الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ أَعْجَلَ - وَقَالَ بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ -: فَاسْتَحْيَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْبَرَتْ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: عَلَيْكُمَا فِدْيَةٌ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ نُسُكٌ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: النُّسُكُ، قَالَتْ: فَأَيُّ النُّسُكِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: نَاقَةٌ تَنْحَرِينَهَا. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ: فَقَدْ نَقَضَ إِحْرَامَهُ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَبْقَ إِحْرَامًا تَامًّا.
وَأَيْضًا: فَالْحَلْقُ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا وَاجِبًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَحَلُّلٌ مِنَ الْإِحْرَامِ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْإِحْرَامِ، بَلْ هُوَ بَرْزَخٌ بَيْنَ كَمَالِ الْحَرَمِ وَكَمَالِ الْحِلِّ. فَإِذَا وَطِئَ فَإِنَّمَا أَسَاءَ لِكَوْنِهِ قَدْ تَحَلَّلَ بِغَيْرِ الْحَلْقِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْلِقُ بَعْدَ الْوَطْءِ وَلَا يُقَصِّرُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِحْرَامًا تَامًّا: فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ.
[مَسْأَلَةٌ النسك لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ]
مَسْأَلَةٌ: (وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِغَيْرِهِ).
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَلْقَ الرَّأْسِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ لِلْمَعْذُورِ، وَأَوْجَبَ بِهِ الْفِدْيَةَ وَلَمْ يُوجِبِ الْقَضَاءَ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، وَحَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ حَالَ الْإِحْرَامِ وَذَكَرَ فِيهِ الْعُقُوبَةَ وَالْجَزَاءَ وَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْإِحْرَامُ، وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّتِهِ أَنْ يَنْزِعَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ وَلَا قَضَاءٍ» .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ سَائِرَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ تُبَاحُ لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى اللِّبَاسِ، وَالطِّيبِ، وَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ
الصَّيْدِ: فَعَلَهُ وَافْتَدَى، وَالْمُبَاشَرَةُ لَا تُبَاحُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ بِهِ شَبَقٌ شَدِيدٌ يَخَافُ مِنْ تَشَقُّقِ أُنْثَيَيْهِ، وَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ وَيَقْضِي
…
.
(فَصْلٌ)
وَكُلُّ وَطْءٍ فِي الْفَرْجِ: فَإِنَّهُ يُفْسِدُ سَوَاءٌ كَانَ قُبُلًا، أَوْ دُبُرًا مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَسَوَّى حُكْمَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَفَرَّقَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ. فَأَمَّا إِنْ وَطِئَ ذَكَرًا أَوْ بَهِيمَةً دُونَ الْفَرْجِ.
وَإِنْ حَكَّ ذَكَرَهُ بِسَرْجِهِ، أَوْ رَحْلِ دَابَّتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ: فَهُوَ كَالِاسْتِمْنَاءِ.
(فَصْلٌ)
وَيَفْسُدُ بِهِ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَامِدًا، أَوْ سَاهِيًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ،
أَوْ بِأَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مُفْسِدٌ، أَوْ جَاهِلٌ بِبَعْضِ ذَلِكَ. هَذَا نَصُّهُ وَمَذْهَبُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: قَالَ سُفْيَانُ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ سَوَاءٌ؛ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالشَّعْرُ إِذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ النِّسْيَانِ بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، مِثْلُ إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَلْقَاهَا عَنْ رَأْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا، أَوْ خُفًّا نَزَعَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي -رِوَايَةِ صَالِحٍ وَحَنْبَلٍ -: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُ يَلْزَمُهُ لَوْ وَطِئَ أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا نَاسِيًا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِوَطْءِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَرِوَايَةٍ عَنْهُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَوَّى هُوَ بَيْنَ الْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ.
وَقَدْ خَرَّجَ أَصْحَابُنَا تَخْرِيجًا أَنَّ الْحَلْقَ وَالتَّقْلِيمَ مِثْلُ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَيُلْحَقُ الْجِمَاعُ بِذَلِكَ.
وَقَدْ يُقَالُ: الْجِمَاعُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي هُوَ اللِّبَاسُ وَالطِّيبُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ، وَعَلَى رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ.
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَا يُبْطِلُ الْإِحْرَامَ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا حَيْثُ قُلْنَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، فَإِنَّ إِبْطَالَ الصَّوْمِ نَظِيرُ إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ نَظِيرُ فَسَادِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ كَفَّارَةَ الصَّوْمِ لَا يَجِبُ الْإِجْمَاعُ بِهِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِحْرَامُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ بِخِلَافِ مَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ مُتَعَدِّدٌ.
لَكِنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَغْلَظُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِحْرَامَ فِي نَفْسِهِ أَوْكَدُ مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِثْلِ: كَوْنِهِ لَا يَقَعُ إِلَّا لَازِمًا، وَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، وَكَوْنِهِ يَحْرُمُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُبَاشَرَاتِ وَكَوْنِهِ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْأَعْذَارِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّجَرُّدِ وَالتَّلْبِيَةِ وَأَعْمَالِ النُّسُكِ
وَرُؤْيَةِ الْمَشَاعِرِ، وَمُخَالَطَةِ الْحَجِيجِ. فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ مَحْضٌ؛ وَوَجْهُ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: قَدْ فَعَلْتُ.
وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ: مُؤَاخَذَةٌ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمَقْصُودُ تَرْكُهُ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ إِذَا فُعِلَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا: لَمْ يَكُنْ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَلَا مُخَالِفًا بَلْ يَكُونُ وُجُودُ فِعْلِهِ كَعَدَمِهِ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَرَدَهَا فِي جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ اسْتِمْتَاعٌ، فَفَرْقٌ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ، وَعَكْسُهُ الْحَلْقُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ.
وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ: مَا تَقَدَّمَ فِي جِمَاعِ النَّاسِي فِي رَمَضَانَ، فَهُنَا أَوْلَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِسُؤُلٍ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا اسْتِفْصَالٌ لِلسَّائِلِ هَلْ فَعَلْتَ هَذَا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، وَلَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي قَدْ أَمَّ بَيْتَ اللَّهِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِحُرُمَاتِهِ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ الْجِمَاعُ: فَوُقُوعُهُ مِنْهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ، أَوِ اعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْإِحْرَامِ، أَوْ نِسْيَانِهِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ أَظْهَرُ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالدِّينُ غَضٌّ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَقَدْ يَظْهَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي مِثْلِ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ السَّعْيِ قَبْلَ التَّقْصِيرِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ قَدِ اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ظُهُورَهُ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا تَوْبِيخٌ لِلْمُجَامِعِ، وَتَقْرِيعٌ لَهُ، وَإِكْبَارٌ لِمَا فَعَلَهُ، وَإِعْظَامٌ لَهُ؛ مَعَ أَنَّ جِمَاعَ
الْمُحْرِمِ مِنَ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِلْحُرْمَةِ، وَتَعَدٍّ لِلْحُدُودِ، وَلَوْلَا اسْتِشْعَارُ الْمُفْتِينَ نَوْعَ عُذْرٍ لِلسُّؤَالِ لَأَغْلَظُوا لَهُمْ فِي الْكَلَامِ.
وَأَيْضًا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَتَلَافِيهِ بِقَطْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، فَصَارَ مِثْلَ الْإِتْلَافَاتِ؛ مِثْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ التَّلَفِ وَلَا إِعَادَتُهُ، وَعَكْسُهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَزْعُ اللِّبَاسِ وَإِزَالَةُ الطِّيبِ إِذَا ذَكَرَ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْكَفَّارَةِ الْمَاحِيَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى التَّلْبِيَةِ، وَهَاهُنَا الْمُجَامِعُ إِذَا ذَكَرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْجِمَاعِ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ: لَمْ يُمْكِنْ مِنْهُ فِعْلٌ: فِيهِ قَطْعٌ لِمَا مَضَى وَلَا تَرْكَ لَهُ.
يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَإِذَا فَعَلَهَا نَاسِيًا فَالنِّسْيَانُ يُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَلَا يُزِيلُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ الْجَابِرَةَ لِمَا فَعَلَ، وَالْمَاحِيَةَ لِلذَّنْبِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَالزَّاجِرَةَ عَنْ قِلَّةِ التَّيَقُّظِ وَالْاسْتِذْكَارِ. وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِعَوْدِ الْمُظَاهِرِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. فَالْمَحْظُورُ الْمُسْتَدَامُ يُمْكِنُ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَمُفَارَقَتُهُ، فَجَعَلَ هَذَا كَفَّارَةً لَهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَمَحْظُورٌ قَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَلَا تَرْكُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَفَّارَةٍ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَمَا مَضَى مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ اللِّبَاسَ وَالطِّيبَ الْمُسْتَدَامَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْهُ وَاسْتَدَامَهُ إِلَى آخِرِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، فَإِزَالَتُهُ إِزَالَةٌ لِنَفْسِ مَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ.
وَالْجِمَاعُ الْمُتَكَرِّرُ: أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَقَتْلِ صُيُودٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ جَامَعَ: كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَذَلِكَ الْجِمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ وَرُدَّ الْبَتَّةَ؛ يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ اللَّابِسَ وَالْمُتَطَيِّبَ يَتَأَتَّى مِنْهُ امْتِثَالُ النَّهْيِ عِنْدَ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُجَامِعِ وَالْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِامْتِثَالُ بِالْفِعْلِ لَكِنْ بِالْعَزْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ، وَأَزَالَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ.
قِيلَ: ذَانِكَ الْفِعْلَانِ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَدِمْهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ
لَا تَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَطَرْدُهُ الْمُجَامِعَ لَوْ ذَكَرَ فَنَزَعَ فَإِنَّ نَزْعَهُ لَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً لِلْمَحْظُورِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَزْعٍ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ النَّزْعِ مُتَلَافِيًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْفَوَاتِ، وَلَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْفَوَاتِ، بِتَرْكِ رُكْنٍ، وَهَذَا، بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، لِأَنَّ الْقَتْلَ، وَالْعِلْمَ فِعْلٌ مَحْظُورٌ وَقَدْ أَوْجَبَ مُقْتَضَاهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ أَغْلَظُ الْمَحْظُورَاتِ وَأَكْبَرُ الْمَنْهِيَّاتِ وَجِنْسُهُ لَا يَخْلُو عَنْ مُوجِبٍ وَمُقْتَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بَاطِلًا قَطُّ؛ فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي مِلْكٍ قَرَّرَ الْمِلْكَ بِحَيْثُ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً، وَيَسْتَقِرُّ الثَّمَنُ وَالْمِلْكُ إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعِيبَةً أَوْ فِيهَا خِيَارٌ. عَمْدًا وَقَعَ، أَوْ سَهْوًا، وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْلُو عَنْ عُقْرٍ، أَوْ عُقْرٍ وَعُقُوبَةٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ فَقَطْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَهُوَ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِذَا وَقَعَ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ الْعِبَادَاتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ: كَانَ إِخْرَاجًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ لَا سِيَّمَا وَالْمُحْرِمُ مَعَهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ عَلَى إِحْرَامِهِ مَا يُذَكِّرُهُ بِحَالِهِ، وَيَزْجُرُهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْمَحْظُورِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِلْإِحْرَامِ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ الَّذِي هُوَ: تَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ.
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّهُ يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْهَدْيَ. فَإِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا؛ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الذَّمِّ وَالْعِقَابِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْصِيَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. أَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ إِفْسَادِ الْحَجِّ وَإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ: فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ هَذَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْفَسَادُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا وُجِدَ الْمُفْسِدُ مَعَ الْعُذْرِ فَمِنْ ذَلِكَ الطَّهَارَةُ فَإِنَّهَا تَفْسَدُ بِوُجُودِ مُفْسِدَاتِهَا عَمْدًا وَسَهْوًا، وَالصَّلَاةُ تَبْطُلُ بِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ عَمْدًا وَسَهْوًا، أَوْ بِمُرُورِ الْقَاطِعِ بَيْنَ يَدَيْهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَفِي الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ النِّكَاحِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فَيُفْسِدُهُ مِنْ صِهْرٍ وَرَضَاعٍ وَغَيْرِهِمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ .... وَمِلْكِ الْأَمْوَالِ.
وَمُوجِبَاتُ الْكَفَّارَاتِ - فِي غَالِبِ الْأَمْرِ -: يُوجِبُهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَتَرْكِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ قَدْ يَغْلُظُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِلْحَاقُهُ بِأَكْثَرِ الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِأَقَلِّهَا، ثُمَّ لَمْ يَجِئْ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ.
فَأَمَّا مَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ: فَمَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ فَهُوَ كَالْجِمَاعِ، وَأَمَّا مَا لَا يُفْسِدُهُ
…
.
(فَصْلٌ)
وَيَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ مِثْلَ الَّذِي أَفْسَدَهُ إِنْ كَانَ حَجًّا قَضَى حَجًّا، وَإِنْ كَانَ
عُمْرَةً قَضَى عُمْرَةً، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً وَحَجَّةً قَضَاهُمَا. وَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُمَا: الْمَكَانُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَوَّلًا، وَمِيقَاتُ بَلَدِهِ؛ فَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إِلَّا مُحْرِمًا، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ لِوَاجِبٍ، أَوْ فِعْلَهُ لِمَحْظُورٍ فِي الْأَدَاءِ لَا يُسَوِّغُ لَهُ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ، مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ فِي مِصْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. هَذَا نَصُّهُ وَمَذْهَبُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِي الرَّجُلِ إِذَا وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي الْعُمْرَةِ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهَا مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا بِالْعُمْرَةِ لَا يُجْزِئُهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ -: إِذَا أَفْسَدَ الرَّجُلُ الْحَجَّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ قَابِلٍ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، فَعَلَيْهِ مَتَى وَجَدَ.
وَقَدْ نَصَّ فِي الْمُحْصَرِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَيُحْرِمَانِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَا. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ} [البقرة: 194] فَأَوْجَبَ عَلَى مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةً
…
.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ: «حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا» وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ - وَحَظُّهُ مِنَ الْقِيَاسِ
وَافِرٌ -؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَافَةَ قَطَعَهَا بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ الْوَاطِئَ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ)
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ الْمَقْضِيَّةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ إِذَا قَضَاهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ نَذْرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قَضَاءً فَأَفْسَدَهَا: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ أَفْسَدَ الْقَضَاءَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءُ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ إِذَا قَضَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ يُفْسِدُهُ إِذَا قَضَاهُ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِذَا أَفْسَدَ هَذَا الْقَضَاءَ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَلُمَّ جَرًّا. فَمَتَى قَضَى قَضَاءً لَمْ يُفْسِدْهُ: فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَحْمَدَ: أَيَّتُهُمَا حَجَّةٌ؛ الَّتِي أَفْسَدَهَا، أَوِ الَّتِي قَضَاهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
(فَصْلٌ)
وَيَنْحَرُ هَدْيَ الْفَسَادِ فِي عَامِ الْقَضَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا وَطِئَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ قَارِنٌ: فَسَدَ حَجُّهُ فِي سَنَتِهِ الَّتِي وَطِئَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ إِلَى قَابِلٍ إِذَا حَجَّ أَهْدَى. وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: يُعَجِّلُ الْهَدْيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَيَقُولُ: مَا يَدْرِي مَا يَحْدُثُ عَلَيْهِ. وَالَّذِي أَقُولُ بِهِ: إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِذَا حَجَّ مِنْ قَابِلٍ أَهْدَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْأَثْرَمُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَارَّةٌ ثَانِيَةٌ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْضِي فِيهَا، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَيُهْدِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ: يَعْنِي بِهِ هَدْيًا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: يُهْدِي فِي السَّنَةِ: يَعْنِي يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فَسَدَ حَجُّهُمَا وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ، وَالْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، وَإِنِ اسْتَكْرَهَهَا كَفَّرَ عَنْهَا، وَأَحَجَّهَا مِنْ قَابِلٍ مِنْ مَالِهِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَقِيلَ عَنْهُ: يُجْزِئُهُمَا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ طَاوَعَتْهُ، أَمْ أَكْرَهَهَا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْإِفْسَادِ وَمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ، فَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ حِينَئِذٍ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَوَجْهُ الْمَنْصُوصِ: أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ، وَآثَارَ الصَّحَابَةِ عَامَّتَهَا: إِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْهَدْيِ مَعَ الْقَضَاءِ وَهِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، لَكِنَّ بَعْضَ أَلْفَاظِهَا مُحْتَمَلَةٌ وَأَكْثَرُهَا مُفَسَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ: فَإِنَّمَا يُخْرِجُ الْهَدْيَ مَعَ الْقَضَاءِ كَهَدْيِ الْفَوَاتِ وَعَكْسُهُ الْإِحْصَارُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهَدْيَ إِنَّمَا جُبْرَانٌ لِلْإِحْرَامِ، وَهَذَا الْإِحْرَامُ الْفَاسِدُ إِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِالْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ، بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يَنْجَبِرُ بِمُجَرَّدِ الْهَدْيِ. فَأَمَّا إِنْ أَتَى فِي الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ مَحْظُورًا مِثْلَ: اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ: فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ
…
.
فَإِنْ أَخْرَجَ هَدْيَ الْفَسَادِ قَبْلَ الْقَضَاءِ
…
، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ إِلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ وَسَائِرِ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ذِكْرُ هَدْيَيْنِ، وَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُمَا كَانَا قَدْ سَاقَا هَدْيًا، وَهَذَا لِأَنَّ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَاطِئُ قَدْ سَاقَ هَدْيًا نَحَرَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى كَمَا يَقْضِي سَائِرَ الْمَنَاسِكِ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ هَدْيِ الْإِفْسَادِ، كَمَا لَا يُجْزِئُهُ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ دَمٌ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَضَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ؛ مِثْلُ: إِنْ أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَفْسَدَ الْإِحْرَامَ، أَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ اللَّيْلِ، أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِفِعْلِ الْقَضَاءِ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا فِي رَجُلٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ يُحْرِمُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِتَرْكِهِ الْوَقْتَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: لَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ النُّسُكِ الْمَتْرُوكِ، فَإِذَا قَضَى مَا تَرَكَهُ: فَقَدْ قَامَ الْقَضَاءُ مَقَامَ مَا تَرَكَ فَأَغْنَى عَنِ الدَّمِ، بِخِلَافِ مَا وَجَبَ لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحْظُورَ لَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ كَفَّارَةً، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، فَإِنَّ إِحْرَامَهُ قَدْ نَقَصَ نَقْصًا لَمْ يُجْبَرْ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَهُنَا قَدْ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُبْتَدَأً مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ فِي
رَجُلٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَأَهَّلَ ثُمَّ جَامَعَ: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ، قَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ وَيَمْضِي فِي حَجَّتِهِ وَيَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ فِي كُلِّ مَا أَتَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَائِمٌ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ.
وَهَذِهِ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الدَّمَ الْوَاجِبَ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْوَقْتِ مُحْرِمًا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَجَّةَ الْفَاسِدَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَهَا إِذَا تَرَكَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا يَفْعَلُهُ فِي قَضَائِهَا يَقُومُ مَقَامَ مَا يَفْعَلُهُ فِيهَا: لَكِنَّا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ إِتْمَامَ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ مَا يَتْرُكُهُ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا، بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ إِتْمَامَ الْأُولَى وَقَضَاءَهَا.
وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ثُمَّ وَطِئَ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ أَيْضًا:
إِحْدَاهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ وَلَا قِرَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهُ عَلَى ذَلِكَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِيمَا إِذَا وَطِئَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ أَوْ قَارِنٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ إِلَى قَابِلٍ فَإِذَا حَجَّا أَهْدَيَا، وَقَالَ أَيْضًا -: فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مُتَمَتِّعٍ دَخَلَ مَكَّةَ فَوَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ: مُتَمَتِّعٌ وَلَكِنْ قُلْ: مُعْتَمِرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمِيقَاتِ الَّذِي أَهَلَّ مِنْهُ، فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ.
فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ دَمَ التَّمَتُّعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ سَفَرٌ آخَرُ فِي الْقَضَاءِ 30
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ جَامَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَقَامَ إِلَى الْحَجِّ: حَجَّ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِعُمْرَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ دَمٌ لِلْمُتْعَةِ وَدَمٌ لِمَا أَفْسَدَ مِنَ الْعُمْرَةِ.
لِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ: وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْفَاسِدِ كَالطَّوَافِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ الْفَاسِدِ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الصَّحِيحِ، إِلَّا فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ فِيهِ الْوَطْءُ فَأَفْسَدَهُ وَالْآخَرَ عَرِيَ عَنْ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا: إِذَا أَحْرَمَ بِقِرَانِ الْقَضَاءِ فَهَلْ عَلَيْهِ دَمُ الْفَسَادِ، وَدَمُ الْقِرَانِ الْفَاسِدِ؟ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ.
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. فَإِذَا قَضَاهَا
فَإِنْ لَمْ يَقْضِهَا قَبْلَ الْحَجِّ: فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ .. .
(فَصْلٌ)
وَالدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْوَطْءِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا: بَدَنَةٌ مَعَ الْإِفْسَادِ، وَالثَّانِي:
شَاةٌ مَعَ الْإِفْسَادِ، وَالثَّالِثُ: بَدَنَةٌ بِلَا إِفْسَادٍ، وَالرَّابِعُ: شَاةٌ بِلَا إِفْسَادٍ.
(فَصْلٌ)
وَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَفَرَّقَا فِي الْقَضَاءِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - فِي الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ مُهِلًّا بِالْحَجِّ: يُهِلَّانِ مِنْ قَابِلٍ وَيَتَفَرَّقَانِ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - فِي الرَّجُلِ يُصِيبُ أَهْلَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ: يَتَفَرَّقَانِ إِذَا عَادَا إِلَى الْحَجِّ فِي النُّزُولِ وَالْمَحْمَلِ وَالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ: فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَأَهْدِيَا هَدْيًا ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إِذَا جِئْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى، فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا» ". وَفِي الْآخَرِ فَقَالَ لَهُمَا: " «أَتِمَّا حَجَّكُمَا ثُمَّ ارْجِعَا وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى مِنْ قَابِلٍ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا، وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أَتِمَّا مَنَاسِكَكُمَا وَأَهْدِيَا» ".
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: " «يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا - ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَا مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا، وَتَفَرَّقَا مِنْ حَيْثُ أَصَابَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا» ".
وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اقْضِيَا مَا عَلَيْكُمَا مِنْ نُسُكِكُمَا هَذَا، وَعَلَيْكُمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَإِذَا أَتَيْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي فَعَلْتُمَا فِيهِ مَا فَعَلْتُمَا، فَتَفَرَّقَا وَلَا تَجْتَمِعَانِ حَتَّى تَقْضِيَانِ نُسُكَكُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَلَا يَمُرَّانِ عَلَى
الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَا إِلَّا وَهُمَا مُحْرِمَانِ، وَيَتَفَرَّقَانِ إِذَا أَحْرَمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَيُحْرِمَانِ مِنْ حَيْثُ كَانَا أَحْرَمَا وَيَتَفَرَّقَانِ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتَيْبَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ يَتَفَرَّقَانِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى يَقْضِيَا مَنَاسِكَهُمَا وَعَلَيْهِمَا الْهَدْيُ. رَوَاهُ النَّجَّادُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يَتَفَرَّقَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ وَيَنْحَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزُورًا، وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ يُحْرِمَانِ بِمِثْلِ مَا كَانَا أَحْرَمَا بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا مَرَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ تَفَرَّقَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ.
وَذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ عَلِيٍّ: فَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا " فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ مَعَ الْمُرْسَلِ الْمَرْفُوعِ لَا يُعْرَفُ أَثَرٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا جَامَعَهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ: لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ تَتَكَرَّرَ تِلْكَ الْحَالُ فَتَدْعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى مُوَاقَعَتِهَا، فَيُفْسِدَ الْحَجَّةَ الثَّانِيَةَ كَمَا أَفْسَدَ الْأُولَى، فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْأَمْكِنَةِ تُذَكِّرُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَشَهْوَةُ الْجِمَاعِ إِذَا هَاجَتْ فَهِيَ لَا تَنْضَبِطُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الطِّبَاعِ، وَذَكَرَ الشُّعَرَاءُ ذَلِكَ فِي
أَشْعَارِهِمْ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ حُبِّ الْوَطَنِ مَا قَضَتْهُ النَّفْسُ مِنَ الْأَوْطَارِ فِيهِ، وَرُبَّمَا قَدْ جَرَّبَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْحَالِ وَالْمَكَانِ الَّذِي عَصَى اللَّهَ فِيهِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ: كَانَ مِنْ تَوْبَتِهِمَا أَنْ يَتَفَرَّقَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وَقَدْ قَالَ طَاوُسٌ: مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا تَفَرَّقَا عَنْ ثِقَالٍ فَإِنْ تَعَجَّلَا ذَلِكَ الثِّقَالَ فِي الدُّنْيَا كَانَ خَيْرًا لَهُمَا مِنْ تَأْخِيرِهِ إِلَى الْآخِرَةِ.
فَعَلَى هَذَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَ رُجُوعِهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ. فَأَمَّا أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ .... فَإِذَا أَحْرَمَا بِالْقَضَاءِ فَهَلْ يُفَارِقُهَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ، أَوْ إِذَا بَلَغَا مَكَانَ الْإِصَابَةِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا
؛ إِحْدَاهُمَا: مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ ابْنِ الْعَبَّاسِ، وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِمَا فَسَادُ الْإِحْرَامِ فِي أَوَّلِهِ كَمَا يُخَافُ عَلَيْهِمَا فِي آخِرِهِ
وَالثَّانِيَةُ: مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَعَامَّةُ
…
؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْمَرْفُوعِ: حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ أَجْوَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَعَلَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ: بِأَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ وَاجِبًا، وَلَعَلَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّفَرُّقُ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَلَا يَزَالَانِ مُتَفَرِّقَيْنِ إِلَى حِينِ الْإِحْلَالِ الثَّانِي لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْجِمَاعُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُ.
وَصِفَةُ التَّفَرُّقِ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ -: أَنْ لَا يَجْتَمِعَا فِي مَحْمَلٍ، وَلَا فُسْطَاطٍ فِي الرُّكُوبِ، وَلَا فِي النُّزُولِ، وَفِي الْمُرْسَلِ: أَنْ لَا يَرَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ
فَأَمَّا كَوْنُهُمَا فِي رُفْقَةٍ، أَوْ فِي قِطَارٍ؛ فَلَا يَضُرُّهُمَا.