الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد بالطعام]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ إِخْرَاجِ الْمِثْلِ، أَوْ تَقْوِيمِهِ بِطَعَامٍ فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا).
هَذَا هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله وَعَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، رَوَاهُ الْمَيْمُونِيُّ وَالْبَغَوِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ؛ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ - فِي قَوْلِهِ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]- إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] فَهُوَ فِي هَذَا مُخَيَّرٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ بِنْتِ مَنِيعٍ - فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْدًا - يُكَفِّرُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى نَقَلَهَا حَنْبَلٌ وَابْنُ الْحَكَمِ: أَنَّ بَدَلَ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ إِذَا كَانَ مُؤْسِرًا وَوَجَدَ الْهَدْيَ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مُؤْسِرًا وَلَمْ يَجِدْهُ اشْتَرَى طَعَامًا. فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا صَامَ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ - فِي الْفِدْيَةِ: هُوَ بِالْخِيَارِ، وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ لَا يَكُونُ بِالْخِيَارِ؛ عَلَيْهِ جَزَاءُ الصَّيْدِ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا الْعَدْلُ لَيْسَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَلَمْ يُصِبْ لَهُ عَدْلٌ مِثْلٌ حُكِمَ عَلَيْهِ قُوِّمَ طَعَامًا، إِنْ قَدَرَ عَلَى طَعَامٍ، وَإِلَّا صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا هَكَذَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - وَقَدْ سُئِلَ هَلْ يُطْعِمُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا جُعِلَ الطَّعَامُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: لِيَعْلَمَ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الطَّعَامِ: قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا، ثُمَّ يُصَامُ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى غَالِبِ الْأَمْرِ وَأَنَّ الْهَدْيَ لَا يُعْدَمُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا رِوَايَةً ثَالِثَةً فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ لَا يُجْزِئُ فِي
جَزَاءِ الصَّيْدِ بِحَالٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ؛ قَالَ: وَبِرَاوِيَةِ حَنْبَلٍ أَقُولُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ»، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْجَبُوا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً وَفِي الظَّبْيِ شَاةً، وَفِي الْحَمَامِ شَاةً، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً، وَلَمْ يُخَيِّرُوا السَّائِلَ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ خَيَّرَ اللَّهُ بَيْنَهَا، كَمَا لَوِ اسْتَفْتَى الْحَانِثُ فِي يَمِينٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَى بِالْعِتْقِ عَيْنًا بَلْ يُذْكَرُ لَهُ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ الَّتِي خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَهَا.
وَعَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - فِي قَوْلِهِ عز وجل:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَزَاءٌ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا فَصَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَإِنَّمَا جُعِلَ الطَّعَامُ لِلصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ: وَجَدَ جَزَاءً " رَوَاهُ سَعِيدٌ وَرَوَاهُ دُحَيْمٌ، وَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصِّيَامُ: أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الطَّعَامُ: وُجِدَ جَزَاؤُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنِ ابْنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِي الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ -:
يُحْكَمُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حُكِمَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ يُقَوَّمُ طَعَامٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حُكِمَ عَلَيْهِ صِيَامٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ. وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ قَتْلِ مُحْرِمٍ وَكَانَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ كَكَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ: بَدَلُ مُتْلَفٍ، وَالْأَصْلُ فِي بَدَلِ الْمُتْلَفِ: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُتْلَفِ، كَبَدَلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إِلَى غَيْرِ الْجِنْسِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجِنْسِ كَمَا يُنْتَقَلُ إِلَى الدِّيَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَوَدِ، وَكَمَا يُنْتَقَلُ إِلَى قِيمَةٍ مِثْلِ الْمَالِ الْمُتْلَفِ عِنْدَ أَعْوَازِ الْمِثْلِ. وَالْهَدْيُ مِنْ جِنْسِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ.
وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِلَفْظِ "أَوْ" فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ عَلَى الْعُمُومِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وَإِنَّمَا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ إِذَا ابْتُدِئَ بِأَسْهَلِ الْخِصَالِ كَقَوْلِهِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] فَلَمَّا بَدَأَ بِالْأَسْهَلِ: عُلِمَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِأَشَدِّ الْخِصَالِ كَمَا ابْتُدِئَ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَوَجْهُ الْأُولَى: - وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةَ؛ لِأَنَّ الْبَغَوِيَّ إِنَّمَا سَمِعَ مِنْهُ آخَرُ بِخِلَافِ ابْنِ الْحَكَمِ فَإِنَّ رِوَايَاتِهِ قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَحْمَدَ -: قَوْلُهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
وَحَرْفُ "أَوْ" إِذَا جَاءَتْ فِي سِيَاقِ الْأَمْرِ وَالطَّلَبِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ إِبَاحَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ كَمَا يُقَالُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، وَتَعَلَّمِ الْفِقْهَ أَوِ النَّحْوَ. هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فِي كُتُبِهِمْ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَبَرِ: فَقَدْ تَكُونُ لِلْإِبْهَامِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّقْسِيمِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلشَّكِّ. وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ نُخَرِّجُ مَعَانِيَهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَقَوْلَهُ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] وَقَوْلَهُ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ: فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَعْنَى الْأَمْرِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَيُفِيدُ التَّخْيِيرَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وَقَوْلُهُ: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَقَوْلُهُ: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: 127] وَقَوْلُهُ: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128]
وَأَمَّا آيَةُ الْمُحَارِبِينَ: فَلَمْ يُذْكَرُوا فِي سِيَاقِ الْأَمْرِ وَالطَّلَبِ، بَلْ هِيَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنِ الْجَزَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، ثُمَّ قَدْ عُلِمَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَاجِبَةٌ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ؛ وَلِهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْ مُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ: إِيجَابُ أَحَدِ هَذِهِ الْخِصَالِ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ فِي مَعْرِضِ الِاقْتِضَاءِ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ نَهَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُثْلَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ جَزَاؤُهُمْ إِلَّا وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَا يُنْقَصُوا عَنْهَا؛ لِأَجْلِ جُرْمِهِمْ، وَلَا يُزَادُوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا تَكُونُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ. وَلَوْ قِيلَ إِنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهَا كَانَ لِلتَّخْيِيرِ لَكِنَّ فِي سِيَاقِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لِلتَّخْيِيرِ فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ بِأَهْلِ الْجَرَائِمِ لَا يَكُونُ الْوَالِي مُخَيَّرًا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ، وَإِرَادَةٍ بَيْنَ تَخْفِيفِهَا وَتَثْقِيلِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ تَعْذِيبِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ مِنَ الْعَذَابِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ. فَعُلِمَ أَنَّ مُقْتَضَاهَا الْعُقُوبَةُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عِنْدَمَا يَقْتَضِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: تِلْكَ الْآيَاتُ بَدَأَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ بِخِلَافِ آيَةِ الْجَزَاءِ. فَنَقُولُ: إِنَّمَا بَدَأَ فِي آيَةِ الصَّيْدِ: بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْإِطْعَامِ وَقَدْرَ الصِّيَامِ مُرَتَّبٌ عَلَى قَدْرِ الْجَزَاءِ
فَمَا لَمْ يَعْرِفِ الْجَزَاءَ: لَا يَعْرِفْ ذَلِكَ. وَلَوْ بُدِئَ فِيهَا بِالصِّيَامِ: لَمْ يَحْصُلِ الْبَيَانُ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وَخِصَالُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى: كُلُّ وَاحِدَةٍ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأُخْرَى.
وَأَمَّا ذِكْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لِلْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ دُونَ الْإِطْعَامِ وَالصَّدَقَةِ فَذَاكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بَيَانَ الْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْحُكْمِ. وَالطَّعَامُ وَالصَّدَقَةُ: يُعْرَفَانِ بِمَعْرِفَتِهِ وَلَا يَفْتَقِرَانِ إِلَى حُكْمٍ؛ وَلِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْجَزَاءِ: أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ، وَهُوَ أَهَمُّ خِصَالِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ حَالِ السُّؤَالِ أَنَّ قَصْدَهُمْ بَيَانُ الْجَزَاءِ لَا ذِكْرُ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ.
وَأَيْضًا: فَفِي الْحَدِيثِ - الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَيْضِ النَّعَامِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ بِكُلِّ بَيْضَةٍ صَوْمَ يَوْمٍ، أَوْ إِطْعَامَ مِسْكِينٍ فَقَدْ خَيَّرَهُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ. وَالْخِيرَةُ إِلَى الْقَاتِلِ فِي الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْحَكَمَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ حُكْمَ الْحَكَمَيْنِ فِي الْجَزَاءِ خَاصَّةً دُونَ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ.
فَصْلٌ
وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ إِذَا كَفَّرَ بِالطَّعَامِ: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، أَوْ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ: فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمِثْلِ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ طَعَامٌ. هَذَا أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ -: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاءٌ، فَإِنَّمَا يُقَوَّمُ الْمِثْلُ وَلَا يُقَوَّمُ الصَّيْدُ قَدْ عُدِلَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ، فَلَا يُقَوَّمُ ثَعْلَبٌ وَلَا حِمَارٌ وَلَا طَيْرٌ، وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ الْمِثْلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهُ فِيهِ، وَفِيمَا يُقَرَّبُ فِيهِ الْفِدَى.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يُقَوَّمُ الصَّيْدُ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَقَلَهُ الْأَثْرَمُ، وَذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الصَّيْدِ فَكَانَ التَّقْوِيمُ لَهُ كَالَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عَنِ الصَّيْدِ كَالْجَزَاءِ: فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ بِالْأَصْلِ لَا بِالْبَدَلِ؛ وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ وَجَبَ تَقْوِيمُهُ فَكَانَ التَّقْوِيمُ لَهُ لَا لِبَدَلِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ.
وَوَجْهُ الْأُولَى - وَهِيَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا -: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ: جَزَاهُ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} [المائدة: 95] إِشَارَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ، وَكَفَّارَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الَّتِي هِيَ طَعَامُ مَسَاكِينَ لَمْ تُقَدَّرْ، فَلَوْ .. . .
فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ الْمِثْلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، هَذَا مَنْصُوصُهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْقَاضِي
…
يُقَوَّمُ الْمِثْلُ بِمَكَّةَ حِينَ يُخْرِجُهُ بِخِلَافِ مَا وَجَبَتْ قِيمَتُهُ
فَصْلٌ
وَأَمَّا الصِّيَامُ: فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] وَعَدْلُ الصَّدَقَةِ مِنَ الصِّيَامِ فِي كِتَابِ اللَّهِ: أَنْ يُصَامَ عَنْ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمٌ، كَمَا أَنَّ عَدْلَ الصِّيَامِ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ يُطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]، ثُمَّ قَالَ:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وَقَالَ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَعَامَ يَوْمٍ كَصَوْمِ يَوْمٍ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: جَعَلَ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ صَوْمَ يَوْمٍ، أَوْ إِطْعَامَ مِسْكِينٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ.
وَفِي مِقْدَارِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ الَّذِي يُصَامُ عَنْهُ يَوْمٌ: رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَ
…
: -
إِحْدَاهُمَا: نِصْفُ صَاعٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَالْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِيَةُ: مُدٌّ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: إِذَا كَانَ جَزَاءَ الصَّيْدِ مُدٌّ وَنِصْفٌ: فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ يَوْمَيْنِ.
ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَقْتَ قَتْلِهِ، وَحُمِلَ إِطْلَاقُ أَحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ يَجِبُ إِخْرَاجُ مِثْلِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ بَدَلِهِ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَوِّمَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ إِخْرَاجُهُ فِيهِ.
وَالصَّوَابُ: الْمَنْصُوصُ؛ لِأَنَّهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَلِأَنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْوُجُوبَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّقْوِيمِ إِلَى حِينِ الْأَدَاءِ ثُمَّ الْمِثْلُ الْمُقَوَّمُ لَا وُجُودَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ: قَوَّمَ نَفْسَ الصَّيْدِ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ التَّقْوِيمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ. فَإِنْ قَوَّمَهُ بِطَعَامٍ.
فَصْلٌ
وَإِذَا قَوَّمَ الصَّيْدَ، أَوْ بَدَّلَهُ: فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ طَعَامًا، وَإِنْ أَحَبَّ أَخْرَجَ مِنْ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ الطَّعَامُ مِمَّا يُجْزِئُ إِخْرَاجُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ؛ وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، فَأَمَّا الْخَبْزُ وَالتَّغْذِيَةُ، وَالتَّعْشِيَةُ.
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمَا: فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ قَوَّمَ بِالْحِنْطَةِ صَامَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِنْ قَوَّمَ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ: صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ سِوَاهُ؛ وَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي الْفِدْيَةِ وَالْجَزَاءِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ: إِنْ أَطْعَمَ بُرًّا فَمُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا: فَنِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَهُمْ سِتَّةُ مَسَاكِينَ فِي الْفِدْيَةِ.
فَنَصَّ عَلَى الْفَرْقِ فِي الْجَزَاءِ بَيْنَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْفِدْيَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَيَعْتَبِرُ قِيمَةَ الطَّعَامِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِهِ؛ وَهُوَ مَوْضِعُ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَفِي مَوْضِعِ إِخْرَاجِهِ؛ وَهُوَ مَكَّةُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قِيمَةِ الْمِثْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ.
فَإِنْ كَانَ الْبُرُّ رَخِيصًا بِحَيْثُ تَكُونُ الْقِيمَةُ مِنْهُ مِائَةَ مُدٍّ وَالتَّمْرُ غَالِيًا بِحَيْثُ تَكُونُ الْقِيمَةُ مِنْهُ: عِشْرِينَ صَاعًا. . .
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِلَّا بَعْضُ طَعَامِ مِسْكِينٍ: فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا تَامًّا. نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ الْفِدْيَةِ طَعَامًا، وَبَعْضَهَا صِيَامًا، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا أَصَابَ صَيْدًا وَعِنْدَهُ طَعَامٌ لَا يُتِمُّ جَزَاءَ الصَّيْدِ: صَامَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ صَوْمًا وَبَعْضُهُ طَعَامًا.