المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) - (13) - باب: فيما أنكرت الجهمية - شرح سنن ابن ماجه للهرري = مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه - جـ ٢

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌(11) - (6) - فَضْلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه

- ‌(11) - (7) - فَضْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه

- ‌(11) - (8) - فَضائِلُ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم

- ‌(11) - (9) - فَضْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه

- ‌(11) - (10) - فَضْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه

- ‌(11) - (11) - فَضْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه

- ‌(11) - (12) - فَضْلُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم

- ‌(11) - (13) - فَضْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما

- ‌(11) - (14) - فَضْلُ سَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ رضي الله عنهم

- ‌(11) - (15) - فَضْلُ بِلَالٍ رضي الله عنه

- ‌(11) - (16) - فَضَائِلُ خَبَّابٍ رضي الله عنه

- ‌(11) - (17) - فَضْلُ أُبَيِّ بْنِ كعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنهم

- ‌(11) - (18) - فَضْلُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه

- ‌(11) - (19) - فَضْلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه

- ‌(11) - (20) - فَضْلُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه

- ‌(11) - (21) - فَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ رضي الله عنهم

- ‌(11) - (22) - فَضْلُ الْأَنْصَارِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

- ‌(11) - (23) - فَضْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا

- ‌(1) - (12) - بَابٌ: فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ

- ‌(2) - (13) - بَابٌ: فِيمَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ

- ‌(3) - (14) - بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً

- ‌(4) - (15) - بَابُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ

- ‌(5) - (16) - بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ

- ‌(6) - (17) - بَابُ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ

- ‌(7) - (18) - بَابُ مَنْ بَلَّغَ عِلْمًا

- ‌(8) - (19) - بَابُ مَنْ كَانَ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ

- ‌(9) - (20) - بَابُ ثَوْابِ مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ

- ‌(10) - (21) - بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُوطَأَ عَقِبَاهُ

- ‌(11) - (22) - بَابُ الْوَصَاةِ بِطَلَبَةِ الْعِلْمِ

- ‌(12) - (23) - بَابُ الانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ

- ‌(13) - (24) - بَابُ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ

الفصل: ‌(2) - (13) - باب: فيما أنكرت الجهمية

(2) - (13) - بَابٌ: فِيمَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ

(53)

-175 - (1) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ ح وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا خَالِي يَعْلَى

===

(2)

- (13) - (باب: فيما أنكرت الجهمية)

وفي "التاج": والجهمية طائفة من الخوارج نسبوا إلى جهم بن صفوان، أخذ الكلام عن الجعد بن درهم، قتله سلم بن أحوز في آخر دولة بني أمية. انتهى، وعبارة السندي: والجهمية هم طائفة من المبتدعة يخالفون أهل السنة في كثير من الأصول؛ كمسألة الرؤية، وإثبات الصفات، ينسبون إلى جهم -بفتح فسكون- هو جهم بن صفوان من أهل الكوفة، وأول ما ظهرت الجهمية في الكوفة، وأول ما ظهرت الخوارج في البصرة، وسيأتي الكلام على الجهمية في آخر هذا الباب، إن شاء الله تعالى.

* * *

(53)

- 175 - (1)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي.

قال: (حدثنا أبي) عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي.

(ووكيع) بن الجراح الرؤاسي الكوفي.

(ح) أي: حول المؤلف السند، (و) قال:(حدثنا علي بن محمد) بن إسحاق الطنافسي الكوفي.

(حدثنا خالي يعلى) بن عبيد بن أبي أمية الإيادي، ويقال: الحنفي مولاهم أبو يوسف الطنافسي مولى إياد، ثقة، من التاسعة، مات سنة بضع ومئتين. يروي عنه:(ع).

ص: 141

وَوَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ

===

(ووكيع وأبو معاوية) محمد بن خازم التميمي الكوفي.

(قالوا) أي: قال كل من عبد الله بن نمير ووكيع ويعلى وأبي معاوية:

(حدثنا إسماعيل بن أبي خالد) البجلي الأحمسي مولاهم أبو عبد الله الكوفي، واسم أبي خالد: سعد، وقيل: هرمز، وقيل: كثير، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة ست وأربعين ومئة (146 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن قيس بن أبي حازم) البجلي أبي عبد الله الكوفي، واسم أبي حازم: عوف بن عبد الحارث بن عوف، ثقة، من الثانية، مات سنة ثمان وتسعين (98 هـ)، وقيل: بعد التسعين. يروي عنه: (ع).

(عن جرير بن عبد الله) بن جابر البجلي أبي عمرو اليماني القُرِّي رضي الله عنه، له مئة حديث.

وهذا السند من خماسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم كوفيون إلا جرير بن عبد الله؛ فإنه يماني قري، وحكمه: الصحة.

(قال) جرير: (كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى القمر ليلة البدر) أي: ليلة أربع عشرة؛ لأنها ليلة كماله نورًا وذاتًا، (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنكم) أيها المؤمنون (سترون ربكم) في الآخرة (كما ترون هذا القمر) الكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: ترونه رؤية واضحة مثل رؤيتكم هذا القمر من غير حجاب ولا مزاحمة ولا إشكال، فالتشبيه في وضوح الرؤية، لا في

ص: 142

لَا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا

===

المرئي ولا في نفس الرؤية؛ لأن هذه رؤية في جهة وتلك رؤية لا في جهة.

وفي "جامع الأصول": قد يخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في (كما ترون) لتشبيه المرئي بالمرئي، وإنما هي لتشبيه الرؤية؛ وهو فعل الرائي، ومعناه: ترون ربكم رؤية يزول معها الشك كرؤيتكم القمر ليلة البدر، ولا ترتابون فيه ولا تمترون. انتهى.

وهذا وجه وجيه، لكن آخر الحديث أنسب بما ذكر، وأما تشبيه المرئي بالمرئي .. فباطل؛ فإنه من الجهل بالعربية؛ لأن كما ترون صفة لمصدر محذوف، فهو نص في تشبيه الرؤية بالرؤية لا بالمرئي. انتهى "سندي".

حالة كونكم (لا تضامون) -بفتح التاء وتشديد الميم- أصله تتضامون من باب تفاعل، فحذفت إحدى التاءين؛ أي: لا تزدحمون ولا تتعبون، أو بضم التاء وتخفيف الميم على صيغة المبني للمجهول؛ لأنه من ضام الثلاثي من الضيم بمعنى الظلم والمشقة؛ أي: لا يلحقكم ضيم ولا مشقة؛ أي: حالة كونكم لا تضامون ولا تتعبون (في رؤيته) سبحانه وتعالى.

وقوله: (فإن استطعتم) مرتب على محذوف؛ تقديره: إن أردتم أن تستحقوا رؤيته تعالى في الآخرة .. فأوصيكم بوصية، وتلك الوصية ما تضمنه قولي: إن استطعتم؛ أي: إن قدرتم على (ألا تغلبوا) بالبناء للمفعول؛ أي: على ألا يغلبنكم الشيطان؛ أي: على دفع غلبة الشيطان إياكم بوسوسته حتى يحثكم (على) ترك فعل (صلاة قبل طلوع الشمس) وهي صلاة الصبح، (و) على ترك فعل صلاة (قبل غروبها) وهي صلاة العصر؛ أي: حتى يحثكم على تركهما أصلًا، أو على تأخيرهما عن وقتهما؛ أي: إن قدرتم على دفع

ص: 143

فَافْعَلُوا"، ثُمَّ قَرَأَ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .

(54)

-176 - (2) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ،

===

المغلوبية للشيطان .. (فافعلوا) هاتين الصلاتين، (ثم قرأ) رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق قوله تعالى:({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ})(1).

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري؛ أخرجه في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، وباب فضل صلاة الفجر، وفي كتاب التفسير، وفي كتاب التوحيد، ومسلم؛ أخرجه في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، وأبو داوود؛ أخرجه في كتاب السنة، باب في الرؤية، والترمذي؛ أخرجه في كتاب صفة الجنة.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث جرير بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(54)

-176 - (2)(حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني الكوفي.

قال: (حدثنا يحيى بن عيسى) بن عبد الرحمن التميمي أبو زكرياء الكوفي (الرملي) أي: نزيل رملة -بفتح الراء وسكون الميم- بلد بفلسطين.

وثقه العجلي، وقال في "التقريب": صدوق يخطئ، ورمي بالتشيع،

(1) سورة ق: (39).

ص: 144

عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ:"فَكَذَلِكَ لَا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

===

من التاسعة، مات سنة إحدى ومئتين (201 هـ)، وفي "التهذيب": ضعفه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به وفيه ضعف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. يروي عنه: (م د ت ق).

(عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي.

(عن أبي صالح) ذكوان السمان المدني مولى جويرية بنت قيس.

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم كوفيون، واثنان مدنيان، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه عيسى بن يحيى الرملي، وهو مختلف فيه.

(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل (تضامون) بتقدير حرف الاستفهام، والوجهان السابقان جاريان فيه؛ أي: هل تتعبون (في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا) أي: قال الحاضرون: (لا) ضيم ولا مشقة علينا في رؤيته في تلك الليلة، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فكذلك) أي: فكما لا ضيم ولا مشقة عليكم في رؤية القمر ليلة البدر (لا تضامون) أي: لا تتعبون (في رؤية ربكم يوم القيامة).

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه حسن، كما أن إسناده حسن، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث جرير بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، فقال:

ص: 145

(55)

- 177 - (3) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: "تَضَارُّونَ

===

(55)

-177 - (3)(حدثنا محمد بن العلاء) بن كريب أبو كريب (الهمداني) الكوفي، ثقة، من العاشرة، مات سنة سبع وأربعين ومئتين (247 هـ). يروي عنه:(ع).

قال: (حدثنا عبد الله بن إدريس) الأودي أبو محمد الكوفي، ثقة، من الثامنة، مات سنة اثنتين وتسعين ومئة (192 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن الأعمش) سليمان بن مهران الكاهلي مولاهم أبي محمد الكوفي، ثقة حافظ قارئ، من الخامسة، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن أبي صالح) ذكوان (السمان) المدني، لقب به؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن إلى الكوفة، ثقة ثبت، من الثالثة، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن أبي سعيد) الخدري سعد بن مالك بن سنان الأنصاري المدني الصحابي المشهور رضي الله عنه.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم كوفيون، واثنان مدنيان، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) أبو سعيد: (قلنا) معاشر الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله؛ أنرى) بهمزة الاستفهام الاستخباري، والرؤية هنا بصرية؛ أي: هل نرى ونبصر (ربنا) يوم القيامة؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ترونه بلا تعب ولا مشقة، فهل (تضارون) -بفتح التاء وتشديد الراء بحذف إحدى التاءين- أصله تتضارون، ويحتمل أن يكون بتخفيف الراء على

ص: 146

فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي غَيْرِ سَحَابٍ؟ "، قُلْنَا: لَا، قَالَ: "فَتَضارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي غَيْرِ سَحَابٍ؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "إِنَّكُمْ لَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلَّا كَمَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا".

(56)

- 178 - (4) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،

===

صيغة المجهول من الضير لغة في الضرر؛ أي: هل يلحقكم ضرر (في رؤية الشمس في) وقت (الظهيرة) وسط النهار، حالة كونها (في) سماء صافية من (غير سحاب) ولا غيم ونحوه، وفي بعض النسخ:(من غير سحاب) أي: حالة كونها من غير حائل سحاب؟

(قلنا) له صلى الله عليه وسلم: (لا) يلحقنا ضرر في رؤية الشمس من غير سحاب، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ (فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر) حالة كونه (في) سماء صحو من (غير سحاب) ولا غيم (قالوا: لا) يلحقنا ضرر في ذلك، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنكم) أيها المؤمنون (لا تضارون) أي: لا يلحقكم ضرر (في رؤيته) تعالى (إلا كما تضارون في رؤيتهما) أي: إلا ضررًا كضرركم في رؤية الشمس والقمر حالة كونهما من غير سحاب، وذلك معلوم أنه لا ضرر فيه، فكذلك رؤيته تعالى لا ضرر ولا تعب فيها.

وهذا الحديث مما انفرد به المؤلف، ودرجته: أنه صحيح، وغرضه بسوقه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثالثًا لحديث جرير بحديث أبي رزين رضي الله عنهما، فقال:

(56)

- 178 - (4)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي.

ص: 147

حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ

===

قال: (حدثنا يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي، ثقة ثبت متقن، من التاسعة، مات سنة ست ومئتين (206 هـ). يروي عنه:(ع).

قال: (أخبرنا حماد بن سلمة) بن دينار التميمي مولاهم أبو سلمة البصري، ثقة عابد، من الثامنة، مات سنة سبع وستين ومئة (167 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن يعلى بن عطاء) العامري الليثي الطائفي. روى عن: أبي رزين، وأوس بن أبي أوس، وعمرو بن الشريد، وأبي علقمة الهاشمي، وغيرهم. ويروى عنه:(م عم)، وشعبة، وحماد بن سلمة، وهشيم، والثوري.

وثقه النسائي وابن معين، وقال في "التقريب": ثقة، من الرابعة، مات سنة عشرين ومئة (120 هـ)، أو بعدها.

(عن وكيع بن حدس) -بمهملات وبضم أوله وثانيه وقد يفتح ثانيه- ويقال فيه: عدس -بالعين بدل الحاء- أبي مصعب العقيلي -بفتح العين- الطائفي.

قال ابن قتيبة: غير معروف، وقال ابن القطان: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": مقبول، من الرابعة. يروي عنه:(عم).

(عن عمه أبي رزين) العقيلي الصحابي المشهور رضي الله عنه اسمه لقيط بن صبرة -بفتح المهملة وكسر الموحدة- وقيل: لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق -بضم الميم وإسكان النون وفتح المثناة فوق وكسر الفاء آخره قاف- ابن عامر بن عقيل العقيلي المدني. روى عن: النبي

ص: 148

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَكُلُّنَا نَرَى اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ:"يَا أَبَا رَزِينٍ؛ أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ:"فَاللهُ أَعْظَمُ؛ وَذَلِكَ آيَةٌ فِي خَلْقِهِ".

===

صلى الله عليه وسلم، ويروي عنه: ابنه عاصم بن لقيط، وابن أخيه وكيع بن حدس، وعبد الله بن حاجب.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله اثنان منهم طائفيان، وواحد مدني، وواحد بصري، وواحد واسطي، وواحد كوفي، وحكمه: الحسن؛ لأن فيه روايًا مختلفًا فيه؛ وهو وكيع بن حدس.

(قال) أبو رزين: (قلت: يا رسول الله؛ أكلنا نرى الله) سبحانه وتعالى (يوم القيامة؟ وما آية ذلك) أي: وما علامة رؤيتنا إياه سبحانه وتعالى، وما مثالها ونظيرها (في) وضوحها وعدم خفائها من رؤية (خلقه) سبحانه؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا أبا رزين؛ أليس كلكم) معاشر الإنسان (يرى القمر) ليلة البدر رؤية واضحة لا شك فيها، حالة كون كلكم (مخليًا) منفردًا (به) أي: برؤية القمر والنظر إليه اسم فاعل من أخلى بالشيء إذا انفرد به؛ أي: منفردًا برؤيته من نجير أن يزاحمه صاحبه في ذلك؟

(قال) أبو رزين: (قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلى) يا رسول الله، نراه رؤية واضحة لا خفاء فيها، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فالله) سبحانه وتعالى (أعظم) وأجل من أن يتصف بصفات الحوادث، فرؤيته في الآخرة أوضح وأظهر من رؤية القمر ليلتئذ، (وذلك) القمر؛ أي: رؤيته ليلة البدر (آية) أي: مثال ونظير لرؤيته تعالى في الآخرة للمؤمنين، وقوله:(في خلقه) صفة لآية؛ أي: آية كائنة في خلقه؛ أي: في مخلوقه في الدنيا.

ص: 149

(57)

- 179 - (5) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَحِكَ رَبُّنَا

===

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: أبو داوود؛ أخرجه في كتاب السنة، باب في الرؤية.

ودرجته: أنه حسن؛ لأن إسناده حسن، كلما في "السندي"، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى رابعًا لحديث جرير بحديث آخر لأبي رزين رضي الله عنهما، فقال:

(57)

- 179 - (5)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين) تقدم البحث عن ترجمة هذا السند، وحكمه آنفًا، فلا عود ولا إعادة.

(قال) أبو رزين: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضحك ربنا) من باب فرح، وربنا فاعل؛ أي: ضحك ضحكًا يليق به؛ أي: اتصف بصفة الضحك التي هي من صفات الله تعالى، والضحك صفة ثابتة لله تعالى نثبته ونعتقده، ولا نكيفه ولا نمثله؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومذهب أهل التحقيق والسلف أن الضحك صفة سمعية يلزم إثباتها واعتقادها مع نفي التشبيه وكمال التنزيه؛ كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. انتهى "سندي".

ص: 150

مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ"،

===

(من) شدة (قنوط) ويأس (عباده) من رحمته وفضله في حالة فقرهم ومرضهم وابتلائهم بالمصائب، (وقرب غيره) تعالى؛ أي: مع قرب تغييره تعالى وإزالته لذلك الفقر والمرض والمصائب عنهم، والقنوط على وزن الجلوس؛ وهو اليأس، ولعل المراد ها هنا: هو الحاجة والفقر؛ أي: يرضى عنهم ويقبل بالإحسان إذا نظر إلى فقرهم وفاقتهم وذاتهم وحقارتهم وضعفهم، وإلا .. فالقنوط من رحمته يوجب الغضب لا الرضا، قال تعالى:{لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (1)، وقال:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (2).

إلا أن يقال: ذلك هو القنوط بالنظر إلى كرمه وإحسانه؛ مثل ألا يرى له كرمًا وإحسانًا أو يرى قليلًا فيقنط كذلك، فهذا هو الكفر، والمنهي عنه أشد النهي، وأما القنوط بالنظر إلى أعماله وقبائحه .. فهو مما يوجب للعبد تواضعًا وخشوعًا وانكسارًا، فيوجب الرضا ويجلب الإحسان والإقبال من الله تعالى، ومنشأ هذا القنوط هو الغيبة عن صالح الأعمال واستعظام المعاصي إلى الغاية، وكل منهما مطلوب ومحبوب، ولعل هذا سبب مغفرة ذنوب من أمر أهله بإحراقه بعد الموت حين أيس، فليتأمل. انتهى "سندي".

قوله: (وقرب غيره) ضبط بكسر الغين المعجمة ففتح التحتانية؛ بمعنى تغيير الحال، وهو اسم مصدر من قولك: غيرت الشيء تغييرًا وغيرًا فتغير حاله من القوة إلى الضعف، ومن الحياة إلى الموت، وهذه الأحوال مما

(1) سورة الزمر: (53).

(2)

سورة يوسف: (87).

ص: 151

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَوَيَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: لَنْ نَعْدِمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا.

===

تجلب الرحمة لا محالة في الشاهد، فكيف لا تكون أسبابًا عادية لجلبها من أرحم الراحمين جل ذكره وثناؤه؟ ! والأقرب هنا: أن الغير بمعنى تغيير الحال وتحويله لا تغيره وتحوله، والضمير في (غيره) إلى الله تعالى؛ والمعنى أنه تعالى يضحك من صيرورة العبد مأيوسًا من الخير بأدنى شر وقع عليه مع قرب تغييره تعالى الحال من شر إلى خير، ومن مرض إلى عافية، ومن بلاء ومحنة إلى سرور وفرحة، لكن الضحك على هذا لا يمكن تفسيره بالرضا. انتهى "سندي".

(قال) أبو رزين: (قلت: يا رسول الله؛ أ) يرضى الله (ويضحك الرب؟ قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم) يضحك الرب؛ لأن الضحك من صفاته، قال أبو رزين:(قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذًا (لن نعدم) ولن نفقد (من رب يضحك) ولا يغضب (خيرًا) أي: إحسانًا وفضلًا وكرمًا وجودًا، وعدم من باب علم، يقال: عدم الشيء إذا فقده، يريد أن الرب الذي من صفاته الضحك لا نفقد خيره، بل كلما احتجنا إلى الخير .. وجدناه، فإنا إذا أظهرنا الفاقة لديه .. يضحك فيعطي.

وهذا الحديث مما انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه حسن لما مر، وفي "الزوائد": وكيع ذكره ابن حبان في "الثقات"، وباقي رجاله احتج بهم مسلم. انتهى؛ أي: فالحديث: حسن. انتهى "سندي"، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى خامسًا لحديث جرير بحديث آخر أيضًا لأبي رزين رضي الله عنهما، فقال:

ص: 152

(58)

- 180 - (6) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ،

===

(58)

- 180 - (6)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح) بن سفيان الجرجرائي.

(قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يارسول الله؛ أين كان) أي: في أي مكان كان (ربنا) سبحانه وتعالى، قيل: الكلام على حذف مضاف؛ تقديره: أين كان عرش ربنا؟ ويدل على هذا المحذوف قوله فيما بعد: ثم خلق عرشه على الماء، وعلى هذا يحمل قوله:(قبل أن يخلق خلقه) على غير العرش، كما يدل عليه رواية لأحمد:(قبل أن يخلق السماوات والأرض) وعليه، فلا إشكال في الحديث، والظاهر أن الكلام على ظاهره من غير تقدير؛ أي: أين كان ربنا قبل أن يخلق شيئًا من مخلوقاته من الماء والعرش والسماوات والأرض؟

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان) الله سبحانه وتعالى قبل خلق مخلوقاته (في عماء) بالمد، وقال الترمذي: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: العماء؛ أي: ليس معه شيء (ما تحته) أي: ما تحت ذلك العماء (هواء) أي: جو؛ فالضمير في تحته وفوقه للعماء (وما فوقه هواء) وما في الموضعين نافية لا موصولة، وروي:(كان في عمىً) بالقصر؛ أي: لا شيء معه موجود؛ لأنه مما عمي وخفي عن الخلق؛ لكونه غير شيء،

ص: 153

ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ".

===

فكأنه قال في جوابه: كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره، ثم قال:(ما تحته هواء، وما فوقه هواء) ليس تحت العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا فوقه هواء؛ لأن ذلك إذا كان غير شيء .. فليس يثبت له هواء بوجه، ويكون حاصل الجواب الإرشاد إلى عدم المكان وإلى أنه لا أين ثمة فضلًا عن أن يكون هو في مكان.

وقال كثير من العلماء: هذا من حديث الصفات، فنؤمن به ونكل علمه إلى عالمه، وأما قوله:(وما) بالقصر في بعض نسخ ابن ماجه .. فالظاهر أنها نافية مؤكدة للنفي السابق أو داخلة على محذوف؛ تقديره: وما تحته أرض وما فوقه سماوات، وقرأ بعضهم (وماء) بالمد عطفًا على هواء؛ أي: وما فوقه وتحته هواء ولا ماء، والأقرب أنه تصحيف.

(ثم) -بضم المثلثة- أي: ثم بعد خلقه الماء (خلق عرشه على الماء) ويحتمل أن يكون ثَم -بفتح المثلثة- اسم إشارة إلى المكان، وخلق مصدر بمعنى مخلوق؛ أي: وما ثم مخلوق، وقوله:(عرشه على الماء) جملة أخرى مستأنفة، وقال الأزهري: قال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا .. فلا ندري كيف كان ذلك العماء، قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته. انتهى من "الخازن".

وقال السيوطي في "مصباح الزجاجة": قال القاضي ناصر الدين بن المنير: وجه الإشكال في الحديث الظرفية والفوقية والتحتية، قال: والجواب أن (في) بمعنى على، وعلى بمعنى الاستيلاء؛ أي: كان مستوليًا على هذا السحاب الذي خلق منه المخلوقات كلها، والضمير في تحته وفوقه يعود إلى السحاب؛ أي: كان مستوليًا على هذا السحاب الذي فوقه الهواء

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وتحته الهواء، وروي بلفظ القصر في العمى، والمعنى: عدم ما سواه؛ لأنه قال: كان ولم يكن معه شيء، بل كل شيء كان عدمًا عمىً لا موجودًا ولا مدركًا، والهواء الفراغ أيضًا العدم، كأنه قال: كان لا شيء معه ولا تحت ولا فوق.

قال الحافظ: قد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعًا: "إن الماء خلق قبل العرش" وروى السندي في "تفسيره" بأسانيد متعددة: "إن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء"، وأما ما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا:"أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة" .. فيجمع بينه وبين ما قبله: بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما صدر منه من الكتاب؛ أي: أنه قيل له: اكتب أول ما خلق. انتهى، وفي بعض نسخ "ابن ماجه":(قال: كان في عماء، ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق العرش على الماء) بإسقاط (ما) قبل ثم، وهذه النسخة المعتمدة، هي أوضح في المعنى.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: أحمد (4/ 11) من طريق يزيد بن هارون، والترمذي؛ أخرجه في كتاب التفسير، باب ومن سورة هود، وقال: هكذا يقول حماد بن سلمة: (وكيع بن حدس) بالحاء المهملة، ويقول شعبة وأبو عوانة وهشيم:(وكيع بن عدس) بالعين المهملة، وقال: هذا حديث حسن.

قلت: فدرجته: أنه حديث حسن، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ص: 155

(59)

- 181 - (7) حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ

===

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى سادسًا لحديث جرير بحديث ابن عمر رضي الله عنهم، فقال:

(59)

- 181 - (7)(حدثنا حميد بن مسعدة) بن المبارك الباهلي السامي -بمهملة- البصري، صدوق، من العاشرة، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (244 هـ). يروي عنه:(م عم).

(حدثنا خالد بن الحارث) بن عبيد بن سليم الهجيمي -بضم الهاء وفتح الجيم وسكون الياء- نسبة إلى الهجيم بن عمرو، أبو عثمان البصري، وقال في "التقريب": ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومئة (186 هـ). يروي عنه:(ع).

(حدثنا سعيد) ابن أبي عروبة مهران اليشكري مولاهم أبو النضر البصري، ثقة كثير التدليس، من السادسة، مات سنة ست وخمسين ومئة (156 هـ)، وقيل: سبع وخمسين. يروي عنه: (ع).

(عن قتادة) بن دعامة السدوسي أبي الخطاب البصري، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة سبع عشرة ومئة (117 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن صفوان بن محرز) بن زياد (المازني) البصري، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة أربع وسبعين ومئة (174 هـ). يروي عنه:(خ م ت س ق).

(قال) صفوان: (بينما نحن) ماشون (مع عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (وهو) أي: والحال أن ابن عمر (يطوف بالبيت) الحرام، وقوله:(إذ عرض له رجل) جواب بينما، وإذ فجائية رابطة لجواب بينما،

ص: 156

فَقَالَ: يَا بْنَ عُمَرَ؛ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ فِي النَّجْوَى، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبهِ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ؛ أَعْرِفُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ

===

يقال: عرض له إذا أتاه في عرضه؛ والمعنى: بين أوقات مشينا مع ابن عمر وهو يطوف بالبيت فاجأه عرض رجل له؛ أي: إتيانه له في مقابلة وجهه.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله كلهم بصريون إلا ابن عمر؛ فإنه مكي، وحكمه: الصحة.

(فقال) الرجل: (يا بن عمر؛ كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في) شأن (النجوى؟ ) أي: في مناجاة الله للعبد يوم القيامة؛ أي: مكالمته إياه سرًّا عن أهل الموقف، والنجوى: اسم مصدر يقوم مقام المصدر، يقال: ناجى يناجي مناجاة ونجوى، (قال) ابن عمر:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنى) بالبناء للمفعول من الإدناء؛ أي: يقرب (المؤمن من) موقف مناجاة (ربه يوم القيامة حتى يضع) رب العزة (عليه) أي: على المؤمن (كنفه) -بفتحتين- أي: ستره عن أهل الموقف حتى لا يطلع على سره غيره تعالى، (ثم) بعد وضع كنفه عليه (يقرره) أي: يحمله على الإقرار (بذنوبه) من التقرير بمعنى الحمل على الإقرار.

(فيقول) عز وجل له: (هل تعرف) يا عبدي أنك فعلت ذنب كذا وكذا، في مكان كذا وكذا، في يوم كذا وكذا؟ وجملة القول تفسير للتقرير، (فيقول) العبد لربه:(يا رب؛ أعرفـ) ـها، (حتى إذا بلغ) المؤمن (منه) أي: من الإقرار أو (حتى إذا بلغ) الفزع (منه) أي: من المؤمن (ما شاء الله أن يبلغ) من

ص: 157

قَالَ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، قَالَ: ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ قَالَ: وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ .. فَيُنَادَى عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ"، قَالَ خَالِدٌ: فِي الْأَشْهَادِ شَيْءٌ مِنِ انْقِطَاعٍ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

===

غايته ونهايته .. (قال) الله عز وجل: (إني سترتها) أي: الذنوب (عليك في الدنيا، وأنا أغفرها) أي: أغفر تلك الذنوب (لك اليوم) يعني: يوم المحاسبة والمجازاة.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم) بعد غفران الله تعالى له (يعطى) ذلك المؤمن (صحيفة حسناته أو) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ابن عمر: يعطى ذلك المؤمن (كتابه) أي: كتاب حسناته (بيمنيه) متعلق بيعطى، والشك من ابن عمر، أو ممن دونه، وهو في لفظ الصحيفة، أو لفظ الكتاب، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وأما الكافر، أو) قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأما (المنافق .. فينادى على رؤوس الأشهاد) والحاضرين من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين.

(قال خالد) بن الحارث (في) رواية لفظ على رؤوس (الأشهاد شيء من انقطاع) يعني: ليست هذه الكلمة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي موقوفة على ابن عمر، بل المرفوع: فينادى الكافر أو المنافق بقول الملائكة: (هؤلاء) الكفرة أو الفسقة هم (الذين كذبوا) بالافتراء (على ربهم) في الدنيا، (ألا لعنة الله على الظالمين) بالشرك والافتراء على ربهم، فيساقون إلى جهنم.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: البخاري؛ أخرجه في كتاب المظالم،

ص: 158

(60)

- 182 - (8) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ،

===

باب قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (1)، وفي كتاب التفسير، وفي كتاب الأدب، وفي كتاب التوحيد. ومسلم؛ أخرجه في كتاب التوبة، باب (8).

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استأنس المؤلف رحمه الله تعالى للترجمة بحديث جابر رضي الله عنه، فقال:

(60)

- 182 - (8)(حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب) محمد بن عبد الرحمن بن أبي عثمان الأموي، أبو عبد الله البصري، صدوق، من كبار العاشرة، مات سنة مئتين وأربع وأربعين (244 هـ). يروي عنه:(م ت س ق).

قال: (حدثنا أبو عاصم) عبد الله بن عبيد الله (العباداني) المرائي البصري، ويقال له: عبد الله بن عبد بلا إضافة، ويقال له: عبيد الله بن عبد الله. روى عن: الفضل بن عيسى الرقاشي، وخالد الحذاء، وابن أبي عياش، وغيرهم، ويروي عنه:(ق)، ومحمد بن أبي الشوارب، والحسن بن عرفة، وآخرون.

قال ابن معين: صالح الحديث، لم يكن به بأس، وقال عمرو بن علي: كان صدوقًا ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وقال العقيلي: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان يخطئ، وقال في "التقريب": لين الحديث، من الثامنة.

قال: (حدثنا الفضل) بن عيسى بن أبان (الرقاشي) أبو عيسى البصري

(1) سورة هود: (18).

ص: 159

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ

===

الواعظ. روى عن: محمد بن المنكدر، وأنس بن مالك، وأبي عثمان النهدي، وغيرهم، من السادسة، ويروي عنه:(ق)، وأبو عاصم العباداني، وأبو عاصم النبيل، والحكم بن أبان، وغيرهم.

قال ابن معين: كان قاضيًا رجل سوء قدريًا خبيثًا، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، في حديثه بعض الوهن ليس بقوي، وقال أبو داوود: كان من أخبث الناس قولًا، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: الضعف بين على ما يرويه، وبالجملة: اتفقوا على تضعيفه.

(عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير -مصغرًا- التيمي المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة ثلاثين ومئة، أو بعدها. يروي عنه:(ع).

(عن جابر بن عبد الله) الأنصاري السلمي رضي الله عنهما.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم بصريون، واثنان مدنيان، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه راويًا متفقًا على ضعفه وهو الفضل بن عيسى الرقاشي.

(قال) جابر: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أهل الجنة) متقلبون (في نعيمهم؛ إذ سطع) أي: ظهر وطلع وارتفع (لهم نور) من فوقهم، (فرفعوا رؤوسهم) إلى جهة العرش، (فإذا الرب) جل جلاله (قد أشرف) واطلع (عليهم) أي: ظهر (من فوقهم) حالة كونه عاليًا علوًا يليق به تعالى، فينظر إليهم نظر رحمة فوق ما كانوا فيها.

ص: 160

فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ".

===

(فقال) الرب جل جلاله لهم: (السلام عليكم يا أهل الجنة، قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (وذلك) أي: مصداق ذلك السلام وشاهده (قول الله) عز وجل: ({سَلَامٌ}) مني عليكم أخص ({قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (1)، قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فينظر) الله (إليهم) أي: يبدو لهم أنه ناظر إليهم، أو ينظر إليهم نظر رحمة فوق ما كانوا فيها من الرحمة، وإلا .. فهو ناظر إليهم على الدوام لا يغيب عن نظره شيء، (وينظرون إليه) تعالى (فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).

وهذا الحديث مما انفرد به ابن ماجه، فدرجته: أنه ضعيف (7)(28)؛ لأن في إسناده راويًا متفقًا على ضعفه؛ وهو الفضل الرقاشي، قال السيوطي: أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، وقال: الفضل الرقاشي رجل سوء، ورواه عنه أبو عاصم ولا يتابع عليه، كذا ذكره عن العقيلي، والذي رأيته أنا في كتاب العقيلي ما نصه: أبو عاصم منكر الحديث، وكان الفضل يرى القدر، كاد أن يغلب على حديثه الوهم، وهذا لا يقتضي الحكم بالوضع، وله طريق آخر من حديث أبي هريرة، ذكره في "اللآلي". انتهى، انتهى "سندي".

* * *

(1) سورة يس: (58).

ص: 161

(61)

-183 - (9) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ،

===

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى سابعًا لحديث جرير بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنهما، فقال:

(61)

- 183 - (9)(حدثنا علي بن محمد) الطنافسي الكوفي.

(حدثنا وكيع) بن الجراح الكوفي.

(عن) سليمان بن مهران (الأعمش) الكاهلي الكوفي.

(عن خيثمة) بن عبد الرحمن بن أبي سبرة -بفتح المهملة وسكون الموحدة- الجعفي الكوفي، ثقة وكان يرسل، من الثالثة، مات بعد سنة ثمانين. يروي عنه:(ع).

(عن عدي بن حاتم) بن عبد الله بن سعد بن حشرج بن امرئ القيس بن عدي الجواد بن الجواد أبي طريف الطائي الكوفي الصحابي المشهور رضي الله عنه، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة سبع، له ست وستون حديثًا؛ اتفقا على (6)، وانفرد (خ) بثلاثة، و (م) بحديثين، مات سنة ثمان وستين (68 هـ). يروي عنه:(ع).

وهذا السند من خماسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم كوفيون، وحكمه: الصحة.

(قال) عدي بن حاتم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منكم) أيها المكلفون (من أحد) فمن زائدة؛ أي: فما أحد منكم (إلا سيكلمه ربه) يوم القيامة (ليس بينه) أي: بين الرب (وبينه) أي: وبين العبد (ترجمان) بفتح التاء وضم الجيم، ويجوز ضم أوله إتباعًا، ويجوز فتح الجيم، وهو

ص: 162

فَيَنْظُرُ عَنْ مَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ مَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ .. فَلْيَفْعَلْ".

===

معرب، وقيل: عربي، والمراد أنه لا واسطة بينهما، (فينظر) أحدكم (عن من) هو في جانب (أيمن منه، فلا يرى إلا شيئًا قدمه) من الأعمال الصالحة، (ثم ينظر عن من) هو في جانب (أيسر منه، فلا يرى إلا شيئًا قدمه) من الأعمال السيئة، (ثم ينظر أمامه، فتستقبله) أي: تظهر له (النار، فمن استطاع) وقدر (منكم) أيها المؤمنون (أن يتقي النار) أي: أن يجعل بينه وبينها وقاية وسترًا، (ولو) كان اتقاؤه وستره منها (بشق تمرة) -بكسر الشين- أي: بنصف حبة تمرة؛ أي: بالتصدق به .. (فليفعل) ذلك الاتقاء؛ أي: فليتصدق به، وهذا من باب ذكر الأعم وإرادة الأخص، وفي الحديث الحث على الصدقة، وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار. انتهى "نواوي".

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: البخاري؛ أخرجه في كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، وأخرجه أيضًا في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (1)، ومسلم؛ أخرجه في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، والترمذي؛ أخرجه في كتاب صفة القيامة والرقائق.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثامنًا لحديث جرير بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، فقال:

(1) سور القيامة: (22).

ص: 163

(62)

- 184 - (10) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ

===

(62)

- 184 - (15)(حدثنا محمد بن بشار) العبدي البصري.

قال: (حدثنا أبو عبد الصمد) البصري (عبد العزيز بن عبد الصمد) العمي الحافظ. روى عن: أبي عمران الجوني، ومطر الوراق، ويروي عنه:(ع)، وبندار، وأحمد، وإسحاق.

وثقه أحمد وأبو داوود، وقال في "التقريب": ثقة حافظ، من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين ومئة (187 هـ)، ويقال بعد ذلك. يروي عنه:(ع).

(حدثنا أبو عمران الجوني) نسبة إلى جون؛ بطن من الأزد الأزدي عبد الملك بن حبيب البصري، مشهور بكنيته، وثقه ابن معين، وقال في "التقريب": ثقة، من كبار الرابعة، مات سنة ثمان وعشرين ومئة (128 هـ)، وقيل بعدها. يروي عنه:(ع).

(عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس) أبي موسى (الأشعري) الكوفي، قيل: اسمه عمرو.

قال الحافظ: اسمه كنيته. روى عن: أبيه، والبراء بن عازب، ويروي عنه:(ع)، وأبو عمران الجوني، وأبو إسحاق السبيعي.

وقال العجلي: تابعي كوفي ثقة، وقال ابن سعد: اسمه كنيته، وكان قليل الحديث يستضعف، وقال في "التقريب": ثقة، من الثالثة، مات سنة ست ومئة (106 هـ)، وكان أسنَّ من أخيه أبي بردة.

(عن أبيه) أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس الكوفي رضي الله عنه.

ص: 164

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ تبارك وتعالى إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ".

===

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم بصريون واثنان كوفيان، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) أبو موسى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنتان) مبتدأ أول وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل (من فضة) خبر مقدم للمبتدأ الثاني (آنيتهما) مبتدأ ثان (وما فيهما) معطوف على المبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، والتقدير: جنتان آنيتهما وما فيهما كائنة من فضة، وكذا يقال في قوله:(وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما) والتقدير: وجنتان آنيتهما وما فيهما كائنة من ذهب (وما بين القوم) أي: أهل الجنة (وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء) أي: إلا رداء هي الكبرياء والتعالي عن صفات الحوادث، حالة كونه (على وجهه) المقدس وذاته المنزه (في جنة عدن) حال من فاعل ينظرون.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: البخاري؛ أخرجه في كتاب التفسير، في باب تفسير سورة الرحمن، ومسلم في كتاب الإيمان، والترمذي في كتاب صفة الجنة.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

قال السندي: والظاهر أن المراد برداء الكبرياء نفس صفة الكبرياء على أن الإضافة بيانية، وهذا هو الموافق لحديث:"الكبرياء ردائي"، وحينئذ لا يخفى أن ظاهر هذا الحديث يفيد أنهم لا يرونه تعالى؛ فإنه إذا كان رداء الكبرياء مانعًا عن نظر أهل جنة عدن، فكيف غيرهم؟ ! وصفة الكبرياء من لوازم ذاته تعالى لا

ص: 165

(63)

- 185 - (11) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ،

===

يمكن زوالها عنه فيدوم المنع بدوامها، إلا أن يقال: هي مانعة عن دوام النظر لا عن أصل النظر، على أن معنى قوله:"وبين أن ينظروا" أي: وبين أن يديموا النظر، فلولا هي .. لدام نظرهم، فالحديث مسوق لإفادة كمال قرب أهل جنة عدن منه تعالى.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى تاسعًا لحديث جرير بحديث صهيب بن سنان رضي الله عنهما، فقال:

(63)

- 185 - (11)(حدثنا عبد القدوس بن محمد) بن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحاب أبو بكر الحبحابي المعولي العطار البصري، روى عن: حجاج بن منهال، وعلي بن المديني، وداوود بن شبيب، وغيرهم، ويروي عنه:(خ ت س ق)، وأحمد بن منصور، وأبو حاتم، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري أربعة أحاديث، وقال في "التقريب": صدوق، من الحادية عشرة.

قال: (حدثنا حجاج) بن المنهال الأنماطي أبو محمد السلمي مولاهم البصري، ثقة فاضل، من التاسعة، مات سنة ست أو سبع عشرة ومئتين. يروي عنه:(ع).

(حدثنا حماد) بن سلمة بن دينار الربعي مولاهم أبو سلمة البصري، ثقة عابد، من الثامنة، مات سنة سبع وستين ومئة (167 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن ثابت) بن أسلم بن موسى (البناني) نسبة إلى بنانة؛ اسم قبيلة،

ص: 166

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَقَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ .. نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؛ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا

===

أبي محمد البصري، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة بضع وعشرين ومئة. يروي عنه:(ع).

(عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) يسار الأنصاري الأوسي أبي عيسى الكوفي، ثقة، من الثانية، مات سنة ثلاث وثمانين (83 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن صهيب) -مصغرًا- ابن سنان المدني أبي يحيى النمري مولاهم الرومي المنشأ، صحابي مشهور من السابقين، له أحاديث، مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين (38 هـ) في خلافة علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: قبل ذلك. يروي عنه: (ع).

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله أربعة منهم بصريون، وواحد مدني، وواحد كوفي، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) صهيب: (تلا) وقرأ علينا (رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية) يعني: قوله تعالى ({لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا}) العمل وأخلصوا فيه، خبر مقدم لقوله:({الْحُسْنَى}) أي: الجنة ({وَزِيَادَةٌ})(1) معطوف على الحسنى، (وقال) أي: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار .. نادى مناد) من الله سبحانه؛ أي: من ملائكته، وقوله: (يا أهل الجنة

) إلى آخره .. تفسير للنداء؛ أي: قال في ندائه: يا أهل الجنة (إن لكم عند الله) سبحانه وتعالى (موعدًا) أي: بشارة وعدها

(1) سورة يونس: (26).

ص: 167

يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُثَقِّلِ اللهُ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،

===

لكم في الدنيا على لسان نبيه في كتابه العزيز، (يريد) اليوم (أن ينجزكموه) من الإنجاز وهو الإيفاء؛ أي: أن يوفي لكم ذلك الوعد ويعطيه لكم.

(فيقولون: وما هو؟ ) أي: وأي شيء ذلك الوعد، فقد أعطانا جميع النعم وأكرمنا في دار الكرامة، فأي شيء بقي لنا؟ والاستفهام في قوله:(ألم يثقل الله) سبحانه للتقرير؛ أي: ألم يثقل ويرجح (موازيننا؟ ) أي: موازين حسناتنا من التثقيل وهذا مبني على أنهم نسوا الوعد بالرؤية، وفيه أن الله تعالى يزيل عن قلوبهم الحرص ويعطيهم ما لا يطمعون المزيد عليه، ويرضيهم بفضله، (ويبيض) من التبييض؛ أي: ألم يكن الله سبحانه بيض (وجوهنا) بنور الإيمان؟ (ويدخلنا) بالجزم عطفًا على ما قبله من الإدخال؛ أي: وألم يدخلنا سبحانه (الجنة) دار الكرامة؟ (و) ألم (ينجنا) بالجزم أيضًا، ولكن بحذف حرف العلة من الإنجاء أو التنجية، وفي بعض النسخ:(وينجينا) بإثبات الياء، كما في "الترمذي" مع أنه معطوف على المجزوم إما للإشباع، أو جريًا على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح؛ كقوله:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

بإثبات الياء في (يأتيك).

أي: وألم ينجنا (من النار) دار الهوان؟ فقد أسبغ علينا صنوف الكرامة، وأحلنا دار المقامة، فأي شيء بقي لنا؟ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فيكشف) أي: يزيل الله سبحانه وتعالى عن أعينهم (الحجاب) الذي حجبهم ومنعهم عن رؤيته تعالى، (فينظرون إليه) سبحانه وتعالى بأبصارهم نظرًا يليق

ص: 168

فَوَاللهِ؛ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ؛ يَعْنِي: إِلَيْهِ، وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ".

(64)

- 186 - (12) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ،

===

بذاته المقدس، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر، ولا تعارض بين الأحاديث التي وردت في الرؤية مختلفة في الكيفية؛ لكونها تكون لهم مرارًا متعددة.

(فوالله) أي: فقد أقسمت لكم بالإله الذي أكرم عباده المتقين بإنزالهم بحبوح الجنان؛ (ما أعطاهم الله) سبحانه (شيئًا أحب إليهم) أي: ألذ عندهم (من النظر) والرؤية له تعالى (يعني) النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر الذي أبهمه النظر (إليه) سبحانه وتعالى، وقوله:(ولا أقر لأعينهم) معطوف على أحب؛ أي: ولا أعطاهم شيئًا أقر وأبرد وأمتع لأعينهم من النظر إليه تعالى.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: مسلم؛ أخرجه في كتاب الإيمان، باب (80)، والترمذي؛ أخرجه في كتاب الجنة، باب ما جاء في رؤية الرب جل جلاله.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى عاشرًا لحديث جرير بأثر عائشة رضي الله تعالى عنهما، فقال:

(64)

- 186 - (12)(حدثنا علي بن محمد) بن إسحاق الطنافسي الكوفي.

(حدثنا أبو معاوية) الضرير محمد بن خازم الكوفي.

(حدثنا الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي.

ص: 169

عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا،

===

(عن تميم بن سلمة) السلمي الكوفي، وثقه ابن معين، قال في "التقريب": ثقة، من الثالثة، مات سنة مئة (100 هـ). يروي عنه:(م د س ق).

(عن عروة بن الزبير) بن العوام الأسدي أبي عبد الله المدني، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين (94 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله أربعة منهم كوفيون، واثنان مدنيان، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله كلهم ثقات.

(قالت) عائشة رضي الله عنها: (الحمد لله الذي وسع سمعه) بالرفع على الفاعلية (الأصوات) بالنصسب على المفعولية بالفتحة الظاهرة؛ لأنه جمع تكسير لصوت؛ أي: الحمد لله الذي أحاط سمعه بالأصوات كلها بحيث لا يفوته شيء منها، وضبط في بعض النسخ بنصب السمع ورفع الأصوات، وهو بعيد لفظًا ومعنىً، وهذا ثناء على الله تعالى حين ظهر عندها آثار سعة سمعه، وهذا لا يدل على أنها كانت غير عالمة بذلك قبل حتى يقال: كيف خفي على مثلها هذا الأمر وتعجب منها من ذلك؟ والله؛ (لقد جاءت المجادلة) أي: السائلة عن شأن زوجها؛ وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية، كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري.

(إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا) أي: والحال أني جالسة (في ناحية البيت) أي: في جانب بيتي وحجرتي، حالة كونها (تشكو زوجها) أي: تخبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الشكوى ظهار زوجها منها، وكان طلاقًا

ص: 170

وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} .

(65)

- 187 - (13) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى،

===

في الجاهلية، (وما أسمع) أنا (ما تقول) لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شكواها.

(فأنزل الله) سبحانه و (تعالى) في ذلك الوقت إجابة لشكواها قوله عز وجل: ({قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}) سبحانه سماع قبول لشكواها ({قَوْلَ}) المرأة ({الَّتِي تُجَادِلُكَ}) أي: تخاصمك أيها النبي ({فِي}) شأن ({زَوْجِهَا}) أوس بن الصامت؛ أي: قد أجاب الله سبحانه دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلى الله عليه وسلم كلما قال لها: حرمت عليه .. قالت: والله؛ ما ذكر طلاقًا؛ أي: أجاب الله دعاءها؛ بأن أنزل حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ

} الآيات (1).

وهذا الأثر شارك المؤلف في روايته: البخاري؛ أخرجه في كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعًا بصيرًا، والنسائي؛ أخرجه في كتاب الطلاق، باب الظهار.

ودرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى حادي عشره لحديث جرير بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(65)

-187 - (13)(حدثنا محمد بن يحيى) بن عبد الله بن ذؤيب

(1) سورة المجادلة: (1).

ص: 171

حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

===

الهذلي النيسابوري، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(حدثنا صفوان بن عيسى) الزهري أبو محمد البصري القسام، روى عن: محمد بن عجلان، وهشام بن حسان، وعبد الله بن هارون، وغيرهم، ويروي عنه:(م عم)، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وعدة.

قال ابن سعد: كان ثقة صالحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": ثقة، من التاسعة، مات سنة مئتين (200 هـ)، وقيل: قبلها بقليل أو بعدها.

(عن) محمد (بن عجلان) القرشي مولاهم مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة أبي عبد الله المدني أحد العلماء العاملين. روى عن: أبيه، وأنس بن مالك، وسلمان أبي حازم الأشجعي، والأعرج، وأبي الزناد، وغيرهم، ويروي عنه:(م عم)، والسفيانان، وشعبة، والليث، وصفوان بن عيسى.

قال العجلي: مدني ثقة، وقال ابن عيينة: كان ثقة عالمًا، وقال العقيلي: كان يضطرب في حديث نافع، وقال في "التقريب": صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ).

(عن أبيه) عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة المدني. روى عن: مولاته، وأبي هريرة، وزيد بن ثابت. وروى عنه:(م عم)، وابنه محمد، وبكير بن الأشج.

قال النسائي: لا بأس به، وقال أبو داوود: لم يرو عنه غير ابنه محمد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": لا بأس به، من الرابعة.

(عن أبي هريرة) رضي الله عنه.

ص: 172

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي".

===

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم مدنيون، وواحد بصري، وواحد نيسابوري، وحكمه: الصحة.

(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب ربكم على نفسه بيده) المقدسة (قبل أن يخلق الخلق) أي: قبل أن يوجد الكائنات، وقوله:(رحمتي سبقت غضبي) أي: غلبته بالنظر إلى مظاهرها .. مفعول كتب، وقوله:"كتب على نفسه" يدل على أنه ساق هذا الكلام على أنه وعد بأنه سيعامل بالرحمة ما لا يعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرحمة والغضب بأن الثانية دون الأولى؛ لأن صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فعل من آثار الأولى فيما سبق أكثر مما فعل من آثار الثانية.

ولا يشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجنة، والبقية النار، إما لأنه يعامل بمقتضى الرحمة ولا يعامل بمقتضى الغضب، كما قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (1) وإما لأن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب؛ فإن الملائكة كلهم مظاهر الرحمة، وهم أكثر خلق الله، وكذلك ما خلق في الجنة من الحور والولدان.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: الترمذي؛ أخرجه في كتاب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

(1) سورة الأنعام: (160).

ص: 173

(66)

- 188 - (14) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الْأَنْصارِيُّ الْحَرَامِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ

===

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثاني عشرِهِ لحديث جرير بحديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم، فقال:

(66)

- 188 - (14)(حدثنا إبراهيم بن المنذر) بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي (الحزامي) نسبة إلى جده الأعلى، أبو إسحاق المدني، روى عن: موسى بن إبراهيم بن كثير، ومالك، وابن عيينة، وابن أبي فديك، وغيرهم، ويروي عنه:(خ ت س ق)، والدارمي، وغيرهم.

وثقه ابن معين وغيره من الحفاظ، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال صالح بن محمد: صدوق، وقال يعقوب بن سفيان: مات سنة ست وثلاثين ومئتين (236 هـ) في المحرم بالمدينة بعد أن صدر من الحج، وقال في "التقريب": صدوق، من العاشرة.

(ويحيى بن حبيب بن عربي) الحارثي أبو زكرياء البصري، وثقه النسائي، وقال في "التقريب": ثقة، من العاشرة، مات سنة ثمان وأربعين ومئتين (248 هـ)، وقيل بعدها يروي عنه:(م عم)، وفائدة المقارنة تقوية السند.

(قالا) أي: قال كل منهما: (حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير) بن بشير بن الفاكه (الأنصاري الحرامي) -بفتح الحاء المهملة وبالراء المهملة- نسبة إلى جده الأعلى المدني.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطئ، وقال في "التقريب": صدوق يخطئ، من الثامنة. يروي عنه:(ت س ق).

(قال) موسى بن إبراهيم: (سمعت طلحة بن خراش) -بمعجمتين بينهما

ص: 174

قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا جَابِرُ؛ أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللهُ لِأَبِيكَ -وَقَالَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ-: فَقَالَ: يَا جَابِرُ؛ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ:

===

راء مهملة- ابن عبد الرحمن الأنصاري المدني، صدوق، من الرابعة. يروي عنه:(ت س ق).

(قال) طلحة: (سمعت جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي رضي الله عنهما.

وهذا السند من رباعياته؛ رجاله كلهم مدنيون إلا يحيى بن حبيب؛ فإنه بصري، وحكمه: الحسن.

حالة كون جابر (يقول: لما قتل) والدي (عبد الله بن عمرو بن حرام) ضد الحلال جعل علمًا؛ أي: لما استشهد (يوم) غزوة (أحد) أعظم جبل في المدينة وقعت الوقعة عنده .. (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر؛ ألا أخبرك ما قال الله) سبحانه وتعالى (لأبيك؟ ) عبد الله بن عمرو، هذه رواية إبراهيم بن المنذر، (وقال يحيى) بن حبيب (في حديثه) أي: في روايته: (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا جابر؛ ما لي) أي: أيُّ شيء ثبت لي حالة كوني (أراك منكسرًا) أي: منكسر القلب لموت أبيك؟ وفي رواية ابن مردويه "مهتمًا" أي: مغتمًا؟

(قال) جابر: (قلت: يا رسول الله؛ استشهد أبي) بالبناء للمفعول؛ أي: قتل والدي شهيدًا، (وترك عيالًا) -بكسر العين- أي: بنات صغارًا (ودينًا) كثيرًا، فلذلك انكسر قلبي وأخذني الهم، (قال) رسول الله صلى الله عليه

ص: 175

"أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ"، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي؛ تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ؛ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً،

===

وسلم: (أفلا أبشرك) وأخبرك (بما لقي الله به) أي: بما أكرم الله سبحانه وتعالى به (أباك؟ قال) جابر: قلت: (بلى) أخبرني به (يا رسول الله، قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كلم الله) سبحانه وتعالى (أحدًا) من الناس (قط) أي: في زمن من الأزمنة الماضية (إلا من وراء حجاب، و) لكن (كلم) الله سبحانه وتعالى (أباك كفاحًا) أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا واسطة رسول.

(فقال) له الرب جل جلاله: (يا عبدي؛ تمن) أي: اطلب مني واسأل ما شئت من الكرامة والنعيم، حذف المفعول إيذانًا بالعموم، واعرض مسؤولك (على) وأخبره لي .. (أعطك) جميع ما سألتنيه، مضارع مجزوم في جواب الطلب، (قال) أبوك عبد الله للرب عم نواله:(يا رب) أتمنى أن (تحييني) وترجعني إلى الدنيا (فأقتل فيك) أي: في نصر دينك مرة (ثانية).

قال السندي: قوله: (تحييني) هذا إخبار وقع في موضع الإنشاء لإظهار كمال الرغبة، وإلا .. فالمقام يقتضي أحيني؛ أي: أحيني وارجعني إلى الدنيا، وإلا .. فالشهداء أحياء وهو حي يتكلم، فكيف يطلب الإحياء وهو طلب تحصيل الحاصل وهو محال؟ !

وفي "تحفة الأحوذي": قوله: (تحييني) من الإحياء مضارع بمعنى الأمر؛ أي: أحيني، وقوله:(فأقتل) بالبناء للمفعول، وضبطه بعضهم بالنصب، وكأنه مبني على أنه جواب الأمر معنىً لما ذكرنا.

ص: 176

فَقَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي: أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبّ؛ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ".

===

(فقال الرب تبارك) أي: تزايد خيره وإحسانه لعباده مرة بعد مرة (وتعالى) أي: ترفع عما لا يليق به من سمات الحوادث: (إنه) أي: إن الشأن والحال (سبق مني) في محكم كتابي: (أنهم) أي: أن الأموات (إليها) أي: إلى الدنيا (لا يرجعون) بعد الموت، (قال) أبوك للرب جل جلاله:(يا رب؛ فأبلغ) من الإبلاغ (من) بقي (ورائي) وخلفي في الدنيا ما أنا فيه من الكرامة والنعيم ترغيبًا لهم في الجهاد، (قال) جابر:(فأنزل الله تعالى) قوله: ({وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ})(1).

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: الترمذي؛ أخرجه في كتاب التفسير، باب ومن سورة آل عمران، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، ورواه علي بن عبد الله بن المديني وغير واحد من كبار أهل الحديث، هكذا عن موسى بن إبراهيم، وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر شيئًا من هذا؛ أي: مختصرًا، وأخرجه ابن مردويه مطولًا، وأحمد في "مسنده"، قال السندي: وفي "الزوائد": إسناده ضعيف، وطلحة بن خراش قيل فيه: روى عن جابر مناكير، وموسى بن إبراهيم ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ. انتهى.

قلت: ليس الحديث من أفراد ابن ماجه لا متنًا ولا سندًا، بل أخرجه غيره من كبار أهل الحديث، كما مر آنفًا.

(1) سورة آل عمران: (169).

ص: 177

(67)

- 189 - (15) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ

===

فدرجته: أنه حسن، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثالث عشره لحديث جرير بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(67)

- 189 - (15)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) العبسي الكوفي.

(حدثنا وكيع) بن الجراح الكوفي.

(عن سفيان) بن سعيد الثوري الكوفي.

(عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان المدني.

(عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني.

(عن أبي هريرة) الدوسي المدني رضي الله عنه.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله ثلاثة منهم مدنيون، وثلاثة كوفيون، وحكمه: الصحة.

(قال) أبو هريرة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله) سبحانه وتعالى (يضحك إلى رجلين) ضحكًا يليق به، عداه بإلى لتضمينه معنى الإقبال، والضحك صفة ثابتة لله تعالى نثبته ونعتقده لا نكيفه ولا نمثله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)، وجملة قوله:(يقتل أحدهما الآخر) صفة

(1) سورة الشورى: (11).

ص: 178

كِلَاهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُسْتَشْهَدُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى قَاتِلِهِ فَيُسْلِمُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُسْتَشْهَدُ".

(68)

- 190 - (16) حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى

===

سببية لرجلين؛ لأن الجمل بعد النكرات صفات، وكذا جملة قوله:(كلاهما دخل الجنة) صفة ثانية له، ووحد الفعل في قوله:(دخل) نظرًا إلى لفظ (كلا)، لا معناه؛ لأن مراعاة لفظه أرجح من مراعاة معناه، نظير قوله:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} (1)، حيث لم يقل: آتتا أكلهما.

وذلك أنه (يقاتل هذا) الرجل (في سبيل الله) تعالى وطاعته لإعلاء كلمته، (فيستشهد) بالبناء للمفعول؛ أي: فيقتل شهيدًا في يد الكافر، (ثم يتوب الله) سبحانه وتعالى (على قاتله) أي: على قاتل هذا الشهيد، (فيسلم) هذا القاتل (فيقاتل في سبيل الله، فيستشهد) أي: فيقتل هذا القاتل شهيدًا أيضًا، فهما يدخلان الجنة شهيدين.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: مسلم؛ أخرجه في كتاب الإمارة، باب (35)، الحديث (4870).

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى رابع عشره لحديث جرير بحديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(68)

- 190 - (16)(حدثنا حرملة بن يحيى) بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي أبو حفص المصري صاحب الشافعي وتلميذه، صدوق، من

(1) سورة الكهف: (33).

ص: 179

وَيُونُسُ بنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ

===

الحادية عشرة، مات سنة ثلاث أو أربع وأربعين ومئتين (هـ). يروي عنه:(م س ق).

(ويونس بن عبد الأعلى) بن ميسرة بن حفص الصدفي أبو موسى المصري، ثقة، من صغار العاشرة، مات سنة أربع وستين ومئتين (264 هـ)، وله ست وتسعون سنة. يروي عنه:(م س ق). وفائدة المقارنة تقوية السند.

(قالا: حدثنا عبد الله بن وهب) بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري، ثقة حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ومئة (197 هـ)، وله اثنتان وسبعون سنة. يروي عنه:(ع).

قال: (أخبرني يونس) بن يزيد بن أبي النجاد الأموي أبو يزيد الأيلي، ثقة، من كبار السابعة، إلا أن في روايته عن الزهري وهمًا قليلًا وعن غيره خطأ، مات سنة تسع وخمسين ومئة (159 هـ) على الصحيح. يروي عنه:(ع).

(عن) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله (بن شهاب) الزهري أبي بكر المدني، ثقة متقن، من الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ومئة، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين. يروي عنه: (ع).

قال: (حدثني سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي، أبو محمد المدني الأعور، سيد التابعين، وقال في "التقريب": من كبار الثانية، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين. يروي عنه:(ع).

(أن أبا هريرة) رضي الله عنه.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله ثلاثة منهم مدنيون، واثنان مصريان، وواحد أيلي، وحكمه: الصحة.

ص: 180

كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ؛ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ ".

===

(كان) أبو هريرة (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقبض الله) سبحانه ويأخذ (الأرض يوم القيامة) بشماله، كما في حديث مسلم المذكور في باب صفة القيامة منه، (ويطوي السماء) أي: يلفها ويأخذها (بيمينه، ثم يقول: أنا الملك) الحق الباقي (أين ملوك الأرض؟ ) أين الجبارون أين المتكبرون؟

قال القاضي عياض: وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ: يقبض، ويطوي، ويأخذ، كلها بمعنى الجمع؛ لأن السماوات مبسوطة، والأرضين مدحوة وممدودة، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة، وتبديل الأرض غير الأرض والسماوات، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ورفعها وتبديلها بغيرها. انتهى "نووي".

قال الأبي: قلت: لا يعني ببسط السماوات ومد الأرض البسط والمد الذي هو ضد الكرة؛ فإن الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنهما كرويتان. انتهى.

قوله: "ثم يقول: أنا الملك" قال الأبي: يحتمل أن يخاطب بذلك الملائكة عليهم السلام، أو يخاطب به ذاته؛ كقوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ} (1)، انتهى.

قال السندي: هذا الحديث كالتفسير لقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2)، والمقصود: بيان غاية عظمته تعالى وحقارة

(1) سورة غافر: (16).

(2)

سورة الزمر: (67).

ص: 181

(69)

- 191 - (17) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى،

===

الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى كمال قدرته تعالى، وهذا المقصود حاصل بهذا الكلام وإن لم يعرف كيفية القبض وحقيقة اليمين، فالبحث عنهما خارج عن القدر المقصود إفهامه فلا ينبغي.

قلت: القبض والطي صفتان من صفات أفعاله تعالى، نثبتهما ونعتقدهما ولا نكيفهما ولا نمثلهما، والبحث عنهما بدعة، وأما اليمين .. فصفة من صفات ذاته تعالى نثبتها ونعتقدها ولا نكيفها ولا نمثلها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذاته وصفاته نؤمن بهما ولا نبحث عنهما.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: البخاري؛ أخرجه في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، وأخرجه أيضًا في كتاب التوحيد، ومسلم؛ أخرجه في كتاب صفات المنافقين، باب كتاب صفة القيامة والجنة والنار.

ودرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى خامس عشره لحديث جرير بحديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فقال:

(69)

- 191 - (17)(حدثنا محمد بن يحيى) بن عبد الله الذهلي النيسابوري، ثقة، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(1) سورة الشورى: (11).

ص: 182

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمِيرَةَ،

===

قال: (حدثنا محمد بن الصباح) الدولابي البغدادي؛ لأنه وقع ثاني السند، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة سبع وعشرين ومئة (127 هـ). (ع).

قال: (حدثنا الوليد) بن عبد الله (بن أبي ثور الهمداني) المرهبي -بضم الميم- الكوفي، وقد ينسب إلى جده. روى عن: سماك بن حرب، وعبد الملك بن عمير، وزياد بن علاقة، وغيرهم، ويروي عنه:(د ت ق)، ومحمد بن الصباح الدولابي، وجبارة بن المغلس، وغيرهم.

وقال العقيلي: يحدث عن سماك بمناكير لا يتابع عليها، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كذاب، وقال أبو زرعة: منكر الحديث يهم كثيرًا، وقال في "التقريب": ضعيف، من الثامنة، مات سنة اثنتين وسبعين ومئة (172 هـ).

(عن سماك) بن حرب الذهلي الكوفي، صدوق، من الرابعة، مات سنة ثلاث وعشرين ومئة (123 هـ). يروي عنه:(م عم).

(عن عبد الله بن عميرة) -بفتح العين مكبرًا- كوفي. روى عن: الأحنف بن قيس عن العباس حديث الأوعال، ويروي عنه: سماك بن حرب، وفيه عن سماك اختلاف، ذكره في هامش "التهذيب"، من الثانية. يروي عنه:(د ت ق).

قال البخاري: لا يعلم له سماع من الأحنف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحسن الترمذي حديثه.

قلت: وقال أبو نعيم في "معرفة الصحابة": أدرك الجاهلية، وكان قائد الأعشى، لا تصح له صحبة ولا رؤية، ذكره ابن منده، وقال مسلم في

ص: 183

عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: كُنْتُ بِالْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ وَفِيهِمْ رَسُولُ اللهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا

===

"الوحدان": تفرد سماك بالرواية عنه، وقال إبراهيم الحربي: لا أعرفه، وقال ابن ماكولا: روى عن جرير وغيره. انتهى من "التهذيب".

(عن الأحنف بن قيس) بن معاوية بن حصين التميمي السعدي أبي بحر البصري، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عقلاء الناس وحلمائهم، ثقة مخضرم، مات سنة سبع وستين (67 هـ) بالكوفة في إمارة ابن الزبير، وقيل: اثنتين وسبعين. يروي عنه: (ع).

(عن العباس بن عبد المطلب) الهاشمي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه أبي الفضل المكي، له خمسة وثلاثون حديثًا؛ اتفقا على حديث، وانفرد (خ) بحديث، و (م) بحديث. روى عنه:(ع)، وبنوه: عبد الله وكثير وعبيد الله، وعامر بن سعد.

قال في "التقريب": صحابي مشهور، مات سنة اثنتين وثلاثين (32 هـ)، أو بعدها وهو ابن ثمان وثمانين سنة.

وهذا السند من سباعياته؛ رجاله ثلاثة منهم كوفيون، وواحد مكي، وواحد بصري، وواحد بغدادي، وواحد نيسابوري، وحكمه: الضعف؛ لأن في رجاله راويًا متفقًا على ضعفه؛ وهو الوليد بن أبي ثور.

(قال) العباس: (كنت بالبطحاء) أي: في بطحاء مكة؛ أي: في المحصب؛ وهو موضع معروف بمكة فوق مقبرة المعلا، وقد تطلق على مكة، وأصل البطحاء على ما في "القاموس": مسيل واسع فيه دقاق الحصى، (في عصابة) -بكسر أوله- أي: مع جماعة من كفار مكة، (وفيهم رسول الله، فمرت به) صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أبي داوود:(بهم)، (سحابة، فنظر إليها)

ص: 184

فَقَالَ: "مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ "، قَالُوا: السَّحَابَ، قَالَ:"وَالْمُزْنَ"، قَالُوا: وَالْمُزْنَ، قَالَ:"وَالْعَنَانَ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالُوا: وَالْعَنَانَ، قَالَ:"كَمْ تَرَوْنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؟ "، قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ: "فَإِنَّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا إِمَّا وَاحِدًا أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً،

===

أي: إلى تلك السحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما تسمون) أي: بأي اسم تسمون (هذه) السحابة؟

(قالوا): نسميها (السحاب، قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (و) هل تسمونها (المزن؟ قالوا: و) نسميها (المزن) أيضًا، قال في "النهاية": المزن هو الغيم والسحاب واحدته مزنة، وقيل: هي السحابة البيضاء، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(و) هل تسمونها (العنان؟ قال أبو بكر: قالوا: و) نسميها (العنان) أيضًا.

قال السندي: قوله "قالوا: السحاب" بالنصب؛ أي: نسميه السحاب، أو بالرفع؛ أي: هي السحاب، وكذا الوجهان في المزن والعنان، والمزن -بضم الميم-: السحاب أو أبيضه، والعنان كسحاب وزنًا ومعنىً من عن بمعنى ظهر، وفي "النهاية": العنان- بالفتح-: السحاب والواحدة عنانة، وقيل: ما عنَّ لك منها؛ أي: اعترض وبدا لك إذا رفعت رأسك. انتهى.

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ترون) أي: كم تظنون بُعْد ما (بينكم وبين السماء؟ قالوا: لا ندري) ولا نعلم قدر بعد ما بيننا وبينها، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فإن بينكم) يا أهل الأرض (وبينها) أي: بين السماء (إما واحدًا) وسبعين سنة؛ أي: بُعْد ما بينكم وبينها إما مسافة إحدى وسبعين سنة، (أو) بينكم وبينها (اثنتين) وسبعين سنة، (أو ثلاثًا وسبعين سنة) قيل: و (إما) و (أو) للشك من الراوي، وقيل: للتنويع، قال

ص: 185

وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرًا بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ

===

الأردبيلي: الرواية في خمس مئة أكثر وأشهر، فإن ثبت هذا .. فيحتمل أن يقال: إن ذلك باختلاف قوة الملك وضعفه وخفته وثقله، فيكون بسير القوي أقل وبسير الضعيف أكثر، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا وسبعين". انتهى.

قال الطيبي: المراد بالسبعين في الحديث: التكثير، لا التحديد؛ لما ورد من أن ما بين السماء والأرض وبين سماء وسماء مسيرة خمس مئة عام، ورد بأنه لا فائدة حينئذ لزيادة واحد واثنين.

قلت: لعل التفاوت لتفاوت السائر؛ إذ لا يقاس سير الإنسان بسير الفرس، وفي "بذل المجهود": إنما نبه بتلك الأسماء على أنها حقيقة في السماء المقصود ذكرها، وإن كان يطلق على السحاب أو بالعكس، والله أعلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والسماء فوقها) أي: فوق السماء الدينا؛ يعني: الثانية (كذلك) أي: ما بينها وبين السماء الدنيا، كما بين سماء الدنيا والأرض في البعد؛ أي: إن بعد مسافة ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ذكر ذلك؛ أي: قوله: والسماء فوقها كذلك (حتى عد سبع سماوات، ثم) إن (فوق السماء السابعة بحرًا) بالنصب معطوف على اسم إن في قوله: "فإن بينكم"، وبالرفع على أنه مبتدأ مؤخر للظرف، وجملة قوله: (بين أعلاه وأسفله

) إلى آخره .. صفة لبحر؛ أي: إن بُعد ما بين أعلى ذلك البحر وأسفله (كما بين سماء إلى سماء) أي: مثل بعد ما بين سماء إلى سماء.

(ثم فوق ذلك) البحر (ثمانية أوعال) بالنصب والرفع على الوجهين السابقين، جمع وَعِل -بفتح فكسر- وهو التيس الجبلي، والمراد: ملائكة على

ص: 186

بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ اللهُ فَوْقَ ذَلِكَ تبارك وتعالى".

===

صورة الأوعال (بين أظلافهن) أي: أظلاف تلك الأوعال، جمع ظلف بالكسر؛ وهو للبقر والغنم والظبي كالحافر للفرس والدابة، والخف للبعير، (وركبهن) أي: ركب تلك الأوعال -بضم ففتح- جمع ركبة؛ وهو المفصل بين الساق والفخذ (كما بين سماء إلى سماء) أي: بعد ما بين أظلافهن وركبهن مثل بعد مسافة ما بين سماء إلى سماء.

(ثم على ظهورهن) أي: على ظهور تلك الأوعال جمع ظهر؛ وهو عمود البطن الذي يعتمد عليه، معروف، سمي ظهرًا؛ لظهوره من كل حيوان (العرش) أي: هو محمول على ظهورهن (بين أعلاه) أي: أعلى العرش (وأسفله كما بين سماء إلى سماء) أي: من شدة البعد مع قطع النظر عن الحد، وإلا .. فجميع المخلوقات بجنب العرش كحلقة في فلاة على ما ورد به الحديث؛ أي: إن بعد مسافة ما بين أعلى العرش وأسفله كمثل بعد ما بين سماء إلى سماء.

(ثم الله) سبحانه وتعالى (فوق ذلك تبارك وتعالى أي: فوق العرش، وفيه دليل على أنه تعالى فوق العرش، وهذا هو المذهب الحق الذي عليه نلقى الله، وعليه تدل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو مذهب السلف الصالحين من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

قالوا: إن الله تعالى استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والجهمية قد أنكروا العرش وأن يكون الله فوقه، وقالوا: إنه في كل مكان، ولهم مقالات قبيحة باطلة، وإن شئت الوقوف على

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

دلائل مذهب السلف والاطلاع على رد مقالات الجهمية .. فعليك أن تطالع كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي، وكتاب "أفعال العباد" للبخاري، وكتاب "العلو" للذهبي.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: أبو داوود؛ أخرجه في كتاب السنة، باب في الجهمية، والترمذي؛ أخرجه في كتاب التفسير، باب ومن سورة الحاقة من طريق عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن سعد عن عمرو بن قيس عن سماك بن حرب، وقال: هذا حديث حسن غريب، روى الوليد بن أبي ثور عن سماك نحوه ورفعه، وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث، ووقفه ولم يرفعه، قال عبد بن حميد: سمعت يحيى بن معين يقول: ألا يريد عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الرازي أن يحج حتى يسمع منه هذا الحديث في موسم الحج للرد على الجهمية.

قلت: وأخرجه أبو داوود من ثلاث طرق؛ اثنتان منها قويتان، وأخرجه أبو داوود وابن ماجه من طريق الوليد بن أبي ثور.

قال الحافظ ابن القيم في "تعليقات سنن أبي داوود": أما رد الحديث بالوليد بن أبي ثور .. ففاسد؛ فإن الوليد لم ينفرد به، بل تابعه عليه إبراهيم بن طهمان كلاهما عن سماك، ومن طريقه رواه أبو داوود، ورواه أيضًا عمرو بن أبي قيس عن سماك، ومن حديثه رواه الترمذي عن عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرحمن بن سعد بن عمرو بن أبي قيس. انتهى.

ورواه ابن ماجه من طريق الوليد بن أبي ثور عن سماك، وأي ذنب للوليد في هذا، وأي تعلق عليه؟ إنما ذنبه روايته ما يخالف قول الجهمية. انتهى كلامه مختصرًا، انتهى من "تحفة الأحوذي".

ص: 188

(70)

- 192 - (18) حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَضَى اللهُ أَمْرًا

===

فالحديث درجته: حسن، وإن كان ضعيف السند في "ابن ماجه"، وغرضه: الاستشهاد به، والله أعلم.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى سادسَ عَشْرِهِ لحديث جرير بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(75)

- 192 - (18)(حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب) المدني.

قال مسلمة: ثقة، وقال ابن معين: ثقة مأمون صاحب حديث، وكان من أمناء القضاة زمانًا، وقال في "التقريب": صدوق ربما وهم، من العاشرة، مات سنة أربعين ومئتين (240 هـ)، أو إحدى وأربعين. يروي عنه:(ق).

(حدثنا سفيان بن عيينة) الهلالي الأعور أبو محمد الكوفي، ثقة، من الثامنة، مات سنة ثمان وتسعين ومئة (198 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عمرو بن دينار) الجمحي مولاهم أبي محمد المكي الأثرم، ثقة ثبت، من الرابعة، مات سنة ست وعشرين ومئة (126 هـ). يروي عنه:(ع).

(عن عكرمة) بن عبد الله مولى ابن عباس أبي عبد الله المكي، ثقة عالم بالتفسير، من الثالثة، مات سنة أربع ومئة، وقيل بعد ذلك. يروي عنه:(ع).

(عن أبي هريرة) الدوسي المدني رضي الله عنه.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله اثنان منهم مدنيان، واثنان مكيان، وواحد كوفي، وحكمه: الصحة.

(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله) سبحانه وتعالى (أمرًا)

ص: 189

فِي السَّمَاءِ .. ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا خِضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فـ {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ

===

أي: حكم الله بأمر من الأمور، وأعلن (في) أهل (السماء) أي: تكلم به .. (ضربت الملائكة أجنحتها) أي: بعضها ببعض، حالة كونهم (خضعانًا) أي: خاضعين (لقوله) وقضائه سبحانه، وهو بضم الخاء المعجمة وسكون الضاد مصدر خضع؛ كالغفران والكفران، ويروى بالكسر؛ كالوجدان والعرفان، وبفتحتين؛ كالتوقان والجلوان من الخضوع، وهو جمع كالحيوان فيكون حالًا، وإن كان مصدرًا .. جاز أن يكون مفعولًا مطلقًا، لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع.

أي: ضربتْ ضرب خضوع؛ وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفًا .. أرخى جناحيه مرتعدًا (كأنه) كذا في رواية البخاري؛ أي: كأن القول المسموع لهم، وفي رواية الترمذي:(كأنها) أي: كأن كلماته المسموعة لهم (سلسلة) أي: صوت سلسلة من حديد وقعت (على صفوان) أي: على حجر أملس، فـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}) -بضم الفاء وتشديد الزاي على صيغة المبني للمجهول- أي: كشف عنهم الفزع وأزيل عنهم الخوف .. ({قَالُوا}) أي: قال بعضهم لبعض وسأله: ({مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا}) أي: قال الملائكة المقربون: قال ربنا ({الْحَقَّ}) أي: قال الله القول الحق، قيل: المجيبون هم الملائكة المقربون؛ كجبريل وميكائيل وغيرهما.

قلت: ويؤيده حديث ابن مسعود عند أبي داوود قال: "إذا تكلم الله بالوحي .. سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل؛ ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق".

ص: 190

وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، قَالَ: فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا إِلَى الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُلْقِيهَا عَلَى لِسَانِ الْكَاهِنِ أَوِ السَّاحِرِ، فَرُبَّمَا لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى يُلْقِيَهَا، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ، فَتَصْدُقُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ".

===

فيقولون: الحق، ({وَهُوَ}) سبحانه ({الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}) (1) أي: ذو العلو باتصافه بالكمالات، والكبرياء بتنزهه عن النقائص، (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فيسمعها) أي: فيسمع تلك الكلمة (مسترقو السمع) أي: الشياطين الذين يسرقون سماع كلمات الملائكة (بعضهم) أي: بعض الشياطين (فوق بعض) آخر؛ أي: حالة كونهم متراكبين لاستراق السمع (فيسمع) أي: البعض الذي كان فوق (الملائكة) بالنصب (الكلمة) بدل اشتمال من الملائكة؛ أي: فيسمع الشيطان الذي يسترق السمع الكلمة التي تتكلم بها الملائكة.

(فيلقيها) أي: ذلك البعض تلك الكلمة المسموعة له (إلى من تحته) من الشياطين، (فربما أدركه) أي: أدرك ذلك البعض وأحرقه (الشهاب) أي: الشعلة التي يرمى بها (قبل أن يلقيها) أي: يلقي الكلمة المسموعة له (إلى الذي تحته) من الشياطين، (فيلقيها) أي: يلقي تلك الكلمة الذي تحته (على لسان الكاهن، أو) قال: فيلقيها على لسان (الساحر) والشك من الراوي أو ممن دونه، (فربما لم يدرك) ـه الشهاب (حتى يلقيها) على لسان الكاهن، (فيكذب) الكاهن (معها) أي: مع تلك الكلمة الصادقة؛ أي: يزيد عليها (مئة كذبة، فتصدق تلك الكلمة التي سمعت من السماء) أي: تكون صادقة،

(1) سورة سبأ: (23).

ص: 191

(71)

- 193 - (19) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ،

===

فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا من الأخبار؟ فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: البخاري؛ أخرجه في كتاب التفسير، باب (حتى إذا فزع)، وفي كتاب التوحيد باب قوله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (1) وأبو داوود؛ أخرجه في كتاب الحروف والقراءات، والترمذي؛ في كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى سابعَ عَشْرِهِ لحديث جرير بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، فقال:

(71)

- 193 - (19)(حدثنا علي بن محمد) الطنافسي الكوفي.

(حدثنا أبو معاوية) محمد بن خازم الضرير الكوفي.

(عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي.

(عن عمرو بن مرة) بن عبد الله بن طارق بن الحارث الهمداني المرادي الجملي: نسبة إلى جمل بن كنانة المرادي أبي عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، من الخامسة، مات سنة ثماني عشرة ومئة (118 هـ)، وقيل قبلها. يروي عنه:(ع).

(1) سورة سبأ: (23).

ص: 192

عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ

===

(عن أبي عبيدة) -مصغرًا- عامر بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي. روى عن: أبي موسى الأشعري، وعمرو بن الحارث، وكعب بن عجرة، ويروي عنه:(ع)، وعمرو بن مرة، وثقه ابن حبان، من كبار الثالثة، مات بعد الثمانين.

(عن أبي موسى) الأشعري عبد الله بن قيس الكوفي الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا السند من سداسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم كوفيون، وحكمه: الصحة.

(قال) أبو موسى: (قام فينا) معاشر الصحابة (رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا ومذكرًا لنا (بخمس كلمات) وفصول وجمل، فقوله:"فينا" و"بخمس كلمات" مترادفان أو متداخلان، ويحتمل أن يكون فينا متعلقًا بقام على تضمين معنى خطب، وبخمس حالًا؛ أي: خطب قائمًا مذكرًا بخمس كلمات، والقيام على الوجهين على ظاهره، ويحتمل أن يكون بخمس متعلقًا بقام و (فينا) بيانًا، والقيام على هذا من قام بالأمر: شمر وتجلد له؛ أي: تشمر بحفظ هذه الكلمات، وكأن السامع حين سمع ذلك قال في حقها. كذا ذكره الطيبي.

والأقرب أن المعنى: قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات؛ أي: بسببه، فالجاران متعلقان بالقيام وهو على ظاهره؛ وذلك أن تجعل القيام من قام بالأمر، وتجعل (فينا) بيانًا له متعلقًا به أيضًا (بخمس كلمات) أي: بخمس فصول، والكلمة لغة: تطلق على الجملة المركبة المفيدة؛ أي: بين لنا بخمس كلمات واعظًا لنا.

ص: 193

فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيهِ

===

(فقال) في بيان أولاها: (إن الله) عز وجل (لا ينام) أي: لا يقع منه النوم؛ إذ النوم لاستراحة القوى والحواس، وهي على الله تعالى محال (ولا ينبغي له) سبحانه وتعالى؛ أي: لا يصح ولا يليق به ولا يستقيم له (أن ينام)، فالكلمة الأولى دالة على عدم صدور النوم منه، والثانية دالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذكرت الكلمة الثانية بعد الأولى.

وقال في بيان ثانيتها: (يخفض القسط) أي: يقتِّر الرزق على من يشاء من عباده (ويرفعه) أي: يبسط الرزق على من يشاء من عباده، فالقسط هنا بمعنى الرزق، وحفضه تقتيره وتضييقه على من يشاء، ورفعه بسطه وتوسعته على من يشاء، قيل: أريد بالقسط الميزان، وسمي الميزان قسطًا؛ لأنه يقع به المعدلة في القسمة، وهو الموافق لحديث أبي هريرة:"يرفع الميزان ويخفضه".

والمعنى: إن الله تعالى يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزان يده ويخفضها عند الوزن، فهو تمثيل وتصوير لما يقدر الله تعالى وينزل، ويحتمل أنه أشار إلى قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (1) أي: إنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله؛ كأنه قيل: كيف كان يجوز عليه النوم وهو الذي يتصرف أبدًا في ملكه بميزان العدل، (و) قال في بيان ثالثتها:(يرفع إليه) أي: إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: يرفع إلى خزائنه ليحفظ إلى يوم الجزاء، والمراد: المحل الذي تنتهي إليه الملائكة بأعمال العباد، ولعله سدرة المنتهى، وهذا

(1) سورة الرحمن: (29).

ص: 194

عَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، حِجَابُهُ النُّورُ

===

كما تقول: رفع المال إلى الملك؛ أي: إلى خزائنه، وعلى هذا يحمل قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (1).

(عمل النهار) أي: أعمال عباده في النهار (قبل) الأخذ والشروع في كتابة (عمل الليل، و) يرفع إليه (عمل الليل) أي: أعمالهم في الليل (قبل) الأخذ والشروع في كتابة (عمل النهار) يعني: أن الملائكة الموكلين بنا تحصي علينا عمل اليوم، فترفعه في آخره بقرب الليل، وكذلك في الليل ترفعه بقرب النهار.

ومعناه -والله أعلم-: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده.

وفي رواية: "يرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار" قال القرطبي: معنى ما في الرواية الأولى يرفع إليه عمل النهار قبل الأخذ في عمل الليل؛ أي: في آخر النهار، ومعنى ما في الرواية الثانية: يرفع إليه عمل النهار بقرب الأخذ في عمل الليل، فتتفق الروايتان على أن رفع عمل الليل في آخره.

وقال في بيان رابعتها: (حجابه) سبحانه وتعالى؛ أي: حجاب الله سبحانه وتعالى الذي يحجب الخلق عن رؤيته (النور) والحجاب في أصله في اللغة: المنع والستر، والمراد به هنا: هو الحائل بين الرائي والمرئي، وسمي ذلك الحائل نورًا؛ لأنه يمنع من الإدراك في العادة لشعاعه.

وعبارة "المفهم" هنا: والحجاب هو المانع والساتر، ومنه سمي المانع من الأمير حاجبًا، وهو مضاف إلى الله تعالى إضافة ملك واختراع، أو إضافة تشريف، والمحجوب به هم العباد، وهو النور الذي بهر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"نور أنى أراه"، والمراد ها هنا هو المانع للخلق عن إبصاره

(1) سورة فاطر: (10).

ص: 195

لَوْ كَشَفَهُ .. لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".

===

في دار الفناء، وليس الكلام في دار البقاء، فلا يرد أن الحديث يدل على امتناع الرؤية في الآخرة، وكذا لا يرد أنه ليس له مانع عن الإدراك، فكيف قيل: حجابه النور؛ يريد أن حجابه على خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب على الخلق بأنوار عزه وجلاله وسعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتذهب الأبصار وتتحير البصائر.

وقال في بيان خامستها: (لو كشفه) أي: لو كشف الله سبحانه وتعالى ذلك الحجاب الذي حجبهم عن رؤيته تعالى .. (لأحرقت سبحات وجهه) تعالى؛ أي: عظمة ذاته تعالى وبهاؤها وجلالها ومحاسنها (ما) مفعول أحرقت؛ أي: المخلوق الذي (انتهى إليه) عائد إلى ما الموصول أو الموصوفة (بصره) تعالى، فاعل انتهى، والضمير فيه وفي وقوله:(من خلقه) عائد على الله تعالى، والجار والمجرور فيه حال من ما الموصولة.

والمعنى: لو كشف سبحانه وتعالى ذلك الحجاب الذي منعهم من رؤيتهم له تعالى وأزاله .. لأحرقت وأهلكت محاسن وجهه وذاته تعالى وجماله وجلاله وبهاؤه ما؛ أي: شيئًا انتهى ووصل إليه؛ أي: إلى ذلك الشيء بصره تعالى، حالة كون ذلك الشيء من مخلوقه تعالى.

والخلاصة: لو أزال المانع من رؤيته تعالى وهو الحجاب المسمى نورًا، وتجلى لخلقه .. لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته، والسبحات -بضمتين-: جمع سبحة، كغرفة وغرفات، وفسر سبحات الوجه بجلالته، وقيل: بمحاسنه؛ لأنه إذا رأيت الوجه الحسن .. قلت: سبحان الله، وقيل: إنها الأنوار التي إذا رآها الراؤون من الملائكة سبحوا وهللوا لما يروعهم من جلال الله وعظمته.

ص: 196

(72)

- 194 - (20) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ،

===

قلت: ظاهر الحديث يفيد أن سبحات الوجه لا تظهر لأحد، وإلا .. لاحترقت المخلوقات، فكيف يقال: إن الملائكة يرونها؟ ! فليتأمل.

قوله: "ما انتهى إليه بصره" أي: كل مخلوق انتهى إلى ذلك المخلوق بصره تعالى، ومعلوم أن بصره محيط بجميع المخلوقات مع وجود الحجاب، فكيف إذا كشف؟ ! فهذا كناية عن هلاك المخلوقات أجمع، وقيل: المراد ما انتهى بصره إلى الله تعالى؛ أي: كل من يراه يهلك، فكأنهم راعوا أن الحجاب مانع عن إبصارهم، فعند الرفع ينبغي أن يعتبر إبصارهم، وإلا .. فإبصاره تعالى دائم، فليتأمل.

وقيل: المراد بالبصر النور، والمعنى: أي كل مخلوق انتهى إلى ذاك نوره تعالى، وقوله:"من خلقه" على الوجوه كلها .. بيان لما في قوله: "ما انتهى إليه بصره"، وفي رواية:(لو كشفها) لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار. انتهى من "السندي".

وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في "شرحنا على مسلم بن الحجاج" بما لا مزيد عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: مسلم؛ أخرجه في كتاب الإيمان، باب (79).

* * *

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي موسى رضي الله عنه، فقال:

(72)

- 194 - (20)(حدثنا علي بن محمد) بن إسحاق بن أبي شداد الطنافسي الكوفي.

ص: 197

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى

===

(حدثنا وكيع) بن الجراح الرؤاسي الكوفي.

(حدثنا المسعودي) عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، أحد الأئمة الكبار، سيئ الحفظ. روى عن: عمرو بن مرة، وعون بن عبد الله، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي إسحاق الشيباني، وغيرهم، ويروي عنه:(عم)، ووكيع، والسفيانان، وشعبة وهم من أقرانه، وجعفر بن عون، وغيرهم.

وقال أبو الحسن بن القطان: اختلط حتى كان لا يعقل فضعف حديثه، وكان لا يتميز في الأغلب ما رواه قبل اختلاطه مما رواه بعد، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: سماع وكيع من المسعودي قديم وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة .. فسماعه جيد، ومن سمع منه ببغداد .. فبعد الاختلاط، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: تغير قبل موته بسنة أو سنتين، وقال في "التقريب": صدوق، من السابعة، مات سنة ستين ومئة (160 هـ)، وقيل: خمس وستين.

(عن عمرو بن مرة) الهمداني الكوفي.

(عن أبي عبيدة) عامر بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي.

(عن أبي موسى) الأشعري رضي الله عنه.

وهذا السند من سداسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم كوفيون، وحكمه: الصحة، وغرضه بسوقه: بيان متابعة المسعودي الأعمش في رواية هذا الحديث عن عمرو بن مرة، وفائدتها: بيان كثرة طرقه، وكرر متن الحديث؛ لما في هذه الرواية من المخالفة للأولى في بعض الكلمات

ص: 198

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا .. لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ"، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

===

(قال) أبو موسى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله) عز وجل (لا ينام)، كما قال في كتابه العزيز:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1)(ولا ينبغي له) أي: لا يصح ولا يستقيم له (أن ينام، يخفض القسط) أي: يقبض الرزق عمن يشاء، (ويرفعه) أي: يبسطه لمن يشاء (حجابه) أي: الحجاب الذي يحجب الخلق عن رؤيته في الدنيا (النور، لو كشفها) أي: لو كشف تلك الأنوار عن أبصارهم، ولعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار، كما مر .. الأحرقت سبحات وجهه) أي: محاسن ذاته وبهاؤه (كل شيء) بالنصب مفعول به لأحرقت (أدركه) أي: أدرك الله ورآه (بصره) أي: بصر ذلك الشيء، وهو فاعل أدرك.

وهذا الحديث: صحيح كما مر، وغرضه بسوقه: بيان المتابعة، والله أعلم.

(ثم) بعد رواية هذا الحديث (قرأ أبو عبيدة) عامر بن عبد الله بن مسعود مصداق هذا الحديث قوله تعالى: ({أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ})(2)، أول هذه الآية مع تفسيرها:(فلما جاءها) أي: فلما جاء موسى تلك الشعلة التي ظنها نارًا .. (نودي) موسى من قبل الله تعالى بـ (أن بورك من في) مكان (النار) وهو موسى عليه السلام (ومن حولها) أي: بورك من كان

(1) سورة البقرة: (255).

(2)

سورة النمل: (8).

ص: 199

(73)

- 195 - (21) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ،

===

حول مكان النار وهم الملائكة؛ أي: نودي ببركة من في النار؛ أي: بتطهيره مما يشغل قلبه عن غير الله تعالى وتخليصه للنبوة والرسالة؛ أي: ناداه الله تعالى بأنا قدسناك واخترناك للرسالة، وهذه تحية من الله تعالى لموسى عليه السلام وتكرمة له، (وسبحان الله رب العالمين)، وهذا من كلام الله مع موسى نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته، وحكمته: ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام، وإعلامًا بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين، وعلم موسى أن النداء من الله لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثامنَ عشرِهِ لحديث جرير بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، فقال:

(73)

- 195 - (21)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) الكوفي.

قال: (حدثنا يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي، مولاهم أبو خالد الواسطي، ثقة، متقن عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومئتين (206 هـ). يروي عنه:(ع).

(أنبأنا محمد بن إسحاق) بن يسار المطلبي المدني، إمام المغازي، صدوق، يدلس، من صغار الخامسة، مات سنة خمسين ومئة، ويقال بعدها. يروي عنه:(م عم).

(عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان المدني.

(عن الأعرج) عبد الرحمن.

ص: 200

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَمِينُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَآلنَّهَارَ،

===

(عن أبي هريرة) الدوسي المدني رضي الله عنه.

وهذا السند من سداسياته؛ رجاله أربعة منهم مدنيون، وواحد كوفي، وواحد واسطي، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يمين الله) سبحانه وتعالى؛ أي: يده اليمنى (ملأى) أي: مملوءة بالأرزاق كثيرة العطاء، والمراد من قوله:"ملأى": لازمه؛ وهو أنه في غاية الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق، واليمين صفة ثابتة لله تعالى، نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وملأى على زنة فعلى مؤنث ملآن، أنثه لتأنيث اليمين، وهو خبر أول ليمين الله، وخص اليمين بالذكر لأنها مظنة العطاء، وقوله:(لا يغيضها) أي: لا ينقص ما فيها من الخزائن (شيء) من الإعطاء ولو كثر، خبر ثان ليمين الله، يقال: غاض الماء وغاضه الله لازم ومتعد.

وقوله: (سحاء) - بتشديد الحاء والمد- صيغة مبالغة خبر ثالث؛ أي: دائمة الصب والهطل بالعطاء مأخوذ من السح وهو الصب الدائم، يقال: سح يسح بكسر السين وضمها في المضارع؛ إذا أعطى عطاءً كثيرًا كالمطر، ويقال: سح المطر إذا نزل بكثرة، وقوله:(الليل والنهار) بالجر على الإضافة والنصب على الظرفية؛ أي: كثيرة الصب والعطاء في الليل والنهار؛ أي: في جميع الأزمنة، والمراد: عدم الانقطاع لمادة عطاء الله تعالى.

قيل: ما أتم هذه البلاغة وأحسن هذه الاستعارة! فلقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ على معان دقيقة؛ منها: وصف يده تعالى

ص: 201

وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ؛ يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِمَّا فِي يَدَيْهِ شَيْئًا".

===

في الإعطاء بالتفوق والاستعلاء؛ فإن السح إنما يكون من علو، ومنها: أنها المعطية عن ظهر غنىً؛ لأن المائع إذا انصب من فوق .. انصسب بسهولة، ومنها: جزالة عطاياه سبحانه؛ فإن السح يستعمل فيما ارتفع عن حد التقاطر إلى حد السيلان، ومنها: أنه لا مانع؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوق .. لم يستطع أحد أن يرده. انتهى "سندي".

(وبيده) سبحانه (الأخرى) أي: غير اليمين (الميزان) أي: العدل بين الكائنات (يرفع) أي: يظهر (القسط) والعدل وينزله إلى الأرض تارةً، (ويخفض) أي: يخفي العدل ويزيله من بينهم، فيغلب الجور فيهم تارة أخرى، وقيل: المعنى: (يرفع القسط) أي: يبسط الرزق لمن يشاء، (ويخفض) أي: يقلل الرزق ويقتره على من يشاء، وقد يكونان عبارةً عن تصرف المقادير في الخلق بالعز والذل، كما في "النواوي".

ثم (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت) أي: أعلمت (ما أنفق) الله سبحانه وتعالى، و (ما) مصدرية؛ أي: أعلمت وأبصرت أيها المخاطب إنفاق الله سبحانه وتعالى (منذ خلق الله) أي: من يوم خلق (السماوات والأرض؛ فإنه) الضمير فيه عائد للإنفاق المعلوم من أنفق؛ أي: فإن ذلك الإنفاق (لم ينقص مما في يديه) من الخزائن (شيئًا) قليلًا ولا كثيرًا؛ فإن خزائنه على ما كانت عليه يوم خلق السماوات والأرض.

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: الترمذي؛ أخرجه في كتاب التفسير، باب ومن سورة المائدة، وقال: وهذا الحديث حسن صحيح، وأخرجه الشيخان أيضًا.

ص: 202

(74)

- 196 - (22) حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ،

===

ودرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى تاسعَ عَشرِهِ لحديث جرير بحديث ابن عمر رضي الله عنهم، فقال:

(74)

- 196 - (22)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير -مصغرًا- ابن ميسرة بن أبان السلمي أبو الوليد الدمشقي، وثقه العجلي وابن معين، من العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(ومحمد بن الصباح) بن سفيان الجرجرائي أبو جعفر التاجر الأموي مولاهم؛ مولى عمر بن عبد العزيز، قال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، قال البخاري وابن حبان في "الثقات": مات سنة أربعين ومئتين (245 هـ)، من العاشرة. يروي عنه:(د ق).

كلاهما: (قالا: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم) سلمة بن دينار المدني، صدوق فقيه، من الثامنة، مات سنة أربع وثمانين ومئة، وقيل قبل ذلك. يروي عنه:(ع).

قال: (حدثني أبي) أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج التمار المدني، ثقة عابد، من الخامسة، مات في خلافة المنصور. يروي عنه:(ع).

(عن عبيد الله بن مقسم) القرشي مولى ابن أبي نمر المدني، وثقه أبو داوود والنسائي وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان، وقال في "التقريب": ثقة مشهور، من الرابعة. يروي عنه:(خ م د س ق).

ص: 203

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ" وَقَبَضَ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا

===

(عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب القرشي العدوي أبي عبد الرحمن المكي رضي الله تعالى عنهما.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله ثلاثة منهم مدنيون، وواحد مكي، وواحد دمشقي، أو جرجرائي، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(أنه) أي: أن ابن عمر (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو) أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم قائم (على المنبر يقول: يأخذ) أي: يقبض (الجبار) جل جلاله (سماواته) السبع (وأرضه بيده) المقدسة، وفي رواية مسلم:(بيديه) بالتثنية، (وقبض) رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع (بيده) الشريفة؛ ليريهم كيفية القبض ويمثل لهم، (فجعل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقبضها) أي: يقبض أصابع يده (ويبسطها) أي: ينشرها ليصور لهم كيفية السماوات والأرض المبسوطتين أولًا، ثم المقبوضتين يومئذ.

وفي رواية مسلم عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يطوي الأرضين بشماله" قال القاضي: وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ: يقبض ويطوي ويأخذ، كله بمعنى الجمع؛ لأن السماوات مبسوطة والأرضين مدحوة وممدودة، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسماوات، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ورفعها وتبديلها بغيرها، قال: وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها

ص: 204

"ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْجَبَّارُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ ، أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ "، قَالَ: وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيءٍ مِنْهُ؛ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

===

بعد بسطها، وحكاية المبسوط والمقبوض وهو السماوات والأرضون، لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى، ولا تمثيل لصفة الله تعالى المسماة باليد؛ لأنها لا تمثل ولا تكيف، ليست بجارحة كيدنا. انتهى.

وقوله: (ثم يقول) الله سبحانه معطوف على قوله: "يأخذ الجبار" أي: ثم يقول الله سبحانه: (أنا الجبار) الذي يجبر عباده على ما يريد، (أين) الملوك (الجبارون) الذين يجبرون رعيتهم على ما لا يطيقون؟ (أين المتكبرون) الذين يتكبرون على الفقراء والمساكين بجاههم ودنياهم؟ (قال) ابن عمر:(ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: وكان رسول الله يتكلف بالميل؛ لأن باب التَّفعُّل يدل على التكلف (عن يمينه وعن يساره) إشارة إلى شدة الأمر والهول يومئذ، وإلى زلزلة الأرض والسماوات حين طيها وقبضها (حتى نظرت إلى المنبر يتحرك) من تحته (من أسفل شيء منه) إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى (حتى إني أقول) في نفسي أو أتردد:(أساقط هو) أي: هل المنبر ساقط (برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لشدة تمايله، والاستفهام جرى بينه وبين نفسه.

قال النواوي: ويحتمل أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة، وقال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع، ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

من مشكل، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئًا به ولا نشبهه بشيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه .. فهو حق وصدق، فما أدركنا علمه .. فبفضل الله تعالى، وما خفي علينا .. آمنا به ووكلنا علمه إليه تعالى. انتهى "نووى".

وهذا الحديث شارك المؤلف في روايته: مسلم؛ أخرجه في كتاب صفات المنافقين، باب صفة القيامة والجنة والنار.

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

قال السندي: والحق في هذا الحديث، وكذا فيما قبله وما بعده .. ما ذكره المحققون، قال البغوي في "شرح السنة": كل ما جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل في صفاته تعالى؛ كالنفس والوجه والعين والإصبع واليد والرجل والإتيان والمجيء والنزول إلى السماء والاستواء على العرش والضحك والفرح .. فهذه ونظائرها صفات الله تعالى عز وجل، ورد بها السمع، فيجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها، معرضًا فيها عن التأويل، مجتنبًا عن التشبيه معتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا تشبه صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وعلى هذا مضى سلف الأمة وعلماء السنة تلقوها جميعًا بالقبول وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله تعالى؛ كما أخبر سبحانه عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (2) قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه في

(1) سورة الشورى: (11).

(2)

سورة آل عمران: (7).

ص: 206

(75)

-197 - (23) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ

===

كتابه .. فتفسيره قراءته والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1): كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما آراك إلا ضالًا، وأمر به أن يخرج من المجلس.

وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزعي وسفيان بن عيينة ومالكًا عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وقال الزهري: على الله البيان، وما على الرسول إلا البلاغ، وعلينا التسليم، وقال بعض السلف: قدم الإسلام لا يثبت إلا على قنطرة التسليم. انتهى، وبنحو هذا صرح كثير من المحققين فعليك به، والله الموفق. انتهى.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى عشريه لحديث جرير بحديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنهما، فقال:

(75)

-197 - (23)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي.

قال: (حدثنا صدقة بن خالد) الأموي، مولاهم أبو العباس الدمشقي.

وثقه ابن معين ودحيم وابن نمير والعجلي ومحمد بن سعد وأبو زرعة وأبو حاتم، وقال أحمد: ثقة ثقة، ليس به بأس، من الثامنة، مات سنة إحدى وسبعين ومئة (171 هـ)، وقيل: ثمانين، أو بعدها. يروي عنه:(خ د س ق).

(حدثنا) عبد الرحمن بن يزيد (بن جابر) الأزدي أبو عتبة الشامي الداراني.

(1) سورة طه: (5).

ص: 207

قَالَ سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ

===

وثقه ابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي وغير واحد، وقال في "التقريب": ثقة، من السابعة، مات سنة بضع وخمسين ومئة. يروي عنه:(ع).

(قال) ابن جابر: (سمعت بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة (بن عبيد الله) بالتصغير الحضرمي الشامي.

قال مروان بن محمد: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": ثقة حافظ، من الرابعة. يروي عنه:(ع).

حالة كون بسر (يقول: سمعت أبا إدريس الخولاني) عائذ الله بن عبد الله بن عمرو العوذي الشامي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من كبار الصحابة، ومات سنة ثمانين (80 هـ)، ثقة، من الثالثة. يروي عنه:(ع).

حالة كون أبي إدريس (يقول: حدثني النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بفتح أوله أو كسره مع سكون ثانيه (الكلابي) الشامي الصحابي المشهور رضي الله عنه، له سبعة عشر حديثًا. يروي عنه:(م عم)، انفرد (م) بثلاثة.

وهذا السند من سداسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم شاميون، وحكمه: الصحة.

(قال) النواس: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب) من قلوب العباد .. (إلا) كان (بين إصبعين من أصابع الرحمن) جل جلاله، والإصبع صفة من صفات ذاته تعالى نثبتها ونعتقدها ولا نمثلها ولا نكيفها،

ص: 208

إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ"، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ؛ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"، قَالَ: "وَالْمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَخْفِضُ آَخَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

(76)

- 198 - (24) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،

===

(إن شاء) الرحمن هدايته .. (أقامه) أي: ثبته على الطريق المستقيم، (وإن شاء .. أزاغه) وأماله وأضله عن طريق الهدى والرشاد.

(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا (يقول: يا مثبت القلوب) على ما شاء من الهداية والضلالة؛ (ثبت) أي: ركز (قلوبنا على دينك) القويم المرضي عندك ولا تزلزلها عنه، (قال: والميزان) أي: ميزان العز والذل (بيد الرحمن) جل جلاله (يرفع أقوامًا) أي: يعزهم بالتوفيق والهداية إلى أقوم الطريق، (ويخفض) أي: يذل أقوامًا (آخرين) بالغواية وتسويل خطوات الشيطان لهم (إلى يوم القيامة) أي: إلى موتهم على ذلك.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لأن رجاله ثقات، وغرضه: الاستشهاد به.

* * *

ثم استأنس المؤلف رحمه الله تعالى للترجمة بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقال:

(76)

- 198 - (24)(حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء) بن كريب الهمداني الكوفي.

(حدثنا عبد الله بن إسماعيل) بن أبي خالد الكوفي. روى عن: مجالد بن سعيد، ويروي عنه: أبو كريب.

ص: 209

عَنْ مُجَالدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ

===

قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": مجهول، من التاسعة. يروي عنه:(ت ق).

(عن مجالد) بن سعيد بن عمير بن بسطام الهمداني أبي سعيد الكوفي. روى عن: أبي الوداك جبر بن نوف، والشعبي، وزياد بن علاقة، وغيرهم، ويروي عنه:(عم)، و (م) على سبيل المقارنة.

قال الدوري: عن ابن معين: لا يحتج بحديثه، وقال ابن أبي خيثمة: عن ابن معين: ضعيف واهي الحديث، وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان أحمد ابن حنبل: لا يراه شيئًا، قال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وقال في "التقريب": ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره، من صغار السادسة، مات سنة أربع وأربعين ومئة (144 هـ).

(عن أبي الوداك) -بفتح الواو وتشديد الدال الكوفي- جبر بن نوف -بفتح النون- الهمداني البكالي- بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ولام- نسبة إلى بني بكال؛ بطن من حمير، من الرابعة. روى عن: أبي سعيد الخدري، ويروي عنه:(م د ت س ق)، ومجالد بن سعيد.

قال ابن معين: ثقة، وقال النسائي: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات".

(عن أبي سعيد الخدري) الأنصاري المدني رضي الله عنه.

وهذا السند من خماسياته؛ رجاله كلهم كوفيون، إلا أبا سعيد الخدري؛ فإنه مدني، وحكمه: الضعف؛ لأن في رجاله ضعيفين؛ عبد الله بن إسماعيل مجهول، ومجالد بن سعيد ضعيف، وفي "الزوائد": في إسناده مقال؛ فإن مجالدًا، ولو أخرج له مسلم في "صحيحه" .. فإنما أخرج له مقرونًا بغيره، قال

ص: 210

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَضْحَكُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: لِلصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، وَلِلرَّجُلِ يُصَلِّي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَلِلرَّجُلِ يُقَاتِلُ -أُرَاهُ قَالَ-: خَلْفَ الْكَتِيبَةِ".

(77)

-199 - (25) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى،

===

ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، وعبد الله بن إسماعيل قال فيه أبو حاتم والذهبي في "الكاشف": مجهول. انتهى.

(قال) أبو سعيد: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله) سبحانه عز وجل اليضحك) ناظرًا (إلى ثلاثة) رضًا بعملهم، والضحك صفة ثابتة لله تعالى نثبتها ونعتقدها لا نمثله ولا نكيفه ولا نؤوله، كما هو مذهب السلف الأسلم، كما مر.

يضحك اللصف في الصلاة) أي: ناظرًا إلى القوم الذين يصفون في جماعة الصلاة (وللرجل) أي: ويضحك ناظرًا إلى الرجل وكذا المرأة (يصلي) التهجد (في جوف الليل) أي: في أوساطه (وللرجل) أي: ويضحك ناظرًا إلى الرجل (يقاتل) الكفار ويجاهدهم لإعلاء كلمة الله، قال أبو سعيد أو أبو الوداك:(أراه) صلى الله عليه وسلم، أو أبا سعيد:(قال) يقاتل (خلف الكتيبة) أي: وراء كتيبة المسلمين وجيشهم قبل أن يظفروا الأعداء؛ بمعنى: أنه يقوم وراءهم ويقاتل.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، فدرجته: أنه ضعيف (8)(29)؛ لما مر آنفًا، وغرضه بسوقه: الاستئناس به للترجمة.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى حادي عشريه لحديث جرير بحديث جابر رضي الله عنهما، فقال:

(77)

-199 - (25)(حدثنا محمد بن يحيى) بن عبد الله بن خالد بن

ص: 211

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ -يَعْنِي- ابْنَ الْمُغِيرَةِ الثَّقَفِيَّ- عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي ألْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ

===

فارس بن ذؤيب الذهلي أبو عبد الله النيسابوري، ثقة حافظ جليل، من الحادية عشرة، مات سنة ثمان وخمسين ومئتين (258 هـ). يروي عنه:(خ عم).

(حدثنا عبد الله بن رجاء) بن عمر أبو عمرو الغداني -بضم الغين المعجمة وفتح الدال المخففة- نسبة إلى غدانة بن يربوع بن حنظلة البصري. روى عن: إسرائيل، وشعبة، وعكرمة بن عمار، وغيرهم، ويروي عنه:(خ س ق)، والذهلي، وأبو حاتم الرازي.

قال أبو حاتم: كان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التقريب": صدوق بصري يهم قليلًا، من التاسعة، مات سنة عشرين ومئتين، وقيل قبلها.

(حدثنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو يوسف الكوفي، ثقة، من السابعة، مات سنة ستين، وقيل: سنة اثنتين وستين ومئة (162 هـ).

(عن عثمان) بن المغيرة، وأتى بالعناية في قوله:(يعني ابن المغيرة) إشارة إلى أن هذه النسبة لم يسمعها من شيخه، بل مما زادها من عند نفسه إيضاحًا للراوي (الثقفي) مولاهم أبو المغيرة الكوفي، وهو عثمان الأعشى، وهو عثمان بن أبي زرعة، قال في "التقريب": ثقة، من السادسة. يروي عنه:(خ عم).

(عن سالم بن أبي الجعد) رافع الأشجعي، مولاهم الكوفي، ثقة وكان يرسل كثيرًا، من الثالثة، مات سنة سبع أو ثمان وتسعين (98 هـ)، وقيل: مئة، أو بعد ذلك. يروي عنه:(ع).

(عن جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري أبي عبد الله المدني رضي الله عنهما.

ص: 212

قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ: "أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؟ ".

===

وهذا السند من سداسياته، رجاله ثلاثة منهم كوفيون، وواحد مدني، وواحد بصري، وواحد نيسابوري، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.

(قال) جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه) أي: يجعل نفسه معروضة (على) أعيان (الناس) وأشرافهم (في) منىَ وقت (الموسم) أي: وقت المجتمع في الحج؛ ليؤمنوه من إذاية قريش، (فيقول) في عرض نفسه عليهم:(ألا) أي: ألا يوجد فيكم (رجل) يستصحبني و (يحملني إلى قومه) وعشيرته، فيؤمنوني حتى أبلغ كلام ربي؛ (فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) إلى الناس؟ فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كلام الرب سبحانه وتعالى، زاد في رواية غير ابن ماجه: فأتاه رجل من همدان فأجابه، ثم خشي ألا يتبعه قومه، فجاء إليه، فقال: آتي قومي فأخبرهم، ثم آتيك من العام المقبل، قال: نعم، فانطلق الرجل.

قال الحافظ في "الفتح": ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه .. رجع إلى مكة، فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في موسم الحج. انتهى.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: أبو داوود؛ أخرجه في كتاب السنة، باب في القرآن، والترمذي؛ أخرجه في كتاب فضائل القرآن، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال الحافظ في "الفتح": أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الحاكم.

ص: 213

(78)

-200 - (26) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَزِيرُ بْنُ صَبِيحٍ،

===

فدرجته: أنه صحيح، وغرضه: الاستشهاد به.

وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في "الدلائل" بإسناد حسن عن ابن عباس، قال: حدثني علي بن أبي طالب، قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب .. خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منىً حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر، وكان نسابة، فقال: من القوم؟ فقالوا: من ربيعة، فقال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، فذكروا حديثًا طويلًا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرًا عن الإجابة، قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار؛ لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وعبارة السندي: قوله: (يعرض) من العرض؛ أي: يظهر نفسه (في الموسم) أي: موسم الحج بمكة؛ فإنهم كانوا يحجون زمن الجاهلية، قوله:(أن أبلغ) من الإبلاغ أو التبليغ (كلام ربي) ففي إضافة الكلام إلى الله تعالى دليل على أنه تعالى متكلم، وأن القرآن كلامه تعالى أظهره في جسم ونحوه. انتهى.

* * *

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيَ عِشْرِيهِ لحديث جرير بحديث أبي الدرداء رضي الله عنهما، فقال:

(78)

-200 - (26)(حدثنا هشام بن عمار) بن نصير السلمي الدمشقي.

قال: (حدثنا الوزير) بفتح الواو وكسر الزاي (بن صبيح) -بوزن أمير- الثقفي أبو روح الشامي. روى عن: يونس بن حلبس عن أم الدرداء في قوله

ص: 214

حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،

===

تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (1)، ويروي عنه:(ق)، وهشام بن عمار، وصفوان بن صالح، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن دحيم: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وقال في "التقريب": مقبول عابد، من الثامنة.

(حدثنا يونس) بن ميسرة (بن حلبس) -بمهملتين في طرفيه بينهما باء موحدة مفتوحة ولام ساكنة، بوزن جعفر- نسب إلى جده لشهرته به، أبو عبيد الدمشقي الأعمى. روى عن: واثلة بن الأسقع، وابن عمر، وابن عمرو، ومعاوية، وأم الدرداء، وجماعة، ويروي عنه:(د ت ق)، والوزير بن صبيح، وغيرهم.

قال العجلي: تابعي شامي ثقة، ووثقه ابن سعد وأبو داوود والدارقطني، وقال أبو حاتم: كان من خيار الناس، وكان يقرئ في مسجد دمشق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قتل سنة (132 هـ) اثنتين وثلاثين ومئة ظلمًا، وله مئة وعشرون سنة، وقال في "التقريب": ثقة عابد معمر، من الثالثة.

(عن أم الدرداء) الصغرى زوج أبي الدرداء، اسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الدمشقية، ثقة فقيهة، من الثالثة، ماتت سنة إحدى وثمانين (81 هـ). يروي عنها:(ع)، وأما الكبرى .. فاسمها خيرة، ولا رواية لها في هذه الكتب.

(عن أبي الدرداء) عويمر بن زيد بن مالك الأنصاري الخزرجي الدمشقي الصحابي المشهور رضي الله عنه، مشهور بكنيته، له مئة وتسعة وسبعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد (خ) بثلاثة، و (م) بثمانية، أسلم يوم

(1) سورة الرحمن: (29).

ص: 215

عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، قَالَ:"مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا، وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَخْفِضَ آخَرِينَ".

===

بدر، وشهد أحدًا، وألحقه عمر بالبدريين، وكان عابدًا، مات في آخر خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين (32 هـ)، وقيل: عاش بعد ذلك. يروي عنه: (ع).

وهذا السند من خماسياته، ومن لطائفه: أن رجاله كلهم شاميون، وفيه رواية زوجة عن زوج، وحكمه: الحسن، وفي "الزوائد": إسناده حسن؛ لتقاصر بعض الرواة عن درجة الحفظ والإتقان، وهو وزير بن صبيح، لأنه قال فيه أبو حاتم: صالح، وقال دحيم: ليس بشيء، وقال أبو نعيم: كان يعد من الأبدال، كما مر آنفًا.

(عن النبي صلى الله عليه وسلم في) تفسير (قوله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (1) أي: كل وقت من الأوقات (هو) سبحانه وتعالى (في شأن) من شؤون خلقه التي من جملتها إعطاء ما سألوا؛ فإنه تعالى لا يزال ينشئ أشخاصًا، ويغني آخرين، ويأتي بأحوال، ويذهب بأحوال من الغنى والفقر والعزة والذلة والنصب والعزل والصحة والمرض، ونحو ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح البالغة؛ كما (قال) صلى الله عليه وسلم:(من شأنه) وفعله تعالى (أن يغفر ذنبًا) لمن يشاء، ويعذب من يشاء على ذنبه، (ويفرج كربًا) وشدة؛ أي: أن يزيل كربًا وشدة عمن يشاء، وينزل كربًا على من يشاء.

(ويرفع قومًا) أي: أن يرفع قومًا بالإيمان والطاعات، أو في شؤون الدنيا ممن أراد رفعهم، (ويخفض) أي: وأن يذل ويخذل قومًا (آخرين) بالكفر والمعاصي، أو في شؤون الدنيا ممن أراد خذلانهم، وعن عيينة: الدهر كله عند الله يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه الأمر والنهي

(1) سورة الرحمن: (29).

ص: 216

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع، والآخر يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب، قال مقاتل: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا، ففيها رد لهم، وكل ظرف لما دل عليه قوله:(هو في شأن) أي: يقلب الأمور كل يوم، أو يحدثها كل يوم، أو نحوه، كما في "بحر العلوم". انتهى من "حدائق الروح والريحان".

وفي السندي: قوله: "ويفرج كربًا" في "الصحاح": الكرب كالضرب؛ هو الغم الذي يأخذ بالنفس، وتفريج الغم إزالته، وفرج الله عنك الغم تفريجًا، كأفرج؛ أي: أزال، وفرج الله عنك غمك -بالتخفيف- يفرج من باب ضرب؛ أي: كشف. انتهى.

يعني: أنه يقال بالتشديد وبالتخفيف، لكن التخفيف أنسب هنا لفظًا، والتشديد أنسب معنىً؛ لما فيه من الدلالة على المبالغة.

وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه عن أصحاب الأمهات، ورواه البخاري موقوفًا في تفسير (سورة الرحمن)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق أم الدرداء به.

فدرجته: أنه حسن؛ لما مر، وغرضه: الاستشهاد به.

تتمةُ الباب

والجهمية: منسوبة إلى جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فعل لأحد غير الله تعالى دائمًا، وينسب الفعل إلى العبد مجازًا من غير أن يكون فاعلًا أو مستطيعًا لشيء، وزعم أن علم الله تعالى حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال: وأصفه بأنه خالق ومحي

ص: 217

ومميت وموحَّد -بفتح المهملة الثقيلة- لأن هذه الأوصاف خاصة به تعالى، وزعم أن كلامه تعالى حادث.

قال الحافظ: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسبب إنكار الصفات، حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله تعالى، وإنه مخلوق، وكذلك المعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي صفات الإلهية؛ لاعتقادهم أن صفاتها تستلزم التشبيه، ومن شبه الله بخلقه .. أشرك، وهم في نفي الصفات موافقون للجهمية، وأما أهل السنة .. ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري: التوحيد إفراد القديم من المحدث.

وقال أبو القاسم التميمي في كتاب "الحجة": التوحيد مصدر وحد يوحد، ومعنى وحدت الله: اعتقدته منفردًا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل: معنى وحدته علمته واحدًا، وقيل: سلبت عنه الكيفية والكمية، فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، وفي ملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره. انتهى ملخصًا من "الفتح"، انتهى "بذل المجهود".

* * *

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ستة وعشرون حديثًا:

واحد منها للاستدلال، وهو أولها، وواحد للمتابعة، واثنان للاستئناس، واثنان وعشرون للاستشهاد، كما مر بيانها على التفصيل.

والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 218