكِيدُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عِبَارَةً عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَتَى بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْفِعْلِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَادِرٌ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ وَاضِعٌ كُلًّا مَوْضِعَهُ.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا أَعْقَبَ الْمُنَافِقِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ، أَعْقَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَعِيمِ الْجِنَانِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ «4» وَعْدًا إِجْمَالِيًّا فَصَّلَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ دُورُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقِيلَ: دُورٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالَيْنِ بِهَا. وَقِيلَ: قُصُورُ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ يَفُوحُ طِيبُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي أَمَاكِنِ إِقَامَتِهِمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا»

وَذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٍ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا مَا اخْتَلَطَ بِالْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَدْنٌ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ وَشَرْقُهَا، وَعَنْهُ: وَسَطُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، جِنَانُهُ عَلَى حَافِيَتِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، وَعِظَمُهَا فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ، وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ في الجن لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أو حكم عدل، ومدتها صَوْتَهُ. وَعَنْهُ: قُصُورٌ مِنَ اللؤلؤ والياقوت الأحمر

(1) سورة مريم: 19/ 96.

(2)

سورة الضحى: 93/ 5.

(3)

سورة النساء: 4/ 152.

(4)

سورة التوبة: 9/ 71. [.....]

ص: 460

وَالزَّبَرْجَدِ.

وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَدْنٌ دَارُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَسْكُنْهَا غَيْرُ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيُّونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ»

وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو: قَصْرٌ حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خِيرَةٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: قَصَّتُهُ الْجَنَّةُ فِيهَا نَهْرٌ عَلَى حَافَّتَيْهِ بَسَاتِينُ. وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ، وَفِيهِ قُصُورُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ، وَالْأَرَائِكُ عَلَيْهَا الْخَيِّرَاتُ الْحِسَانُ، سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ لَا يَنْزِلُهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، يَفُوحُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنِ السَّلَفِ كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، إِذْ وَعَدَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ الذِّكْرِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَدْنًا عَلَمٌ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهَا وُصِفَ بالتي وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ جَنَّاتُ مُضَافَةً لِمَعْرِفَةٍ لَمْ تُوصَفْ بِالْمَعْرِفَةِ وَلَا يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي: أَوْ أَمْدَحُ، أَوْ بَدَلًا مِنْ جَنَّاتُ.

وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: الْجَنَّةَ لِلْفَصْلِ بِالْبَدَلِ الَّذِي هُوَ جَنَّاتٍ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ النَّعْتُ وَالْبَدَلُ قُدِّمَ النَّعْتُ، وَجِيءَ بَعْدَهُ بِالْبَدَلِ.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَرِضْوَانٌ: بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَرِضْوَانٌ مُبْتَدَأٌ.

وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، وَأَتَى بِهِ نَكِرَةً لِيَدُلَّ عَلَى مُطْلَقٍ أَيْ: وَشَيْءٌ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ. وَالْعَبْدُ إِذَا عَلِمَ بِرِضَا مَوْلَاهُ عَنْهُ كَانَ أَكْبَرَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ النَّعِيمِ، وَإِنَّمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ النَّعِيمُ بِعِلْمِهِ بِرِضَاهُ عَنْهُ. كَمَا أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِسُخْطِهِ تَنَغَّصَتْ حَالُهُ، وَلَمْ يَجِدْ لَهَا لَذَّةً. وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُوَافِقٌ لِمَا

رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي الْجَنَّةِ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا»

وَقَالَ الْحَسَنُ: وَصَلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ وَأَقَرُّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَصَابُوهُ مِنْ لَذَّةِ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ورضوان

(1) سورة مريم: 19/ 61.

ص: 461