المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة تغطية الرأس] - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - كتاب الحج - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَلْقُ الشَّعْرِ وَقَلْمُ الظُّفْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مقدار الفدية في الحلق أو التقليم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما آذى المحرم من الشعر في غير محله]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لبس المخيط]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تغطية الرأس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطيب]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الصَيْدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَقْدُ النِّكَاحِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الوطء في العمرة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النسك لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المرأة كالرجل في محظورات الإحرام إلا في لبس المخيط وتخمير الرأس]

- ‌[بَابُ الْفِدْيَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ الْفِدْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يجب بترك الواجب]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد بالطعام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هدي التمتع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فدية الجماع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الإحصار]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم تكرار المحظور]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما لا يمكن إزالته من المحظورات لا فرق بين سهوه وعمده]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أنواع الهدي]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب دخول مكة من أعلاها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب دخول المسجد من باب بني شيبة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يستحب عند رؤية البيت]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطواف تحية المسجد الحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ معنى الاضطباع وحكمه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ السنة أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطائف يجعل البيت على يساره]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الأصل في مشروعية الرمل]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يشرع استلام الركنين اليمانيين في كل طواف]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصلاة خلف المقام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَخْتِمَ الطَّوَافَ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الخروج إلى الصفا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جَازَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ في أحكام الطواف والسعي والإحلال إلا فيما يعرضها للتكشف]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ الإحرام بالحج يَوْمُ التَّرْوِيَةِ والخروج إلى عرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة والخطبة يوم عرفة وموضعه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الوقوف بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أفضل أحوال الوقوف بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يستحب من الذكر والدعاء بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدفع إلى مزدلفة وصفته]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة في مزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المبيت بمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صلاة الفجر بمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الوقوف عند المشعر الحرام بالمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وقت الدفع من مزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رمي جمرة العقبة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نحر الهدي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الحلق أو التقصير]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التحلل الأول]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طواف الإفاضة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سعي المتمتع مع طواف الزيارة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التحلل الثاني]

- ‌[مَسْأَلَةٌ استحباب الشرب من ماء زمزم وصفته]

- ‌[بَابُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْحِلِّ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ المبيت في منى بلياليها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وقت رمي الجمار في أيام التشريق وصفته]

- ‌[مَسْأَلَةٌ على القارن والمتمع دم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طواف الوداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشتغل بعد طواف الوداع بتجارة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يشرع بعد طواف الوداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الخروج من غير وداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء]

- ‌[بَابُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْحَجِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ واجبات الحج]

- ‌[مسألة الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اللَّيْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِمِنًى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الرمي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَلْقُ والتقصير]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَوَافُ الْوَدَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ وَوَاجِبَاتُهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يترتب على ترك الركن أو الواجب أو المسنون]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أحكام الفوات]

الفصل: ‌[مسألة تغطية الرأس]

قَالَ: "مَنِ اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ الْقَبَاءِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ - فَلْيُنَكِّسِ الْقَبَاءَ وَلْيَلْبَسْهُ " رَوَاهُ النَّجَّادُ.

وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِحَنًا عَلَى وَجْهٍ قَدْ يُلْبَسُ مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ إِذَا أَدْخَلَ كَفَّيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ وَلَمْ يُزِرْهُ.

[مَسْأَلَةٌ تغطية الرأس]

مَسْأَلَةٌ: - (الرَّابِعُ: تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَانِ مِنْهُ):

وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ - عَلَى الْمُحْرِمِ - حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم " «وَلَا يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ» " وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ -: " «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنَعَ مِنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ. فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يُخَمِّرَ رَأْسَهُ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَنَاقَلَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.

ص: 51

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: "أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَوْمًا بِعَرَفَةَ عَلَيْهِمُ الْقُمُصُ وَالْعَمَائِمُ، فَأَمَرَ أَنْ تُعَادَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ ".

وَعَنْ عَوْنٍ قَالَ: أَبْصَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْمًا بِعَرَفَةَ عَلَيْهِمُ الْقُمُصُ وَالْعَمَائِمُ فَقَالَ: "إِنْ عَلِمُوا فَعَاقِبُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَعَلِّمُوهُمْ ".

وَالْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ - لِمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ - وَعَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ مِنْ حُدُودِ الْوَجْهِ وَالسَّالِفَةِ مَا لَا يَنْكَشِفُ الرَّأْسُ إِلَّا بِهِ.

فَأَمَّا الْوَجْهُ: فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ: لَهُ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: يُغَطِّي وَجْهَهُ وَحَاجِبَيْهِ، وَسُئِلَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنِ الْمُحْرِمِ يُغَطِّي وَجْهَهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَقَالَ - أَيْضًا - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ فِي مُحْرِمٍ مَاتَ يُغَطَّى وَجْهُهُ وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ؛ هَلْ يُغَطَّى وَجْهُهُ؟ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، قُلْتُ: أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ يُغَطَّى وَجْهُ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ أَوْ لَا يُغَطَّى قَالَ: أَمَّا الرَّأْسُ فَلَا أَرَى أَنْ يُغَطُّوهُ وَأَمَّا الْوَجْهُ: فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.

ص: 52

وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لَهُ: تَذْهَبُ إِلَى أَنْ يُخَمَّرُ وَجْهُهُ وَيُكْشَفُ رَأْسُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ. قَالَ الْخَلَّالُ: لَعَلَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ صَوَّبَ الْقَوْلَ قَدِيمًا، فَذَهَبَ إِلَى مَا حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا رَوَى مُهَنَّا وَالْجَمِيعُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ، وَيُخَمَّرُ وَجْهُهُ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُغَطَّى وَجْهُهُ؛ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ: وَالْمُحْرِمُ يَمُوتُ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ:«أَنَّ رَجُلًا أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيَّ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَمْ يُغَطَّ وَجْهُهُ

ص: 53

حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ مُحْرِمًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَالثَّالِثَةُ: قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: "يُخَمَّرُ أَسْفَلُ مِنَ الْأَنْفِ وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى فَمِهِ دُونَ أَنْفِهِ يُغَطِّيهِ مِنَ الْغُبَارِ " وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَمَنْ نَامَ فَوَجَدَ رَأْسَهُ مُغَطًّى فَلَا بَأْسَ. وَالْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ يُخَمَّرُ أَسْفَلُ مِنَ الْأُذُنَيْنِ، وَأَسْفَلُ الْأَنْفِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» " فَأَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَتَبَرْقَعُ، وَتُسْدِلُ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ فَوْقُ، وَتَلْبَسُ مِنْ خَزِّهَا وَقَزِّهَا وَمُعَصْفَرِهَا وَحُلِيِّهَا فِي إِحْرَامِهَا مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدَّ الرَّأْسِ الْأُذُنَانِ وَالسَّالِفَةُ فَيَكْشِفُ مَا يُحَاذِيهِ مِنَ الْأَنْفِ وَمَا عَلَاهُ. وَمَا دُونُ ذَلِكَ فَيُغَطِّيهِ إِنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ.

وَسَوَاءٌ غَطَّى الرَّأْسَ بِمَا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ مِنْ عِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ وَكَلْتَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، مِثْلُ خِرْقَةٍ، أَوْ عِصَابَةٍ، أَوْ وَرَقَةٍ، أَوْ خِرْقَةٍ فِيهَا دَوَاءٌ، أَوْ لَيْسَ

ص: 54

فِيهَا دَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ أَوْ طَيَّنَهُ، إِلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَفْعَلَهُ وَيَفْتَدِيَ.

وَسَوَاءٌ كَانَ الْغِطَاءُ غَلِيظًا أَوْ رَقِيقًا، فَأَمَّا. . . .

وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْفُرَافِصَةِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَزَيْدًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ يُغَطُّونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ مُحْرِمُونَ إِلَى قُصَاصِ الشَّعْرِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: كَانَ أَبِي يَأْمُرُ الرِّجَالَ أَنْ يُخَمِّرُوا وُجُوهَهُمْ وَهُمْ حُرُمٌ، وَيَنْهَى النِّسَاءَ.

وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "لِيَغْشَى وَجْهَهُ بِثَوْبِهِ وَأَهْوَى إِلَى شَعْرِ رَأْسِهِ، وَأَشَارَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِثَوْبِهِ إِلَى رَأْسِهِ ".

وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْمُحْرِمُ يُغَطِّي وَجْهَهُ مَا دُونَ الْحَاجِبِ ".

ص: 55

فَصْلٌ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ فَوْقَ رَأْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ الْكَبَكِ وَالطَّبَقِ وَنَحْوِهِ، وَحَرَّرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، فَقَالَ: إِذَا احْتَاجَ لِحَمْلِ مَتَاعٍ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى غَيْرِهِ: فَحَمَلَهُ، فَغَطَّى رَأْسَهُ لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغْطِيَةُ، بَلِ النَّقْلُ.

وَإِنْ تَعَمَّدَ لِحَمْلِ شَيْءٍ عَلَى رَأْسِهِ تَحَيُّلًا لِلتَّغْطِيَةِ لَمْ تَسْقُطِ الْفِدْيَةُ، وَكَانَ مَأْثُومًا. وَهَذَا مُقْتَضَى تَعْلِيلِ بَقِيَّتِهِمْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْحَمْلَ فَقَطْ، أَوْ يَقْصِدَ مَعَ الْحَمْلِ التَّغْطِيَةَ.

وَعَلَّلَهُ الْقَاضِي - فِي مَوْضِعٍ - بِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَامُ فِي الْعَادَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ يَدَهُ.

قَالُوا: وَلَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَنْ يَقْلِبَ ذَوَائِبَهُ عَلَى رَأْسِهِ.

(فَصْلٌ)

وَأَمَّا إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ بِشَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ فَهُوَ أَقْسَامٌ: -

ص: 56

أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَظِلَّ بِسَقْفٍ فِي بَيْتٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ يَسْتَظِلَّ بِخَيْمَةٍ أَوْ فُسْطَاطٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ يَسْتَظِلَّ بِشَجَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا جَائِزٌ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ، وَيَسْتَظِلُّ بِالْفَازَةِ. وَالْخَيْمَةُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ.

وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ تَحْتَ خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ جَازَ. وَلَيْسَ اجْتِنَابُ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] فَرَوَى أَحْمَدُ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " «كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ شَيْءٌ، يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُهِلًّا بِالْعُمْرَةِ، فَتَبْدُو لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ، فَيَرْجِعُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْحُجْرَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْفِ الْبَيْتِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، فَيَقْتَحِمُ الْجِدَارَ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ يَقُومُ فِي حُجْرَتِهِ، فَيَأْمُرُ بِحَاجَتِهِ، فَتُخْرَجُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ

ص: 57

بِالْعُمْرَةِ، فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ، فَدَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أَحْمَسُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَتِ الْحُمْسُ لَا يُبَالُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا أَحْمَسُ، يَقُولُ: وَأَنَا عَلَى دِينِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]»).

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا؛ كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ الْبُيُوتِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، وَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ - لِأَحْمَدَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: "كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْرَمُوا: أَتَوُا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وَلَمْ يَأْتُوهَا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ".

ص: 58

وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: " «كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بَابِهِ وَلَكِنْ مِنْ ظَهْرِهِ فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْحَائِطَ مِنْ بَابِهِ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ تَابُوتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ مُنَافِقٌ حَيْثُ دَخَلَ هَذَا الْحَائِطَ مِنْ بَابِهِ، فَقَالَ: يَا رِفَاعَةُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَدَخَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي أَنَا مِنَ الْحُمْسِ، وَأَنْتَ لَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْحُمْسِ فَإِنَّ دِينَنَا وَاحِدٌ، فَنَزَلَتْ: {بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» .

ص: 59

وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " «أَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ بِنَمِرَةٍ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِلَتْ لَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. . . .

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: " حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمَا رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فُسْطَاطًا حَتَّى رَجَعَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ، قَالَ: كَانَ يَسْتَظِلُّ بِالنِّطَعِ وَالْكِسَاءِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَسَوَاءٌ طَالَ زَمَانُ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ؛ لِأَنَّ هَذَا يُقْصَدُ بِهِ جَمْعُ الرَّحْلِ وَالْمَتَاعِ دُونَ مُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ.

وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ: أَنَّ هَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ لَا يُسْتَدَامُ فِي حَالِ السَّيْرِ وَالْمُكْثِ.

الثَّانِي: الْمَحْمِلُ وَالْعَمَّارِيَّةُ وَالْقُبَّةُ وَالْهَوْدَجُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُصْنَعُ عَلَى

ص: 60

الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاكِبِ لِأَجْلِ الِاسْتِظْلَالِ شَفْعًا كَانَتْ أَوْ وَتْرًا: فَهَذَا إِذَا كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْ رَأْسِهِ فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ. وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِظْلَالِ وَالْبُرُوزِ لِلسَّمَاءِ إِنَّمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ بِرًّا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " «لَمَّا رَأَى أَبَا إِسْرَائِيلَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ سَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَيَصُومَ قَالَ: مُرُوهُ فَلْيَقْعُدْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الضُّحَى لِلشَّمْسِ مِثْلُ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ لَيْسَ مَشْرُوعًا، وَلَا مَسْنُونًا وَلَا بِرَّ فِيهِ.

وَأَيْضًا: فَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِظْلَالُ بِالْخَيْمَةِ وَالسَّقْفِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَقْصُودُ بِهَا جَمْعُ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْبَيْتَ

ص: 61

لَقَصَدَ الِاسْتِظْلَالَ، أَوْ نَصَبَ لَهُ خَيْمَةً لِمُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ، جَازَ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَتْ أُمُّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ:" «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْآخِذَ بِالْخِطَامِ بِلَالٌ، وَالْمُظَلِّلَ بِالثَّوْبِ أُسَامَةُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ «حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ - حَسِبْتُهَا قَالَتْ أَسْوَدُ - يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» ".

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّظْلِيلُ إِنْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِ أَيَّامِ مِنًى: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مِنًى، لِأَنَّ الْجَمْرَةَ تُرْمَى أَيَّامَ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ حِينَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ، فَأَمَّا يَوْمَ النَّحْرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَاهَا ضُحًى، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِلشَّمْسِ حَرٌّ يَحْتَاجُ إِلَى تَظْلِيلٍ.

ص: 62

قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «كَانَ إِذَا رَمَى الْجِمَارَ مَشَى إِلَيْهَا ذَاهِبًا رَاجِعًا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ - بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ - مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، فَقَالَ: "«كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا وَسَائِرَ ذَلِكَ مَاشِيًا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» ".

فَفِي هَذَا: مَا يَدُلُّ أَنَّ ذَلِكَ الرَّمْيَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفِضْ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، وَمَا بَيْنَ أَنْ يُفِيضَ إِلَى أَنْ يَجِيءَ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَصِيرُ لِلشَّمْسِ مَسٌّ وَحَرٌّ، فَإِنَّ حَجَّتَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ فِي. . . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ. . . وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَمُّ حُصَيْنٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَإِنَّمَا خَطَبَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَتَخْصِيصُهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَمَاهَا إِذْ لَوْ كَانَ. . . لَكِنَّ التَّظْلِيلَ - وَاللَّهُ

ص: 63

أَعْلَمُ - إِنَّمَا كَانَ حِينَ الِانْصِرَافِ مِنْ رَمْيِهَا وَحِينَئِذٍ فَقَدَ حَلَّ وَجَازَ لَهُ الْحِلَاقُ.

وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ مَعَهُ - وَخُلَفَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِنَّمَا حَجُّوا ضَاحِينَ بَارِزِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مَحْمِلًا وَلَا قُبَّةً وَلَا ظُلَّةً - عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ وَقَدْ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلِهَذَا عَدَّ السَّلَفُ هَذَا بِدْعَةً، وَالضُّحَى لِلْمُحْرِمِ أَمْرٌ مَسْنُونٌ بِلَا. . . .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلَّهِ يَوْمَهُ يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلَّا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

وَقَدْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُسْرِفُونَ فِي الْبُرُوزِ وَالضُّحَى حَتَّى يَمْتَنِعَ أَحَدُهُمْ مِنَ الدُّخُولِ مِنَ الْبَابِ مُبَالَغَةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَاهُمْ عَنِ الدُّخُولِ مِنْ ظُهُورِ الْبُيُوتِ، وَأَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمْ أَصْلَ الضُّحَى وَالْبُرُوزِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَضِيَهُ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولٍ وَمُكْثٍ لَا يُقْصَدُ الِاسْتِظْلَالُ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الظِّلِّ. وَلَوْ عَابَ عَلَيْهِمْ نَفْسَ التَّحَرُّجِ مِنَ الِاسْتِظْلَالِ لَقَالَ: وَلَيْسَ الْبِرُّ فِي الْبُرُوزِ، أَوْ فِي الضُّحَى وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا وَالضُّحَى لِمُجَرَّدِ الصَّوْمِ لَا يُشْرَعُ وَلِهَذَا نَهَاهُ عَنِ الصَّمْتِ وَالْقِيَامِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لِلْمُصَلِّي؛ وَلِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ وَصَارَ دُخُولُهُمُ الْبُيُوتَ مِثْلَ نَزْعِ الْمُحْرِمِ الْقَمِيصَ وَإِنْ خَمَّرَ رَأْسَهُ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّخْمِيرَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ وَقَّتَ فِيهِ الرُّخْصَةَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحْرِمَ الْأَشْعَثَ الْأَغْبَرَ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ

ص: 64

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِذَا كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بَاهَى اللَّهُ بِالْحَاجِّ؛ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا قَدْ أَتَوْنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَضَمِنْتُ لِأَهْلِهَا النَّوَافِلَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هَارُونَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ

ص: 65

بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.

فَقَدْ وَصَفَ كُلَّ حَاجٍّ بِأَنَّهُ أَغْبَرُ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمُحْرِمِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَالِاسْتِظْلَالُ بِالْمَحْمِلِ يَنْفِي الْغُبَارَ وَالشَّعَثَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ السَّلَفَ كَرِهُوا ذَلِكَ؛ فَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِعُودٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا بِعُودٍ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ:"اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

وَاضْحَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ ضَحَى بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ يَضْحَى ضَحًا إِذَا بَرَزَ لِلشَّمْسِ كَمَا قَالَ: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوِيهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَضْحَى يُضْحِي - أَيْضًا - وَمَعْنَاهَا هُنَا ضَعِيفٌ.

وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: " مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَدْ ظَلَّلَ عَلَيْهِ

ص: 66

كَهَيْئَةِ التُّرْسِ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: "اتَّقِ اللَّهَ اتَّقِ اللَّهَ ".

وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ "اسْتَظَلَّ بِعُودٍ عَلَى رَاحِلَتِهِ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَنَهَاهُ عَنْهُ ابْنُ عُمَرَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.

وَعَنْ نَافِعٍ " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا قَدْ نَصَبَ عَلَى مُقَدِّمَةِ رَاحِلَتِهِ عُودًا عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخُيَلَاءَ ".

وَعَنْهُ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا قَدْ وَضَعَ عُودَيْنِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَسْتَتِرُ بِهِمَا فَانْتَزَعْتُهُمَا " رَوَاهُمَا النَّجَّادُ.

ص: 67

وَابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعِهِمْ لَهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْفَتَاوَى - فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ - مُنْكِرٌ مَعَ مَنْ يَجْمَعُهُ الْمَوْسِمُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّجَّادُ عَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ عُثْمَانَ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَرَوَى النَّجَّادُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"لَا بَأْسَ بِالظِّلِّ لِلْمُحْرِمِ " فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى صُوَرٍ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرَّأْسَ يُفَارِقُ غَيْرَهُ مِنَ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ تَخْمِيرُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْخِرْقَةِ وَالْوَرَقَةِ، وَحَتَّى قَدْ كَرِهَ لَهُ الدُّهْنَ، مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِلْبَدَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْجِيلِهِ، وَالْبَدَنُ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُلْبِسَهُ اللِّبَاسَ الْمُعْتَادَ، فَلَوْ خَمَّرَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ: بَقَاءُ الرَّأْسِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَنْعُهُ مِنَ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْمِلَ يُكِنُّ الرَّأْسَ وَيُوَارِيهِ وَيُرَفِّهُهُ بِنَحْوِ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِالْعِمَامَةِ وَنَحْوِهِ. لَكِنَّ التَّرَفُّهَ بِالْعِمَامَةِ أَشَدُّ، فَإِنَّ مَنْ كَشَفَ رَأْسَهُ فِي دَاخِلِ مَحْمِلٍ وَظُلَّةٍ لَمْ يَكْشِفْ رَأْسَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا

ص: 68

يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ شَجَّ عَلَى رَأْسِهِ يَكْشِفُهُ لِلَّهِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتَوَاضَعَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ ابْنُ عُمَرَ خُيَلَاءَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ - وَمَا فِي مَعْنَاهُ - فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي الْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَمَوْضِعَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.

فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ فِي مَحْمِلٍ عَلَيْهِ كِسَاءٌ أَوْ لِبْدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَشَفَهُ بِحَيْثُ تَنْزِلُ الشَّمْسُ مِنْ عُيُونِهِ. . . .

وَمَا يَنْصِبُهُ عَلَى الْمَحْمِلِ مِثْلُ أَنْ يُقِيمَ عُودًا وَيَرْفَعَ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَنَحْوُ ذَلِكَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَحْمِلِ مُطْلَقًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ التَّظَلُّلُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ فَهُوَ كَالْمَحْمِلِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ الْحُصَيْنِ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ إِذَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ: كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ.

ص: 69

فَأَمَّا إِنْ تَظَلَّلَ زَمَنًا يَسِيرًا مِنْ حَرٍّ، أَوْ مَطَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصِبَهُ عَلَى الْمَحْمِلِ، بَلْ يَرْفَعُ لَهُ ثَوْبًا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، أَوْ يَرْفَعُ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ أَوْ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِيَدِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا.

قَالَ: أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَى رَحْلٍ قَدْ رَفَعَ ثَوْبًا بِعُودٍ يَسْتُرُهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ: اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ ".

وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ جَدَّتِهِ - قَالَتْ: «حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ.

وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَا يَسْتَظِلُّ الْبَتَّةَ وَابْنُ عُمَرَ "اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ " وَحَدِيثُ بِلَالٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ جَدَّتِهِ، فَإِذَا كَانَ يَسْتُرُهُ بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ: كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ:"اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُغْلِظُونَ فِيهِ ".

وَفِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - وَذُكِرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ - فَقَالَ: هَذَا فِي السَّاعَةِ رُفِعَ لَهُ ثَوْبٌ بِالْعُودِ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.

ص: 70

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - "إِذَا كَانَ بِطَرَفِ كِسَائِهِ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ ".

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْقُبَّةِ لِلْمُحْرِمِ - فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا بِالْيَدِ أَوْ ثَوْبًا يُلْقِيهِ عَلَى عُودٍ.

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَقَدْ سُئِلَ: هَلْ يَتَّخِذُ عَلَى رَأْسِهِ الظِّلَّ فَوْقَ الْمَحْمِلِ، فَقَالَ: لَا إِلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ وَكَرِهَهُ جِدًّا.

وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي التَّظْلِيلِ الْيَسِيرِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَنْعَ وَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَا يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ، فَإِنِ اسْتَظَلَّ يَفْتَدِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَنَعَ الْمُحْرِمَ، فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالتَّغْطِيَةِ وَاللُّبْسِ. وَمَنْ قَالَ هَذَا حَمَلَ حَدِيثَ أُمِّ الْحُصَيْنِ عَلَى أَنَّ

ص: 71

الثَّوْبَ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ جَانِبِهِ، وَفَرَّقَ أَيْضًا بَيْنَ ظِلٍّ يَكُونُ تَابِعًا لِلْمُسْتَظِلِّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ وَيَقِفُ بِوُقُوفِهِ كَالْقُبَّةِ وَالثَّوْبِ الَّذِي بِيَدِهِ، أَوْ عَلَى عُودٍ مَعَهُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ تَابِعًا مِثْلُ ظِلِّ الشَّجَرَةِ وَالثَّوْبِ الْمَنْصُوبِ حِيَالَهُ، وَحَدِيثُ أُمِّ الْحُصَيْنِ كَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ.

وَالثَّانِيَةُ: الرُّخْصَةُ فِي الْيَسِيرِ لِحَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ:" «وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُهُ مِنَ الشَّمْسِ» ".

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ: خَلَعَهُ وَلَمْ يَشُقُّهُ مَعَ أَنَّ هَذَا تَظْلِيلٌ لِرَأْسِهِ وَتَخْمِيرٌ لَهُ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ -: إِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ يَخْلَعُهُمَا خَلْعًا وَلَا يَشُقُّهُمَا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إِنْ خَلَعَهُمَا فَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَعَجَبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يَنْزِعَ الْجُبَّةَ حَدِيثَ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِقِّهَا.

وَذَلِكَ لِمَا رَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ

ص: 72

بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَمَضَّخَ بِطِيبٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ الَّذِي سَأَلَنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا، فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:"أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي الْعُمْرَةِ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجُعْرَانَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «اخْلَعْ جُبَّتَكَ فَخَلَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ» ". قَالَ عَطَاءٌ: كُنَّا قَبْلَ أَنْ نَسْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ فِيمَنْ أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلْيَخْرِقْهَا عَنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَنَا هَذَا الْحَدِيثُ: أَخَذْنَا بِهِ، وَتَرَكْنَا مَا كُنَّا نُفْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.

فَقَدَ جَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْ يَخْلَعَهُ مِنْ رَأْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَظْلِيلٌ لِرَأْسِهِ لِأَنَّهُ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ يَسِيرَ التَّظْلِيلِ لَا بَأْسَ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ قَالُوا:

ص: 73

" «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فَشَقَّ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاعَدْتُ هَدْيًا يُشْعَرُ الْيَوْمَ» ".

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ شَقَّ قَمِيصَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: وَاعَدْتُهُمْ هَدْيَ الْيَوْمِ فَنَسِيتُ» " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

قِيلَ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ، كَانُوا يَجْتَنِبُونَ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: تَوَقُّفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَوَابِ السَّائِلِ حَتَّى أَتَاهُ الْوَحْيُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ سَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ: مَا أَزَالَ الْحُكْمَ الْمَاضِيَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّظْلِيلُ بِالسُّقُوفِ وَالْخِيَامِ وَنَحْوِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ جِنْسُ التَّظْلِيلِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ مِنْهُ مَا يُفْضِي إِلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَدُومُ وَيَتَّصِلُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: " كَانَ الْأَسْوَدُ إِذَا اشْتَدَّ الْمَطَرُ اسْتَظَلَّ بِكِسَاءٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ ".

وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ مِنَ الشَّمْسِ وَيَسْتَكِنُّ مِنَ الرِّيحِ وَمِنَ الْمَطَرِ ".

ص: 74

فَعَلَى هَذَا: يُجَوِّزُ السَّاعَةَ وَنَحْوَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فِي حَالِ مَسِيرِهِ وَرَمْيِهِ وَخُطْبَتِهِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا اسْتَبَاحَ يَسِيرَ التَّظْلِيلِ، أَنَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ كَانَ يَسِيرُ وَلَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ شَيْئًا يَسْتَظِلُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَفَعَلَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنِ اسْتَظَلَّ بِثَوْبٍ يُمْسِكُهُ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ، أَوْ وَضَعَ الثَّوْبَ عَلَى عُودٍ يُمْسِكُ الْعُودَ بِيَدِهِ، أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ جَازَ.

وَإِنِ اسْتَظَلَّ يَسِيرًا فِي مَحْمِلٍ، أَوْ بِثَوْبٍ مَوْضُوعٍ عَلَى عَمُودٍ عَلَى الْمَحْمِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا مُؤْنَةَ فِيهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ قَالَ: إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِعُودٍ يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ كَانَ جَائِزًا، وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا كَرِهَهُ عَلَى الرَّحْلِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا عَلَى الرَّحْلِ رَفَاهَةٌ مَحْضَةٌ، وَهُوَ مَظَنَّةُ الطُّولِ، فَلَوْ شُرِعَ ذَلِكَ لَشُرِعَ اتِّخَاذُ الظِّلِّ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا بِالْيَدِ، أَوْ ثَوْبًا يُلْقِيهِ عَلَى عُودٍ. فَأَمَّا أَنْ يُظَلِّلَ بِالْمَحْمِلِ وَنَحْوِهِ حَالَ نُزُولِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّاكِبِ وَالنَّازِلِ، وَإِنَّهُ إِنْ طَالَ ذَلِكَ وَكَثُرَ افْتَدَا رَاكِبًا كَانَ أَوْ نَازِلًا.

وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْثُرْ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَمْ نَازِلًا.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْخَيْمَةِ وَالسَّقْفِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّرَفُّهُ فِي

ص: 75

الْبَدَنِ فِي الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ جَمْعُ الرِّحَالِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الظِّلُّ وَغَيْرُهُ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا أَوْ يُخَمِّرُهُ.

وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: لَا يَسْتَظِلُّ عَلَى الْمَحْمِلِ، وَيَسْتَظِلُّ بِالْفَازَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَيْمَةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَنْصِبُونَ لَهُ الظِّلَّ الْمَحْضَ فِي حَالِ النُّزُولِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إِلَى بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِظْلَالِ لَجَازَ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمُحْرِمِ، وَلَا يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّخَذٍ لِلدَّوَامِ فَلَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الضَّحَا، وَيَسِيرُ الظِّلُّ فِي الْمَكَانِ مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَهُ مَا يَسْتُرُ يَسِيرًا مِنْ رَأْسِهِ مِثْلَ الزَّمَانِ.

فَأَمَّا إِذَا احْتَاجَ لِلِاسْتِظْلَالِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَحَمَلَا حَدِيثَ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَدَمِ الْعُذْرِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: عُذْرٌ يُخَافُ مَعَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّظْلِيلَ مِنْ غَيْرِ فِدْيَةٍ؛ لِأَنَّ مَا كُرِهَ فِي الْإِحْرَامِ جَازَ مَعَ الْحَاجَةِ، وَمَا أُبِيحَ يَسِيرُهُ جَازَ كَثِيرُهُ مَعَ الْحَاجَةِ.

قَالَ أَصْحَابُنَا الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: فَلَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِثَوْبٍ يَنْصِبُهُ حِيَالَهُ يَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُظَلَّلٌ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالْهَوْدَجِ وَالْعَمَّارِيَّةِ وَاللَّبْسَةِ.

ص: 76

وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ كُلَّ مَانِعِ وُصُولِ الشَّمْسِ إِلَى رَأْسِهِ فَهُوَ تَظْلِيلٌ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ أَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ جِهَاتِهِ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَحَيْثُ كُرِهَ لَهُ التَّظْلِيلُ فَهَلْ تَجِبُ الْفِدْيَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ. فَإِنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ كَانَ مُحْرِمًا، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْهَا كَانَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَجُوزُ تَظْلِيلُ الْمَحْمِلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الَّتِي يَسْتَوِي طَرَفَاهَا، بَلْ هُوَ ضِمْنُ الْمَتْبُوعَاتِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فَهَذَا لَا يَكُونُ.

إِحْدَاهُمَا: يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ لَا يَسْتَظِلُّ الْمُحْرِمُ، فَإِنِ اسْتَظَلَّ يَفْتَدِي بِصِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بِمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ فَعَلَ يُهْرِيقُ دَمًا؟ فَقَالَ: لَا، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُغَلِّظُونَ فِيهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ: الدَّمُ عِنْدِي كَثِيرٌ.

ص: 77