الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ ما يجب بترك الواجب]
مَسْأَلَةٌ: (وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ).
هَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ رحمه الله وَوَجْهُهُ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْقُصُ النُّسُكَ، وَأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى جُبْرَانٍ يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوِ التَّرْتِيبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ إِذَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ: لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ كَتَرْكِ الْحَائِضِ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَتَرْكِ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَنَحْوِ ذَلِكَ. نَعَمْ قَدْ يَتْرُكُهُ جَهْلًا أَوْ عَجْزًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا.
[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد]
مَسْأَلَةٌ: (وَجَزَاءُ الصَّيْدِ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ إِلَّا الطَّائِرَ فَإِنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ إِلَّا الْحَمَامَةَ فِيهَا شَاةٌ وَالنَّعَامَةَ فِيهَا بَدَنَةٌ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ مِنَ الصَّيْدِ إِمَّا بِالْحَرَمِ أَوْ بِالْإِحْرَامِ: فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَهُوَ مَا شَابَهَهُ فِي الْخِلْقَةِ وَالصِّفَةِ تَقْرِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّنْوِينِ، فَيَكُونُ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ فِي
الْإِعْرَابِ وَقُرِئَ (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ) بِالْإِضَافَةِ، وَالْمَعْنَى فَعَطَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ، أَوْ اسْمُ مَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَالْإِخْرَاجِ وَالْإِيتَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا: الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَيْثُ جَعَلَ الْفِدْيَةَ نَفْسَ الطَّعَامِ وَجَعَلَ الْجَزَاءَ: إِعْطَاءَ الْمِثْلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ: مَا مِثَالُ الصَّيْدِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُه أَزْيَدَ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ، أَوْ أَنْقَصَ؛ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ مِثْلَ الْمَقْتُولِ، وَالْمِثْلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مِثْلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمِثْلَ حَيَوَانٌ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَمْوَالِ: ذَوَاتُ الْأَمْثَالِ، وَذَوَاتُ الْقِيَمِ، وَهَذَا الشَّيْءُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِبَارَاتِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ لَا يُسَمَّى مِثْلًا.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ: احْتِرَازًا مِنْ إِخْرَاجِ الْمِثْلِ مِنْ نَوْعِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْمِثْلَ لَفُهِمَ مِنْهُ أَنْ يُخْرَجَ عَنِ الضَّبُعِ ضَبُعٌ، وَعَنِ الظَّبْيِ ظَبْيٌ. وَلَوْ كَانَ الْمِثْلُ هُوَ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ: لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ قِيمَةَ
الصَّيْدِ ثُمَّ إِنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي شِرَاءِ هَدْيٍ، أَوْ شِرَاءِ صَدَقَةٍ، حِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَجْعَلَ الْمِثْلَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بَيَانٌ لِجِنْسِ الْمِثْلِ كَقَوْلِهِمْ: بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ وَثَوْبُ خَزٍّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعِمِ، وَلَوْ كَانَ الْمِثْلُ هُوَ الْقِيمَةَ وَالنَّعَمُ مَصْرَفٌ لَهَا لَقِيلَ: جَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ فِي النَّعَمِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ: الْقِيمَةَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْفِهَا فِي الْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُرِيدَ بِالْمِثْلِ: الْهَدْيُ بِاعْتِبَارِ مُسَاوَاتِهِ لِلْمَقْتُولِ فِي الْقِيمَةِ: فَإِنَّ الْهَدْيَ وَالْقِيمَةَ مِثْلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] بِالْخَفْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ وَمِنَ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَوَاءٌ. فَلَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ تَرْفَعُ كَفَّارَةً: عُلِمَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَزَاءٍ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمِثْلُ الْقِيمَةَ وَلَا مَا اشْتُرِيَ بِالْقِيمَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي جَزَاءِ الْمِثْلِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْوِيمَ التَّلَفِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ وَاحِدٌ. فَلَمَّا خَصَّ ذَوَيِ الْعَدْلِ بِالْجَزَاءِ دُونَ الْكَفَّارَةِ: عُلِمَ أَنَّهُ الْمِثْلُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَذَلِكَ يَعُمُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ، وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيمَةِ.
قُلْنَا يَقْتَضِي إِيجَابَ جَزَاءِ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ إِنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِالْإِمْكَانِ بِدَلِيلِ مَنْ يُوجِبُ الْقِيمَةَ إِنَّمَا يَصْرِفُهَا فِي النَّعَمِ إِذَا
أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ لِشِرَاءِ هَدْيٍ: هُوَ بِمَثَابَةِ عَدَمِ النَّظِيرِ فِي الْخِلْقَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَدُ: فَمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ، وَبَقَرَةِ الْأُيَّلِ وَالثَّيْتَلِ وَالْوَعْلِ: بِبَقَرَةٍ وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ لِمُمَاثَلَتِهِ فِي الْخِلْقَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْقِيمَةِ؛ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي قِصَصِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضَايَا تَعَدَّدَتْ فِي أَمْكِنَةٍ وَأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ قِيمَتَهُ لَاخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ. فَلَمَّا قَضَوْا بِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْقِيمَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنَ النَّعَامَةِ وَالْبَقَرَةَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَالْكَبْشَ أَكْثَرُ قِيمَةً، كَمَا شَهِدَ بِهِ عُرْفُ النَّاسِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً
…
.
الْفَصْلُ الثَّانِي.
أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ حَاكِمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ عَلَى مَا حَكَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ ثَانٍ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ -: مَا حَكَمَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَزَاءِ فَعَلَى مَا حَكَمُوا؛ لِأَنَّهُمْ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ فِيهِ، وَلَوْ حَكَمُوا بِخِلَافِ حُكْمِهِمْ فَلَا يُتْرَكُ حُكْمُهُمْ لِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ: جَازَ أَنْ يَقُولَ قَاتِلُ الصَّيْدِ لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَهُ أَنِ احْكُمْ مَعِي فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ وَآخَرُ مَعَهُ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ الشَّالَنْجِيِّ -: إِذَا أَصَابَ صَيْدًا: فَهُوَ عَلَى مَا حَكَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا سُمِّيَ فِيهِ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - فِي الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ يَتَّبِعُ مَا جَاءَ: قَدْ حُكِمَ فِيهِ وَفُرِغَ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ -: مَا حَكَمَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
فَلَا يُحْتَاجُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ وَذَلِكَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ بِكَبْشٍ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ عَلَى مُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ عَامًّا.
وَأَيْضًا: فَلَوْ لَمْ يَقْضِ إِلَّا فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَإِذَا حَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى فَلَوْ قَضَى فِيهَا بِغَيْرِ مَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَأَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ لَا تَخْتَلِفُ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا قَضَوْا فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الصَّيْدِ بِأَمْثَالٍ مَعْرُوفَةٍ: كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً فِي مِثْلِ تِلْكَ الْقَضَايَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَائِلٍ، وَقَائِلٍ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَإِذَا كَانَ قَضَاءٌ فِي نَوْعِ تِلْكَ الْقَضَايَا: لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ وَلَا مُخَالَفَتُهُ.
فَأَمَّا مَا حَكَمَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا حُكْمُهُمْ: فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِ حُكْمِ حَاكِمَيْنِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَالْمُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ؛ وَهُوَ أَنْ لَا يُعْرَفَ
…
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةٍ، وَهَلْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْمُمَاثَلَةِ
…
.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْقَاتِلَ لِلصَّيْدِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَا جَمِيعًا قَتَلَاهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ؛ مِثْلُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ - فِي خِلَافِهِ - فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ رُكْنٌ فِي الْحُكْمِ، فَمَا جَازَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ فِي الْآخَرِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَأَوْطَأَ رَجُلٌ مِنَّا - يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - ضَبًّا فَفَزَرَ
ظَهْرَهُ، فَلَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: احْكُمْ فِيهِ يَا أَرْبَدُ، قَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّمَا آمُرُكَ أَنْ تَحْكُمَ وَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي، قَالَ: فِيهِ جَدْيٌ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيهِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، ثَنَا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقٍ، قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْطَأَ رَجُلٌ مِنَّا ضَبًّا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رحمه الله: احْكُمْ مَعِي، فَحَكَمَا فِيهِ جَدْيٌ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: بِأُصْبُعِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] يَعُمُّ الْقَاتِلَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَإِنَّ الْمُشْهِدَ غَيْرُ الْمُشْهَدِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَهُنَا لَمْ يَقُلْ: حَكِّمُوا فِيهِ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَإِنَّمَا قَالَ:{يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ، كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْوِيمِ قِيمَةِ الْمِثْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ، وَفِي تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ وَيَشْهَدَ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا
لِمَخْمَصَةٍ. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا: فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، بِخِلَافِ تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُقَوِّمُهَا وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَالَتِهِ.
وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فُسُوقًا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَتَابَ جَازَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي خِلَافِهِمْ هَذَا الشَّرْطَ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ
…
.
وَإِنْ حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ حَكَمَانِ مُخْتَلِفَانِ لِرَجُلَيْنِ، فَهَلْ يَكُونَانِ مُصِيبَيْنِ؟
…
.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ.
فِيمَا مَضَى فِيهِ الْحُكْمُ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ» وَهِيَ جَارِحَةٌ مِنْ جُمْلَةِ السِّبَاعِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: وَإِذَا أَصَادَ الْمُحْرِمُ بَقَرَةً فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] عَلَيْهِ بَقَرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ كَذَلِكَ. قَالَ عَطَاءٌ: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ وَفِي الثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ وَفِي الْوَعِلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْأُيَّلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ جَفْرَةٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ. وَالْجَفْرَةُ: الصَّغِيرَةُ مِنَ الْغَنَمِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ جَفْرَةٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ.
أَمَّا النَّعَامَةُ: فَفِيهَا بَدَنَةٌ، وَأَمَّا حِمَارُ الْوَحْشِ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: فِيهِ بَدَنَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَالثَّانِيَةُ: بَقَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالْأُيَّلُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ - مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ -: ذَكَرُ الْأَوْعَالِ، قَالَ: وَالثَّيْتَلُ: الْوَعْلُ الْمُسِنُّ، وَالْوَعْلُ: الْأَرْوِيُّ.
وَأَمَّا الضَّبُعُ: فَفِيهَا كَبْشٌ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ هَذَا لَفْظُهُ، وَلَفْظُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ عُمَرَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيٌّ: " الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ " رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَلَفْظُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: شَاةٌ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظَّبْيِ وَالثَّعْلَبِ. وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ. هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي الظَّبْيِ كَبْشٌ، وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ
أَبِي مُوسَى: فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ:" قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ".
وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:" حَكَمَ عُمَرُ رحمه الله فِي الضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا حَكَمَ بِذَلِكَ إِلَّا مَعَ حَكَمٍ آخَرَ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ: " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا حَكَمَ مَعَهُ فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ؛ هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ " رَوَاهُ مَالِكٌ.
وَعَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَكَثُرَ مِرَاءُ الْقَوْمِ أَيُّهُمَا أَسْرَعُ شَدًّا الظَّبْيُ، أَمِ الْفَرَسُ، فَسَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَّا فَمَا أَخْطَأَ حَنَتَاهُ، فَرَكِبَ رَدْغَهُ فَأُسْقِطَ فِي يَدَيِ الرَّجُلِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَهُوَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَخَطَأً أَصَبْتَهُ، أَمْ عَمْدًا؟ قَالَ: تَعَمَّدْتُ رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ شَرَّكْتَ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ، قَالَ: ثُمَّ اجْتَنَحَ إِلَى رَجُلٍ يَلِيهِ كَأَنَّ عَلَى وَجْهِهِ قَلْبًا، فَسَارَّهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: عَلَيْكَ شَاةٌ تَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَتُبْقِي إِهَابَهَا سَقْيًا، فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِصَاحِبِي: إِنَّ فُتْيَا ابْنِ الْخَطَّابِ لَا تُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، انْحَرْ نَاقَتَكَ وَعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ، فَذَهَبَ ذُو الْعَيْنَيْنِ فَنَمَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِي صُفُوقًا بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: قَاتَلَكَ تَقْتُلُ الْحَرَامَ وَتُعَدِّي الْفُتْيَا، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ مِنِّي شَيْءٌ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي أُرَاكَ شَابًّا فَصِيحَ اللِّسَانِ فَسِيحَ الصَّدْرِ، أَوَمَا تَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللَّهِ:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ثُمَّ قَالَ: قَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ عَشَرَةُ أَخْلَاقٍ، تِسْعَةٌ مِنْهُنَّ حَسَنَةٌ وَوَاحِدَةٌ سَيِّئَةٌ، فَتُفْسِدُ الْوَاحِدَةُ التِّسْعَ، فَاتَّقِ طَيْرَتَ الشَّبَابِ ".
وَأَمَّا الثَّعْلَبُ: فَفِيهِ شَاةٌ. هَذَا لَفْظُهُ وَلَفْظُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَلَفْظُ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْزٌ، وَالنُّصُوصُ عَنْهُ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِ: أَنَّهُ يُؤَدِّي، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعَ الْمَنْعِ مِنْ أَكْلِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخَلَّالِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا: فَجَعَلُوا جَزَاءَهُ مُبَيَّنًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَكْلِهِ، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُ أَحْمَدَ أَيْضًا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاخْتَارَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَصَرَّحَ ابْنُ أَبِي مُوسَى
فِيهِ بِنَقْلِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ قَالَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ، وَالْأُخْرَى: لَيْسَ بِصَيْدٍ وَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ وَدَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ؛ إِمَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَإِمَّا أَنَّ بَعْضَ مَا لَا يَحْكُمُ بِإِبَاحَتِهِ يُؤَدِّي.
وَفِي الْأَرْنَبِ: شَاةٌ هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ. وَلَفْظُهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِيهَا جَفْرَةٌ؛ وَالْجَفْرَةُ عَنَاقٌ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَقِيلَ: جَفْرَةٌ، وَقَالَ: .... فِيهَا عَنَاقٌ وَهِيَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جَذَعَةً؛ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَنَاقُ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي طَيْرِ حَمَامِ مَكَّةَ: شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ حَمَلٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ حَمَلٌ، وَفِي الْجَرَادَةِ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ تَمْرَةٌ جَلْدَةٌ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَأَمَّا الْيَرْبُوعُ؛ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ أَكْبَرُ مِنَ الْفَأْرَةِ يَمْشِي بِرِجْلَيْنِ، فَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: فِيهِ جَفْرَةٌ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ مِنَ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ فِيهِ جَفْرَةٌ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: " أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى جَوَالِقَ عَلَى يَرْبُوعٍ فَقَتَلَهُ، فَحَكَمَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ جَفْرَةٌ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ.
وَقَدْ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ مَعْنًى، فَإِنَّ الْجَفْرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ: مَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَجَفَرَ جَنْبَاهُ وَفُصِلَ عَنْ أُمِّهِ. هَذَا قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِشْبَاعِ جَوْفِهِ بِمَا يُغَذِّيهِ مِنْ غَيْرِ
اللَّبَنِ، وَمِنْهُ الْجَفْرُ وَهُوَ الْبِئْرُ الْوَاسِعَةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَيُقَالُ لِلْجَوْفِ: جَفْرَةٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْجَفْرَةُ الَّتِي فُطِمَتْ عَنِ اللَّبَنِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْجَفْرَةُ الْجَدْيُ حِينَ يُفْطَمُ.
وَفِي حِلِّ الْيَرْبُوعِ: رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي جَزَائِهِ بِالْإِحْرَامِ مِثْلَ مَا فِي الثَّعْلَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الضَّبُّ: فَيُؤَدِّي قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ فِيهِ شَاةٌ، أَوْ جَدْيٌ - وَهُوَ مَا دُونَ الْجَذَعِ - عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: شَاةٌ. وَالثَّانِي: جَدْيٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ - هُوَ وَأَرْبَدُ - بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، يَعْنِي اسْتَغْنَى عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ وَالشُّرْبِ.
وَفِي الْوَبْرِ: جَدْيٌ قَالَهُ أَصْحَابُنَا؛ قَالُوا: وَهُوَ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ أَكْبَرُ مِنَ الْيَرْبُوعِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّعْلَبِ، لِأَنَّ فِي حِلِّهِ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: " فِي الْوَبْرِ شَاةٌ " وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْوَبْرِ شَاةٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ، وَقِيلَ: عَنْهُ جَفْرَةٌ.
وَفِي النُّسُورِ حُكُومَةٌ.
وَفِي الثَّعْلَبِ: رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا السِّنَّوْرُ فَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْكَوْسَجِ - فِي السِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ، وَغَيْرِ الْأَهْلِيِّ حُكُومَةٌ، أَمَّا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ: فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا الْوَحْشِيُّ: فَفِي حِلِّهِ رِوَايَتَانِ فَهُوَ كَالثَّعْلَبِ فِي الضَّمَانِ فَإِذَا قُلْنَا: يُضْمَنُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِنَ السَّلَفِ فِيهِ حُكْمٌ.
وَالْحُكُومَةُ: أَنْ يُحْكَمَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الطَّيْرُ: فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا: الْحَمَامُ وَفِيهِ شَاةٌ قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ -: كُلُّ طَيْرٍ يَعُبُّ الْمَاءَ مِثْلَ الْحَمَامِ يَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْحَمَامُ: فِيهِ شَاةٌ، وَمَا كَانَ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ: فَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَيَلْزَمُ
الْمُحْرِمَ كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالَ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ.
وَالطَّيْرُ صَيْدٌ، وَالدَّجَاجُ لَيْسَ بِطَيْرٍ، وَإِنَّمَا أَهْلِيٌّ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: حَمَامُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي طَيْرِ حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:" - فِي الْحَمَامِ وَالْقُمْرِيِّ وَالدُّبْسِيِّ وَالْقَطَا وَالْحَجَلَةِ - شَاةٌ شَاةٌ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ: " أَنَّ غُلَامًا مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَ حَمَامَةَ الْحَرَمِ، فَسَأَلَ أَبُوهُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً ".
وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ وَعَطَاءٍ قَالَا: " أَغْلَقَ رَجُلٌ بَابَهُ عَلَى حَمَامَةٍ وَفَرْخَيْهَا
وَانْطَلَقَ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَرَجَعَ وَقَدْ مُتْنَ، فَأَتَى ابْنَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا مِنَ الْغَنَمِ وَحَكَمَ مَعَهُ رَجُلٌ ".
وَالْمُرَادُ بِالْحَمَامِ وَمَا أَشْبَهَهُ: كُلَّمَا عَبَّ الْمَاءَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْهَدِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَمَامَ يُشْبِهُ الْغَنَمَ مِنْ حَيْثُ يَعُبُّ الْمَاءَ كَمَا الْغَنَمُ تَعُبُّ الْمَاءَ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: هُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ؛ وَالْعَبُّ هُوَ شُرْبُ الْمَاءِ مُتَوَاصِلًا وَهُوَ خِلَافُ الْمَصِّ، فَإِنَّ الدَّجَاجَ وَالْعَصَافِيرَ تَشْرَبُ الْمَاءَ مُتَفَرِّقًا وَمِنْهُ الْكُبَادُ مِنَ الْعُبَابِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُلُّ مُطَوَّقٍ حَمَامٌ
…
، وَمِنْهُ
الشَّفَانِينُ، وَالْوَرَاشِينُ، وَالْقَمَارِيُّ، وَالدَّبَاسِيُّ، وَالْفَوَاخِتُ وَالْقَطَاءُ وَالْقَبَجُ.
هَذَا قَوْلُ .... أَبِي الْخَطَّابِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ -: الْقَطَاءُ وَالسِّمَّانُ مَعَ الْعَصَافِيرِ. وَمَا كَانَ أَصْغَرَ مِنَ الْحَمَامِ فَلَا مِثْلَ لَهُ، لَكِنْ فِيهِ الْقِيمَةُ، نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كُلٌّ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ دُونَ الْحَمَامَةِ قِيمَتُهُ " رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالنِّجَادُ وَلَفْظُهُ: مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ دُونَ الْحَمَامِ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " سَأَلَ مَرْوَانُ ابْنَ عَبَّاسٍ - وَنَحْنُ بَوَادِي الْأَزْرَقِ - قَالَ:
الصَّيْدُ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ مِنَ النَّعَمِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " ثَمَنُهُ يُهْدَى إِلَى مَكَّةَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ كَفَّارَةً طَعَامَ مَسَاكِينَ، أَوِ الصِّيَامَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُ الْخِصَالِ: وَجَبَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ، وَكَخِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى.
وَلِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ، وَأَوْجَبَ فِيمَا حَرَّمَ الْجَزَاءَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، أَوِ الصِّيَامَ، فَعُلِمَ دُخُولُ ذَلِكَ تَحْتَ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحَمَامِ مِثْلَ الْحُبَارَى وَالْكَرَوَانِ وَالْكُرْكِيِّ وَالْحَجَلِ وَالْيَعْقُوبِ وَهُوَ ذَكَرُ الْقَبَجِ: فَقَدْ خَرَّجَهُ .... ، وَأَبُو الْخَطَّابِ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ فِي الطَّيْرِ كُلِّهِ إِلَّا الْحَمَامَ وَالنَّعَامَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي إِيْجَابَهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ، لَكِنْ تُرِكَ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْجِمَاعِ اسْتِحْسَانًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغَنَمَ فِي عَبِّ الْمَاءِ فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ فِيهِ شَاةٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، بَلْ نَصُّهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا كَانَ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ شَاةٌ. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: " فِي الْحَمَامِ وَالدُّبْسِيِّ وَالْقُمْرِيِّ وَالْقَطَاءِ وَالْحَجَلِ: شَاةٌ شَاةٌ ".
وَقَالَ أَيْضًا - " مَا أُصِيبَ مِنَ الطَّيْرِ دُونَ الْحَمَامِ: فَفِيهِ الْقِيمَةُ " فَعُلِمَ أَنَّهُ أَوْجَبَ شَاةً فِي الْحَمَامِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ وَأَكْبَرَ مِنْهُ، وَأَوْجَبَ الْقِيمَةَ فِيمَا دُونَهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْحَمَامِ: فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الشَّاةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ: فَتُعْتَبَرُ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَجِنْسِ الطَّيْرِ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمَنَعَةِ وَطِيبِ اللَّحْمِ: أَفْضَلُ مِنَ الدَّوَابِّ، فَجَازَ أَنْ يُعَادِلَ هَذَا مَا فِي الْإِنْعَامِ مِنْ كِبَرِ الْخِلْقَةِ.
فَعَلَى هَذَا مَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الشَّاةِ إِنْ كَانَ
…
.
(فَصْلٌ)
وَيُضْمَنُ الصَّيْدُ بِمِثْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمِثْلُ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا الْمُطْلَقَةِ أَوْ لَا، لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: الْعَنَاقَ، وَالْجَفْرَةَ، وَالْحَمَلَ، وَالْجَدْيَ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ؛ وَمِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ كَمَا أَنَّ مِثْلَ الْكَبِيرِ كَبِيرٌ.
وَقَوْلُهُ - بَعْدَ ذَلِكَ -: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] لَا يَمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ هَدْيٌ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ الْجَفْرَةَ جَازَ.
نَعَمِ الْهَدْيُ الْمُطْلَقُ: لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ، وَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ:{مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] وَالتَّقْدِيرُ: فَلْيُخْرِجْ مِثْلَ الْمَقْتُولِ عَلَى وَجْهِ الْإِهْدَاءِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَهَذَا هَدْيٌ مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ. فَعَلَى هَذَا: مِنْهُ مَا يَجِبُ فِي جِنْسِهِ الصَّغِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهُ مَا يَجِبُ فِي جِنْسِهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَيَنْظُرُ إِلَى الْمَقْتُولِ، فَيَتَغَيَّرُ؛ صِفَاتُهُ، فَيَجِبُ فِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي الذَّكَرِ ذَكَرٌ، وَفِي الْأُنْثَى أُنْثَى، وَفِي الصَّحِيحِ صَحِيحٌ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ تَحْقِيقًا لِمُمَاثَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ.
فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ سَمِينًا، أَوْ مُسِنًّا، أَوْ كَرِيمَ النَّوْعِ: اعْتُبِرَ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ، وَيَفْتَقِرُ هُنَا فِي الْمُمَاثَلَةِ إِلَى الْحَكَمَيْنِ. هَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَعَامَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ فَدَى الصَّغِيرَ بِالْكَبِيرِ فَهُوَ أَحْسَنُ.
وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا - عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي الزَّكَاةِ -: أَنْ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْمَرِيضِ إِلَّا الصَّحِيحُ.
قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، مِثْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ: فَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ
بِالْأُنْثَى: جَازَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ فَدَى الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأُنْثَى أَفْضَلُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي صِغَارِ أَوْلَادِ الصَّيْدِ: صِغَارُ أَوْلَادِ الْمُفْدَى بِهِ، وَبِالْكَبِيرِ أَحْسَنُ. وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا أَعْوَرَ. أَوْ مَكْسُورًا: فَدَاهُ بِمِثْلِهِ، وَبِالصَّحِيحِ أَحْسَنُ، وَيُفْدَى الذَّكَرُ بِالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَعَلَى هَذَا: فَلَا يُفْدَى الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَلَا الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَةً مَقْصُودَةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ، فَلَمْ يُجَوَّزِ الْإِخْلَالُ بِهَا، كَمَا لَوْ فَدَى الْأَعْوَرَ الصَّحِيحَ الرِّجْلَيْنِ بِالْأَعْرَجِ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ.
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: عَكْسُ ذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ فَدَى الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ جَازَ، وَفِي الْعَكْسِ تَرَدُّدٌ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا، وَالضَّحَايَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا اللَّحْمُ وَلَحْمُ الذَّكَرِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالدِّيَاتِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الِاسْتِبْقَاءُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَالضَّبُعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْأُنْثَى، أَوْ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَإِنَّ الذَّكَرَ يُسَمَّى الضِّبْعَانَ.
وَإِنْ فَدَى الْأَعْوَرَ بِالْأَعْرَجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ جِنْسُ الْعَيْبِ: لَمْ يَجُزْ.
وَإِنْ فَدَى أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى بِأَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، أَوْ بِالْعَكْسِ: جَازَ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْعَيْبِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَحِلُّهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ فَدَى أَعْرَجَ الْيَدِ بِأَعْرَجَ الرِّجْلِ.
وَأَمَّا الْمَاخِضُ: فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَطَائِفَةٌ غَيْرُهُ: يَضْمَنُهُ بِمَاخِضٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ضَمِنَهُ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ مَاخِضًا. وَعَلَى هَذَا فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَرَّ لَهُ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ مِثْلُ حَمْلِ الصَّيْدِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يُضْمَنُ الْمَاخِضُ بِقِيمَتِهِ مُطْلَقًا.
وَإِذَا لَمْ يَجِدْ جَرِيحًا مِنَ النَّعَمِ: يَكُونُ مِثْلَ الْمَجْرُوحِ مِنَ الصَّيْدِ، وَلَمْ يَجِدْ مَعِيبًا: أَخْرَجَ قِيمَةَ مِثْلِهِ مَجْرُوحًا.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا أَتْلَفَ بَعْضَ الصَّيْدِ؛ مِثْلَ إِنْ جَرَحَهُ، أَوْ كَسَرَ عَظْمَهُ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنِ امْتِنَاعِهِ: ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ: نَظَرَ كَمْ يَنْقُصُ الْجُرْحُ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِقِسْطِهِ مِنَ الْمِثْلِ، فَإِنْ نَقَصَهُ الْجُرْحُ السُّدُسَ أَخْرَجَ سُدُسًا مِثْلَهُ.
وَالثَّانِي: يُخْرِجُ قِيمَةَ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ مِثْلِهِ، فَيُخْرِجُ قِيمَةَ السُّدُسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَهُوَ أَقْيَسُ بِالْمَذْهَبِ
…
.
وَلَوْ أَفْزَعَهُ وَأَذْعَرَهُ: فَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ - فِي مُحْرِمٍ أَخَذَ
صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَإِنْ كَانَ حِينَ أَخَذَهُ أَعْنَتَهُ: تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِمَكَانٍ أَذَاهُ وَإِذْ عَارَهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ تَرْوِيعُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» " وَإِذَا أَرْسَلَهُ وَقَدْ ذُعِرَ وَفَزِعَ: لَمْ يُعِدْهُ إِلَى مِثْلِ حَالَتِهِ الْأُولَى.
وَالذُّعْرُ:.
(فَصْلٌ)
وَيُضْمَنُ بَيْضُ الصَّيْدِ؛ مِثْلُ بَيْضِ النَّعَامِ وَالْحَمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ - فِي الْمُحْرِمِ يُصِيبُ بَيْضَ النَّعَامِ: فِيهِ قِيمَتُهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ صَامَ. لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: " «أَنَّ رَجُلًا أَوْطَأَ بَعِيرَهُ أُدْحِيَّ نَعَامٍ فَكَسَرَ بَيْضَهَا، فَانْطَلَقَ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: عَلَيْكَ بِكُلِّ بَيْضَةٍ جَنِينُ نَاقَةٍ، أَوْ ضِرَابُ نَاقَةٍ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قَالَ عَلِيٌّ مَا سَمِعْتَ، وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى الرُّخْصَةِ: عَلَيْكَ بِكُلِّ
بَيْضَةٍ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِطَعَامِ مِسْكِينٍ لِكُلِّ بَيْضَةٍ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْبَيْضَةِ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ بِقَدْرِ طَعَامِ مِسْكِينٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: "«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْضِ النَّعَامِ؟ قَالَ: قِيمَتُهُ» " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "«قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْضِ النَّعَامِ - يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ - بِثَمَنِهِ» " رَوَاهُمَا النِّجَادُ.
وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: " «بَلَغَنِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ فِي كُلِّ بَيْضَةٍ صِيَامُ يَوْمٍ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَقَالَ: أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَيْضًا: عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ فِي
النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ قَالَ: ثَمَنُهُ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ، قَالَ: فِيهِ ثَمَنُهُ، أَوْ قَدْرُ ثَمَنِهِ. وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ:" يُضْرَبُ لَهُ مِنَ الْإِبِلِ بِقَدْرِ مَا أَصَابَ مِنَ الْبَيْضِ، فَمَا نُتِجَ فَهُوَ هَدْيٌ، وَمَا لَمْ يُنْتَجْ فَهُوَ بِمَا يُفْسِدُ مِنَ الْبَيْضِ ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ قَالَ: قِيمَتُهُ، أَوْ ثَمَنُهُ وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: فِي بَيْضِ النَّعَامِ وَشِبْهِهِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فِيهِ ثَمَنُهُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.
فَقَدِ اتَّفَقَتْ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ: أَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فُتْيَاهُ عُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى بِخِلَافِهَا، وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا: فَقَدْ عَضَّدَهُ عَمَلُ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِهِ، وَأَنَّهُ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ حُجَّةً عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِمُجَرَّدِ الْمُرْسَلِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْبَيْضَ جُزْءٌ مِنَ الصَّيْدِ يُتَطَلَّبُ كَمَا يُتَطَلَّبُ الصَّيْدُ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] قَالَ: الْبَيْضُ وَالْفِرَاخُ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَيَكُونُ مِنْهُ الصَّيْدُ، وَفِي أَخْذِهِ تَفْوِيتٌ لِفِرَاخِ الصَّيْدِ؛ وَقَطْعٌ لِنَسْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ كَالصَّيْدِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَوَانَ مِنْهُ مَا يَبِيضُ، وَمِنْهُ مَا يَلِدُ، وَالْبَيْضُ لِلْبَائِضِ كَأَحْمَدَ لِلْوَالِدِ.
وَيُقَالُ: كُلُّ أَسَكَّ يَبِيضُ وَكُلُّ مُشْرِفِ الْأُذُنَيْنِ يَلِدُ. وَهُوَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُضْمَنَ بِالْقِيمَةِ لِعَصَافِيرَ وَنَحْوِهَا.
وَأَصْلُ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا: أَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَضْمُونِ، فَيَجِبُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ بِحَسَبِهِ كَالْأَمْوَالِ بِخِلَافِ النُّفُوسِ فَإِنَّ دِيَتَهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَوْ أَتْلَفَ بَيْضَ طَيْرٍ لِإِنْسَانٍ: اعْتُبِرَ الْبَيْضُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ بِأَصْلِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَنِينَ آدَمِيٍّ.
وَفِي جَنِينِ الصَّيْدِ الْقِيمَةُ أَيْضًا؛ وَهُوَ أَرْشُ مَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ، كَجَنِينِ الْبَهِيمَةِ الْمَمْلُوكَةِ، فَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ حَامِلٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَسَلِمَتْ: فَعَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا، وَحَائِلًا، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَ قِيمَةَ ظَبْيَةٍ حَامِلٍ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا: مَنْ خَرَّجَ وَجْهًا: أَنَّ جَنِينَ الصَّيْدِ يُضْمَنُ بِعُشْرِ مَا تُضْمَنُ
بِهِ الْأُمُّ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ الْمَمْلُوكَةِ، وَأَوْلَى. وَعَلَى هَذَا: فَالْبَيْضُ
…
.
فَإِنْ ضَمِنَهُ بِجَنِينٍ مِثْلِهِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ.
وَهَلْ يُبَاحُ الْبَيْضُ بَعْدَ كَسْرِهِ؟، فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لِلْكَاسِرِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ حَلَالٍ، وَلَا حَرَامٍ كَالصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ، قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا: إِذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَتَرَكَهُ حَتَّى حَلَّ لَمْ يُبَحْ أَيْضًا كَالصَّيْدِ.
وَالثَّانِي: يُبَاحُ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَذْكِيَةٍ إِذْ لَا رُوحَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحِلُّ لِلْكَاسِرِ الْمُحْرِمِ، وَلَا
…
، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَلَالِ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَكَاةٍ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْجَرَادِ.
فَإِنْ كَسَرَ الْبَيْضَ، فَخَرَجَ مَذَرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَهْلَكَ صَيْدًا مَيِّتًا. إِلَّا بَيْضَ النَّعَامَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةً.
وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ قَالَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَأَبُو مُحَمَّدٍ.
فَإِنْ خَرَجَ فِي الْبَيْضِ فَرْخٌ، أَوِ اسْتَهَلَّ الْجَنِينُ حَيًّا وَعَاشَ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،
وَإِنْ مَاتَ، أَوِ اسْتَهَلَّ جَنِينُ الصَّيْدِ ثُمَّ مَاتَ: ضَمِنَهُ ضَمَانَ الصَّيْدِ الْحَيِّ.
وَإِنْ أَخَذَ الْبَيْضَةَ، فَكَسَرَ الْبَيْضَةَ ثُمَّ تَرَكَ الْفَرْخَ حَيًّا، فَهَلْ يَضْمَنُ الْفَرْخَ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ رَدًّا غَيْرَ تَامٍّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ مَيِّتٌ؛ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ بِخِلَافِ الْجَنِينِ إِذَا وَقَعَ مَيِّتًا إِنَّمَا مَاتَ بِالضَّرْبَةِ إِذْ لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَأَجْهَضَهُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْكَسْرِ، فَإِنْ مَاتَ بِالْكَسْرِ
…
.
وَإِنْ كَانَ الْفَرْخُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ: فَفِيهِ قِيمَةُ بَيْضِ فَرْخٍ غَيْرِ فَاسِدٍ كَالْجَنِينِ.
وَيُضْمَنُ بِكُلِّ سَبَبٍ هُوَ فِيهِ مُتَعَمَّدٌ؛ فَلَوْ نَقَلَ بَيْضَ طَائِرٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ طَائِرٍ آخَرَ فَحَضَنَهُ، فَإِنْ صَحَّ وَسَلِمَ: فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَهُ أَصْحَابُنَا: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ - فِيمَا إِذَا أَعَرَّهُ! يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وَإِنْ فَسَدَ: فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَقَرَّهُ مَكَانَهُ وَضَمَّ إِلَيْهِ بَيْضًا آخَرَ لِيَحْضُنَهُ الطَّائِرُ - سَوَاءٌ أَذْعَرَ الطَّائِرَ فَلَمْ يَحْضُنْهُ، أَوْ حَضَنَهُمَا مَعًا.
وَإِنْ بَاضَ الْحَمَامُ، أَوْ فَرَّخَ عَلَى فِرَاشِهِ فَهَلْ يَضْمَنُ؟: عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْجَرَادِ إِذَا افْتَرَشَ فِي طَرِيقِهِ.
وَإِنَّمَا يَضْمَنُ بَيْضَ طَائِرٍ مَضْمُونٍ، فَأَمَّا بَيْضُ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ: فَلَا يَضْمَنُهُ، وَيَضْمَنُ بَيْضَ الْجَرَادِ كَالْجَرَادِ نَفْسِهِ.
وَمَنْ أَتْلَفَ بَيْضًا لَا يُحْصِيهِ: احْتَاطَ، فَأَخْرَجَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَى قِيمَتِهِ، ذَكَرُهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا بَيْضُ النَّمْلِ: فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ عَلَى مَا قُلْنَا فِي النَّمْلِ، فَفِي النَّمْلَةِ لُقْمَةٌ أَوْ تَمْرَةٌ أَوْ حِفْنَةُ طَعَامٍ إِذَا لَمْ يُؤْذِهِ: فَفِي بَيْضِهَا صَدَقَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ ضَمَانُ غَيْرِ الْمَأْكُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا. فَإِمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إِلَّا مَا يُؤْكَلُ: فَلَيْسَ فِي النَّمْلِ وَلَا فِي بَيْضِهِ ضَمَانٌ.
وَأَمَّا بَيْضُ الْقَمْلِ - وَهُوَ الصِّيْبَانِ - فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ كَالْقَمْلِ.
(فَصْلٌ)
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ لَبَنِ الصَّيْدِ، فَإِنْ أَخَذَهُ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ لَبَنًا مِنْ نَظِيرِ الصَّيْدِ؛ فَيَضْمَنُ لَبَنَ الظَّبْيَةِ بِلَبَنِ شَاةٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا اشْتَرَكَ .....