المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٥

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الأعراف

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 27]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 28]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 54]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 85]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 الى 87]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 116]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 139]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 140 الى 143]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 154]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 163]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 الى 170]

- ‌[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 187]

- ‌[سورة الأعراف (7) : آية 188]

- ‌[سُورَةُ الأعراف (7) : الآيات 189 الى 206]

- ‌سورة الأنفال

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 38]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 الى 69]

- ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 72]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 73]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 74]

- ‌[سورة الأنفال (8) : آية 75]

- ‌سورة التّوبة

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 60]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 72]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 92]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 121]

- ‌[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129]

الفصل: ‌[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

وَهَذَا وَعْدٌ صَرِيحٌ بِالظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَالْأَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ أَنْ يَكُونَ مَوْلاكُمْ خَبَرَ إِنْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرَ إِنَّ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيِ اللَّهُ أَوْ هُوَ وَالْمَعْنَى فَثِقُوا بِمُوَالَاتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ وَقاتِلُوهُمْ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ أَصْنَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ وَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ سَائِرُ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِهِمْ بِالذِّمَّةِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ إقرارها بالجزية.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 67]

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)

الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)

الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

ص: 320

الْقُصُوُّ الْبُعْدُ وَالْقُصْوَى تَأْنِيثُ الْأَقْصَى وَمُعْظَمُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ فَصَّلُوا فِي الْفُعْلَى مِمَّا لَامُهُ وَاوٌ فَقَالُوا إِنْ كَانَ اسْمًا أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ يُمَثِّلُونَ بِمَا هُوَ صِفَةٌ نَحْوُ الدُّنْيَا وَالْعُلْيَا وَالْقُصْيَا وَإِنْ كَانَ صِفَةً أُقِرَّتْ نَحْوُ الْحُلْوَى تَأْنِيثُ الْأَحْلَى، وَلِهَذَا قَالُوا شَذَّ الْقُصْوَى بِالْوَاوِ وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْقُصْيَا لُغَةُ تَمِيمٍ وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ اسْمًا أُقِرَّتِ الْوَاوُ نَحْوُ حُزْوَى وَإِنْ كَانَ صِفَةً أُبْدِلَتْ نَحْوُ الدُّنْيَا وَالْعُلْيَا وَشَذَّ إِقْرَارُهَا نَحْوُ الْحُلْوَى وَنَصَّ عَلَى نُدُورِ الْقُصْوَى ابْنُ السِّكِّيتِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَأَمَّا الْقُصْوَى فَكَالْقَوَدِ فِي مَجِيئِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَقَدْ جَاءَ الْقُصْيَا إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُصْوَى أَكْثَرُ مِمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اسْتَصْوَبَ مَعَ مَجِيءِ اسْتَصَابَ وَأُغِيلَتْ مَعَ أَغَالَتْ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، الْبَطَرُ قَالَ الْهَرَوِيُّ:

الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سُوءُ احْتِمَالِ الْغَيِّ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْحَيْرَةُ عِنْدَ الْحَقِّ فَلَا يَرَاهُ حَقًّا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَتَكَبَّرُ عِنْدَ الْحَقِّ فَلَا يَقْبَلُهُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ ذَهَبَ دَمُهُ بَطَرًا أَيْ بَاطِلًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْبَطَرُ الْأَشَرُ وَغَمْطُ النِّعْمَةِ وَالشُّغُلُ بِالْمَرَحِ فِيهَا عَنْ شُكْرِهَا، نَكَصَ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: رَجَعَ الْقَهْقَرَى هَارِبًا، وَقَالَ غَيْرُهُ:

هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ جَاءَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ الْبِيضِ إِذْ لَحِقُوا

لَا يَنْكُصُونَ إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا

وَيُقَالُ أَرَادَ أَمْرًا ثُمَّ نَكَصَ عَنْهُ. وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:

لَيْسَ النُّكُوصُ عَلَى الْأَدْبَارِ مَكْرُمَةً

إِنَّ الْمَكَارِمَ إِقْدَامٌ عَلَى الْأَسَلِ

لَيْسَ هُنَا قَهْقَرَى بَلْ هُوَ فِرَارٌ، وَقَالَ مُؤَرِّجٌ: نَكَصَ رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ. شَرَّدَ فَرَّقَ وَطَرَّدَ وَالْمُشَرَّدُ الْمُفَرَّقُ الْمُبْعَدُ وَأَمَّا شَرَّذَ بِالذَّالِ فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ

ص: 322

بِالذَّالِ، التَّحْرِيضُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ وَحَرَّكَهُ وَحَرَّسَهُ وَحَرَّضَهُ بِمَعْنًى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْحَرَضِ وَهُوَ أَنْ يُنْهِكَهُ الْمَرَضُ وَيَتَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى يُشْفِيَ عَلَى الْمَوْتِ أَوْ أَنْ يُسَمِّيَهُ حَرَضًا وَيَقُولَ لَهُ مَا أَزَالُ إِلَّا حَرِضًا فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمُمَرَّضًا فِيهِ لِيُهَيِّجَهُ وَيُحَرِّكَهُ مِنْهُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:

الْمَعْنَى حَرِّضْ عَلَى الْقِتَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ فِيمَنْ تَرَكَهُ إِنَّهُ حَارِضٌ، قَالَ النَّقَّاشُ: وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُلْتَئِمٍ وَلَا لَازِمٍ مِنَ اللَّفْظِ وَنَحَا إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَالْحَارِضُ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ مِنَ الْهَلَاكِ لَفْظَةٌ مُبَايِنَةٌ لِهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَاتُ أَثْبَتَتْهُ حَتَّى تَثْقُلَ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ أَثْقَلَهُ مِنَ الثَّخَانَةِ الَّتِي هِيَ الْغِلَظُ وَالْكَثَافَةُ وَالْإِثْخَانُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نزلت بدر، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْخُمُسُ فِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ اقْتَضَى ذَلِكَ وَقَائِعَ وَحُرُوبًا فَذَكَرَ بَعْضَ أَحْكَامِ الْغَنَائِمِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَبْشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِغَلَبَتِهِمْ لِلْكُفَّارِ وَقَسْمُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُمْ مَنَ الْغَنَائِمِ، وَالْخِطَابُ فِي وَاعْلَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْغَنِيمَةُ عُرْفًا مَا يَنَالُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ بِسَعْيٍ وَأَصْلُهُ الْفَوْزُ بِالشَّيْءِ يُقَالُ غَنِمَ غَنْمًا. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى

رَضِيتُ من الغنم بالإياب

وقال الآخر:

ويوم الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ

أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ

وَالْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَبَايِنَانِ قَوْلَانِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ الْفَيْءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا غُنِمَ يُخَمَّسُ كَائِنًا مَا كَانَ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لِمَنْ ذَكَرَ اللَّهُ فَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ يُصْرَفُ فِي الطَّاعَاتِ كَالصَّدَقَةِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَةِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَالَ بِذَلِكَ فِرْقَةٌ وَأَنَّهُ كَانَ الْخُمُسُ يُقَسَّمُ عَلَى سِتَّةٍ فَمَا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ قُسِّمَ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ سَهْمُ اللَّهِ يُصْرَفُ إِلَى رِتَاجِ الْكَعْبَةِ

وَعَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ قَبْضَةً فَيَجْعَلُهَا لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةٍ، وَقِيلَ سَهْمُ اللَّهِ لِبَيْتِ الْمَالِ

، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ قَوْلُهُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقَكَ اللَّهُ وَأَعْتَقْتُكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَالدُّنْيَا، كُلُّهَا لِلَّهِ وَقِسْمُ اللَّهِ وَقِسْمُ

ص: 323

الرَّسُولِ وَاحِدٌ

وَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ احْتِمَالًا

، فَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وَأَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَيْ مِنْ حَقِّ الْخُمُسِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَرَّبًا بِهِ إِلَيْهِ لَا غَيْرُ ثُمَّ خَصَّ مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ هَذِهِ الْخَمْسَةَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ لِلَّهِ وَلَا لِلرَّسُولِ شَيْءٌ وَسَهْمُهُ لِقَرَابَتِهِ يُقْسَمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ،

وَقَالَ عَلِيٌّ يَلِي الْإِمَامُ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عليه السلام غَيْرُ سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ مَخْصُوصًا عليه السلام مِنَ الْغَنِيمَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، كَانَ لَهُ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَكَانَ لَهُ سَهْمُ رَجُلٍ فِي سَائِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَكَانَ لَهُ صَفِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ دَابَّةً أَوْ سَيْفًا أَوْ جَارِيَةً وَلَا صَفِيَّ بَعْدَهُ لا حد بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَنَّ الصَّفِيَّ إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَعْدُودٌ فِي شَوَاذِّ الْأَقْوَالِ انْتَهَى، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يُورَثِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَسَقَطَ سَهْمُهُ، وَقِيلَ سَهْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى قَرَابَتِهِ وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ لِقَرَابَةِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ جُعِلَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ انْتَهَى.

وَذَوُو الْقُرْبَى مَعْنَاهُ قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالظَّاهِرُ عُمُومُ قُرْبَاهُ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: قُرَيْشٌ كُلُّهَا بِأَسْرِهَا ذَوُو قُرْبَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ،

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ

، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ آلُ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ فجعل له خُمُسُ الْخُمُسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا وَقَالُوا قُرَيْشٌ كُلُّهَا قُرْبَى وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ هَذَا السَّهْمِ لِذَوِي الْقُرْبَى وَأَنَّهُ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ عَلَى سِتَّةٍ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سَهْمَانِ وَسَهْمٌ لِأَقَارِبِهِ حَتَّى قُبِضَ فَأَجْرَى أَبُو بَكْرٍ الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عن عمرو من بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَنَعَ بَنِي هَاشِمٍ الْخُمُسَ وَقَالَ إِنَّمَا لَكُمْ أَنْ يُعْطَى فَقِيرُكُمْ وَيُزَوَّجَ أَيِّمُكُمْ وَيُخْدَمَ مَنْ لَا خَادِمَ لَهُ مِنْكُمْ وَإِنَّمَا الْغَنِيُّ مِنْكُمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْغَنِيُّ لَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا وَلَا يَتِيمٌ مُوسِرٌ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ: ليس

(1) سورة التوبة: 9/ 62.

(2)

سورة البقرة: 2/ 98.

ص: 324

لَنَا أَنْ نَبْنِيَ مِنْهُ قُصُورًا وَلَا أَنْ نَرْكَبَ مِنْهُ الْبَرَاذِينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ عَامٌّ فِي يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ وَابْنُ السَّبِيلِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: الْخُمُسُ كُلُّهُ لِلْقَرَابَةِ،

وَقِيلَ لِعَلِيٍّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فَقَالَ: أَيْتَامُنَا وَمَسَاكِينُنَا

،

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وعبد اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْآيَةُ كُلُّهَا فِي قُرَيْشٍ وَمَسَاكِينِهَا

وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فَلَا يُحْرَمُ أَحَدٌ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ أَهْلَ الْحَاجَةِ لَكِنْ لَا يَحْرِمُ صِنْفًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَحْوَجَ وَيَحْرِمَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَافِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَنْ يَصْرِفُ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ لِمَنْ لَمْ يَغْنَمْ فَلَوْ لَحِقَ مَدَدٌ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ حَوْزِ الْغَنِيمَةِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِيهَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ والشافعي، لا يشاركونهم والظهر أَنَّ مَنْ غَنِمَ شَيْئًا خَمَّسَ مَا غَنِمَ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يُخَمِّسُ وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنْ شَاءَ الْإِمَامُ عَاقَبَهُ وَحَرَمَهُ وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَ وَالْبَاقِي لَهُ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ غَنِمْتُمْ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُسْهَمُ لِكَافِرٍ حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاتَلَ وَيَنْدَرِجُ فِي الْخِطَابِ الْعَبِيدُ الْمُسْلِمُونَ فَمَا يَخُصُّهُمْ لِسَادَاتِهِمْ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِذَا اسْتُعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ يُسْهَمُ لَهُمْ، وَقَالَ أَشْهَبُ إِذَا خَرَجَ الْمُقَيَّدُ وَالذِّمِّيُّ مِنَ الْجَيْشِ وَغَنِمَا فَالْغَنِيمَةُ لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُغْنَمُ مِنْ حَيَوَانٍ وَمَتَاعٍ وَمَعْدِنٍ وَأَرْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُخَمَّسُ جَمِيعُ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَّا الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ، فَقَالَ الْإِمَامُ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ يَسْبِيَ وَمَنْ سُبِيَ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قِسْمَةَ الْأَرْضِ كَانَ صَوَابًا أَوْ إِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إِلَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا لَمْ يَقْسِمْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ مِنَ الْغَنِيمَةِ غَيْرَ الْخُمُسِ فَسَلَبُ الْمَقْتُولِ غَنِيمَةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَمِيرُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَسِيرًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ شَيْخًا أَوْ ذفف على جريج أَوْ قَتَلَ مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلُهُ أَوْ مُنْهَزِمًا لَا يَمْنَعُ فِي انْهِزَامِهِ كَالْمَكْتُوفِ لَيْسَ لَهُ سَلَبُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالْخِلَافُ هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُقْبِلًا عَلَى الْمَقْتُولِ وَفِي مَعْرَكَةٍ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي كُتُبِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِي كُتُبِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ.

ص: 325

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي وَهِيَ اسْمُ أَنَّ وَكُتِبَتْ أَنَّ مُتَّصِلَةً بِمَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً كَمَا كَتَبُوا إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ «1» مَفْصُولَةً وَخَبَرُ أَنَّ هُوَ قَوْلُهُ: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَأَنَّ لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَالْحُكْمُ أَنَّ لِلَّهِ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأَنَّ، كَمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ أَنْ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «2» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

فَأَنَّ لِلَّهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ حَقٌّ أَوْ فَوَاجِبٌ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ انْتَهَى، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَوْ فَوَاجِبٌ أَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ تَكُونُ أَنْ وَمَعْمُولَاهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فَوَاجِبٌ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِغَنِمْتُمْ وَاسْمُ أَنَّ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَحَذْفُ هَذَا الضَّمِيرِ مَعَ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ مَخْصُوصٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِالشِّعْرِ.

وَرَوَى الْجُعْفِيُّ عَنْ هَارُونُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو فَأَنَّ لِلَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَحَكَاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قِرَاءَةُ النَّخَعِيِّ فَلِلَّهِ خُمُسَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: خُمُسَهُ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ خُمُسَهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ يَعْنِي إِتْبَاعَ حَرَكَةِ الْخَاءِ لِحَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ «3» بِكَسْرِ الْحَاءِ إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ التَّاءِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّاكِنِ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ غَيْرُ حَصِينٍ، وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا التَّرْكِيبِ كَيْفَ أَفْرَدَ كَيْنُونَةَ الْخُمُسِ لِلَّهِ وَفَصَلَ بَيْنَ اسْمِهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَعَاطِيفِ بِقَوْلِهِ خُمُسَهُ لِيَظْهَرَ اسْتِبْدَادُهُ تَعَالَى بِكَيْنُونَةِ الْخُمُسِ لَهُ ثُمَّ أَشْرَكَ الْمَعَاطِيفَ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ خُمُسَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْخُمُسَ مِنَ الْغَنِيمَةِ يَجِبُ التَّقَرُّبُ بِهِ وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بَلِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بمقتضاه ولذلك قدّره بَعْضُهُمْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَاقْبَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي الْغَنَائِمِ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ مُتَعَلِّقٌ مَعْنَاهُ بِقَوْلِهِ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وَالتَّقْدِيرُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ وَما أَنْزَلْنا مَعْطُوفٌ عَلَى بِاللَّهِ.

ويَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمُ بَدْرٍ بِلَا خِلَافٍ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ والْجَمْعانِ جَمْعُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمْعُ الْكَافِرِينَ قُتِلَ فِيهَا صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمِقْسَمٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَكَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ هذا قول

(1) سورة الأنعام: 6/ 134. [.....]

(2)

سورة البروج: 85/ 10.

(3)

سورة الذاريات: 51/ 7.

ص: 326

الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ لِتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْمُنْزَلُ: الْآيَاتُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّصْرُ وَخَتَمَ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَدَالَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عُبُدِنَا بِضَمَّتَيْنِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «1» بِضَمَّتَيْنِ فَعَلَى عَبْدِنا هُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وعَلى عَبْدِنا هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ مَعَهُ مَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَانْتِصَابُ يَوْمَ الْفُرْقانِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ وَما أَنْزَلْنا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ ينتصب ب غَنِمْتُمْ أَيْ أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَأَنَّ خُمُسَهُ لِكَذَا وَكَذَا، أَيْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أَيْ فَانْقَادُوا لِذَلِكَ وَسَلِّمُوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ فِي الْمَعْنَى وَيَعْتَرِضُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الظَّرْفِ وَبَيْنَ مَا تعلقه بِهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَلَامِ انْتَهَى، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ مَا شَرْطِيَّةً عَلَى تَخْرِيجِ الْفَرَّاءِ لَزِمَ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ وَمَعْمُولِهِ بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ فِعْلِ الصِّلَةِ وَمَعْمُولِهِ بِخَبَرِ أَنَّ.

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الْعُدْوَةُ شَطُّ الْوَادِي وَتُسَمِّي شَفِيرًا وَضَفَّةً سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَدَتْ مَا فِي الْوَادِي مِنْ مَاءٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ أَيْ مَنَعَتْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِهَا الْعَوَادِي

وَقَالَتْ دُونَهَا حَرْبٌ زَبُونُ

وَتَسَمَّى الْفَضَاءُ الْمُسَايِرُ لِلْوَادِي عُدْوَةً لِلْمُجَاوَرَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْعُدْوَةِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِالْفَتْحِ وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرٍو الضَّمَّ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا الْكَسْرُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الضَّمُّ أَكْثَرُهُمَا، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ الْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ انْتَهَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثُ لُغًى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ مَصْدَرًا سُمِّيَ بِهِ وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ بَيْتُ أَوْسٍ:

وَفَارِسُ لَمْ يَحِلَّ الْيَوْمَ عدوته

ولو إسراعا وما هموا بإقبال

وقرىء بالعدية بقلب الواو لِكَسْرَةِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالسَّاكِنِ لِأَنَّهُ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي صِبْيَةٍ وَقِنْيَةٍ وَدِنْيَا مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ ابْنُ عَمِّي دِنْيَا وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّصْحِيحُ كَالصِّفْوَةِ وَالذِّرْوَةِ وَالرِّبْوَةِ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْعُدْوَةِ الْعُلْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ السُّفْلَى وَوَادِي بَدْرٍ آخِذِينَ الشَّرْقَ وَالْقِبْلَةَ مُنْحَرِفٌ إِلَى الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الصُّقْعِ

(1) سورة المائدة: 5/ 60.

ص: 327

وَالْمَدِينَةُ مِنَ الْوَادِي مِنْ مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ مِنْهُ فِي الشَّرْقِ وَبَيْنَهُمَا مَرْحَلَتَانِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُصْيَا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْقِيَاسُ وَذَلِكَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَهُمْ وَالرَّكْبُ مَعْطُوفَانِ عَلَى أَنْتُمْ فَهِيَ مُبْتَدَآتُ تَقْسِيمٍ لِحَالِهِمْ وَحَالِ أَعْدَائِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوَانِ فِيهِمَا وَاوَيِ الْحَالِ وَأَسْفَلَ ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أَسْفَلُ بِالرَّفْعِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفِ فَجَعَلَهُ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ مَجَازًا وَالرَّكْبُ هُمُ الْأَرْبَعُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُودُونَ الْعِيرَ عِيرَ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ الْإِبِلُ الَّتِي كَانَتْ تَحْمِلُ أَزْوَادَ الْكُفَّارِ وَأَمْتِعَتَهُمْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ عَلَيْهَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا فَائِدَةُ هَذَا التَّوْقِيتِ وَذِكْرِ مَرَاكِزِ الْفَرِيقَيْنِ وَأَنَّ الْعِيرَ كَانَتْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ (قُلْتُ) : الْفَائِدَةُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُوَّةِ شَأْنِ الْعَدُوِّ وَشَوْكَتِهِ وَتَكَامُلِ عِدَّتِهِ وَتَمَهُّدِ أَسْبَابِ الْغَلَبَةِ لَهُ وَضَعْفِ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَشَتَاتِ أَمْرِهِمْ وَأَنَّ غَلَبَتَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَتْ إِلَّا صُنْعًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ إِلَّا بِحَوْلِهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَبَاهِرِ قُدْرَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُدْوَةَ الْقُصْوَى الَّتِي أَنَاخَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ كَانَ فِيهَا الْمَاءُ وَكَانَتْ أَرْضًا لَا بَأْسَ بِهَا وَلَا مَاءَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهِيَ خَبَارٌ تَسُوخُ فِيهَا الْأَرْجُلُ وَلَا يُمْشَى فِيهَا إِلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ وَكَانَتِ الْعِيرُ وَرَاءَ ظُهُورِ الْعَدُوِّ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَكَانَتِ الْحِمَايَةُ دُونَهَا تُضَاعِفُ حَمِيَّتَهُمْ وَتَشْحَذُ فِي الْمُقَاتَلَةِ عَنْهَا نِيَّاتِهِمْ وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْرُجُ إِلَى الْحَرْبِ بِظَعْنِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيَبْعَثَهُمُ الذَّبُّ عَنِ الْحُرُمِ وَالْغَيْرَةُ عَلَى الْحُرُمِ عَلَى بَذْلِ تَجْهِيدَاتِهِمْ فِي الْقِتَالِ أَنْ لَا يَتْرُكُوا وَرَاءَهُمْ مَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالِانْحِيَازِ إِلَيْهِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ قُلُوبَهُمْ وَيَضْبِطُ هِمَمَهُمْ وَيُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَوَاطِئَهُمْ وَلَا يخلو مَرَاكِزَهُمْ وَيَبْذُلُوا مُنْتَهَى نَجْدَتِهِمْ وَقُصَارَى شِدَّتِهِمْ وَفِيهِ تَصْوِيرُ مَا دَبَّرَ سُبْحَانَهُ مِنْ أَمْرِ وَقْعَةِ بَدْرٍ انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ الرَّكْبُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ نَكَبَ عَنْ بَدْرٍ حِينَ نَدَرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْذَ سَيْفَ الْبَحْرِ فَهُوَ أَسْفَلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي مِنْ حَيْثُ يَأْتِي.

وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَانَ الِالْتِقَاءُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الشَّامِ تُجَّارًا لَمْ يَشْعُرُوا بِأَصْحَابِ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْعُرْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَلَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ حَتَّى الْتَقَوْا عَلَى مَاءِ بَدْرٍ لِلسَّقْيِ كُلُّهُمْ فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَهُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَأَسَرُوهُمْ، قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى لَوْ تَواعَدْتُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ عَلِمْتُمْ كَثْرَتَهُمْ وَقِلَّتَكُمْ لَخَالَفْتُمْ وَلَمْ

ص: 328

تَجْتَمِعُوا مَعَهُمْ وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَتَوَاضَعْتُمْ بَيْنَكُمْ عَلَى مَوْعِدٍ تَلْتَقُونَ فِيهِ لِلْقِتَالِ لَخَافَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَثَبَّطَكُمْ قِلَّتُكُمْ وَكَثْرَتُهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْمَوْعِدِ وَثَبَّطَهُمْ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ تَهَيُّبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَكُمْ مِنَ التَّلَاقِي مَا وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَبَّبَهُ لَهُ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْمَعْنَى لَاخْتَلَفْتُمْ بِالْقَوَاطِعِ وَالْعَوَارِضِ الْقَاطِعَةِ بِالنَّاسِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَنْبَلُ يَعْنِي مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ وَأَصَحُّ وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الآية تبين نِعْمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ وَتَيْسِيرِهِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْمَعْنَى إِذْ هَيَّأَ اللَّهُ لَكُمْ هَذِهِ الْحَالَ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَهَا لَاخْتَلَفْتُمْ إِلَّا مَعَ تَيْسِيرِ اللَّهِ الَّذِي تَمَّمَ ذَلِكَ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ فِي أَمْرٍ شَاءَهُ اللَّهُ دُونَ تَعَبٍ كَثِيرٍ لو ثبنا عَلَى هَذَا وَسَعَيْنَا فِيهِ لَمْ يَتِمَّ هَكَذَا انْتَهَى، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ لِلْقِتَالِ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أَيْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَ مُوَاعَدَتَكُمْ طَلَبًا لغرتكم والجيلة عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ الْمَعْنَى وَلَوْ تَواعَدْتُمْ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ اللَّهِ أَمْرَ الْحَرْبِ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً مِنْ نَصْرِ دِينِهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ وَكَسْرِ الْكُفَّارِ وَإِذْلَالِهِمْ كَانَ مَفْعُولًا أَيْ مَوْجُودًا مُتَحَقِّقًا وَاقِعًا وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ مَفْعُولًا لِتَحَقُّقِ كَوْنِهِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَقْضِيَ أَمْرًا قَدْ قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ مَفْعُولًا لَكُمْ بِشَرْطِ وُجُودِكُمْ فِي وَقْتِ وُجُودِكُمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ وَاجِبًا أَنْ يُفْعَلَ وَهُوَ نَصْرُ أَوْلِيَائِهِ وَقَهْرُ أَعْدَائِهِ دَبَّرَ ذَلِكَ، وَقِيلَ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ لِيَهْلِكَ بَدَلٌ مِنْ لِيَقْضِيَ فَيَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لِيَقْضِيَ، وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مَفْعُولًا، وَقِيلَ الْأَصْلُ ولِيَهْلِكَ فَحَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى لِيُقْتَلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَيَانٍ مِنَ اللَّهِ وَإِعْذَارٍ بِالرِّسَالَةِ وَيَعِيشَ مَنْ عَاشَ عَنْ بَيَانٍ مِنْهُ وَإِعْذَارٍ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: لِيَكْفُرَ وَيُؤْمِنَ فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قِصَّةَ بَدْرٍ عِبْرَةً وَآيَةً لِيُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ عَنْ وُضُوحٍ وَبَيَانٍ وَيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: لِيَهْلِكَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مَنْ حَيِيَ بِالْفَكِّ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْإِدْغَامِ وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ:

فَهَذَا أَوَانُ الْعَرْضِ حَيٌّ ذُبَابُهُ وَالْفَكُّ وَالْإِدْغَامِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمَانِ النُّطْقَ اللِّسَانِيَّ وَالِاعْتِقَادَ الْجِنَانِيَّ فَهُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِكُمْ.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ

ص: 329

اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ

الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهَا رُؤْيَا مَنَامٍ رَأَى الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْكُفَّارَ قَلِيلًا فَأَخْبَرَ بِهَا أَصْحَابَهُ فَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَجُعَتْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ حِينَ انْتَبَهَ:«أَبْشِرُوا لَقَدْ نَظَرْتُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»

وَالْمُرَادُ بِالْقِلَّةِ هُنَا قِلَّةُ الْقَدْرِ وَالْيَأْسُ وَالنَّجْدَةُ وَأَنَّهُمْ مَهْزُومُونَ مَصْرُوعُونَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى قِلَّةِ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَاهُ حَقٌّ وَقَدْ كَانَ عَلِمَ أَنَّهُمْ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ الْعَدَدِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ مَعْنَى فِي مَنامِكَ فِي عَيْنِكَ لِأَنَّهَا مَكَانُ النَّوْمِ كَمَا قِيلَ لِلْقَطِيفَةِ الْمَنَامَةُ لِأَنَّهُ يُنَامُ فِيهَا فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ النَّقَّاشُ وَذَكَرَهُ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ضَعِيفٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهَذَا تَفْسِيرٌ فِيهِ تَعَسُّفٌ وَمَا أَحْسَبُ الرِّوَايَةَ فِيهِ صَحِيحَةً عَنِ الْحَسَنِ وَمَا يُلَائَمُ عِلْمُهُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَفَصَاحَتِهِ وَالْمَعْنَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ فِي مَنَامِكَ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أَيْ لَخِرْتُمْ وَجَبُنْتُمْ عَنِ اللِّقَاءِ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَفَرَّقَتْ آرَاؤُكُمْ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ فَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْهِزَامِكُمْ وَعَدَمِ إِقْدَامِكُمْ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِكُمْ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهُمْ كَثِيرًا أَخْبَرَكُمْ بِرُؤْيَاهُ فَفَشِلْتُمْ وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ عليه السلام مَحْمِيًّا مِنَ الْفَشَلِ مَعْصُومًا مِنَ النَّقَائِصِ أَسْنَدَ الْفَشَلَ إِلَى مَنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ تَعَالَى لَفَشِلْتُمْ وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ بِإِرَايَتِهِ لَهُ صلى الله عليه وسلم الْكُفَّارَ قَلِيلًا فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ فِيهَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْجُبْنِ وَالصَّبْرِ وَالْجَزَعِ وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ وَانْتَصَبَ قَلِيلًا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْحَالِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ أَرَى مَنْقُولَةٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ رَأَى الْبَصَرِيَّةِ فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ الْأَوَّلُ كَافُ خِطَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالثَّانِي ضَمِيرُ الْكُفَّارِ فَقَلِيلًا وَكَثِيرًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ أَرَى الْحُلْمِيَّةَ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ كَأَعْلَمَ وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فَانْتِصَابُ قَلِيلًا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَالِثٌ وَجَوَازُ حَذْفِ هَذَا الْمَنْصُوبِ اقْتِصَارًا يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ. تَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا فِي النَّوْمِ وَأَرَانِي اللَّهُ زَيْدًا فِي النوم.

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ يَقَظَةٌ لَا مَنَامٌ وَقَلَّلَ الْكُفَّارَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَلِئَلَّا يَجْبُنُوا عَنْ لِقَائِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ، قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً وَهَذَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَا أُعْلِمَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدَدِهِمْ وَقُلِّلَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ:

ص: 330

إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ وَذَلِكَ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ وَذَلِكَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَتَقَعَ الْحَرْبُ وَيَلْتَحِمَ الْقِتَالُ، إِذْ لَوْ كَثُرُوا قَبْلَ اللِّقَاءِ لَأَحْجَمُوا وَتَحَيَّلُوا فِي الْخَلَاصِ أَوِ اسْتَعَدُّوا وَاسْتَنْصَرُوا وَلَمَّا الْتَحَمَ الْقِتَالُ كَثَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَبُهِتُوا وَهَابُوا وَفَلَّتْ شَوْكَتُهُمْ وَرَأَوْا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ كَمَا قَالَ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ «1» وَعِظَمُ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمُ اسْتِيضَاحُ الْآيَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ قِلَّتِهِمْ أَوَّلًا وَكَثْرَتِهِمْ آخِرًا وَرُؤْيَةُ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ يَكُونُ بِأَنْ سَتَرَ اللَّهُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ أَوْ بِأَنْ أَحْدَثَ فِي أَعْيُنِهِمْ مَا يَسْتَقِلُّونَ بِهِ الْكَثِيرَ هَذَا إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةً وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى التَّخْمِينِ وَالْحَذَرِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ النَّاسُ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَنْدَرِجُ الرَّسُولُ فِي خِطَابٍ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى أَنْ يَرَى الْكَثِيرَ قَلِيلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا تَخْمِينًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْقَدْرِ وَالْمَهَابَةِ وَالنَّجْدَةِ لَا مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُمُ الْمَرْءُ كثيرا بِأَخِيهِ وَإِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَرُوحُ وَأَغْتَدِي سَفَهًا

أُكَثِّرُ مَنْ أَقِلُّ بِهِ

فَهَذَا مِنْ بَابِ التَّقْلِيلِ وَالتَّكْثِيرِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْقَدْرِ، لَا مِنْ بَابِ تَقْلِيلِ الْعَدَدِ لِيَقْضِيَ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَقْضِيَ وَالْمَفْعُولُ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْقِصَّةُ بِأَسْرِهَا، وَقِيلَ هما المعنيين مِنْ مَعَانِي الْقِصَّةِ أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ الْوَعْدُ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَبِالثَّانِي الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي تُرْجَعُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ فِئَةً كَافِرَةً حَذَفَ الْوَصْفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَ إِلَّا الْكُفَّارَ وَاللِّقَاءُ اسْمٌ لِلْقِتَالِ غَالِبٌ وَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالثَّبَاتِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِآيَةِ الضَّعْفِ

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا» .

وَأَمَرَهُمْ بِذِكْرِهِ تَعَالَى كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ مِنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ وَالتَّلَاحُمِ بِالرِّمَاحِ وَبِالسُّيُوفِ وَهِيَ حَالَةٌ يَقَعُ فِيهَا الذُّهُولُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيُسْتَأْنَسُ بِذِكْرِهِ وَيُسْتَنْصَرُ بِدُعَائِهِ وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ التَّعَلُّقِ بِاللَّهِ ذَكَرَهُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ حَتَّى فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُذْهَلُ فِيهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَغِيبُ فِيهَا الْحِسُّ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2» . وَحَكَى لِي بَعْضُ الشُّجْعَانِ أَنَّهُ حَالَةَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ تَأْخُذُ الشُّجَاعَ هِزَّةٌ وَتَعْتَرِيهِ مِثْلَ السُّكْرِ لِهَوْلِ الْمُلْتَقَى فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَظِيمَةِ وَقَدْ نَظَمَ الشُّعَرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ فِي أشقّ الأوقات عليهم

(1) سورة آل عمران: 3/ 13.

(2)

سورة الرعد: 13/ 28.

ص: 331

وَأَشَدِّهَا لَمْ يَنْسَوْا مَحْبُوبَهُمْ وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:

ذَكَرْتُ سُلَيْمَى وَحَرُّ الْوَغَى

كَقَلْبِيَ سَاعَةَ فَارَقْتُهَا

وَأَبْصَرْتُ بَيْنَ الْقَنَا قَدَّهَا

وَقَدْ مِلْنَ نَحْوِي فَعَانَقْتُهَا

قَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ عِنْدَ الضِّرَابِ وَالسُّيُوفِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْتُرَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَشْغَلَ مَا يَكُونُ قَلْبًا وَأَكْثَرَ مَا يَكُونُ هَمًّا وَأَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ مُجْتَمِعَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَزِّعَةً عَنْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ الثَّبَاتَ وَذِكْرَ اللَّهِ سَبَبَا الْفَلَاحِ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْعَدُوِّ فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ بِاللِّسَانِ فَأَمَرَ بِالثَّبَاتِ بِالْجَنَانِ وَبِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يُعَيَّنَ ذِكْرٌ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْمُجَاهِدِينَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ لِقَاءِ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمُ: اللَّهُمَّ اخْذُلْهُمُ اللَّهُمَّ دَمِّرْهُمْ وَشَبَهُهُ، وَقِيلَ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالتَّثْبِيتِ كَمَا فَعَلَ قَوْمُ طَالُوتَ فَقَالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «1» وقيل:

حم لَا يُنْصَرُونَ وَكَانَ هَذَا شِعَارَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَوْ رُخِّصَ تَرْكُ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ فِي الْحَرْبِ وَلَذَكَرْنَا حَيْثُ أُمِرَ بِالصَّمْتِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا، وَحُكْمُ هَذَا الذِّكْرِ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا إِلَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْجَمِيعِ وَقْتَ الْحَمْلَةِ فَحَسَنٌ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ لِأَنَّهُ يَفُتُّ فِي أَعْضَادِ الْكُفَّارِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ كَانَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ التَّلَثُّمُ عِنْدَ الْقِتَالِ.

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ وَهُوَ تَجَاذُبُ الْآرَاءِ وَافْتِرَاقُهَا وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ فَتَفْشَلُوا جَوَابًا لِلنَّهْيِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنِ التَّنَازُعِ الْفَشَلُ وَهُوَ الْخَوَرُ وَالْجُبْنُ عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَذَهَابُ الدَّوْلَةِ بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَتَفْشَلُوا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى وَلا تَنازَعُوا وَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ وَيَذْهَبْ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبَانٌ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَذْهَبَ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فَتَفْشَلُوا بِكَسْرِ الشِّينِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:

وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لُغَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّيحُ والنصرة وَالْقُوَّةُ وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ نَاغَوْهُ بِأُحُدٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالرِّيحُ الدّولة شبهت لنفوذ

(1) سورة البقرة: 2/ 250.

ص: 332

أَمْرِهَا وَتَشْبِيهٌ بِالرِّيحِ وَهُبُوبِهَا، فَقِيلَ: هَبَّتْ رِيَاحُ فُلَانٍ إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ وَنَفَذَ أَمْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

أَتَنْظُرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ

أَمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي

انْتَهَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ الرِّيحَ هِيَ الدَّوْلَةُ وَمِنِ اسْتِعَارَةِ الرِّيحِ قَوْلُ الْآخَرِ:

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا

فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا

وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ رُكُودًا. وَقَالَ شَاعِرُ الْأَنْصَارِ:

قَدْ عَوَّدَتْهُمْ صِبَاهُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ

رِيحُ الْقِتَالِ وَأَسْلَابُ الَّذِينَ لَقُوا

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَيَذْهَبَ رِيحُكُمْ مَعْنَاهُ الرُّعْبُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخَائِفِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَسَنٌ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِالتَّنَازُعِ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَالذَّاهِبُ قُوَّةُ الْمُتَنَازِعِينَ فَيَنْهَزِمُونَ انْتَهَى، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ الرِّيحُ عَلَى بَابِهَا

وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّصْرَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ تَهُبُّ فَتَضْرِبُ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ

وَاسْتَنَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى

قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم نُصِرْتُ بِالصَّبَا

، وَقَالَ الْحَكَمُ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ يَعْنِي الصَّبَا إِذْ بِهَا نُصِرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ رِيحُكُمْ حِدَّتُكُمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ جَلَدُكُمْ، وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ هَيْبَتُكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَطِ

وَالْفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ خَرَجُوا لِنُصْرَةِ الْعِيرِ بِالْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ وَوَرَدُوا الْجَحْفَةَ فَبَعَثَ خِفَافٌ الْكِنَانِيُّ وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ بِهَدَايَا مَعَ ابْنِهِ وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَمْدَدْنَاكَ بِالرِّجَالِ وَإِنْ شِئْتَ بِنَفْسِي مَعَ مَنْ خَفَّ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ كما يزعم محمد فو الله مَا لَنَا بِاللَّهِ طَاقَةٌ وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ النَّاسَ فو الله إِنَّ بِنَا عَلَى النَّاسِ لَقُوَّةً وَاللَّهِ، لَا نَرْجِعُ عَنْ قِتَالِ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقَيْنَاتُ فَإِنَّ بَدْرًا مَرْكَزٌ مِنْ مَرَاكِزِ الْعَرَبِ وَسُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ مَخْرَجَنَا فَتَهَابَنَا آخِرَ الْأَبَدِ فَوَرَدُوا بَدْرًا فَسُقُوا كُؤُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقَيْنَاتِ، فنبه اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ بَطِرِينَ طَرِبِينَ مُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا تُجَادِلُ وتكذب رسولك اللهم فاحثها الْغَدَاةَ»

وَفِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ.

ص: 333

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. أَعْمالَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَسِيرُهُمْ إِلَى بَدْرٍ وَعَزْمُهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا التَّزْيِينُ وَالْقَوْلُ وَالنُّكُوصُ هَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الْحَقِيقَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ بَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْأَوَّلِ فَقَالَ: وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ وَلَا يُطَاقُونَ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ اتِّبَاعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَطَاعَتَهُ مِمَّا تُحَيِّرُهُمْ فَلَمَّا تَلَاقَى الْفَرِيقَانِ نَكَصَ الشَّيْطَانُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، أَيْ بَطَلَ كَيْدُهُ حِينَ نَزَلَتْ جُنُودُ اللَّهِ وَكَذَا عَنِ الْحَسَنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ وَلَمْ يَتَمَثَّلْ لَهُمُ انْتَهَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مُجَازِ التَّمْثِيلِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ يُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ لَيْسَ مِمَّا يُلْقَى بِالْوَسْوَسَةِ انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صُدُورُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ الْغُوَاةِ مِنَ النَّاسِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ بِإِغْوَاءِ إِبْلِيسَ لَهُ وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ وَالنُّكُوصُ صَادِرَيْنِ مِنْ إِنْسَانٍ حَقِيقَةً وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ تَصَوَّرَ لَهُمْ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعَهُ رَايَةٌ، وَقِيلَ جَاءَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى بَدْرٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ وَقَدْ خَافُوا مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَكِنَانَةَ لِدَخُولٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ كِنَانَةَ فَقَالَ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَى جارٌ لَكُمْ مُجِيرُكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ فَلَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ نَكَصَ، وَقِيلَ كَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَلَمَّا نَكَصَ قَالَ لَهُ الْحَارِثُ: إِلَى أَيْنَ أَتَخْذُلُنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَالَ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ وَدَفَعَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ وَانْطَلَقَ وانهزموا فلما بغلوا مَكَّةَ قَالُوا هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ سُرَاقَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا شَعُرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّهُ الشَّيْطَانُ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ أَقَلَّ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَصْغَرَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنْ نُزُولِ الرَّحْمَةِ إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ

قِيلَ: وَمَا رَأَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: رَأَى الْمَلَائِكَةَ يُرِيحُهَا جِبْرِيلُ

، وَقَالَ الْحَسَنُ: رَأَى إِبْلِيسُ جِبْرِيلَ يَقُودُ فَرَسَهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِبُرْدَةٍ وَفِي يَدِهِ اللِّجَامُ ولَكُمُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَا غالِبَ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْمُ لَا مُطَوَّلًا وَالْمُطَوَّلُ يُعْرَبُ وَلَا يُبْنَى بَلْ لَكُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ أَيْ كَائِنٌ لَكُمْ وَبِمَا تَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ تَعَلَّقَ الظَّرْفُ والْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا أَحَدَ يَغْلِبُكُمْ وَأَنَا جَارٌ لَكُمْ أُعِينُكُمْ وَأَنْصُرُكُمْ بِنَفْسِي وَبِقَوْمِي والْفِئَتانِ جَمْعَا الْمُؤْمِنِينَ

ص: 334

وَالْكَافِرِينَ، وَقِيلَ فِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَفِئَةُ الْمَلَائِكَةِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رَجَعَ فِي ضِدِّ إِقْبَالِهِ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ مُبَالَغَةٌ فِي الْخِذْلَانِ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُمْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْفِعْلِ حَتَّى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ مَا لَا تَرَوْنَ رَأَى خَرْقَ الْعَادَةِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ مَعْذِرَةٌ كَاذِبَةٌ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ قَطُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: بَلْ خَافَ مِمَّا رَأَى مِنَ الْهَوْلِ أَنَّهُ يَكُونُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ انْتَهَى وَيُنْظَرُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ «1» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْمُولِ الْقَوْلِ قَالَ ذَلِكَ بَسْطًا لِعُذْرِهِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الله استأنف تَهْدِيدًا لِإِبْلِيسَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، الْعَامِلُ فِي إِذْ زَيَّنَ أَوْ نَكَصَ أَوْ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أَوِ اذْكُرُوا أَقْوَالٌ وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. فَقِيلَ الْمُنافِقُونَ هُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْضُهُمْ: نَخْرُجُ مَعَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَخْرُجُ غَرَّ هؤُلاءِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قَوْمٌ أَسْلَمُوا وَمِنْهُمْ أَقْرِبَاؤُهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ فَأَخْرَجَتْهُمْ قُرَيْشٌ مَعَهَا كَرْهًا فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ ارْتَابُوا وَقَالُوا غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فَقُتِلُوا جَمِيعًا، مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ وَالْعَاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ مُنَافِقًا شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَعْتِبَ بْنَ قُشَيْرٍ فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا «2» ، وَقِيلَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ وَهِيَ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وُصِفُوا بِالنِّفَاقِ وَهُوَ إِظْهَارُ مَا يُخْفِيهِ مِنَ الْمَرَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمْ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَيَبْعُدُ هَذَا إِذْ لَا يَتَّصِفُ الْمُشْرِكُونَ بِالنِّفَاقِ لِأَنَّهُمْ مُجَاهِرُونَ بِالْعَدَاوَةِ لَا مُنَافِقُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقُلُوبِ إِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِ الْكُفَّارِ لَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرَأَوْا قِلَّةَ عَدَدِهِمْ قَالُوا مُشِيرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أَيِ اغْتَرُّوا فَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ وَكَنَّى بِالْقُلُوبِ عَنِ الْعَقَائِدِ وَالْمَرَضُ أَعَمُّ مِنَ النِّفَاقِ إِذْ يُطْلَقُ مَرَضُ القلب على الكفر.

(1) سورة الحشر: 59/ 16.

(2)

سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 154.

ص: 335

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَذَا يَتَضَمَّنُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَؤُلَاءِ فِي لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ هُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللَّهِ فَهُمُ الْغَالِبُونَ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يَنْصُرْهُ وَيُعِزَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ بِقُوَّةٍ وَلَا بِكَثْرَةٍ حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا أَوْ حَاكِمٌ بِنَصْرِهِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فَيُدِيلُ الْقَلِيلَ عَلَى الْكَثِيرِ.

وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. لَوْ الَّتِي لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ لِلْمُضِيِّ فَالْمَعْنَى لَوْ رَأَيْتَ وَشَاهَدْتَ وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ جَائِزٌ بَلِيغٌ حَذْفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجِيبًا وَشَأْنًا هَائِلًا كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «1» ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلائِكَةُ فَاعِلُ يَتَوَفَّى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَالْأَعْرَجُ تَتَوَفَّى بِالتَّاءِ وَذُكِرَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ وَحَسَّنَهُ الفصل، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْفَاعِلُ ضَمِيرُ اللَّهِ والْمَلائِكَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، كَهِيَ فِي يَضْرِبُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُضَعِّفُهُ سُقُوطُ وَاوِ الْحَالِ فَإِنَّهَا فِي الْأَغْلَبِ تَلْزَمُ مِثْلَ هَذَا انْتَهَى، وَلَا يُضَعِّفُهُ إِذْ جَاءَ بِغَيْرِ وَاوٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ والْمَلائِكَةُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا أَوْ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَكُونُ التَّوَفِّي قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ أَوِ الْمَلَائِكَةُ الْمُمَدُّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالتَّوَفِّي قَتْلُهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَالتَّوَفِّي سَوْقُهُمْ إِلَى النَّارِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَالظَّاهِرُ حَقِيقَةُ الْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَسْتَاهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَخُصَّا بِالضَّرْبِ لِأَنَّ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ فِيهِمَا أَشَدُّ، وَقِيلَ: مَا أَقْبَلَ مِنْهُمْ وَمَا أَدْبَرَ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّارِبِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ يَضْرِبُ الْمُؤْمِنُونَ فَمَنْ كَانَ أَمَامَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ضَرَبُوا وُجُوهَهُمْ وَمَنْ كَانَ وَرَاءَهُمْ ضَرَبُوا أَدْبَارَهُمْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ ضَرْبَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِسِيَاطٍ مِنْ نار، وقوله وذُوقُوا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وَيَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أَسْوَاطٌ مِنْ نَارٍ يَضْرِبُونَهُمْ بِهَا فَتَشْتَعِلُ جِرَاحَاتُهُمْ نَارًا أَوْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ لِلْكَافِرِينَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا حَالَةَ الْمَوْتِ أَيْ مُقَدِّمَةَ عَذَابِ النَّارِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، ذلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَطْفٌ عَلَى ما أي ذلك

(1) سورة الأنعام: 6/ 27، 30.

ص: 336

الْعَذَابُ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُكُمْ إِذْ أَنْتُمْ مُسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ فَتَعْذِيبُكُمْ عَدْلٌ مِنْهُ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ أَوِ الِانْتِقَامُ بِسَبَبِ كَذَا وَظَاهِرُ النِّعْمَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُونَ فِيهِ مِنْ سَعَةِ الْحَالِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالتَّغْيِيرُ قَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الذَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الصِّفَاتِ فَقَدْ تَكُونُ النِّعْمَةُ أُذْهِبَتْ رَأْسًا وَقَدْ تَكُونُ قُلِّلَتْ وَأُضْعِفَتْ، وَقَالَ الْقَاضِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَتَسْهِيلِ السَّبِيلِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَيَعْدِلُوا عَنِ الْكُفْرِ فَإِذَا صَرَفُوا هَذِهِ الْأُمُورَ إِلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فَقَدْ غَيَّرُوا أَنْعُمَ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا تَبْدِيلَ النِّعَمِ بِالنِّقَمِ وَالْمِنَحِ بِالْمِحَنِ وَهَذَا مِنْ أَوْكَدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى لا يبتدىء أَحَدًا بِالْعَذَابِ وَالْمَضَرَّةِ وَأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا جَزَاءً عَلَى مَعَاصٍ سَلَفَتْ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ حَيَاتَهُمْ وَعُقُولَهُمُ ابْتِدَاءً لِلنَّارِ كَمَا يَقُولُهُ الْقَوْمُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ انْتَهَى.

قِيلَ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صِفَةُ اللَّهِ مُعَلَّلَةً بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ وَمُتَأَثِّرَةً لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ سَابِقٌ أَوَّلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِعْلٌ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَقِيلَ أَشَارَ بالنعمة إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ رَحْمَةً فَكَذَّبُوهُ فَبَدَّلَ اللَّهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ بِالنِّقْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عَلى قَوْمٍ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَتَى أَنْعَمَ عَلَى أَحَدٍ فَلَمْ يَشْكُرْ بَدَّلَهُ عَنْهَا بِالنِّقْمَةِ، وَقِيلَ الْقَوْمُ هُنَا قُرَيْشٌ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لِيَشْكُرُوا وَيُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ فَجَحَدُوا وَأَشْرَكُوا فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَكَذَّبُوهُ فَلَمَّا غَيَّرُوا مَا اقْتَضَتْهُ نِعْمَةٌ وَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ مِنْ قِبَلِ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ غَيَّرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِنِقْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَعَدَّ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِثَالُ هَذَا نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى قُرَيْشٍ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَفَرُوا وَغَيَّرُوا مَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فَغَيَّرَ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ بِأَنْ نَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ انْتَهَى. وَتَغْيِيرُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ وَمَنْ يَجْرِي

ص: 337

مَجْرَاهُمْ بِأَنْ كَانُوا كُفَّارًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَالَةٌ مَرْضِيَّةٌ فَغَيَّرُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَسْخُوطَةَ إِلَى أَسْخَطَ مِنْهَا مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ آيَاتِ اللَّهِ فَغَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ وَعَاجَلَهُمْ وَلَمْ يُمْهِلْهُمْ وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ ذَلِكَ الْعَذَابُ أَوِ الِانْتِقَامُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْبَغِ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعَمَهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِهِمْ مِنَ الْحَالِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُكَذِّبِي الرَّسُولِ، عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِمَعْنًى لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَوِ الْأَوَّلُ دَأْبٌ فِي أَنْ هَلَكُوا لَمَّا كَفَرُوا وَهَذَا الثَّانِي دَأْبٌ فِي أَنْ لَمْ يُغَيِّرْ نِعْمَتَهُمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى، وَقَالَ قَوْمٌ: كَرَّرَ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الثَّانِيَ جَرَى مَجْرَى التَّفْصِيلِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ وَفِي هَذَا ذِكْرُ إِغْرَاقِهِمْ وَأُرِيدَ بِالْأَوَّلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ حَالَ الْمَوْتِ وَبِالثَّانِي مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْأَوَّلِ بِآياتِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الثَّانِي بِآياتِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ نِعَمِ مَنْ رَبَّاهُمْ وَدَلَائِلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَوَالِيهَا وَفِي الْأَوَّلِ اللَّازِمُ مِنْهُ الْأَخْذُ، وَفِي الثَّانِي اللَّازِمُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَالْإِغْرَاقُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِآياتِ رَبِّهِمْ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ وَجُحُودِ الْحَقِّ وَفِي ذِكْرِ الْإِغْرَاقِ بَيَانٌ لِلْأَخْذِ بِالذُّنُوبِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي كَفَرُوا عَائِدًا عَلَى قُرَيْشٍ وَفِي الْأَخِيرَةِ فِي كَذَّبُوا عائدا عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ انْتَهَى.

وَقِيلَ فَأَهْلَكْناهُمْ هُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ كَذَّبُوا عَائِدًا عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ وَعَادًا بِالرِّيحِ وَثَمُودًا بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ، وَفِرْعَوْنَ وَآلَهُ بِالْغَرَقِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِالظُّلَّةِ، وَقَوْمَ دَاوُدَ بِالْمَسْخِ وَأَهْلَكَ قُرَيْشًا وَغَيْرَهَا بَعْضَهُمْ بِالْفَزَعِ وَبَعْضَهُمْ بِالسَّيْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعَدَسَةِ كَأَبِي لَهَبٍ، وَبَعْضَهُمْ بِالْغُدَّةِ كَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ كَأَوِيدِ بْنِ قَيْسٍ انتهى، فيظهر من هذه الْكَلَامِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَذَّبُوا وفَأَهْلَكْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي كَدَأْبِ إِذْ عَمَّ الضَّمِيرُ الْقَبِيلَتَيْنِ وَإِنَّمَا خَصَّ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ وَذَكَرَ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ وَهُوَ إِغْرَاقُهُمْ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى كُفْرِهِمْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ أَشْنَعَ الْكُفْرِ وَأَفْظَعَهُ وَمُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلٌّ إِذَا حَذَفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ جَائِزَةٌ وَاخْتِيرَ هُنَا مُرَاعَاةُ

ص: 338

الْمَعْنَى لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ إِذْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ وَكُلٌّ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يَقَعْ فَاصِلَةً، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكُلُّهُمْ مِنْ غَرْقَى الْقِبْطِ وَقَتْلَى قُرَيْشٍ كانُوا ظالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي انْتَهَى، وَلَا يَظْهَرُ تَخْصِيصُ الزَّمَخْشَرِيِّ كُلًّا بِغَرْقَى الْقِبْطِ وَقَتْلَى قُرَيْشٍ إِذِ الضَّمِيرُ فِي كَذَّبُوا وَفِي فَأَهْلَكْناهُمْ لَا يَخْتَصُّ بِهِمَا فَالَّذِي يَظْهَرُ عُمُومُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُمْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قبلهم أَوْ عُمُومُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِمْ.

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ.

نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ عَاهَدَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ فَنَكَثُوا بِأَنْ أَعَانُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ وَقَالُوا نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا ثُمَّ عاهدهم فنكثوا مالؤوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَهُمْ

قَالَ الْبَغَوِيُّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ أَخْطَأَ وَوَهِمَ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدَ قُرَيْظَةَ، وَقِيلَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقِيلَ: نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ عَبْدِ الدَّارِ حَكَاهُ التَّبْرِيزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِيمَانٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَرُّ النَّاسِ الْكُفَّارُ وَشَرُّ الْكُفَّارِ الْمُصِرُّونَ مِنْهُمْ وَشَرُّ الْمُصِرِّينَ النَّاكِثُونَ لِلْعُهُودِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ جَامِعُونَ لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّذِينَ عَاهَدْتَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَحْذُوفٌ وَضَمِيرُ الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ أَيْ عَاهَدْتَهُمْ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَرَّ الدَّوَابِّ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الْكُفْرُ وَالْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاهَدَةُ مَعَ النَّقْضِ، والَّذِينَ عَلَى هَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ فِرْقَةً أَوْ طَائِفَةً ثُمَّ أَخَذَ يَصِفُ حَالَ الْمُعَاهَدِينَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ الْخَبَرُ قَوْلَهُ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ يُعَاهَدُ مِنْهُمْ أَيْ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فَاصْنَعْ كَذَا أَوْ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُعَاهَدِينَ بَعْضُ الْكُفَّارِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ كَائِنِينَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى أَيْ أَخَذْتَ مِنْهُمُ الْعَهْدَ فَتَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ أَيْ عَاهَدْتَهُمْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ ضَعِيفَةٌ وَأَتَى ثُمَّ يَنْقُضُونَ بِالْمُضَارِعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ شَأْنُهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَقْدِيرُهُ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ لَا يَخَافُونَ عَاقِبَةَ الْعَدُوِّ وَلَا يُبَالُونَ بِمَا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنَ الْعَارِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّارِ.

ص: 339

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَتَتَمَكَّنْ مِنْهُمْ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَنْذِرْ مَنْ خَلْفَهُمْ عَنْ قَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ وَتَنْكِيلِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى فَإِنْ تَظْفَرْ بِهِمْ فَاقْتُلْهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا حَتَّى يَفِرَّ عَنْكَ مَنْ خَلْفَهُمْ وَيَتَفَرَّقَ وَلَمَّا كَانَ التَّشْرِيدُ وَهُوَ التَّطْرِيدُ وَالْإِبْعَادُ نَاشِئًا عَنْ قَتْلِ مَنْ ظَفِرَ بِهِ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ النَّاقِضِينَ جُعِلَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِذْ هُوَ يَتَسَبَّبُ عَنِ الْجَوَابِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ فَسَمِّعْ بِهِمْ وَحَكَاهُ الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ حَتَّى لَا يَجْسُرَ عَلَيْكَ بَعْدَهُمْ أَحَدٌ اعْتِبَارًا بِهِمْ وَاتِّعَاظًا بِحَالِهِمْ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ التَّشْرِيدُ التَّخْوِيفُ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ الْقَرَارُ أَيْ لَا تَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِيمَانَ أَوِ السَّيْفَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ فَشَرِّذْ بِالذَّالِ وَكَذَا فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا وَلَمْ تُحْفَظْ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، فَقِيلَ: الذَّالُ بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ كَمَا قالوا لحم خراديل وخزاذيل، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَشَرِّذْ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِمَعْنَى فَفَرِّقْ وَكَأَنَّهُ مَقْلُوبُ شَذَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ ذهبوا شذر وَمِنْهُ الشَّذَرُ الْمُلْتَقَطُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِتَفَرُّقِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الشاعر:

غرائر في كن وَصَوْنٍ وَنِعْمَةٍ

تَحَلَّيْنَ يَاقُوتًا وَشَذْرًا مُفَقَّرَا

وَقَالَ قُطْرُبٌ: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ التَّنْكِيلُ وَبِالْمُهْمَلَةِ التَّفْرِيقُ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُ مَنْ خَلْفَهُمْ جَارًّا وَمَجْرُورًا وَمَفْعُولُ فَشَرِّدْ مَحْذُوفٌ أَيْ نَاسًا مَنْ خَلْفَهُمْ وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُمْ يَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ وَهُمُ الْمُشَرَّدُونَ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِمَا جَرَى لَنَا قُضِيَ الْعَهْدُ أَوْ يَتَذَكَّرُونَ بِوَعْدِكَ إِيَّاهُمْ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَثْقُوفِينَ وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ لَا يَتَذَكَّرُ.

وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يَصْنَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً إِلَى سَالِفِ الدَّهْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هِيَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُونُوا فِي حَدِّ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً لِأَنَّ خِيَانَتَهُمْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً، وَلِقَوْلِهِ مِنْ قَوْمٍ فَلَوْ كَانَتْ فِي بَنِي قريظة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْهُمْ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: تَخافَنَّ بِمَعْنَى تَعْلَمُ وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ الْخَوْفُ عَلَى بَابِهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُمْ مَبَادِئُ الشَّرِّ وَيُنْقَلُ عَنْهُمْ أَقْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى الْغَدْرِ فَالْمَبَادِئُ مَعْلُومَةٌ وَالْخِيَانَةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْمَبَادِئِ مَخُوفَةٌ لَا مُتَيَقَّنَةٌ وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ دَالٌّ عَلَى تَقَدُّمِ عَهْدٍ لِأَنَّهُ مَنْ لَا عَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَا تَكُونُ مُحَارَبَتُهُ خِيَانَةً فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ إِذَا أَحَسَّ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ مَا ذَكَرْنَا وَخَافَ خِيَانَتَهُمْ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ

ص: 340

وَهُوَ النَّبْذُ وَمَفْعُولُ فَانْبِذْ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أَيِ ارْمِهِ وَاطْرَحْهُ، وَفِي قَوْلِهِ فَانْبِذْ عَدَمُ اكْتِرَاثٍ بِهِ كَقَوْلِهِ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «1» فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «2» كَمَا قَالَ، نَبْذَ الْحَذَّاءِ الْمُرَقَّعِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَنْبِذُ وَلَا يَرْمِي إِلَّا الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُبَالِي بِهِ وَقُوَّةُ هَذَا اللَّفْظِ تَقْتَضِي حَرْبَهُمْ وَمُنَاجَزَتَهُمْ أَنْ يَسْتَقْصُوا وَمعْنَى عَلى سَواءٍ أَيْ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوٍ قَصْدٍ وَذَلِكَ أَنْ تُظْهِرَ لَهُمْ نَبْذَ الْعَهْدِ وَتُخْبِرَهُمْ إِخْبَارًا مَكْشُوفًا بَيِّنًا أَنَّكَ قَطَعْتَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ وَلَا تُنَاجِزْهُمُ الْحَرْبَ وَهُمْ عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ فَيَكُونَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْكَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فَلَا يَكُنْ مِنْكَ إِخْفَاءٌ لِلْعَهْدِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِلَفْظِهِ وَغَيْرُهُ كَابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: عَلى سَواءٍ عَلَى مَهَلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» الْآيَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْمَعْنَى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى اعْتِدَالٍ وَسَوَاءٍ مِنَ الْأَمْرِ أَيْ بَيِّنْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ لَا تُفَرِّطْ وَلَا تَفْجَأْ بِحَرْبٍ بَلِ افْعَلْ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا بِكَ يَعْنِي مُوَازَنَةً وَمُقَايَسَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ سِوَاءٍ بِكَسْرِ السِّينِ وَظَاهِرُ إِنَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: فَانْبِذْ أَيْ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ عَلَى تَبَعُّدٍ مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَعْنًا عَلَى الْخَائِنِينَ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الرَّسُولُ وَيَحْتَمِلُ عَلَى سَوَاءٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي فَانْبِذْ أَيْ كَائِنًا عَلَى طَرِيقِ قَصْدٍ أَوْ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَجْرُورِ أَيْ كَائِنِينَ عَلَى اسْتِوَاءٍ فِي الْعِلْمِ أَوْ فِي الْعَدَاوَةِ.

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ أَفْلَتَ مِنَ الْكُفَّارِ فِي بَدْرٍ فَالْمَعْنَى لَا تَظُنَّهُمْ نَاجِينَ مُفْلِتِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ طَالِبَهُمْ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَخْذِهِمْ، قِيلَ: وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَفُوتُونَ بَلْ يُظْفِرُكَ اللَّهُ بِهِمْ، وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقِيلَ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَعْجَزَ غَلَبَ وَفَاتَ، قَالَ سُوَيْدٌ:

وَأَعْجَزَنَا أَبُو لَيْلَى طُفَيْلٌ

صَحِيحُ الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ السِّلَاحِ

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ أَيْ وَلا يَحْسَبَنَّ الرَّسُولُ أَوْ حَاسِبٌ أَوِ الْمُؤْمِنُ أَوْ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ خَلْفَهُمْ فَيَكُونُ مَفْعُولًا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا لقراءة بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ أَوْ لِلسَّامِعِ وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ فَاعِلُ لَا يَحْسَبَنَّ ولا يَحْسَبَنَّ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا وَعَلَى إِضْمَارِ أَنْ قَبْلَ سَبَقُوا فَحُذِفَتْ وَهِيَ مُرَادَةٌ فسدّت

(1) سورة آل عمران: 3/ 187.

(2)

سورة القصص: 28/ 40، وسورة الذاريات: 51/ 40.

(3)

سورة التوبة: 9/ 1.

ص: 341

مَسَدَّ مَفْعُولَيْ يَحْسَبَنَّ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمْ سَبَقُوا، وَقِيلَ التَّقْدِيرَ وَلَا تَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَحَذَفَ الضَّمِيرَ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا وَقَدْ رَدَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ، وَعَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ الْيَاءِ وَذَكَرَ نَقْلَ تَوْجِيهِهَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِمَّا الضَّمِيرِ وَإِمَّا أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا حَذْفِ أَنْ وَإِمَّا أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ عَلَى أَنْ لَا صِلَةَ وَسَبَقُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يَعْنِي سَابِقِينَ أَوْ مُفْلِتِينَ هَارِبِينَ وَعَلَى وَلا يَحْسَبَنَّ قَتِيلَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا مُتَمَحِّلَةٌ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا حَمْزَةُ بِنَيِّرَةٍ انْتَهَى،

وَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَا حَمْزَةُ كَمَا ذَكَرَ بَلْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ سَبَقُوا اللَّحْنَ وَقَرَأَ عَلِيٌّ

وَعُثْمَانُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَوْجِيهِهَا عَلَى غَيْرِ مَا نَقَلَ مِمَّا هُوَ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِهِ وَلَيْسَتْ بِنَيِّرَةٍ وَتَقَدَّمَ ذِكْرٌ فِي فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا فِي قَوْلِهِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ «1» وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقِيلَ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ عَلَى أَنْ لَا صِلَةَ فَهَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَيْهِ لَفَتَحَ أَنَّ وَإِنَّمَا فَتَحَهَا مِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ وَاسْتَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِيهَا لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ أَيْ لَا تَحْسَبَنَّهُمْ فَائِتِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَقَعُ مِنْكَ حُسْبَانٌ لَفَوْتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَفُوتُونَ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَلَا يَحْسَبُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَحَذْفِ النُّونِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى حَذْفِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ لِمُلَاقَاةِ السَّاكِنِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ:

لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ

تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ

وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ لَا تُعْجِزُونِي بِكَسْرِ النُّونِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاخْتِيَارُ فَتْحُ النُّونِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَنِي وَتُحْذَفُ النُّونُ الْأُولَى لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ كَمَا قَالَ الشاعر:

تراه كالثّغام يعمل مِسْكًا

يَسُوءُ الْغَالِبَاتِ إِذَا فَلَيْنِي

الْبَيْتُ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَلَا مَحَالَةَ أَنَّنِي

لِلْحَادِثَاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أَجْزَعُ

فَهَذَا يَجُوزُ عَلَى الِاضْطِرَارِ فَقَالَ قَوْمٌ: حَذَفَ النُّونَ الْأُولَى وَحَذْفُهَا لَا يَجُوزُ لأنها في

(1) سورة البقرة: 2/ 273.

ص: 342

مَوْضِعِ الْإِعْرَابِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ أَرَى فِيمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا حَذْفَ الثَّانِيَةِ وَكَذَا كَانَ يَقُولُ فِي بَيْتِ عَمْرٍو، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ غَيْرِ تَشْدِيدٍ وَلَا يَاءٍ، وَعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ تَشْدِيدُ النُّونِ وَكَسْرُهَا أَدْغَمَ نُونَ الْإِعْرَابِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَعَنْهُ أَيْضًا بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ، قَالَ النَّحَّاسَ: وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى عَجْزِهِ ضَعْفُهُ وَضَعْفُ أَمْرِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِنُونَيْنِ انْتَهَى، أَمَّا كَوْنُهُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ وَقَدْ قرىء بِهِ فِي السَّبْعَةِ وَأَمَّا عَجَّزَنِي مُشَدَّدًا فَذَكَرَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَنَّ مَعْنَاهُ بَطَّأَ وَثَبَّطَ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى نَسَبَنِي إِلَى الْعَجْزِ وَالتَّشْدِيدُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ خَطَأً كَمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ.

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. لَمَّا اتُّفِقَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ أَنْ قَصَدُوا الْكُفَّارَ بِلَا تَكْمِيلِ آلَةٍ وَلَا عِدَّةٍ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّشْرِيدِ وَبِنَبْذِ الْعَهْدِ لِلنَّاقِضِينَ كَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا لِلْأَخْذِ فِي قِتَالِهِ وَالتَّمَالُؤِ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ لِلْجِهَادِ وَالْإِعْدَادُ الْإِرْصَادُ وَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ لُطْفًا مِنْهُ تَعَالَى وَالْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ وَهُمُ الْمَأْمُورُ بِحَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الوقت ويعمّ من بعده. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ يُنْبَذُ إِلَيْهِمُ الْعَهْدُ وَالظَّاهِرُ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يتقوى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ مِمَّا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْثِيلُ كَالرَّمْيِ وَذُكُورِ الْخَيْلِ وَقُوَّةِ الْقُلُوبِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ وَالْحُصُونِ الْمُشَيَّدَةِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ وعددها والأزواد وَالْمَلَابِسِ الْبَاهِيَةِ حَتَّى إِنَّ مجاهدا رئي يَتَجَهَّزُ لِلْجِهَادِ وَعِنْدَهُ جَوَالِقُ فَقَالَ هَذَا مِنَ الْقُوَّةِ وَأَمَّا مَا

وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إنّ القوة الرّمي ألا إن الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»

فَمَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُعْظَمَ الْقُوَّةِ وَأَنْكَاهَا لِلْعَدُوِّ الرَّمْيُ كَمَا

جَاءَ «الْحَجُّ عَرَفَةُ»

وَجَاءَ فِي فَضْلِ الرَّمْيِ أَحَادِيثُ وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْقُوَّةِ يَكُونُ قَوْلُهُ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تَنْصِيصٌ عَلَى فَضْلِ رِبَاطِ الْخَيْلِ إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ هِيَ أَصْلُ الْحُرُوبِ وَالْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا وَهِيَ مَرَاكِبُ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْلِ الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا وَجَمَاعَةٌ رُبْطٌ وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِطُ يُقَالُ: مِنْهُ رَبَطَ رَبْطًا وَارْتَبَطَ انْتَهَى، قَالَ:

تَلُومُ عَلَى رَبْطِ الْجِيَادِ وَحَبْسِهَا

وَأَوْصَى بِهَا اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدَا

ص: 343

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورِباطِ الْخَيْلِ جَمْعُ رَبْطٍ كَكَلْبٍ وَكِلَابٍ وَلَا يُكَثَّرُ رَبْطُهَا إِلَّا وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّبَاطُ مَصْدَرًا مِنْ رَبَطَ كَصَاحَ صِيَاحًا لِأَنَّ مَصَادِرَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ لَا تَنْقَاسُ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَصْدَرًا مِنْ رَابَطَ وَكَانَ ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ وَاتِّخَاذُهَا يَفْعَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ لِفِعْلِ آخَرَ فَيُرَابِطُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا رَبَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَسًا لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمْ رِبَاطٌ وَذَلِكَ الَّذِي حُضَّ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْبَاسِطِ يَدِهِ بِالصَّدَقَةِ لَا يَقْبِضُهَا»

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ انْتَهَى، فَجَوَّزَ فِي رِبَاطِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِرَبْطٍ وَأَنْ يَكُونَ مصدرا لربط وَالرَّابِطِ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَصَادِرَ الثُّلَاثِيِّ غَيْرِ الْمَزِيدِ لَا تَنْقَاسُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَهَا مَصَادِرُ مُنْقَاسَةٌ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالرِّبَاطُ اسْمٌ لِلْخَيْلِ الَّتِي تُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى بِالرِّبَاطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُرَابَطَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَبِيطٍ كَفَصِيلٍ وَفِصَالٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمِنْ رُبُطِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ وَالْحَسَنِ أَيْضًا رُبْطٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَذَلِكَ نَحْوُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ وَكُتْبٍ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي جَمْعِهِ وَهُوَ مَصْدَرٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ نَظَرٌ انْتَهَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ مَصْدَرًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ إِنَّهُ مِنَ الْخَيْلِ الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا وَإِنَّ جِمَاعَهَا رُبُطٌ وَهِيَ الَّتِي تُرْتَبَطُ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْخَيْلِ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رِباطِ الْخَيْلِ إِنَاثُهَا وَفَسَّرَ الْقُوَّةَ بِذُكُورِهَا وَاسْتَحَبَّ رِبَاطَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ النِّتَاجِ كَمَا قَالَ: بُطُونُهَا كَنْزٌ، وَقِيلَ: رِباطِ الْخَيْلِ الذُّكُورَ مِنْهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ عَلَى الْقِتَالِ وَالْكِفَاحِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْعَدْوِ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَقِيلَ: عَلَى الْإِعْدَادِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقُوَّةِ، وَقِيلَ: عَلَى رِباطِ وتُرْهِبُونَ، قَالُوا: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَأَعِدُّوا أَوْ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ وَيَحْصُلُ بِهَذَا الِارْتِبَاطِ وَالْإِرْهَابِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ دُخُولَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِاشْتِدَادِ الْخَوْفِ قَدْ يَلْتَزِمُونَ الْجِزْيَةَ أَوْ يُسَلِّمُونَ أَوْ لَا يُعِينُونَ سَائِرَ الْكُفَّارِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ عقيل لأبي عمرو وتُرْهِبُونَ مُشَدَّدًا عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ كَمَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَزَعَمَ عَمْرٌو أَنَّ الْحَسَنَ قَرَأَ يُرْهِبُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ وَخَفَّفَهَا انْتَهَى، وَالضَّمِيرُ فِي يُرْهِبُونَ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ لَهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَلِمُوا بِمَا أَعْدَدْتُمْ لِلْحَرْبِ مِنَ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ خَوَّفُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَرْهَبُوهُمْ إِذْ يُعْلِمُونَهُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ فَيَخَافُونَ مِنْكُمْ وَإِذَا كَانُوا قَدْ أَخَافُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْكُمْ فَهُوَ أَشَدُّ خَوْفًا لَكُمْ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: تُخْزُونَ بِهِ مَكَانَ تُرْهِبُونَ بِهِ وَذَكَرَهَا الطَّبَرِيُّ عَلَى

ص: 344

جِهَةِ التَّفْسِيرِ لَا عَلَى جِهَةِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ عَدُوًّا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ وَلَامِ الْجَرِّ، قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَقِيلَ أَرَادَ بِهِ اسْمَ الْجِنْسِ وَمَعْنَاهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ نَكِرَةً بِمَعْنَى الْعَامَّةِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ أَيْضًا لَمْ تَتَعَرَّفْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَمَعْنَاهُ الْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ وَلَا يَتَعَرَّفُ ذَلِكَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعَارِفِ وَأَمَّا عَدُوَّكُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَكِرَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَرَّفَ لِإِعَادَةِ ذِكْرِهِ وَمِثْلُهُ رَأَيْتُ صَاحِبًا لَكُمْ فَقَالَ لِي صَاحِبُكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

وَذَكَرَ أَوَّلًا عَدُوَّ اللَّهِ تَعْظِيمًا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَقْوِيَةً لِذَمِّهِمْ وَأَنَّهُ يَجِبُ لِأَجْلِ عَدَاوَتِهِمْ لِلَّهِ أَنْ يُقَاتَلُوا وَيُبْغَضُوا ثُمَّ قَالَ وَعَدُوَّكُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيضِ عَلَى قِتَالِهِمْ إِذْ فِي الطَّبْعِ أَنْ يُعَادِيَ الْإِنْسَانُ مَنْ عَادَاهُ وَأَنْ يَبْغِيَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَالْمُرَادُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، قِيلَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أَصْلُ دُونَ أَنْ تَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ دُونِهِمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ دُونَ أَنْ تَكُونَ هَؤُلَاءِ فَدُونَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْ دُونِ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا مِنَ النَّازِلَةِ الَّتِي فِيهَا الْقَوْلُ وَمِنْهُ الْمَثَلُ: وَأْمُرْ دُونَ عبيدة الوزم، قال مجاهد وَآخَرِينَ: بَنُو قُرَيْظَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْيَهُودُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ فَارِسَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كُفَّارُ الْجِنِّ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ صَهِيلَ الْخَيْلِ تَنْفِرُ الْجِنُّ مِنْهُ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَدْخُلُ دَارًا فِيهَا فَرَسُ الْجِهَادِ وَنَحْوُ هَذَا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُمْ كُلُّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْفِرْقَةِ الَّتِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشَرَّدَ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهَذَا أَظْهَرَ لِأَنَّهُ قَالَ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أَيْ لَا تَعْلَمُونَ أَعْيَانَهُمْ وَأَشْخَاصَهُمْ إِذْ هُمْ مُتَسَتِّرُونَ عَنْ أَنْ تَعْلَمُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَالْعِلْمُ هُنَا كَالْمَعْرِفَةِ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالذَّوَاتِ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسْبَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِالنِّسْبَةِ فَقَدَّرَ مَفْعُولًا ثَانِيًا مَحْذُوفًا وَقَدَّرَهُ مُحَارَبِينَ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّ حَذْفَ مِثْلِ هَذَا دُونَ تَقَدُّمِ ذِكْرٍ مَمْنُوعٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ وَعَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَعْنَى وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ فارغين رَاهِبِينَ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُنَافِقِينَ كَمَا قُلْنَا عَلَى جِهَةِ الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سُوءِ حَالِهِمْ وَلِيَسْتَرِيبَ بِنَفْسِهِ كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ مِنْهَا نِفَاقًا إِذَا سَمِعَ الْآيَةَ وَبِفَزَعِهِمْ وَرَهْبَتِهِمْ غِنًى كَبِيرٌ فِي ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَا مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ قَوْلُهُ وَآخَرِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَحَدٌ عِلْمًا بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِيهِ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى، ثُمَّ

ص: 345

حَضَّ تَعَالَى عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ جِهَادٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَحْمِلُ وَاحِدٌ الْجَمَاعَةَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَجَهَّزَ عُثْمَانُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ وَثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَقِيلَ هَذِهِ التَّوْفِيَةُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا أَنْفَقُوا مَعَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ.

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى الْآخَرِ مَالَ إِلَيْهِ وَجَنَحَتِ الْإِبِلُ مَالَتْ أَعْنَاقُهَا فِي السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ

بِذِكْرَاكَ وَالْعِيسُ الْمَرَاسِيلُ جُنَّحُ

وَجَنَحَ اللَّيْلُ أَقْبَلَ وَأَمَالَ أَطْنَابَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ طُيُورًا تَتْبَعُ الْجَيْشَ:

جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ

إِذَا مَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ أَوَّلُ غَالِبِ

وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَضْلَاعِ جَوَانِحُ لِأَنَّهَا مَالَتْ عَلَى الْحَشْوَةِ وَمِنْهُ الْجَنَاحُ لِمَيْلِهِ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: جَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى فُلَانٍ وَجَنَحَ لَهُ إِذَا تَابَعَهُ وَخَضَعَ لَهُ وَالضَّمِيرُ فِي جَنَحُوا عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَقِيلَ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَقِيلَ عَلَى قَوْمٍ سَأَلُوا مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَجَنَحَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِاللَّامِ وَالسَّلْمُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَقِيلَ: التَّأْنِيثُ لُغَةٌ، وَقِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُسَالَمَةِ، وَقِيلَ حَمْلًا عَلَى النَّقِيضِ وَهُوَ الْحَرْبُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَأَفْنَيْتُ فِي الْحَرْبِ آلَاتِهَا

وَعَدَّدْتُ لِلسَّلْمِ أَوْزَارَهَا

وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ فتح السِّينِ وَكَسْرِهَا وَالسَّلْمُ الصُّلْحُ لُغَةً، فَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُهَادَنَتُهُمْ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَإِنْ رَآهُ مَصْلَحَةً فَعَلَ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مَعْتِبٍ سَأَلُوا الْمُوَادَعَةَ فَأَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ:

قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: أَدَاءُ الْجِزْيَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّلْمُ الْإِسْلَامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَرَى فِيهِ الْإِمَامُ صَلَاحَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْ حَرْبٍ أَوْ سَلْمٍ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ أَنْ يُقَاتِلُوا أَبَدًا أَوْ يُجَابُوا إِلَى الْهُدْنَةِ أَبَدًا، وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعَقِيلِيُّ فَاجْنَحْ بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْقِيَاسُ فِي فِعْلِ اللَّازِمِ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الْمُضَارِعِ وَهِيَ أَقْيَسُ مِنْ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا يُبَالِي بِهِمْ وَإِنْ أَبَطَنُوا الْخَدِيعَةَ فِي

ص: 346

جُنُوحِهِمْ إِلَى السَّلْمِ فَإِنَّ الله كافي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِهِمُ الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِهِمْ.

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أَيْ وَإِنْ يُرِدِ الْجَانِحُونَ لِلسَّلْمِ بِأَنْ يُظْهِرُوا السَّلْمَ وَيُبْطِنُوا الْخِيَانَةَ وَالْغَدْرَ مُخَادَعَةً فَاجْنَحْ لَهَا فَمَا عَلَيْكَ مِنْ نِيَّاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّ حَسْبَكَ وَكَافِيكَ هُوَ اللَّهُ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ حَسْبُهُ لَا يُبَالِي بِمَنْ يَنْوِي سُوءًا ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِمَا فَعَلَ مَعَهُ أَوَّلًا مِنْ تَأْيِيدِهِ بِالنَّصْرِ وَبِائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِعَانَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَمَا لَطَفَ بِكَ أَوَّلًا يَلْطُفُ بِكَ آخِرًا وَالْمُؤْمِنُونَ هُنَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَكَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِلْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ مَا كَانَ لَوْلَا الْإِسْلَامُ لَيَنْقَضِي أَبَدًا وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ فَأَبْدَلَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مَحَبَّةً وَبِالتَّبَاعُدِ قُرْبًا.

وَمَعْنَى لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهَا عَلَى مَحَبَّةِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَكَوْنُهَا فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، تَظَاهَرَ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:

نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَعَلَ التَّأْلِيفَ مَا كَانَ بَيْنَ جَمْعِهِمْ فَكُلٌّ يَأْلَفُ فِي اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّأْلِيفُ بَيْنَ قُلُوبِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالِانْطِوَاءِ عَلَى الضَّغِينَةِ فِي أَدْنَى شَيْءٍ وَإِلْقَائِهِ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ إِلَى أَنْ يَنْتَقِمُوا لَا يَكَادُ يَأْتَلِفُ مِنْهُمْ قَلْبَانِ ثُمَّ ائْتَلَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاتَّحَدُوا وَذَلِكَ لِمَا نَظَّمَ اللَّهُ مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَعَ مِنْ كَلِمَتِهِمْ وَأَحْدَثَ بَيْنَهُمْ من التحابّ والتوادّ وأما عَنْهُمْ مِنَ التَّبَاغُضِ وَكَلَّفَهُمْ مِنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَنْ يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يُقَلِّبُهَا كَمَا يَشَاءُ وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَادَ انْتَهَى، وَكَلَامُهُ آخِرًا قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْأُلْفِ هُوَ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِعْلًا لِلْعَبْدِ لَكَانَتِ الْمَحَبَّةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ خِلَافُ صَرِيحِ الْآيَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَوْلَا أَلْطَافُ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً سَاعَةً مَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فَأُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُضَافُ عِلْمُ الْوَلَدِ وَأَدَبُهُ إِلَى أَبِيهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحَصِّلْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَعُونَةِ الْأَبِ وَتَرْبِيَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا انْتَهَى، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ.

ص: 347

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ: فِي إِسْلَامِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسْلَمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَسِتُّ نِسْوَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ فَنَزَلَتْ، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ وَمَنِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَا فَسَّرَهُ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ أَيْ حَسْبُكَ اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ مَعْنَى الْآيَةِ: حَسْبُكَ اللَّهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ، قَالَ ابْنَ عَطِيَّةَ: فَمَنْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا نَصْبٌ عَلَى الْمَعْنَى بِيَكْفِيكَ الَّذِي سَدَّتْ حَسْبُكَ مَسَدَّهَا انْتَهَى، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ حَسْبُكَ لَيْسَ مِمَّا تَكُونُ الْكَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَلْ هَذِهِ إِضَافَةٌ صَحِيحَةٌ لَيْسَتْ مِنْ نَصْبٍ وحَسْبُكَ مُبْتَدَأٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ وَلَيْسَ مَصْدَرًا وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ إِلَّا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّوَهُّمِ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قِيلَ يَكْفِيكَ اللَّهُ أَوْ كَفَاكَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ عَلَى التَّوَهُّمِ لَا يَنْقَاسُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مَا وُجِدَتْ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ هُوَ أَنْ يَكُونَ وَمَنِ مَجْرُورَةً عَلَى حَذْفِ وَحَسْبِ لِدَلَالَةِ حَسْبُكَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ:

أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً

وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا

أَيْ وَكُلَّ نَارٍ فَلَا يَكُونُ مِنَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ مَكْرُوهٌ بِأَنَّهُ ضَرُورَةُ الشِّعْرِ انْتَهَى، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرُورَةً وَقَدْ أجاز سِيبَوَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبٌ تَقُولُ وَحَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَلَا يُجَرُّ لِأَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُكَنَّى مُمْتَنِعٌ. قَالَ:

فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَالْمَعْنَى كَفَاكَ وَكَفَى أَتْبَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ نَاصِرًا انْتَهَى، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَالُوا حَسْبُكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى كَفَاكَ وَقَبَّحَ أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الْمُضْمَرِ نَوَوُا الْفِعْلَ كَأَنَّهُ قَالَ حَسْبُكَ وَيَحْسَبُ أَخَاكَ دِرْهَمٌ وَلِذَلِكَ كَفِيكَ انْتَهَى، كَفِيكَ هُوَ مِنْ كَفَاهُ يَكْفِيهِ وَكَذَلِكَ قَطُّكَ تَقُولُ كَفِيكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَقَطُّكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ وَإِنَّمَا جَاءَ سِيبَوَيْهِ بِهِ حُجَّةً لِلْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ لِلدَّلَالَةِ فَحَسْبُكَ يَدُلُّ عَلَى كَفَاكَ وَيَحْسَبُنِي مُضَارِعُ أَحْسَبَنِي فُلَانٌ إِذَا أَعْطَانِي حَتَّى أَقُولَ حَسْبِي فَالنَّاصِبُ فِي هَذَا فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى وَهُوَ فِي كَفِيكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَوْضَحُ لِأَنَّهُ

ص: 348

مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُضْمَرِ أَيْ وَيَكْفِي زَيْدًا وَفِي قَطُّكَ وَزَيْدًا دِرْهَمٌ التَّقْدِيرُ فِيهِ أَبْعَدُ لِأَنَّ قَطَّكَ لَيْسَ فِي الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ شَيْءٌ مِنْ لَفْظِهِ إِنَّمَا هُوَ مُفَسِّرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَطْ وَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُضْمَرِ فَاعِلٌ يَعُودُ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالنِّيَّةُ بِالدِّرْهَمِ التَّقْدِيمُ فَيَصِيرَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من باب الأعمال لأن طَلَبَ الْمُبْتَدَأِ لِلْخَبَرِ وَعَمَلَهُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ طَلَبِ الْفِعْلِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ وَلَا عَمَلِهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَسْبُ اسْمُ فِعْلٍ وَالْكَافُ نَصْبٌ وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ فاعلا لحسبك وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ فِي وَمَنِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِ لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ بِاسْمِ الْفِعْلِ لَا مَجْرُورٌ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ لَا يُضَافُ إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الزَّجَّاجِ خَطَأٌ لِدُخُولِ الْعَوَامِلِ عَلَى حَسْبُكَ تَقُولُ بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ «1» ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ اسْمَ فِعْلٍ فِي مَكَانٍ فَيُعْتَقَدُ فِيهِ أَنَّهُ يَكُونُ اسْمَ فِعْلٍ وَاسْمًا غَيْرَ اسْمِ فِعْلٍ كَرُوَيْدَ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ رَفْعَ وَمَنِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره وَحَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَعَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ أَيْ حَسْبُهُمُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَكَ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَأَتْبَعَ عَلَى وَزْنِ أَكْرَمَ.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ فِي ضِمْنِهِمَا الْأَمْرُ بِصَبْرِ عِشْرِينَ لِمِائَتَيْنِ وَبِصَبْرِ مِائَةٍ لِأَلْفٍ وَلِذَلِكَ دَخَلَهَا النَّسْخُ إِذْ لَوْ كَانَ خَبَرًا مَحْضًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ النَّسْخُ لَكِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّكْلِيفِ جَازَ فِيهِ النَّسْخُ وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ نُسِخَ بِقَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّبْرِ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَرْطٍ لَفْظًا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنَ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي الْأُولَى وَتَقْيِيدُ الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَفْظًا هُوَ مَحْذُوفٌ مِنَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فَانْظُرْ إِلَى فَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ حَيْثُ أُثْبِتَ قَيْدٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَحُذِفَ نَظِيرُهُ مِنَ الثَّانِيَةِ وَأُثْبِتُ قَيْدٌ فِي الثَّانِيَةِ وَحُذِفَ مِنَ الْأُولَى وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ شَدِيدَ الْمَطْلُوبِيَّةِ أُثْبِتَ فِي أُولَى جُمْلَتَيِ التَّخْفِيفِ وَحُذِفَ مِنَ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ ثُمَّ خُتِمَتِ الآية بقوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ الْمَطْلُوبِيَّةِ وَلَمْ يَأْتِ فِي جُمْلَتَيِ التَّخْفِيفِ قَيْدُ الْكُفْرِ اكْتِفَاءً بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ من

(1) سورة الأنفال: 8/ 62. [.....]

ص: 349

الصَّحَابَةِ أَنَّ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ كَانَ فَرْضًا لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمُ انْتَقَلَ إِلَى ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَيْضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَمْ نَدْبًا هُوَ نَسْخٌ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْفِيفٌ لَا نسخ كمكي بن طَالِبٍ ضَعِيفٌ.

قَالَ مَكِّيٌ: إِنَّمَا هُوَ كَتَخْفِيفِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ وَلَوْ صَامَ لم يأتم وَأَجْزَأَهُ وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الثَّبَاتِ أَوْ نديبته كَانَ أَوَّلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ الْعِشْرُونَ تَمْثِيلًا لِلسَّرِيَّةِ وَالْمِائَةُ تَمْثِيلًا لِلْجَيْشِ فَلَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ بَعْدَ زَمَانٍ كَانَ الْمِائَةُ تَمْثِيلًا لِلسَّرَايَا وَالْأَلْفُ تَمْثِيلًا لِلْجَيْشِ وَلَيْسَ فِي أَمْرِهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ دَلِيلٌ عَلَى ابْتِدَاءِ فَرْضِيَّةِ الْقِتَالِ بَلْ كَانَ الْقِتَالُ مُفْتَرَضًا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ حَثًّا عَلَى أَمْرٍ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَنَصَّ تَعَالَى عَلَى سَبَبِ الْغَلَبَةِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ احْتِسَابٍ وَطَلَبِ ثَوَابٍ كَالْبَهَائِمِ فَتُفَلُّ نِيَّاتُهُمْ وَيَعْدَمُونَ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ نُصْرَتَهُ فَهُوَ تَعَالَى يَخْذُلُهُمْ وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَهُوَ مَوْعُودٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ.

وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَيَثْبُتَ الْوَاحِدُ لِلْعَشَرَةِ،

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَلَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، قِيلَ ثُمَّ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَضَجُّوا مِنْهُ وَذَلِكَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَنُسِخَ وَخُفِّفَ عَنْهُمْ بِمُقَاوَمَةِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ

، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِي اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ وَقَفَ بِإِزَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا فَالْهَزِيمَةُ عَلَيْهِ مُحَرَّمَةٌ مَا دَامَ مَعَهُ سِلَاحُهُ يُقَاتِلُ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ فَلَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ وَإِنْ قَابَلَهُ ثَلَاثَةٌ حَلَّتْ لَهُ الْهَزِيمَةُ وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ جَيْشَ مُؤْتَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَفُوا لِمِائَتَيْ أَلْفٍ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا لِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَفِي تَارِيخِ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّ طَارِقًا مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ سَارَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ وَسَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَالْتَقَى هُوَ وَمَلِكُ الْأَنْدَلُسِ لُذْرِيقُ وَكَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفٍ عِنَانٍ فَزَحَفَ إِلَيْهِ طَارِقٌ وَصَبَرَ لَهُ فَهَزَمَ اللَّهُ الطَّاغِيَةَ لُذْرِيقَ وَكَانَ الْفَتْحُ انْتَهَى وَمَا زَالَتْ جَزِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ تَلْتَقِي الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْهُمْ بِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّصَارَى فَيَغْلِبُونَهُمْ، وَأَخْبَرَنَا مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي الدَّيْمُوسِ الصَّغِيرِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا مِنْ مَدِينَةِ غَرْنَاطَةَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَكَانَ النَّصَارَى مِائَةَ أَلْفِ رَاجِلٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ رَامٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ بَيْنَ رَامٍ

ص: 350