المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة حكم تكرار المحظور] - شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - كتاب الحج - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَلْقُ الشَّعْرِ وَقَلْمُ الظُّفْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مقدار الفدية في الحلق أو التقليم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما آذى المحرم من الشعر في غير محله]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لبس المخيط]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تغطية الرأس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطيب]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَتْلُ الصَيْدِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَقْدُ النِّكَاحِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الوطء في العمرة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النسك لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المرأة كالرجل في محظورات الإحرام إلا في لبس المخيط وتخمير الرأس]

- ‌[بَابُ الْفِدْيَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ الْفِدْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يجب بترك الواجب]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد بالطعام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هدي التمتع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فدية الجماع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الإحصار]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم تكرار المحظور]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما لا يمكن إزالته من المحظورات لا فرق بين سهوه وعمده]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أنواع الهدي]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب دخول مكة من أعلاها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يستحب دخول المسجد من باب بني شيبة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يستحب عند رؤية البيت]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطواف تحية المسجد الحرام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ معنى الاضطباع وحكمه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ السنة أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الطائف يجعل البيت على يساره]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الأصل في مشروعية الرمل]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يشرع استلام الركنين اليمانيين في كل طواف]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصلاة خلف المقام]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يَخْتِمَ الطَّوَافَ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الخروج إلى الصفا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جَازَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ في أحكام الطواف والسعي والإحلال إلا فيما يعرضها للتكشف]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ الإحرام بالحج يَوْمُ التَّرْوِيَةِ والخروج إلى عرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة والخطبة يوم عرفة وموضعه]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الوقوف بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أفضل أحوال الوقوف بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يستحب من الذكر والدعاء بعرفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدفع إلى مزدلفة وصفته]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة في مزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ المبيت بمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ صلاة الفجر بمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الوقوف عند المشعر الحرام بالمزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وقت الدفع من مزدلفة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ رمي جمرة العقبة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نحر الهدي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الحلق أو التقصير]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التحلل الأول]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طواف الإفاضة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سعي المتمتع مع طواف الزيارة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التحلل الثاني]

- ‌[مَسْأَلَةٌ استحباب الشرب من ماء زمزم وصفته]

- ‌[بَابُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْحِلِّ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ المبيت في منى بلياليها]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وقت رمي الجمار في أيام التشريق وصفته]

- ‌[مَسْأَلَةٌ على القارن والمتمع دم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طواف الوداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشتغل بعد طواف الوداع بتجارة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يشرع بعد طواف الوداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حكم الخروج من غير وداع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء]

- ‌[بَابُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ] [

- ‌مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْحَجِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ واجبات الحج]

- ‌[مسألة الْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اللَّيْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَبِيتُ بِمِنًى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الرمي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَلْقُ والتقصير]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَوَافُ الْوَدَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ وَوَاجِبَاتُهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ما يترتب على ترك الركن أو الواجب أو المسنون]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أحكام الفوات]

الفصل: ‌[مسألة حكم تكرار المحظور]

وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ وَهُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا -: فَلِأَنَّ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَقَدْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ نَاسٌ .. . .

[مَسْأَلَةٌ حكم تكرار المحظور]

مَسْأَلَةٌ: (وَمَنْ كَرَّرَ مَحْظُورًا مِنْ جِنْسٍ غَيْرَ قَتْلِ الصَّيْدِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مِنْ أَجْنَاسٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ).

فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ مَحْظُورًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ غَيْرَ قَتْلِ الصَّيْدِ، مِثْلَ أَنْ يَلْبَسَ، أَوْ يَخْلَعَ ثُمَّ يَلْبَسَ، أَوْ يَتَطَيَّبَ ثُمَّ يَتَطَيَّبَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، أَوْ يُجَامِعَ ثُمَّ يُجَامِعَ، أَوْ يَحْلِقَ ثُمَّ يَحْلِقَ ثُمَّ يَحْلِقَ، أَوْ يُقَلِّمَ ثُمَّ يُقَلِّمَ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ - وَقَدْ حُكِيَ لَهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي لِبَاسٍ، أَوْ طِيبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ عَادَ بِمِثْلِهِ: فَعَلَيْهِ

ص: 381

الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَادَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ: إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ: هُوَ هَكَذَا إِذَا لَمْ يُكَفِّرْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: فِيمَنْ وَقَعَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَيَّامٍ مُتَفَرِّقَةٍ: فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ .. . .

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا مِثْلَ مَرَضٍ، ثُمَّ مَرَضٍ، ثُمَّ حَرٍّ ثُمَّ بَرْدٍ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - فِي مُحْرِمٍ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً: ثُمَّ بَرَأَ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً يُكَفِّرُ كَفَّارَتَيْنِ، فَإِنِ اعْتَلَّ عِلَّةً وَاحِدَةً فَلَبِسَ عِمَامَةً، وَاحْتَاجَ فِي عِلَّتِهِ فِي الْغَدِ إِلَى جُبَّةٍ وَبَعْدَ غَدٍ قَمِيصٍ: فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ شَيْئًا مُتَقَارِبًا فَكَفَّارَةٌ، وَإِنْ تَدَاوَى بِأَدْوِيَةٍ دَوَاءً بَعْدَ دَوَاءٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللِّبَاسِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ مُتَقَارِبًا: أَيْ فَعَلَ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ مُتَقَارِبَةَ الْمَقْصُودِ حَتَّى يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا؛ مِثْلَ الْعِمَامَةِ، وَالْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ تَدْخُلْ كَفَّارَتُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا: فَالْفِدْيَةُ تُبِيحُ لَهُ مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ السَّبَبُ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ، فَلَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ مَحْظُورًا فِي حَقِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى فِدْيَةٍ ثَانِيَةٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَدَّدَ السَّبَبُ، أَوْ فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ عَامِدًا.

فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إِذَا لَبِسَ لِلْبَرْدِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ: فَإِنَّهُ يَخْلَعُ وَقْتَ الْحَرِّ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَبِسَ لِلْحَرِّ وَسَطَ النَّهَارِ فَإِنَّهُ يَخْلَعُ وَقْتَ الْبَرْدِ وَيَكُونُ سَبَبًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ أَوْقَاتٌ مَعْلُومَةٌ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ يَبْرَأْ،

ص: 382

وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى اللِّبَاسِ فِي أَوْقَاتِ الْحُمَّى وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا: إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ مِثْلَ أَنْ يَلْبَسَ وَيَتَعَمَّمَ وَيَحْتَذِيَ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ: لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْضًا.

وَالثَّالِثَةُ: لِكُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ مُطْلَقًا، قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَسَّ طِيبًا، وَلَبِسَ ثَوْبًا، وَحَلَقَ رَأَسَهُ، وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ: فَعَلَيْهِ دَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْجِنْسِ وَالْجِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالْخُفَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.

وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا تَتَفَاوَتُ كَفَّارَاتُهَا بِكَثْرَتِهَا فَتَدَاخَلَتْ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا مُتَّصِلَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ لَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ الشَّيْءِ وَمُقْتَضَاهُ. بِدَلِيلِ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمَّا كَانَتْ مُتَبَايِنَةً اسْتَوَى فِيهَا الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُتَدَاخِلَةً عِنْدَ الِاتِّصَالِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُتَدَاخِلَةً عِنْدَ الِانْفِصَالِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْكَفَّارَاتِ كَالْحُدُودِ تُشْرَعُ زَاجِرَةً وَمَاحِيَةً، فَإِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا، وَالْكَفَّارَاتُ حُدُودٌ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَدَاخَلَ كَالْحُدُودِ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ: فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، هَكَذَا أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا. .

ص: 383

وَهَذَا يَنْبَغِي إِذَا لَمْ يَدْخُلِ الثَّانِي فِي كَفَّارَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفِعْلِ إِذَا أُبِيحَ؛ فَلَوْ مَرِضَ فَاحْتَاجَ إِلَى اللُّبْسِ، أَوِ الطِّيبِ، فَافْتَدَى لِذَلِكَ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ، أَوْ تَطَيَّبَ مَرَّاتٍ: لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ أَبَاحَتِ اللُّبْسَ الثَّانِيَ كَمَا أَبَاحَتِ اللُّبْسَ الْأَوَّلَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا لَبِسَ مَرَّاتٍ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ، أَوْ لَا يُكَفِّرَ، اللَّهُمَّ إِلَّا يَنْوِي أَنَّهُ يَسْتَبِيحُ اللُّبْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَلَوْ كَفَّرَ ثُمَّ اسْتَدَامَ الْمَحْظُورَ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - فِيمَنْ لَبِسَ قَمِيصًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ نَاسِيًا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ.

وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ .. . .

الْفَصْلُ الثَّانِي

أَنَّ الصَّيْدَ تَتَعَدَّدُ كَفَّارَتُهُ بِتَعَدُّدِ قَتْلِهِ، فَكُلَّمَا قَتَلَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، سَوَاءٌ جَزَى الْأَوَّلَ، أَوْ لَمْ يَجْزِ. هَذَا أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَوَاهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٌّ وَحَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ.

قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ -: وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ فَحُكِمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ كَمَا عَادَ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنْ عَادَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ:

ص: 384

إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى التَّأْوِيلِ فِيهِ. وَالْأَمْرُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْخَطَأِ وَفِيمَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَسْأَلُوهُ هَلْ كَانَ قَتَلَ قَبْلَ هَذَا أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِتَعْظِيمِ الْإِحْرَامِ مَكَانَةً، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ رَوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْخَطَأِ.

وَرَوَى حَنْبَلٌ عَنْهُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا جَزَاؤُهُ وَاحِدٌ، فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْجَزَاءُ هَكَذَا ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي مَوْضِعٍ. وَلَفْظُهُمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ عَنِ الصَّيْدِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ قَتَلَهُ ثَانِيًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ. وَهُوَ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ.

وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَجْعَلُهَا عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ.

ص: 385

فَأَمَّا الْخَطَأُ .. . .

وَهَلْ يُفَرِّقُ بَيْنَ إِحْرَامٍ، أَوْ إِحْرَامَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] إِلَى قَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] فَتَوَعَّدَ الْعَائِدَ إِلَى قَتْلِهِ بِالِانْتِقَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَادِئِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ فَجَعَلَ عَلَى الْبَادِئِ الْجَزَاءَ، وَعَلَى الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ.

وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَزَاءَ لِيَذُوقَ الْقَاتِلُ وَبَالَ أَمْرِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِ الْجَزَاءِ، ثُمَّ جَعَلَ الْعَائِدَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَاكَ بِعَذَابٍ يُنْزِلُهُ اللَّهُ بِهِ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ فِعْلٌ وَالْجَزَاءُ هُوَ يُخْرِجُهُ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ الطَّعَامَ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ، وَمَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ لَمْ يُكَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ، ثُمَّ عَادَ قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَيَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْكَ " رَوَاهُ النَّجَّادُ.

ص: 386

وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ - فِي الْمَنَاسِكِ - عَنْ قَتَادَةَ: " إِنْ أَصَابَ الصَّيْدَ مِرَارًا خَطَأً حُكِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مُتَعَمِّدًا حُكِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا عَادَ فِي عَمْدٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَارًا فَأَكَلَتْهُ ".

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ: فَقَدْ تَغَلَّظَ الذَّنْبُ وَلَحِقَ بِالْكَبَائِرِ الْغَلِيظَةِ وَتِلْكَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا كَقَتْلِ الْعَمْدِ وَالزِّنَا، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ أَوَّلِ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95] وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ قَتْلِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّيْدِ، وَجَمِيعَ الْقَتْلَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَالْبَدَلِ، كَمَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْقَاتِلِينَ، كَمَا عَمَّ قَوْلُهُ:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وَيُوجِبُ أَيْضًا تَكَرُّرَ الْجَزَاءِ بِتَكَرُّرِ شَرْطِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ. وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ خِطَابُ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ

ص: 387

الشَّرْطَ فِي خِطَابِ النَّاسِ إِذَا تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِمَحَالٍّ: تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرٍ، فِي تِلْكَ الْمَحَالِّ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دُورِي فَلَهُ بِكُلِّ دُخُولٍ دِرْهَمٌ. وَهُنَا مَحَلُّ الْقَتْلِ هُوَ الصَّيْدُ وَهُوَ مُتَعَدِّدٌ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْمَقْتُولِ مِثْلَهُ مِنَ النَّعَمِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ كَثِيرًا وَجَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّعَمِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ بَدَلُ مُتْلَفٍ مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ مُبْدَلِهِ كَدِيَةِ الْآدَمِيِّ وَكَفَّارَتِهِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجَزَاءَ شُرِعَ جَابِرًا لِمَا فَوَّتَ، وَمَاحِيًا لِمَا ارْتَكَبَ، وَزَاجِرًا عَنِ الذَّنْبِ. وَهَذَا يُوجِبُ تَكَرُّرَهُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ كَسَائِرِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنَ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَالْأَيْمَانِ، وَمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْآيَةُ: فَقَدْ قَالَ: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23].

{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]- فِي الْجَاهِلِيَّةِ {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] فِي الْإِسْلَامِ {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَهُ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]

ص: 388

إِخْبَارٌ عَنْ عَفْوِهِ عَمَّا مَضَى حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدٌ صَيْدًا يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَا قَتَلُوهُ قَبْلَ الْآيَةِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ وَاللَّوْمِ، وَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ عَمَّا يَقْتُلُهُ فِي الْإِسْلَامِ لَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطِيئَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا يَقَعُ الْعَفْوُ عَنْهَا عُمُومًا؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهَا عُمُومًا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ ذَنْبًا. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَمَّا كَفَّرَهُنَّ اللَّهُ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا لَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَآثِمِ، بَلْ هُوَ فَاسِقٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ.

وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] يُوجِبُ تَوَعُّدَ قَاتِلِ الصَّيْدِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَ الدِّيَةِ وَالْقَوَدِ. وَقَوْلُهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَوْلُهُ - فِي الْمُحَارِبِينَ -: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ} [المائدة: 33]

ص: 389

{فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَ رَدِّ الْمَسْرُوقِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَقَوْلُهُ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَ رَجْمٍ، وَنَفْيٍ.

وَهَذَا كَثِيرٌ: قَدْ يَذْكُرُ اللَّهُ وَعِيدَ الذُّنُوبِ فِي مَوْضِعٍ، وَيَذْكُرُ جَزَاءَهَا فِي الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، ثُمَّ يُقَالُ: مِنْ جُمْلَةِ الِانْتِقَامِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] فَيَكُونُ قَدْ عَفَا عَمَّا سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا عِقَابَ فِيهِ وَلَا جَزَاءَ، وَمَنْ عَادَ بَعْدَهَا فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْعُقُوبَةِ وَالْجَزَاءِ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

إِذَا فَعَلَ مَحْظُورَاتٍ مِنْ أَجْنَاسٍ مِثْلَ أَنْ يَلْبَسَ، وَيَتَطَيَّبَ، وَيَحْلِقَ: فَعَنْهُ عَلَيْهِ بِكُلِّ جِنْسٍ كَفَّارَةٌ سَوَاءٌ فَعَلَهَا فِي مَرَّاتٍ لِسَبَبٍ، أَوْ أَسْبَابٍ.

قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ قَالَ سُفْيَانُ: فِي الطِّيبِ كَفَّارَةٌ، وَفِي الثِّيَابِ كَفَّارَةٌ، وَفِي الشَّعَرِ كَفَّارَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: جَيِّدٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ.

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ - فِي مُحْرِمٍ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ

ص: 390

وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَاطَّلَى: عَلَيْهِ هَدْيَانِ. وَهَذَا اخْتِيَارٌ .. . .

وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ - فِي مُحْرِمٍ مَسَّ طِيبًا، وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ.

فَقَدْ نَصَّ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً: لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَكَذَا حَرَّرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَلَوْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ، وَمَسَّ طِيبًا، وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ، وَحَلَقَ شَعَرَهُ، وَأَتَى بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ: لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَقِيلَ عَنْهُ: كَفَّارَتَانِ إِلَّا أَنْ يُفَرِّقَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ فِعْلٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ- وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ عَنْهُ رِوَايَةً: بِالتَّدَاخُلِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مُطْلَقًا، وَحَكَى الْقَاضِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَلَفْظُ الْمَنْصُوصِ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ رِوَايَةً ثَالِثَةً .. . .

ص: 391

فَصْلٌ

وَأَمَّا صِفَةُ الْأَجْنَاسِ: فَإِنَّ الطِّيبَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَاللِّبَاسَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَظْلِيلُ الْمَحْمِلِ. وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَحَلْقُ الشَّعَرِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْمُبَاشَرَةُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يَعْنِي إِذَا اتَّحَدَ مُوجِبُهَا هَكَذَا ذَكَرُهُ أَصْحَابُنَا؛ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَيَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ جِنْسًا وَاحِدًا.

وَهَلْ شَعَرُ الرَّأْسِ وَشَعَرُ الْبَدَنِ جِنْسٌ، أَوْ جِنْسَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ؛ -

إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسَانِ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرُّوذِيِّ، وَابْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: فِي الرَّأْسِ كَفَّارَةٌ، وَفِي الْبَدَنِ كَفَّارَةٌ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: جِنْسٌ وَاحِدٌ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - فِي الطِّيبِ كَفَّارَةٌ، وَفِي الشَّعَرِ كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يُفَصِّلْ.

ص: 392

وَقَالَ - أَيْضًا فِي رِوَايَةِ سِنْدِيٍّ -: شَعَرُ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْإِبِطِ سَوَاءٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا بِالتَّدَاخُلِ.

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ - فِي مُحْرِمٍ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ فَحَلَقَ رَأَسَهُ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَاطَّلَى: عَلَيْهِ هَدْيَانِ.

وَلَوْ كَانَا جِنْسَيْنِ لَأَوْجَبَ ثَلَاثَةَ دِمَاءٍ؛ لِأَنَّ اللِّبَاسَ وَحْدَهُ فِيهِ هَدْيٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَلْقَ الشَّعَرِ كُلِّهِ يَشْتَرِكُ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا كَالطِّيبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ.

وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ شَعَرَ الرَّأْسِ يُخَالِفُ شَعَرَ الْبَدَنِ فَإِنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ، وَلِذَلِكَ قَدْ اخْتَلَفَا فِي تَغْطِيَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَفِي دَهْنِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَفِي غَسْلِ أَحَدِهِمَا بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ دُونَ الْآخَرِ.

وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَلُبْسُ الْمَخِيطِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ التَّطَيُّبُ فِيهِمَا فِي رِوَايَةٍ فِيمَنْ لَبِسَ عِمَامَةً وَجُبَّةً: فَهُوَ كَفَّارَةٌ إِذَا لَمْ يُفَرِّقْ. وَقَدْ

ص: 393

تَقَدَّمَ نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ الْيَوْمَ عِمَامَةً، وَغَدًا جُبَّةً، وَبَعْدَ غَدٍ قَمِيصًا - لِمَرَضٍ وَاحِدٍ - فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا اتَّحَدَتِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا فَعَلَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ اتَّحَدَتْ كَفَّارَتُهُمَا، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ خِلَافُهُ.

وَعَنْهُ: أَنَّ كَفَّارَةَ الرَّأْسِ لَا تَدْخُلُ فِي كَفَّارَةِ الْبَدَنِ مُطْلَقًا قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمَرُّوذِيِّ وَابْنِ إِبْرَاهِيمَ - فِي الرَّأْسِ كَفَّارَةٌ، وَفِي الْجَسَدِ كَفَّارَةٌ وَإِذَا حَلَقَ وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ وَإِذَا تَنَوَّرَ وَلَبِسَ الْقَمِيصَ: فَفِي الرَّأْسِ فِدْيَةٌ وَفِي الْجَسَدِ فِدْيَةٌ كَفَّارَتَانِ. وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ، وَغَطَّى رَأْسَهُ مَكَانَهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:

قَالَ - فِي إِحْدَاهُمَا -: عَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ فِي الْأُخْرَى: فِي لُبْسِ الرَّأْسِ فِدْيَةٌ وَفِي الْبَدَنِ فِدْيَةٌ.

وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ: إِنَّهُ إِذَا فَرَّقَ لُبْسَهُ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ لُبْسَةٍ كَفَّارَةً، وَيَخْلَعُ مَا لَبِسَهُ، فَإِنْ لَبِسَ وَكَفَّرَ ثُمَّ عَادَ فَلَبِسَ: فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ مِنْ طِيبٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَكَفَّرَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عَاوَدَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَهَذَا صَرِيحٌ مِنَ ابْنِ أَبِي مُوسَى: أَنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ، وَلُبْسَ الْمَخِيطِ: جِنْسَانِ رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَتَانِ إِذَا فَعَلَهُمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ

ص: 394