المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول في تعريف أصول الفقه: - شرح مختصر الروضة - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِيفِي التَّكْلِيفِ

- ‌ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ

- ‌فُرُوعٌ:

- ‌ الْجِهَادَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ

- ‌ إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ

-

- ‌الْفَصْلُ الثَّالِثُفِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ

- ‌الْوَاجِبُ

- ‌الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ

- ‌النَّدْبُ

- ‌الْحَرَامُ

- ‌الْمَكْرُوهُ:

- ‌الْمُبَاحُ:

- ‌التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ»

- ‌هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ

- ‌ الْعِلَّةُ

- ‌ السَّبَبُ

- ‌ الشَّرْطُ

- ‌ فَوَائِدَ

- ‌ الثَّانِيَةُ: فِي فُرُوقٍ نَافِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ:

- ‌ الثَّالِثَةُ: الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ:

- ‌ الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَالْقَضَاءِ

- ‌ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ

- ‌الْفَصْلُ الرَّابِعُفِي اللُّغَاتِ

- ‌ مَبْدَأِ اللُّغَاتِ

- ‌ الْأَسْمَاءُ: وَضْعِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، وَشَرْعِيَّةٌ، وَمَجَازٌ

- ‌ أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ

- ‌ الصَّوْتُ:

- ‌الْكَلَامُ مَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ

- ‌الْكَلَامُ: نَصٌّ، وَظَاهِرٌ، وَمُجْمَلٌ

- ‌الظَّاهِرُ:

الفصل: ‌الفصل الأول في تعريف أصول الفقه:

‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ.

ــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» يَعْنِي مِنْ فُصُولِ الْمُقَدِّمَةِ «فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ» .

التَّعْرِيفُ: هُوَ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا بِمَا يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشْتَبَهُ بِهِ بِذِكْرِ جِنْسِهِ وَفَصْلِهِ، أَوْ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ شَرْحِ لَفْظِ الْغَرِيبِ بِلَفْظٍ مَشْهُورٍ مَأْلُوفٍ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُنَا: مَا الْإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ.

وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُنَا فِيهِ: حَيَوَانٌ ضَاحِكٌ، أَوْ قَابِلٌ لِصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ، وَفِي الْخَمْرِ: إِنَّهُ مَائِعٌ مُزِيلٌ، وَهُوَ رَسْمِيٌّ.

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: قَوْلُنَا: مَا الْغَضَنْفَرُ وَالدَّلَهْمَسُ؟ فَيُقَالُ: الْأَسَدُ، وَمَا الرَّحِيقُ وَالسَّلْسَبِيلُ فَيُقَالُ: الْخَمْرُ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ.

وَبَاقِي أَحْكَامِ التَّعْرِيفِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ.

وَحَقِيقَةُ التَّعْرِيفِ: هُوَ فِعْلُ الْمُعَرِّفِ، ثُمَّ أُطْلِقَ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِهِ مَجَازًا، لِأَنَّهُ أَثَرُ اللَّافِظِ كَمَا أَنَّ التَّعْرِيفَ أَثَرُ الْمُعَرِّفِ، وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ مِنَ الْحَدِّ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ لَازِمٍ، أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ لَفْظٍ يَحْصُلُ مَعَهُ الِاطِّرَادُ

ص: 114

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالِانْعِكَاسُ، وَالْحَدُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ، فَكُلُّ حَدٍّ تَعْرِيفٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَعْرِيفٍ حَدًّا، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ الذَّاتِيَّاتِ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي أُصُولَ الْفِقْهِ، رَدَّ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُذَكَّرِ، «مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ» ، فَالْمُضَافُ هُوَ أَصُولُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ.

وَالتَّرْكِيبُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمِنْهُ تَرْكِيبُ الْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ، وَالنَّصْلِ فِي السَّهْمِ، وَمِنْهُ رُكُوبُ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا، وَيُلَابِسُهَا.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ، مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، غَيْرَ أَنَّ التَّرَاكِيبَ فِيمَا يَظْهَرُ أَخَصُّ مِنَ التَّأْلِيفِ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلِفَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَأَلِفَ الطَّائِرُ وَكْرَهُ يَأْلَفُهُ أَلَفًا، إِذَا لَازَمَهُ وَلَمْ يُؤْثِرْ مُفَارَقَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِانْضِمَامَ وَالْمُلَابَسَةَ، بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُقَارَبَةِ، بِخِلَافِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّهُ تَفْعِيلٌ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْمُمَاسَّةِ، وَالْمُلَابَسَةُ فِيهِ لَازِمَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْإِضَافَةُ، فِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْإِمَالَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَضَفْتُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ: أَمَلْتُهُ.

قُلْتُ: وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ يَقُولُ: الْإِضَافَةُ الْإِسْنَادُ، وَمِنْهُ أَضَفْتُ ظَهْرِي إِلَى الْحَائِطِ، أَيْ: أَسْنَدْتُهُ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَلَمَّا دَخَلْنَاهُ أَضَفْنَا ظُهُورَنَا

إِلَى كُلِّ حَارِيٍّ قَشِيبٍ مُشَطَّبِ

يَعْنِي أَسْنَدْنَا، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مَعْنَى الْإِمَالَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِسْنَادَ أَخَصُّ، فَكُلُّ مُسْنَدٍ مُمَالٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُمَالٍ مُسْنَدًا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.

فَعَلَى الْأَوَّلِ: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يَمِيلُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِيُعَرِّفَهُ أَوْ يُخَصِّصَهُ، إِذْ ذَلِكَ فَائِدَةُ الْإِضَافَةِ، أَعْنِي التَّعْرِيفَ، نَحْوَ: غُلَامُ زِيدٍ، أَوِ التَّخْصِيصَ، نَحْوَ: غُلَامُ رَجُلٍ، فَغُلَامٌ تُعَرَّفُ فِي الْأَوَّلِ بِزَيْدٍ، وَتُخَصَّصُ فِي الثَّانِي بِرَجُلٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامَ امْرَأَةٍ.

وَعَلَى الثَّانِي: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يُسْنِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي تَعْرِيفِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ الضَّمُّ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ مَضْمُومٌ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِفَائِدَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: «وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ» يَعْنِي مَا كَانَ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ، كَقَوْلِنَا: أُصُولُ الْفِقْهِ، وَأُصُولُ الدِّينِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: فَتَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ لَفْظِهِ الَّذِي تَرَكَّبَ مِنْهُ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، أَيْ: يُسَمَّى بِذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَنْ سَمَّاهُ.

وَقَوْلُهُ: «إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ» لَفْظَانِ مَنْسُوبَانِ إِلَى الْإِجْمَالِ وَاللَّقَبِ.

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْإِجْمَالُ، هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ جُمْلَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاللَّقَبُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَلَمِ.

غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُ مَنْ وُضِعَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ لِقُبْحٍ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْفُ النَّاقَةِ، وَعَائِدُ الْكَلْبِ، وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْأَلْقَابِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ التَّخَاطُبُ بِهِ تَنَابُزًا وَنَبْزًا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّقَبُ وَاحِدُ الْأَلْقَابِ، وَهِيَ الْأَنْبَازُ، وَقَالَ فِي نَبَزَ: النَّبْزُ: اللَّقَبُ.

قُلْتُ: وَلَفْظُ النَّبْزِ مُشْعِرٌ بِكَرَاهَةٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّازِقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الْحُجُرَاتِ: 11] قَالَ: لَا تَقُلْ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقٌ، يَا مُنَافِقٌ. وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسَلِّمُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.

قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ مِنْ أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَلَمِ، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ: قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُ التَّخَاطُبَ بِهِ وَهُوَ اللَّقَبُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْعَلَمُ لَقَبًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو.

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَهِيَ قَوْلُنَا: «مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ» تَقَعُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ يَغْمُضُ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُعَانِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَا، أَيْ: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَذَا، لِأَنَّ حَيْثُ فِي اللُّغَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْمَكَانُ مُجَاوِرٌ لِلْجِهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالتَّصَوُّرِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ مَقْصِدُ الْمُتَحَرِّكِ، فَلَا تَنْفِكُّ عَنِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَتَصَوُّرًا. فَقَوْلُنَا:«فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ» أَيْ: مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ، أَوْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا مُرَكَّبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ، فَلَهُ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا جِهَةُ أَجْزَائِهِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا، وَالثَّانِي جِهَةُ حَقِيقَتِهِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ فِيهِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ.

مِثَالُهُ: أَنَّا إِذَا عَرَفْنَا الْحِبْرَ مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَفْصُ وَالزَّاجُ وَالصَّمْغُ، قُلْنَا: الْحِبْرُ مَائِعٌ أَسْوَدُ يُكْتَبُ بِهِ، وَإِذَا عَرَّفْنَاهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، قُلْنَا: الْعَفْصُ: جَوْهَرٌ نَبَاتِيٌّ مُسْتَدِيرٌ، خَشِنُ الظَّاهِرِ مُضَرَّسٌ، وَالزَّاجُ: جَوْهَرٌ مُسْتَحْجَرٌ أَبْيَضُ، طَبْعُهُ التَّسْوِيدُ. وَالصَّمْغُ: جَوْهَرٌ تَدْفَعُهُ طَبِيعَةُ الشَّجَرِ فَيَسِيلُ عَلَى ظَاهِرِهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، فَإِذَا عَرَّفْنَا مُفْرَدَاتِ أَجْزَائِهِ، قُلْنَا: الْيَدُ عُضْوٌ آلِيٌّ مُعَدٌّ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَدٌّ لِلْمَشْيِ.

فَقَدْ رَأَيْتُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْحَقَائِقِ بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهَا.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا إِجْمَالِيٌّ، أَيْ: فِيهِ إِجْمَالٌ وَعُمُومٌ وَغُمُوضٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعْرِيفِهِ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ وَمُفْرَدَاتِ تَرْكِيبِهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ فِيمَا بَعْدُ، وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْرِيفِ لَقَبًا أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمُعَرَّفِ لَقَبًا عَلَى مَفْهُومِهِ، مِثَالُهُ: أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ لَقَبٌ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَالتَّفْصِيلِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، أَيْ تَعْرِيفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِ مُفْرَدَاتِهِ.

وَقَوْلُهُ: «بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلِّ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79]، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاءِ: 95] ، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّحْلِ: 87] . وَمِثَالُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ وَاللَّقَبِيِّ: أُصُولُ الدِّينِ فِيهِمَا.

فَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ: هُوَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ، أَوِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ.

وَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ: الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ، كَمَا قُلْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالدِّينُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَالْعَادَةُ وَالشَّأْنُ وَالْجَزَاءُ وَالْمُكَافَأَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الشَّرِيعَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبِالضَّرُورَةِ هَذَا أَدْخَلُ فِي الْبَيَانِ مِنَ الْأَوَّلِ.

ص: 119

فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ: الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.

ــ

قَوْلُهُ: «فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ: هُوَ «الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» .

الْعِلْمُ: سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ آخِرَ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الْبُنْيَانِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: قَاعِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَذَا: هِيَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا جُزْئِيَّةٌ، كَقَوْلِنَا مَثَلًا: حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَقَوْلِنَا: الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.

كَقَوْلِنَا: عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَوَكَّلَ فِيهِ حَنِثَ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ. وَقَوْلُنَا: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، وَلَا تَخْلِيلُ الْخَمْرِ عِلَاجًا، وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ، وَلَا الْحِيلَةُ عَلَى إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لِهَذِهِ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ أُسًّا تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا.

وَهَكَذَا قَوْلُنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَلِلْفَوْرِ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ حُجَّةٌ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ دَلِيلٌ

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

صَحِيحٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ قَوَاعِدُ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَالتَّوَصُّلُ: هُوَ قَصْدُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ.

وَاسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ: اسْتِخْرَاجُهَا، وَكَذَا اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ، يُقَالُ: نَبَطَ الْمَاءُ يَنْبُطُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا - نُبُوطًا: إِذَا نَبَعَ، وَالنَّبِيطُ: الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ.

وَالْأَحْكَامُ: يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.

وَالشَّرْعِيَّةُ: الصَّادِرَةُ عَنِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْإِلَهِيُّ الْمَعْلُومُ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَالْفَرْعِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَهُوَ مَا اسْتَنَدَ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ اسْتِنَادًا ثَابِتًا، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنَ الْمَشْرُوطِ وَنَحْوِهُ، مِمَّا اسْتِنَادُ وَجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ عَرَضِيٌّ، لِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ تَوَقُّفُهُ عَلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ ذَاتِهِ، كَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَنَحْوِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ الْفَرْعِ.

أَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى كَذَا، فَهُوَ مَجَازٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ وَلَا اسْتِنَادٌ ذَاتِيٌّ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ: الْقَضَايَا الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِهِ مُقْتَضَاهَا وَلَا الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَلَا الْعَدَالَةُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَسْأَلَةِ

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنَفَّذُ بَاطِنًا.

بِخِلَافِ مَا يَقْدَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ، كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ، وَنَفْيِ الصَّانِعِ، وَإِنْكَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِبْطَالِ النُّبُوَّاتِ، أَوْ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، أَوِ الدِّينِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْأَثَرِيَّةِ، كَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْجِهَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسَائِلُ الشَّرِيعَةِ، إِمَّا مُكَفِّرٌ قَطْعًا كَنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ غَيْرِ مُكَفِّرٍ قَطْعًا كَاسْتِبَاحَةِ النَّبِيذِ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .

فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّ شُرْبَ الْحَنْبَلِيِّ لِلنَّبِيذِ، وَأَكْلَ الْحَنَفِيِّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، بَلْ مِنَ الْأُصُولِيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَيَأَثَمَانِ بِهِ، وَيَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا. قِيلَ: نَعَمْ، هُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ الْمُعْتَقَدِ، فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ.

قَوْلُهُ: «مِنْ أَدِلَّتِهَا» : أَيِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، أَيِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، كَمَا سَنُبَيِّنُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 122

وَبِالثَّانِي:

الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَهِيَ جَمْعُ أَصْلٍ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا.

ــ

قَوْلُهُ: «وَبِالثَّانِي» : أَيْ وَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهُوَ تَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ [الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ] ، لِأَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ، هِيَ الْأُصُولُ وَالْفِقْهُ، فَهُمَا مُفْرَدَا ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، فَيَحْتَاجُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ إِلَى تَعْرِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَّتِهِ.

فَالْأُصُولُ: «الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا» يَعْنِي: الْكِتَابَ وَالسَّنَةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ، وَمَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَهِيَ» : يَعْنِي الْأُصُولَ، «جَمْعُ أَصْلٍ» ، هَذَا بَيَانٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ جَمْعُهَا وَإِفْرَادُهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى فِعْلٍ - سَاكِنِ الْعَيْنِ - فَبَابُهُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ عَلَى أَفْعُلٍ، نَحْوَ أَفْلُسٍ وَأَكْلُبٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى فِعَالٍ وَفُعُولٍ، نَحْوَ حَبْلٍ وَحِبَالٍ، وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَكَعْبٍ وَكِعَابٍ، وَفَصْلٍ وَفُصُولٍ، وَأَصْلٍ وَأُصُولٍ، وَفَرْعٍ وَفُرُوعٍ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اشْتِقَاقُهُ اللُّغَوِيُّ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ الْوَصْلِ ضِدَّ الْقَطْعِ، وَأَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْلِ، وَهُوَ اتِّصَالُ فُرُوعِهِ، كَاتِّصَالِ الْغُصْنِ بِالشَّجَرَةِ حِسًّا، وَالْوَلَدِ بِوَالِدِهِ نَسَبًا وَحُكْمًا، وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلِهِ عَقْلًا.

قَوْلُهُ: «وَأَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ» .

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هَذَانِ تَعْرِيفَانِ لِلْأَصْلِ، فَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي «الْحَاصِلِ» ، وَالثَّانِي هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْآمِدِيِّ: أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي غَيْرِ «الْمُنْتَهَى» : مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ احْتِرَازًا مِنَ اسْتِنَادِ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لَهُ.

وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْتَنِدٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: «وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا» .

هَذَا بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُتَطَابِقَيْنِ لِلْمُعَرَّفِ بِهِمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الْفِقْهَ يُسْتَمِدُّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مَادَّةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ تَرْكِيبِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُنَا: الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى إِطْلَاقِهِ طَهُورٌ، سَوَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ، هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفَرْقَانِ: 48]، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الْأَنْفَالِ: 11] ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ تَرَاكِيبُ الصِّيَغِ، لَكِنَّ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، بَلْ لِإِظْهَارِ الْمَعَانِي.

فَعَلَى هَذَا «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ: لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: مَا بَعْضُهُ الشَّيْءُ، وَالْفَرْعُ بَعْضُ أَصْلِهِ، كَالْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْفِقْهَ مُقْتَطَعٌ مِنْ أَدِلَّتِهِ اقْتِطَاعَ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَوْ نَحْوَهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» فِيهِ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْفِقْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَنَحْوِهَا، هِيَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِ، وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ بَيَانِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي «مِنْ» ، وَكَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي،

ص: 124

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْفِقْهُ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ هِيَ لَمْ يُوجَدْ هُوَ، إِذْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ قَوْلُهُ عليه السلام: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ لَمْ يُحْكُمْ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَوْ لَمْ تُوجَدْ أَدِلَّتُهَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا.

وَالِاسْتِنَادُ، هُوَ اعْتِمَادُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، بِحَيْثُ لَوْ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَسْتَقِرَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ مَعَ أَدِلَّتِهِ، لَوْ زَالَتْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْفِقْهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ، كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ النَّسْخِ لِبَقَاءِ أَدِلَّتِهَا مُحْكَمَةً، فَلَمَّا زَالَتِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ الْأَحْكَامِ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأَحْكَامُ، بَلْ زَالَتْ بِزَوَالِهَا، وَوِزَانُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جِدَارٍ، فَمَالَ الْجِدَارُ وَوَقَعَ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ إِلَيْهِ يَقَعُ بِالضَّرُورَةِ. هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَلْفَاظِ الْمُخْتَصَرِ.

وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْأَصْلُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

وَرُدَّ، بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْأَصْلِ؛ إِذْ كَلُّ أَصْلٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ أَصْلًا.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ -: أُصُولُ الْفِقْهِ، هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي «الْعُدَّةِ» : أُصُولُ الْفِقْهِ، عِبَارَةٌ عَمَّا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْفِقْهِ

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَعُرِفَ مِنْهُ، إِمَّا بِاسْتِخْرَاجٍ أَوْ تَنْبِيهٍ.

قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ صَحِيحٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ الشَّيْءُ بِمَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَتَعَلُّقِ الْحَبَلِ بِالْوَتَدِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَتَعَلُّقِ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ فِي الْمَعْقُولَاتِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ لُغَةً، وَرُجْحَانُهُ وَدَلِيلُهُ اصْطِلَاحًا، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَادَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ السُّنْبُلَةِ الْبُرَّةُ، أَيْ: هِيَ مَادَّتُهَا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَيُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى رُجْحَانِ الشَّيْءِ، نَحْوَ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، أَيْ: هُوَ رَاجِحٌ، وَلِهَذَا احْتِيجَ فِي دَعَاوَى الْحُقُوقِ إِلَى الْبَيِّنَاتِ، لِيَصِيرَ جَانِبُ الْمُدَّعِي رَاجِحًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَكَقَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاءِ: 43] : الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَجَازِ.

وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْعَبْدُ الْغَائِبُ تَجِبُ فِطْرَتُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ.

وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ أَنَّ الرُّجْحَانَ الْأَصْلُ.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا فِي الِاصْطِلَاحِ، عَلَى الدَّلِيلِ، نَحْوَ: أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَوَسُّطٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَادَّةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الرُّجْحَانُ وَالدَّلِيلُ.

«تَنْبِيهٌ» زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَعَنِّتِينَ، أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ بِـ «مَا» ، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ، مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِقْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَبِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْإِيضَاحُ وَالْإِفْهَامُ، وَلَفْظُ «مَا» شَدِيدُ الْإِبْهَامِ، فَالتَّعْرِيفُ بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُودَ.

وَهَذَا كَلَامٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْإِبْهَامِ، غَيْرَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ بِهَا وَحْدَهَا، بَلْ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا، وَبِمَجْمُوعِهِمَا يَحْصُلُ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ.

فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ أَوْ جِسْمٌ مِنْهُ الشَّيْءُ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِنَا: مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ، أَوْ جِسْمٌ يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ.

نَعَمْ، الْمُنَاقَشَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْرِيفَاتِ أَنْ يُوضَعَ فِيهَا الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ، ثُمَّ يُمَيَّزُ بِمَا يَفْصِلُ النَّوْعَ الْمَقْصُودَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَفْظُ مَا عَامٌّ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ.

فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْإِنْسَانُ: مَا كَانَ نَاطِقًا، لَمْ يُعْلَمْ هَلِ الْمُرَادُ مَا كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، أَوْ مَا كَانَ مِنَ الْأَجْسَامِ أَوِ الْمَعْلُومَاتِ أَوِ الْمَوْجُودَاتِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ الْبَعِيدِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جِسْمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ نَاطِقٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخَلَّ بِالْمُخْتَارِ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَأَفْسَدَ الْحَدَّ بِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْجِنِّيَّ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ وَمَوْجُودٌ نَاطِقٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُذَّاقَ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ مَا فِي التَّعْرِيفِ إِلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، وَالْقَرَائِنُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ كَالْأَلْفَاظِ، بَلْ أَبْلَغُ فِي الْإِفْهَامِ، إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً وَاللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ أَدَلَّ مِنْهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْعِلْمُ مَثَلًا: مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَالْفِقْهُ مَا عُرِفَ مِنْهُ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.

فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ، دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا الَّتِي عَرَّفَ بِهَا الْفِقْهَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْفِقْهُ: عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْكَلِمَةُ: لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى مُفْرَدٍ، وَأَنْوَاعُهَا: اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْمُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، تَقْدِيمُهُ لِتَعْرِيفِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الِاسْمَ مِنْ أَنْوَاعِهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِـ «مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى» : كَلِمَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى.

فَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ يَفْسُدُ بِهِ التَّعْرِيفُ، فَذَاكَ مِمَّنْ لَا كَلَامَ مَعَهُ بِإِقْرَارٍ وَلَا إِنْكَارٍ.

ص: 128

وَالْفِقْهُ لُغَةً: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} ، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ.

ــ

قَوْلُهُ: " وَالْفِقْهُ لُغَةً " أَيْ فِي اللُّغَةِ: " الْفَهْمُ وَمِنْهُ: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91]، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ

هَذَا تَعْرِيفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ لَفْظِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفِقْهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ هَاهُنَا تَنْبِيهٌ كُلِّيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا انْتَصَبُوا لِبَيَانِ لَفْظٍ، بَيَّنُوهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، فَقَالُوا مَثَلًا: الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: كَذَا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: كَذَا، كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَفِي الشَّرْعِ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالتَّكْبِيرِ الْمُخْتَتَمَةُ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ، وَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ كِبَارِ الْمَسَائِلِ.

وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْعَ، هَلْ وَضَعَ لِحَقَائِقِهِ الشَّرْعِيَّةِ أَسْمَاءَ بِإِزَائِهَا وَضْعًا اسْتِقْلَالِيًّا خَارِجًا عَنْ وَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهُ أَبْقَى الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةَ عَلَى حَالِهَا، وَزَادَ فِيهَا شَرْعًا شُرُوطًا وَأَفْعَالًا أُخَرَ؟

مِثَالُهُ: أَنَّهُ سَمَّى الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ صَلَاةً، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصَّلَاةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهِيَ الدُّعَاءُ، لَكِنِ اشْتَرَطَ لَهَا فِي الشَّرْعِ شُرُوطَهَا السِّتَّةَ، وَأَرْكَانَهَا الثَّلَاثَةَ عَشَرَ، وَكَذَلِكَ سَمَّى الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ صَوْمًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَزَادَهُ النِّيَّةَ، وَقَدَّرَ وَقْتَهُ.

هَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي فَصْلِ اللُّغَاتِ.

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إِلَى لَفْظِ الْمُخْتَصَرِ.

فَالْفِقْهُ فِي الْوَضْعِ: " الْفَهْمُ "، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْأَكْثَرُونَ. يُقَالُ: فَقِهْتُ الْكَلَامَ، أَيْ: فَهِمْتُ غَرَضَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ.

وَقَوْلُهُ: " وَمِنْهُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا " هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، أَيْ: وَمِمَّا أُطْلِقَ فِيهِ الْفِقْهُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ:{يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91] ، أَيْ مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، لِأَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَسْمَاعِ عَنْ سَمَاعِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُرَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الْكَهْفِ: 93]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 78]، وَقَوْلُ مُوسَى عليه السلام:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى يَفْهَمُونَ.

وَقَوْلُهُ: " أَيْ مَا نَفْهَمُ وَلَا تَفْهَمُونَ " هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِقْهِ فِي الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا مُتَوَالِيَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْسِيرَهُمَا مُتَوَالِيًا، وَهُوَ يُسَمَّى اللَّفَّ وَالنَّشْرَ، فَتَقْدِيرُهُ: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا، أَيْ مَا نَفْهَمُ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ أَيْ: لَا تَفْهَمُونَ. وَمِثْلُهُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ

ص: 130

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَصِ: 73]، أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفِينَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَفْقَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَيَفْقَهُ كَلَامَ فُلَانٍ، أَيْ: يَفْهَمُهُ وَيَعْلَمُهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْعُدَّةِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ قَبْلُ.

قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ: الْفَهْمُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْفِقْهُ: هُوَ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ وَالشِّعْرُ وَالطِّبُّ لُغَةً، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْعُلُومِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَحَكَاهُ عَنِ الْمَازِرِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ".

قُلْتُ: كُلُّ ذَلِكَ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمُجْمَلِ ": الْفِقْهُ الْعِلْمُ، وَكُلُّ عِلْمٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ فِقْهٌ.

غَيْرَ أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الْمَشْهُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مُلَازِمَةً، إِذِ الْفَهْمُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ، وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ فَهْمَ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، فَيُشْبِهُ أَنَّ مَنْ سَمَّى الْفِقْهَ عِلْمًا تَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي (فَهِمَ) : فَهِمْتُ الشَّيْءَ فَهْمًا، عَلِمْتُهُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْفَهْمُ الْعِلْمَ حَقِيقَةً مَعَ قَوْلِهِ: الْفِقْهُ الْفَهْمُ، لَكَانَ الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمَ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْفَهْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، أَنَّ الْفِقْهَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَالْعِلْمُ

ص: 131

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ، وَعَلِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَتَقُولُ: فَقِهْتُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَهِمْتُهُ، وَلَا يُقَالُ: فَقِهْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ.

وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ - وَلَمْ أَجِدْهُ فِي " اللُّمَعِ "، فَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ -: أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ: فَهِمْتُ كَلَامَكَ، وَلَا تَقُولُ: فَهِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِقْهَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمَا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِمَا.

وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِّهِمَا، فَالْعِلْمُ قَدْ عُلِمَ حَدُّهُ بِمَا مَرَّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْفَهْمُ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْوَاضِحِ ": هُوَ إِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ. قُلْتُ أَنَا: وَلَا حَاجَةَ لِقَيْدِ السُّرْعَةِ، لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْنَاهُ إِلَّا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ، قِيلَ: قَدْ فَهِمَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْفَهْمُ إِمَّا بَطِيءٌ أَوْ سَرِيعٌ، فَيَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، نَعَمْ، السُّرْعَةُ قَيْدٌ فِي الْفَهْمِ الْجَيِّدِ.

فَقَدْ تَحَقَّقَ بِمَا ذَكَرْتُهُ، أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْفَهْمُ، يُقَالُ: فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ: إِذَا صَارَ فَقِيهًا، وَفَقَهَ غَيْرَهُ، بِفَتْحِهَا: إِذَا غَلَبَهُ فِي الْفِقْهِ وَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ، وَفَقُهَ، بِضَمِّهَا -: إِذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً وَخُلُقًا وَمَلَكَةً.

ص: 132

وَاصْطِلَاحًا: قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» أَيْ: وَالْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَعْنِي فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.

«قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» ، إِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ، فَلَمْ أَرْتَضِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَشْبَهَ عِنْدِي فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.

وَهَذَا التَّعْرِيفُ لِلَفْقِهِ، وَالتَّعْرِيفُ السَّابِقُ لِأُصُولِ الْفِقْهِ، هُمَا لِابْنِ الْحَاجِبِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِبَيَانِهَا، لَفْظَ «الْعِلْمِ» ، وَقَدْ وَعَدْتُ قَبْلُ أَنْ أُبَيِّنَهُ بَعْدُ، وَلَفْظُ «الْأَحْكَامِ» ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَفْظُ «الشَّرْعِيَّةِ» وَ «الْفَرْعِيَّةِ» وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا. بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

«وَالتَّفْصِيلِيَّةِ» هِيَ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ تَمْيِيزُ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ، كَقَوْلِنَا: إِذَا سَخُنَ الْمَاءُ، فَإِمَّا أَنْ يَسْخُنَ بِطَاهِرٍ، فَلَا يُكْرَهُ، أَوْ بِنَجَسٍ، فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ وَصُولُ النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ، فَيُمْنَعَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَتَحَقَّقَ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةِ حَصِينًا، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ.

وَقَدْ خَطَرَ لِي هَاهُنَا فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ لِمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِ، وَالْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ، وَالشَّيْءُ يُذْكَرُ بِالشَّيْءِ، وَهِيَ أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 12] ، فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، لِأَنَّهَا أَشْيَاءُ،

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَتَقْتَضِي أَنَّهَا مُفَصَّلَةٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مُفَصَّلٍ، لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، إِذْ قَدْ تَقَعُ حَوَادِثُ غَرَائِبُ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، أَحَالَ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى مُجْتَهَدِي كُلِّ عَصْرٍ، فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُطْلِقٌ أَوْ مُقَيِّدٌ تَمَسَّكَ فِي حُكْمٍ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ حُكْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْصِيلًا مِنْهُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ عَلِمْنَا تَفْصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، لَكِنْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْوِيلٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

وَأَمَّا «الِاسْتِدْلَالُ» ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ دَلَّ يَدُلُّ، وَمُقْتَضَاهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ طَلَبُ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ طَلَبُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِ أَوْ غَيْرِهِ، إِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ لِيَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يُعَلِّمَهُ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّائِلِ لِلْمُسْتَدِلِّ، كَقَوْلِ الْحَنْبَلِيِّ لِلْحَنَفِيِّ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ بِدُونِ النِّيَّةِ؟ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْأَوَّلُ، وَهُوَ طَلَبُ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.

وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 134

احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ، وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ.

ــ

قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» إِلَى آخِرِهِ.

الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْحَاثٍ:

الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ احْتَرَزَ، وَهُوَ افْتَعَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَحَرَّزْتُ مِنْ كَذَا، وَاحْتَرَزْتُ مِنْهُ: إِذَا تَوَقَّيْتُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِرْزِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ، يُقَالُ: هَذَا حِرْزٌ حَرِيزٌ، وَيَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ: احْتَزَرْتُ بِكَذَا مِنْ كَذَا، أَيْ: صِرْتُ فِي حِرْزٍ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ مَا يُفْسِدُ كَلَامِي مِنْ جِهَةِ طَرْدٍ أَوْ عَكْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

الثَّانِي: فِي مَعْنَى الِاحْتِرَازِ فِي الْكَلَامِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ جُعِلَتْ دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَشَأْنُ الدَّلِيلِ أَنْ يُطَابِقَ الْمَدْلُولَ، وَالْمُعَرِّفِ أَنْ يُطَابِقَ الْمُعَرَّفَ، أَيْ: يَكُونُ طَبَقَهُ وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَلَمَّا كَانَتْ أَجْنَاسُ الْأَشْيَاءِ شَامِلَةً لِأَنْوَاعِهَا، وَأَنْوَاعُهَا شَامِلَةً لِأَشْخَاصِهَا، وَكَانَتِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَنْوَاعُ مُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا الْعَالِي وَالسَّافِلُ وَالْمُتَوَسِّطُ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَشْخَاصُ أَيْضًا مُتَشَابِهَةٌ وَمُتَبَايِنَةٌ بِالصِّفَاتِ، وَكَانَتِ الْأَشْخَاصُ شَائِعَةً فِي أَنْوَاعِهَا، وَالْأَنْوَاعُ شَائِعَةً فِي أَجْنَاسِهَا، لَا جَرَمَ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْكَشْفَ عَنْ حَقِيقَةِ شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ، أَوْ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ، أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَاتٍ مُطَابِقَةٍ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا هُوَ، فَكُلَّمَا قَلَّتْ أَوْصَافُهُ، كَانَ أَدْخَلَ فِي الْعُمُومِ وَالشُّيُوعِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهُ، قَرُبَ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّعَيُّنِ، وَزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ، وَقَلَّ مَا يَشْتَبِهُ بِهِ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُخَصَّصَةِ مُحَصِّنًا لَهُ مِنْ طَائِفَةِ مِمَّا يُشَابِهُهُ أَوْ يَشْتَبِهُ بِهِ، وَحِرْزًا لَهُ مِنْهُ، فَهَذَا بَيَانُ

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ، وَيَتَّضِحُ بِالْمِثَالِ.

فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسَمَّيَاتِ مُتَرَتِّبَةٌ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ الْأَشْخَاصِ تَحْتَ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ أَعْلَى الْأَجْنَاسِ فَوْقَ بَعْضٍ، فَأَعَمُّ الْمُسَمَّيَاتِ، قَوْلُنَا: مَعْلُومٌ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، ثُمَّ الْمَوْجُودُ يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، ثُمَّ الْقَدِيمُ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ، وَالْمُحْدَثُ يَتَنَاوَلُ الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ، وَالْأَعْرَاضُ أَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ، وَالْجَوْهَرُ يَتَنَاوَلُ الْجَامِدَ وَالنَّامِيَ، وَالنَّامِي يَتَنَاوَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ، كَالشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانُ يَتَنَاوَلُ النَّاطِقَ، كَالْإِنْسَانِ، وَغَيْرَ النَّاطِقِ، كَالْفَرَسِ، فَالْإِنْسَانُ نَوْعٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ نَوْعٌ لِلنَّامِي، وَالنَّامِي نَوْعٌ لِلْجَوْهَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِسْمُ، وَالْجِسْمُ نَوْعٌ لِلْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ نَوْعٌ لِلْمَعْلُومِ، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُسَمَّى نَوْعَ الْأَنْوَاعِ، وَإِنْ نَزَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْمَعْلُومُ فِي مِثَالِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسًا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ أَحَدَ قِسْمَيْهِ الْمَعْدُومُ، وَالْحَقِيقَةُ الثَّابِتَةُ لَا تَتَقَوَّمُ فِي وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، وَالْقَدِيمُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسٍ، وَلَكِنَّا ذَكَرْنَاهُ جِنْسًا فِي الْمِثَالِ لَفْظًا، فَقُلِ: الْمَعْلُومُ جِنْسُ الْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ، وَالْجِسْمُ جِنْسُ النَّامِي، وَالنَّامِي جِنْسُ الْحَيَوَانِ، فَالْمُتَوَسِّطَاتُ مِنْ هَذِهِ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ، وَالْجِسْمُ، وَالنَّامِي، وَالْحَيَوَانُ، هِيَ أَنْوَاعٌ لِمَا فَوْقَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِسْمِ النَّامِي، أَجْنَاسٌ لِمَا تَحْتَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ.

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَنْتَ إِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: قَدْ أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مَعْلُومًا فَمَا هُوَ؟ لَاحْتَمَلَ عِنْدَكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الَّذِي أَضْمَرَهُ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا.

فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: زِدْنِي بَيَانًا، فَقَالَ لَكَ: الَّذِي أَضْمَرْتُهُ مُحْدَثٌ، تَخَصَّصَ بِهِ، وَأَعْرَضْتَ أَنْتَ عَنِ الْفِكْرَةِ فِي التَّقْدِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ، وَصِرْتَ تَطْلُبُهُ فِي الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنَّكَ لَا تَدْرِي هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ.

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ جَوْهَرٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْأَعْرَاضِ، وَأَجَلْتَ فِكْرَكَ فِي الْجَوَاهِرِ، لِتَسْتَخْرِجَهُ مِنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَامٍ أَوْ غَيْرُ نَامٍ.

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَامٍ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْجَمَادَاتِ، وَتَرَدَّدْتَ فِي النَّامِي، هَلْ هُوَ حَيَوَانٌ أَوْ غَيْرُ حَيَوَانٍ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ حَيَوَانٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ نَاطِقٌ أَمْ لَا؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: نَاطِقٌ: أَعْرَضْتَ عَنْ نَوْعِ الْخَيْلِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، لَا تَدْرِي، هَلْ هُوَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، أَوْ مُوسَى، أَوْ مُحَمَّدٌ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ، تَخَصَّصَ مَطْلُوبُكَ بِصِنْفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْرَضْتَ عَنْ آحَادِ الْأُمَمِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ هُوَ آدَمُ أَوْ مُحَمَّدٌ أَوْ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، قُلْتَ: هُوَ آدَمُ أَوْ نُوحٌ عليهما السلام، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالْأَوَّلِيَّةِ.

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَلَوْ قَالَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ عليه السلام لَقُلْتَ: هُوَ أَيُّوبُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْعِيصِ نَبِيٌّ غَيْرَهُ.

وَلَوْ قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، لَقُلْتَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ كُلَّمَا تَخَصَّصَ بِوَصْفٍ بَعْدَ وَصْفٍ قَرُبَ إِدْرَاكُهُ، وَقَلَّ الصِّنْفُ الَّذِي يَشْتَبِهُ بِهِ، لِخُرُوجِ غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْمَطْلُوبِ، فَهَذَا كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِرَازَاتِ فِي هَذَا الْحَدِّ.

قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ مَا عُرِفَ مِنَ الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالنَّدْبِ. وَالذَّوَاتُ: الْحَقَائِقُ، وَذَاتُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَزَعَمَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي مَأْخَذِهِ عَلَى الْمَقَامَاتِ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِيهَا ذَاتٌ، بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، مُؤَنَّثُ ذُو، فَلَوْ قِيلَ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالشَّرْعِيَّةِ، لَاحْتَمَلَ أَنَّ هُنَاكَ ذَوَاتٍ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا فِقْهًا، فَلَمَّا قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، انْتَفَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ.

قَوْلُهُ: «وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ» ، أَيْ: وَاحْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، كَأَحْكَامِ الْفَلْسَفَةِ، مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَدَدِ وَالْمَقَادِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ فِي

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

«الْمَحْصُولِ» : كَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعِلْمِ بِقُبْحِ الظُّلْمِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِهِمَا عَقْلِيَّيْنِ.

فَلَوْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرْعِيَّةَ، لَاقْتَضَى الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فِقْهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ: الْفَرْعِيَّةِ، إِذِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُسَمَّى فَرْعِيَّةً.

نَعَمْ، الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، حَصَلَ بِالْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ، إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا، بَلْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْإِحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ.

قَوْلُهُ: «وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ» ، أَيِ: احْتَرِزْ بِالْفَرْعِيَّةِ عَنْهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا، لَاقْتَضَى أَنَّ الْأُصُولِيَّةَ، كَأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فِقْهٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، إِذِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَعُمُّ الْأُصُولِيَّةَ وَالْفُرُوعِيَّةَ. إِذِ الشَّرْعُ عِبَارَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ.

ص: 139

«وَعَنْ» فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْفَرْعِيَّةُ الصَّادِرَةُ أَوِ الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ، كَأُصُولِ الْفِقْهِ، نَحْوَ قَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَكَالْخِلَافِ، نَحْوَ: ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَامْتَنَعَ بِالنَّافِي.

ــ

قَوْلُهُ: «وَعَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا» إِلَخْ، يَعْنِي أَنَّ «عَنْ» الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِنَا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَى فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ إِنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْكَلَامِ لِتَجُرَّ مَعَانِي الْأَفْعَالِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، نَحْوَ: ذَهَبْتٌ إِلَى زَيْدٍ، وَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ عَمْرٍو، فَإِلَى جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى زَيْدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ ذَهَابَكَ كَانَ نَحْوَهُ، وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، وَمَنْ جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى عَمْرٍو، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ مَجِيئَكَ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ مُنْصَرِفًا إِلَى غَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتْ حُرُوفَ الْجَرِّ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْحَرْفِ بِالْفِعْلِ: هُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَيَنْتَظِمَ إِلَّا بِاتِّصَالِهِ بِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ اتِّصَالُهُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النَّحْلِ: 43 - 44]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِتَعْلَمُونَ، وَلَا بِقَوْلِهِ: فَاسْأَلُوا، بَلْ بِأَرْسَلْنَا، أَيْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ أَنْ يُقَالَ: بِالزُّبُرِ، وَلَا اسْأَلُوا بِالزُّبُرِ، فَمَتَى كَانَ فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ يَصْلُحُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَرْفُ الْجَرِّ بِهِ، وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، قُدِّرَ لَهُ فِعْلٌ أَوْ مَعْنَاهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلٌ يَصْلُحُ أَنْ تَتَعَلَّقَ «عَنْ» بِهِ وَلَا مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْفَرْعِيَّةَ أَسْمَاءٌ مَحْضَةٌ، وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِيهَا

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خَامِلٌ خَفِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عَنْ، لِئَلَّا يَبْقَى سَائِبًا بِغَيْرِ مُتَعَلِّقٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي اللُّغَةِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ كَمَا ذُكِرَ، الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ أَوِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَصْدُرُ وَتَحْصُلُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، عِنْدَ نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ فِيهَا، طَالِبًا لِيَعْرِفَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا، فَقَدَّرْنَا لِانْتِظَامِ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا تَضَمَّنَ حَذْفًا أَوْ إِضْمَارًا، قُدِّرَ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَمَوْضِعُ بَسْطِهِ بِأَمْثِلَتِهِ «كِتَابُ الْمَجَازِ» لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

قَوْلُهُ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ» . قَدْ عُلِمَ مَعْنَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ مِمَّا سَبَقَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ قَالَ: الْفِقْهُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَ فِيهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدِلَّةِ الْفِقْهِ كَقَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، حَاصِلَةٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ فِقْهًا، بَلْ هِيَ أُصُولُ فِقْهٍ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا الْحَدُّ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ تَعَلُّمَهَا، لِيُعْلَمَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ فَرْعِيَّةً، بَلْ هِيَ أُصُولِيَّةٌ.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ أَحْكَامَ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ أُصُولِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، فُرُوعِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ،

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ الْمَقْصُودَ لِذَاتِهِ، إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقَائِدِ الْقَلْبِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَوَقَعَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَمُدُّ فُرُوعَ الْفِقْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَوَادِّهِ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ، وَتَصَوُّرُ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ لِتَمَكُّنِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ، وَحِينَئِذٍ لَوْ لَمْ يَقُلْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أُصُولًا لِلْفِقْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا فُرُوعًا لِأُصُولِ الدِّينِ، فَبِالتَّفْصِيلِيَّةِ خَرَجَتْ عَنِ الدُّخُولِ فِي حَدِّ الْفِقْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوِيٌّ.

وَأَحْسَبُ أَنِّي وَهِمْتُ فِي قَوْلِي: «الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْتُ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ، لِأَنَّ مَسَائِلَ كُلِّ عِلْمٍ وَأَحْكَامَهُ، حَاصِلَةٌ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً حُكْمًا حَصَلَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ، وَوَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ، هُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي فَنِّ الْخِلَافِ، نَحْوَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضِي وَانْتَفَى بِوُجُودِ النَّافِي، فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، إِذْ يُقَالُ مَثَلًا: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْنُونِيَّتِهِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ.

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَيُقَالُ: سُقُوطُ الْقَصَاصِ عَنِ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ لِلذِّمِّيِّ، حُكْمٌ ثَبَتَ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ شَرَفُ الْمُسْلِمِ وَصِيَانَتُهُ، عَنْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَافِرُ كُفْئًا لَهُ، وَيُقَالَ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حُكْمٌ انْتَفَى بِوُجُودِ نَافِيهِ، وَهُوَ تَحَقُّقُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا.

وَغَالِبُ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ أَدِلَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ، إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ نَفْيهِ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي، أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْأَحْكَامِ عَلَى تَعَدُّدِ جُزْئِيَّاتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا.

ص: 143

وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنِ الْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ، إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنْ بِالْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ، الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ» . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ: عَنْ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ.

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، وَالْمَصْدَرُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّهُ فَرْعُهُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ، وَبِالتَّضْمِينِ، لِأَنَّهُ جُزْءُ مَدْلُولِهِ، إِذْ مَدْلُولُ الْفِعْلِ الزَّمَانُ وَالْمَصْدَرُ، فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الِالْتِزَامِ وَالتَّضَمُّنِ، وَهُمَا دَلَالَتَانِ قَوِيَّتَانِ، وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ فِي التَّحْقِيقِ، هُوَ بِمَا فِي الْعِلْمِ مِنْ مَعْنَى الْعَقْلِ، وَهُوَ عَلِمَ أَوْ يَعْلَمُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعْلِيقَ عَنْ بِلَفْظِ الْعِلْمِ، أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمَحْذُوفٍ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِّ، فَكَأَنَّ التَّعْلِيقَ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيقِ بِمَعْدُومٍ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّفْظِ الْمَوْجُودِ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذًا: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَعَلَى هَذَا» أَيْ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ عَنْ، وَهُوَ أَنَّهُ الْعِلْمُ «إِنْ

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ» ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا.

قَوْلُهُ: «إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَقْدِيرٌ وَتَوْجِيهٌ لِتَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، وَهُوَ أَنَّ عَلِمَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى فِي وَضْعِ اللُّغَةِ بِحَرْفِ «مِنْ» نَحْوَ:«عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» مَثَلًا: عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَعَلِمْتُ الْخَبَرَ مِنْ فُلَانٍ، «وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ» ، أَيْ: لَا يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ، وَعَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَالْخَبَرَ عَنْ فُلَانٍ، «إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ» ، وَهُوَ تَأْوِيلُ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» . وَتَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ «مِنْ» مَعْنَاهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَ «عَنْ» مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ، فَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، أَنَّ مَبْدَأَ عِلْمِي بِالْحُكْمِ هُوَ الدَّلِيلُ، أَوِ ابْتِدَاءُ عِلْمِي بِالْحُكْمِ كَانَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالدَّلِيلُ مَبْدَأُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ مَبْدَأُ خُرُوجِكَ إِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ مِنَ الدَّارِ. وَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ جَاوَزَ الْعِلْمُ الدَّلِيلَ إِلَيَّ، لَكِنْ «عَنْ» الدَّالَّةُ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ تَدُلُّ عَلَى مَبْدَأِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ بِالِالْتِزَامِ، إِذْ كُلُّ مُجَاوَزَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ ابْتِدَاءٍ، وَمِنْ، تَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْعِلْمِ وَمَبْدَئِهِ بِالْمُطَابَقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَكَانَتْ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَقْوَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ.

فَتَحَصَّلَ مِمَّا ذَكَرْنَا: أَنَّ قَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، هُوَ الْأَصْلُ فِي

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَعَدِّي عَلِمْتُ، وَقَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ، لَا يُدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ «مِنْ» الدَّالَّةِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ «عَنْ» الَّتِي لَا تَدُلُّ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.

وَلَمْ آتِ أَنَا فِي الْمُخْتَصَرِ بِلَفْظِ «مِنْ» عِوَضًا عَنْ لَفْظِ «عَنْ» ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لِابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ بِلَفْظِ عَنْ، فَلَمْ أُغَيِّرْ لَفْظَهُ.

تَنْبِيهٌ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ قَوْلِنَا: إِذْ يُقَالُ: «عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» . وَتَقْرِيرُهُ، أَنَّ «إِذْ» وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي، كَقَوْلِكَ: قُمْتُ، أَيْ: فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي الَّذِي قُمْتَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: الْحُكْمُ فِيُ كَذَا كَذَا، إِذْ يُقَالُ: أَيْ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَذَا لَا كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِلَّا كَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَذَا، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ الْعُرْفِيُّ مُطَابِقٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَكَ: قُمْتُ إِذْ قُمْتَ فِي مَعْنَى قَوْلِكَ: قُمْتُ لَمَّا قُمْتَ، وَلِمَا فِيهَا أَيْضًا مَعْنَى الزَّمَانِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَ، أَيْ: قُمْتُ حِينَ قُمْتَ.

وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ مَثَلًا: النَّبِيذُ حَرَامٌ إِذْ هُوَ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ فَتَجِبُ مُقَارَنَتُهُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَّا كَانَ النَّبِيذُ مُسْكِرًا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، حُرِّمَ النَّبِيذُ. وَلَمَّا كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، وَالشَّرْطُ تَجِبُ مُقَارَنَتُهُ

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لِمَشْرُوطِهِ، وَجَبَ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ، فَهَذَا وَجْهُ اسْتِعْمَالِ «إِذْ» فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ.

وَتَقْرِيرُهُ فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ: لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ عَلِمْتُهُ مِنْهُ، كَانَ قَوْلُنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِنَا: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا.

ص: 147

وَبِالِاسْتِدْلَالِ: قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عز وجل وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقَلِّدِ. فَإِنَّ عِلْمَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذِ الْمُقَلِّدُ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا. وَيُمْكُنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ دَلِيلِ حِفْظِهِ، كَمَا حَفِظَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، إِذِ الِاسْتِدْلَالُ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا.

ــ

قَوْلُهُ: «وَبِالِاسْتِدْلَالِ قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» .

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّنَا بَعْدُ إِلَى الْآنِ فِي بَيَانِ الِاحْتِرَازَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا حَدُّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى جَمِيعِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَّا قَوْلَهُ:«عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» فَنُبَيِّنُ قَوْلَهُ: «بِالِاسْتِدْلَالِ» عَنْ أَيِّ شَيْءٍ احْتَرَزَ بِهِ.

فَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَعِلْمِ رَسُولَيْهِ: جِبْرِيلَ عليه السلام، لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَعِلْمُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، أَيْ لَيْسَ هُوَ حَاصِلٌ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سبحانه وتعالى ذَاتِيٌّ عَامُّ التَّعَلُّقِ بِالْأَشْيَاءِ، مُخَالِفٌ لِعُلُومِنَا الضَّرُورِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ سبحانه وتعالى عَالِمٌ لَذَاتِهِ،

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ، وَالذَّاتُ لَا تُوصَفُ بِضَرُورَةٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَعِلْمُ جِبْرِيلَ عليه السلام، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْبَارِئِ جل جلاله، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَعِلْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَلَا يَحْتَاجَانِ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَهُمَا بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَبِمُرَادِهِ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَمَعَ الْقَطْعِ، تَبْطُلُ فَائِدَةُ الِاسْتِدْلَالِ.

فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ، لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى فِقْهًا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ لَيْسَتْ بِالِاسْتِدْلَالِ.

وَيَعْنِي بِكَوْنِهَا عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ: أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: «بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ» يَعْنِي عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ، «لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ» أَيْ عَلَى مَا هُوَ بِهِ «وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» فَكَمَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ، يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ تَابِعًا لِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ وَأَنَّهَا كَذَا، فَكَمَا يَعْلَمُونَ مَثَلًا وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، يَعْلَمُونَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ عُمُومُ إِفْسَادِ الصَّوْمِ أَوْ خُصُوصُهُ بِالْوَطْءِ، وَكَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، يَعْلَمُ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ أَوِ الطَّعْمُ أَوِ الِاقْتِيَاتُ مَعَ الْجِنْسِ، وَكَمَا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الْمُخَالِطِ، عَلِمَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ خُصُوصُ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ حَتَّى يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُقَاسِمِ، أَوْ عُمُومُهُ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى الْمُلَاصِقِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِدْلَالِيِّ، مَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ،

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كَقَوْلِنَا: هَذَا مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْكَالِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَالْعُلُومُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِالْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ وَدَلِيلِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ عُلُومَهُمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ بِدُونِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، كَالْإِلْهَامِيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِهَا هُجُومًا عَلَى النَّفْسِ، بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَفِيهَا مَا لَوْ أَرَادَ الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ عِلَّتَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، التَّوَسُّطُ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَحْكَامِ، لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا لِمَا تَقَدَّمَ، وَعِلْمَ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ عليهم السلام وَغَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالِيٌّ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالِيَّ فِي عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، أَظْهَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمْ، لِقِلَّةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.

بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ أَقَلَّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالِيُّ، مُقَدِّمَتَانِ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لِجِبْرِيلَ عليه السلام: قَدْ أَوْجَبْتُ الصَّلَاةَ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَانْزِلْ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَعِلْمُ جِبْرِيلَ عليه السلام بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِذَلِكَ هُوَ اللَّهُ جل جلاله.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، أَوْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى، فَهُوَ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ، فَإِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَأَخْبَرَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، كَانَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ:

إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام، رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، مَعْصُومٌ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، كَانَ عِلْمُهُمْ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَاتٍ:

مِنْهَا: أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ رَسُولُ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، ظُهُورُ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ عَلَى يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي النُّبُوَّاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْهَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ حَقٌّ، ثُمَّ تَتَعَدَّدُ طَبَقَاتُ الْأُمَّةِ وَكَثْرَةُ الْوَسَائِطِ بِتَعَدُّدِ مُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ.

فَنَقُولُ فِيمَا أَرَدْنَا إِيجَابَهُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: هَذَا الصَّحَابِيُّ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، وَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، حَتَّى إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَاسِطَةِ عَشَرَةٍ، أَوْ عِشْرِينَ مِنَ الرُّوَاةِ، هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُقَدِّمَاتِ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ مُقَدِّمَةٌ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ.

وَإِنْ تَجَوَّزْنَا، فَقُلْنَا: النَّظَرُ فِي حَالِ مَجْمُوعِ رِجَالِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، مُقَدِّمَةٌ.

قَوْلُهُ: «فَعَلَى هَذَا» ، أَيْ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنْ شَيْءٍ، لِئَلَّا يَبْقَى ذِكْرُهُ لَاغِيًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَيَكُونُ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنِ الْمُقَلِّدِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى عِلْمُهُ بِهَا فِقْهًا، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، لَا عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَالشَّرْطُ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِدْلَالِ.

قَوْلُهُ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» ، أَيْ: فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنِ الْمُقَلِّدِ نَظَرٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْمُقَلِّدِ يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْفِقْهِ، وَيَحْصُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُقَلِّدِ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا، لَا إِجْمَالِيٍّ وَلَا تَفْصِيلِيٍّ، وَشَرْطُ الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، وَعِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، فَلَا يَكُونُ فِقْهًا، وَلَا الْمُقَلِّدُ فَقِيهًا، فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْفِقْهِ، بِقَيْدِ التَّفْصِيلِ، لَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى لَفْظُ الِاسْتِدْلَالِ لَاغِيًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا.

تَنْبِيهَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: فِي هَذَا الْكَلَامِ، أَوْ فِي هَذَا الرَّأْيِ نَظَرٌ، أَيْ: يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُعَادَ النَّظَرُ فِيهِ، أَوْ يَحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ لِإِظْهَارِ مَا يَلُوحُ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، وَلَا يُقَالُ

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَلَا صِحَّتِهِ، بَلْ فِيمَا كَانَ فَسَادُهُ مُحْتَمَلًا، فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، كَانَ كِنَايَةً وَمُحَابَاةً لِلْخَصْمِ، وَإِنْ قِيلَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، كَانَ عِنَادًا مِنَ الْقَائِلِ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ: «لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ» هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَعْرِفَتِهِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ يَعْمَلُ عَمَلَ فِعْلِهِ، تَقْدِيرُهُ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُقَلِّدِ، أَيْ: إِنْ عَرَفَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ. قَوْلُهُ: «وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ» هَذَا رَدٌّ لِلنَّظَرِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ حَفِظَهُ كَمَا حَفِظَ الْأَحْكَامَ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ تُقْتَلُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. وَذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْمُرْتَدَّةِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهَا. أَوْ يَسْمَعُ حَنَفِيًّا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، لِنَهْيهِ عليه السلام عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنَّمَا قُتِلَ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْإِسْلَامِ بِتَنْقِيصِ عَدَدِ أَهْلِهِ، وَصَيْرُورَتِهِ عَوْنًا لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَارْتِدَادُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمُرْتَدَّةِ، لِأَنَّ ارْتِدَادَهَا لَا يُؤَثِّرُ، وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُوَجَّهَةِ بِدَلَائِلِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمُقَلِّدُ حِينَئِذٍ عَالِمًا بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ عَلَى ذَلِكَ، لَدَخَلَ فِيهِ الْمُقَلِّدُ، وَلَيْسَ هُوَ فَقِيهًا، وَلَا يُسَمَّى عِلْمُهُ فِقْهًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، أَيْ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَأَهْلِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِيَةً فِيهِ، لَمَا كَانَ مُقَلِّدًا، لَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُجْتَهِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ ضِدُّ الْمُقَلِّدِ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ مَعَ فَرْضِنَا لَهُ مُقَلِّدًا، لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: يَحْتَرِزُ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا، عَنْ مِثْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا لَا يُسَمَّى فِقْهًا فِي الِاصْطِلَاحِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، كَالْعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالْحَمْقَى وَنَحْوِهِمْ.

ص: 154

وَأُورِدَ عَلَيْهِ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: التَّفْصِيلِيَّةُ، لَا فَائِدَةَ لَهُ، إِذْ كُلُّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ، فَهُوَ تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْأَحْكَامَ، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْبَعْضُ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ لِعِلْمِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ فَقِيهًا، وَإِنْ أُرِيدَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُهَا لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ سُئِلُوا فَقَالُوا: لَا نَدْرِي.

وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ، وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، وَبِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهُ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ، الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالتَّعْرِيفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا، وَهُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ.

وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا أَوْ أَمَارَاتِهَا. وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْلَمُهَا كَذَلِكَ. أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُهَا بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ تَهَيُّؤُهُ لِلْعِلْمِ بِالْجَمِيعِ، لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عِلْمُهُ بِجَمِيعِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَضُرُّ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ: لَا نَدْرِي، مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ قَرِيبًا.

وَلَوْ قِيلَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَخَفَّ الْإِشْكَالُ.

ــ

قَوْلُهُ: «وَأُورِدَ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَأُورِدَ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَسْئِلَةٌ، وَمَعْنَى إِيرَادِ السُّؤَالِ عَلَى الْكَلَامِ: مُعَارَضَتُهُ بِمَا يُنَاقِضُهُ وَيُبْطِلُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْدِ، أَوِ الْعَكْسُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُخْتَصَرِ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: «أَنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ» .

ص: 155

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَتَقْرِيرُ هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّكُمْ قَدْ عَرَّفْتُمُ الْفِقْهَ: بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. وَالْعِلْمُ: هُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ، وَالْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ، أَوْ غَالِبُهَا، مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ، أَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالتَّوَاتُرِيَّاتِ، وَالْمَظْنُونُ يَحْتَمِلُهُ، كَقَوْلِنَا: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنِ اعْتَقَدْنَا ظُهُورَهُ، فَخِلَافُهُ مُحْتَمَلٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ جَامِعًا، فَتَخْرُجُ غَالِبُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ كَوْنِهَا فِقْهًا.

السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَكُمْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا فَائِدَةَ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ: أَيْ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَطَابِقَيْنِ، أَيْ: أَحَدُهُمَا طَبَقُ الْآخَرِ، أَيْ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا، بِجَوَازِ كَوْنِ الْفُتْيَا أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ، فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمٍ بِالْجَوَابِ عَنْ حُكْمَيْنِ، وَلَا بِمَا أَجَازَهُ بَعْضُ النُّظَّارِ، مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْجَوَابِ أَخَصَّ، كَعَكْسِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا لَوْ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَأَكْلِ مَيْتَتِهِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ فَحَسْبُ، أَوْ هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَقَطْ، وَكَمَا لَوْ قَالَ السَّائِلُ: هَلْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؟ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: يَجُوزُ فِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَنَّ دَلِيلَ كُلِّ حُكْمٍ مَا يَثْبُتُ بِهِ مُسَاوِيًا لَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، لَيْسَ دَلِيلًا وَلَا بَعْضًا مِنَ الدَّلِيلِ الْمَسْؤُولِ عَنْهُ، فَالدَّلِيلُ فِي الْحَدِيثِ، هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِمْ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ

ص: 156

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى جِهَةِ ابْتِدَاءِ شَرْعِ هَذَا الْحُكْمِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُكُمْ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَيَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ غَيْرَ مَانِعٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، لَمْ يَكُنِ الْحَدُّ جَامِعَهَا، بَلْ لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهُمْ سُئِلُوا عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَقَالُوا: لَا نَدْرِي، كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ حُكْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي. وَحُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: جُنَّةُ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي، فَإِذَا أَخْطَأَهَا، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَالْجُنَّةُ: بِضَمِّ الْجِيمِ السُّتْرَةُ، وَقَوْلُ: لَا أَدْرِي فِي كَلَامِ أَحْمَدَ كَثِيرٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، هَذَا شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا أَوَّلٍ فَأَوَّلٍ.

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُورِدُونَ الْأَسْئِلَةَ ثُمَّ يُورِدُونَ أَجْوِبَتَهَا مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، وَطَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ يَذْكُرُونَ جَوَابَ كُلِّ سُؤَالٍ عَقِيبَهُ، وَهَذِهِ أَيْسَرُ عَلَى الْفَهْمِ، وَفِي كِلَا الطَّرِيقَيْنِ حِكْمَةٌ، وَأَنَا سَلَكْتُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ غَالِبًا الطَّرِيقَةَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَعْوَنُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالِاخْتِصَارِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَقَدْ أُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَيَخْرُجُ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْعِلْمِ، بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ.

وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ، كَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، يَقْطَعُ الْإِنْسَانُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلِمَ قَطْعًا بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الظَّنِّ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، أَيْ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفُتْيَا إِذَا سُئِلَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ.

وَدَلِيلُ أَنَّ الظَّنَّ يُوجِبُ الْعَمَلَ: الْإِجْمَاعُ، وَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْكَامِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظُّنُونِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الظَّنَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ. وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَنَّ غَالِبَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ، لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، أَوْ لَزِمَ الْمُكَلَّفُ أَنْ لَا يَعْمَلَ إِلَّا بِالْقَطْعِ، مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا يُفِيدُهُ، وَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

جَائِزًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْفُرُوعِ.

وَهَذَا هُوَ جَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ، وَلَفْظُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ عِلْمًا؟ قُلْتُ: الْمُجْتَهِدُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةٍ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّهُ، فَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَالظَّنُّ وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَمِثَالُهُ، قَوْلُنَا: الْخَمْرُ مُحَرَّمٌ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ، وَهِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَالنَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْعِلَّةِ، فَغَلَبَ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّنَا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَعَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَاجْتِنَابِهِ، بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّنِّ، فَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ، هُوَ وُجُوبُ اجْتِنَابِهَا، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: النَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْإِسْكَارِ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَإِذَا شَارَكَهُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِ.

فَهَذَا قِيَاسٌ تَوَصَّلْنَا بِهِ إِلَى حُصُولِ الظَّنِّ بِتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، وَهُوَ قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ، فَلَمَّا حَصَلَ لَنَا الظَّنُّ مِنَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، حَكَمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَالْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ الْحَاصِلِ عَنِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ.

وَقَالَ ابْنُ الصَّيْقَلِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: الظُّنُونُ لَيْسَتْ فِقْهًا، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ.

وَقَدْ أَكْثَرْتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَشْكِلُ فَهْمُهُ، فَقَصَدْتُ بِالْإِكْثَارِ فِيهِ

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إِيضَاحَهُ.

قَوْلُهُ: «وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي» . إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ صُورَةُ مُنَاقَشَةٍ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ لَفْظِ الْحَدِّ هَكَذَا: الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الظَّنِّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِّ، يَعْنِي الْعِلْمَ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي جَوَابِنَا عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا حُكْمٌ، عَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، فَصَارَ بِالضَّرُورَةِ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي الْحَدِّ: أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْحَاصِلَةِ عَنِ الطُّرُقِ الظَّنِّيَّةِ، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالتَّعْرِيفَاتِ - وَالتَّعَسُّفُ وَالْعَسْفُ وَالِاعْتِسَافُ: الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ - وَوَجْهُ التَّعَسُّفِ فِي ذَلِكَ كَثْرَةُ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ فِي الْحَدِّ، وَالْحَذْفُ يَقْتَضِي إِبْهَامَ الْمَعْنَى وَخَفَاءَهُ، وَالْحَدُّ يَقْتَضِي كَشْفَهُ وَإِظْهَارَهُ، فَيَتَنَافَيَانِ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا» . هَذَا صُورَةُ اعْتِذَارٍ عَنِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَتَمْشِيَةٍ لَهُ، وَدَفْعٍ لِلسُّؤَالِ الْأَوَّلِ عَنْهُ.

وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، الْفِقْهُ هُوَ ظَنُّ الْأَحْكَامِ،

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فَلَا يَرِدُ قَوْلُهُمُ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ يُسَمُّونَهُ عِلْمًا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، وَهُوَ الرُّجْحَانُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ حُكْمٌ جَازِمٌ، وَالظَّنَّ حُكْمٌ رَاجِحٌ غَيْرُ جَازِمٍ، وَهَذَا الرُّجْحَانُ الْمُشْتَرَكُ صَحَّحَ إِطْلَاقَ الْعِلْمِ وَإِرَادَةَ الظَّنِّ مَجَازًا، وَهُوَ الْعَلَاقَةُ الْمُجَوِّزَةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي اللُّغَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ: «وَهُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ» لِأَنَّ الْحُدُودَ يَجِبُ أَنْ يُجْتَنَبَ فِيهَا الْإِبْهَامُ وَمَظِنَّتُهُ، كَاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ وَالْمَجَازِ وَالْغَرِيبِ، خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَجَازُ وَاضِحًا، وَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مُرَادَكُمْ بِالْعِلْمِ هَاهُنَا الظَّنُّ، حَتَّى فَسَّرْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَقُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِهِ الظَّنَّ، وَإِنَّمَا فَسَّرْتُمُوهُ بِذَلِكَ فِرَارًا مِنَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مَحْذُورٌ لَفْظِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَ الْعِلْمُ بِالظَّنِّ، وَصِيغَةُ الْحَدِّ بِحَالِهَا، صَارَ التَّقْدِيرُ: الْفِقْهُ، هُوَ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ قَبِيحَةٌ، لِأَنَّ ظَنَنْتَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، نَحْوُ ظَنَنْتُ الْأَمْرَ، وَلَا يُقَالُ ظَنَنْتُ بِالْأَمْرِ، بِخِلَافِ عَلِمْتُ، لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوُ عَلِمْتُ الشَّيْءَ وَعَلِمْتُ بِالشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَجُزِ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنْ غُيِّرَتْ صِيغَةُ الْحَدِّ فَقِيلَ: الْفِقْهُ، ظَنُّ الْأَحْكَامِ، أَفْضَى إِلَى التَّجَوُّزِ فِيهَا وَإِسْقَاطِ بَعْضِ حُرُوفِهَا، وَفِيهِ خَبْطٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الْمَعْلُومَةُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظْنُونَةً.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَائِقٍ، مَعْنَاهُ: لَا يُمَاسُّ وَلَا يُلَاصَقُ وَلَا يَعْلُقُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَا لَاقَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا، أَيْ: مَا أُلْصِقَتْ بِقَلْبِهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَلِيقُ بِكَ، أَيْ لَا يعْلَقُ بِكَ، وَفُلَانٌ مَا يَلِيقُ دِرْهَمًا مِنْ جُودِهِ، أَيْ مَا يُمْسِكُهُ، وَلَاقَ بِهِ فُلَانٌ: لَاذَ بِهِ.

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَالْمَادَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ الِاصْطِلَاحِيِّ، إِذْ مَعْنَى لَا يَلِيقُ: لَا يُنَاسِبُ.

وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِجَوَابٍ الْتَزَمَ فِيهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْلُومَةٌ - وَظَاهِرُهُ الْغَلَطُ أَوِ الْمُغَالَطَةُ - وَقَرَّرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ مَعْلُومٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٌ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ، فَقَدْ صَارَتِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الظُّنُونِ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ مَعْلُومٌ، فَبِنَاءً عَلَى عِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٌ.

وَفَرْضُ الْكَلَامِ فِي حُكْمٍ بِتَقْرِيرٍ يَطَّرِدُ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ التَّدْلِيكِ فِي الطَّهَارَاتِ مَظْنُونٌ لِمَالِكٍ قَطْعًا عَمَلًا بِالْوِجْدَانِ، وَكُلُّ مَا ظَنَّهُ مَالِكٌ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا عَمَلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنَّ التَّدْلِيكَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا.

وَأَمَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ مَعْلُومٌ، فَهُوَ ظَاهِرٌ.

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قُلْتُ: وَوَجْهُ الْخَلَلِ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ.

قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ نَحْنُ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِقْهٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِقْهُ مُجْتَهِدٍ خَاصٍّ، إِذْ ذَلِكَ يَصِيرُ إِثْبَاتًا لِلْمَطْلُوبِ الْعَامِّ بِالتَّقْرِيرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: فَقَدْ صَارَتِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ.

إِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ عُمُومَهُ، فَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ ظَنُّ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ الدَّعْوَى الْعَامَّةِ بِالطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ.

وَأَمَّا بَيَانُ الْخَلَلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وُجُوبُ التَّدْلِيكِ مَظْنُونٌ لِمَالِكٍ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا.

إِنْ أَرَادَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ قَطْعًا فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأَئِمَّةِ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ.

وَإِنْ أَرَادَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّ مَالِكٍ، فَصَحِيحٌ، لَكِنْ نَحْنُ كَلَامُنَا فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ الْمُطْلَقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِفَرْضِ الْكَلَامِ فِي فِقْهِ مَالِكٍ أَوْ غَيْرِهِ بِخُصُوصِهِ.

ثُمَّ لَوْ قَالَ الشَّفَعَوِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِ التَّدْلِيكِ مَظْنُونٌ لِلشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِالْوِجْدَانِ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا فِي حَقِّهِ، عَمَلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْقَطْعِ فِيمَا قَرَّرَهُ الْقَطْعُ الْعَامُّ، تَنَاقَصَتِ الْقَطْعِيَّاتُ، لِأَنَّ هَذَا يَقْطَعُ بِالْوُجُوبِ، وَهَذَا بِعَدَمِهِ، وَذَلِكَ

ص: 163

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مُحَالٌ.

وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ الْخَاصَّ فِي حَقِّ كُلِّ إِمَامٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، رَجَعْنَا إِلَى تَقْرِيرِ الدَّعْوَى الْعَامَّةِ بِالطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ.

فَهُوَ كَمَنْ يَقُولُ: كُلُّ حَيَوَانٍ ضَحَّاكٍ، فَإِذَا أُبْطِلَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، قَالَ: أَنَا أَرَدْتُ كُلَّ حَيَوَانٍ نَاطِقٍ ضَحَّاكٍ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَخْصِيصِ الدَّعْوَى، وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.

نَعَمْ لَوْ قَالَ: فِقْهُ مَالِكٍ مَعْلُومٌ، أَوِ الْأَحْكَامُ عِنْدَ مَالِكٍ مَعْلُومَةٌ، ثُمَّ سَلَكَ فِي تَقْرِيرِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ، لَاسْتَقَامَ لَهُ، لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ خَاصٍّ بِخَاصٍّ.

أَمَّا مَا ذَكَرَهُ تَقْرِيرًا، لِكَوْنِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ الْمُطْلَقِ مَعْلُومَةً، فَتَقْرِيرُهُ فِي فَرْضِهِ الْخَاصِّ، وُجُوبُ التَّدْلِيكِ عِنْدَ مَالِكٍ مَعْلُومٌ قَطْعًا، فَيَكُونُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ.

قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّالِثِ» ، أَيْ: وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُكُمْ: إِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْفِقْهَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، دَخَلَ فِيهِ الْمُقَلِّدُ، وَإِنْ أُرِيدَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ لَنَا الْتِزَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَإِنِ الْتَزَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَالْمُرَادُ الْعِلْمُ بِهَا بِأَدِلَّتِهَا وَأَمَارَاتِهَا وَوَجْهِ اسْتِفَادَتِهَا مِنْهَا، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ، فَيَكُونُ مَانِعًا. وَإِنِ الْتَزَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَالْمُرَادُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِهَا بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ،

ص: 164

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَهَيُّؤُهُ، يَعْنِي تَهَيُّؤَ الْمُجْتَهِدِ لِلْعِلْمِ بِالْجَمِيعِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ بِمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ، وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا، وَكَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، وَذَلِكَ هُوَ أَصُولُ الْفِقْهِ.

وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ بِالْفِعْلِ، أَعْنِي يَسْتَحْضِرُهَا فِي الْحَالِ، بَلْ بَعْضُهَا بِالْفِعْلِ وَالِاسْتِحْضَارِ، وَبَعْضُهَا بِالْقُوَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهَا بِعَرْضِهَا عَلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الَّتِي قَدِ اسْتَعَدَّ بِمَعْرِفَتِهَا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا الْعِلْمُ بِجَمِيعِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَضُرُّ قَوْلُ الْأَئِمَّةَ: لَا نَدْرِي فِي جَوَابِ مَا سُئِلُوا عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ قَرِيبًا، أَيْ: عَلَى قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ. بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ حُكْمٍ لَا يَسْتَحْضِرُهُ قَرِيبًا وَلَا بَعِيدًا، وَهَذَا شَرْحُ قَوْلِهِ:

«وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ» ، وَرَجَعَ حَاصِلُهُ إِلَى الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا أَوْ أَمَارَاتِهَا، أَوْ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ.

قُلْتُ: فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ أَدِلَّتِهَا «التَّفْصِيلِيَّةِ لَا فَائِدَةَ لَهُ» لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ لَمْ أُجِبْ عَنْهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِي عَنْهُ حِينَ الِاخْتِصَارِ جَوَابٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ الْآنَ: أَنَّهُ إِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّبْيِينِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّقْيِيدِ، أَيْ: لَمْ تُقَيَّدِ الْأَدِلَّةُ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ، اعْتِقَادًا بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلُومِ تَكُونُ أَدِلَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ غَيْرَ

ص: 165

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تَفْصِيلِيَّةٍ، بَلْ أَرَدْنَا تَبْيِينَ أَنَّ أَدِلَّةَ هَذَا الْعِلْمِ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ التَّفْصِيلِ عَنْ أَدِلَّةِ غَيْرِهِ وَلَا إِثْبَاتُهُ.

قَوْلُهُ: «وَلَوْ قِيلَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ» أَيْ: لَوْ قِيلَ: الْفِقْهُ: «ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ» يَعْنِي مَقْصُودَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، أَوْ مَقْصُودَ حَدِّ الْفِقْهِ، إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، «وَخَفَّ الْإِشْكَالُ» ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي وَرَدَ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ لَا يَرِدُ هَاهُنَا.

وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ الْوَارِدُ عَلَى لَفْظِ «الْأَحْكَامِ» ، هَلِ الْمُرَادُ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا؟ وَلَا يَرِدُ أَيْضًا، لِقَوْلِنَا:«ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» ، وَقُلْتُ: خَفَّ الْإِشْكَالُ، وَلَمْ أَقُلْ: زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْحَدِّ التَّحْقِيقُ. وَقَوْلُنَا:«ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» لَيْسَ تَحْقِيقًا، بَلِ الْجُمْلَةُ مَجْهُولَةُ الْكَمِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» بِقَوْلِهِ: الْعِلْمُ بِجُمْلَةٍ غَالِبَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.

وَفِيهِ أَيْضًا إِجْمَالٌ، لِأَنَّ غَلَبَةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا يُعْلَمُ حَدُّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ غَالِبًا عُرْفًا، وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنِ الشِّرِمْسَاحِيِّ - وَأَظُنُّ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ - أَنَّهُ رَامَ التَّخَلُّصَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عِدَادِ الْعَامَّةِ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ.

ص: 166

وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا: الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَقِيلَ: النَّاسُ، لِيَدْخُلَ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ. وَلَا يَرِدُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِهَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا، لَا إِلَيْهَا نَفْسِهَا.

ــ

قَوْلُهُ: «وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا: الْفِقْهُ، مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ» وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْإِحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَلَفْظُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي «الرَّوْضَةِ» : الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ الْمُتَأَخِّرِينَ، بَلْ أَرَادُوا الْإِشَارَةَ إِلَى حَقِيقَةِ الْفِقْهِ.

قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: النَّاسُ» أَيْ: وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ النَّاسِ «لِيَدْخُلَ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ» ، كَالْمَجْنُونِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، كَضَمَانِ إِتْلَافَاتِهِمَا وَغَرَامَاتِهِمَا، إِذْ هُمَا مِنَ النَّاسِ فَيَتَنَاوَلُهُمَا هَذَا التَّعْرِيفُ، وَلَيْسَا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَيَخْرُجَانِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.

لَكِنَّ هَذَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَاوَلْنَا إِدْخَالَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمَا فِي حَدِّ الْفِقْهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِأَفْعَالِهِمَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ فَيَكُونَانِ مُكَلَّفَيْنِ.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ تَعَلُّقَ الضَّمَانِ بِأَفْعَالِهِمَا، إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَلِيِّهِمَا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الدَّابَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً، أَوْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بِالسَّبَبِ، كَمَا سَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «وَلَا يَرِدُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ» أَيْ: لَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا: «الثَّابِتَةُ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَوِ النَّاسِ» مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، كَضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ زَرْعٍ وَغَيْرِهِ، نَقْضًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِفِعْلِهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً، وَلَا مِنَ النَّاسِ «لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِهَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا لَا إِلَيْهَا نَفْسِهَا» فَكَأَنَّهَا كَالْآلَةِ لَهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِهَا، وَيَرْجِعُ إِلَى رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ.

وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْفِقْهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَى أَعْيَانِهَا بِحَيْثُ لَا نَعْلَمُ كَوْنَهَا مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَالسُّؤَالُ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ قَدْ سَبَقَ وَجَوَابُهُ. وَالْعَمَلِيَّةِ: احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ حُجَّةً، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْفِقْهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَمَلِيَّةً، أَيْ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِهَا عِلْمًا بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ. وَالْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ لِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، كَمَا سَبَقَ.

خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْفَصْلِ: كُنْتُ قَدْ وَعَدْتُ بِذِكْرِ الْعِلْمِ، لِوُقُوعِهِ فِي حَدِّ الْفِقْهِ، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ الظَّنُّ وَالْمَعْرِفَةُ أَيْضًا، لِوُقُوعِهِمَا فِي الْحُدُودِ، فَلْنَذْكُرْ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا يَلِيقُ ذِكْرُهُ هَاهُنَا.

فَنَقُولُ: أَمَّا الْعِلْمُ فَالْكَلَامُ فِي حَدِّهِ وَأَقْسَامِهِ وَمَدَارِكِهِ، أَمَّا حَدُّهُ، فَقَدْ كَثُرَ لَهَجُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ بِقَوْلِهِمْ: مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي «الْعُدَّةِ» وَقَالَ: لَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْلُومِ لَكَفَى، لَأَنَّ مَعْرِفَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةً لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ، وَلَمْ نَقُلِ: الشَّيْءَ، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَعَمُّ، لِتَنَاوُلِهِ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا، أَيْ: يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ، وَالشَّيْءُ خَاصٌّ بِالْمَوْجُودِ، فَلَيْسَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا عَلَى رَأْيِنَا.

وَأُبْطِلُ هَذَا التَّعْرِيفُ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرَادِفَةٌ لِلْعِلْمِ، يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ وَعَرَفْتُهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِهَذَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 60]، أَيْ: لَا تَعْرِفُونَهُمْ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ لَا يَصِحُّ، إِذْ هُوَ تَعْرِيفٌ لَهُ بِنَفْسِهِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ، لِأَنَّ لَفْظَ الْمَعْلُومِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِلْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ، وَهُوَ دَوْرٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعِلْمُ مَا أَوْجَبَ لِمَنْ قَامَ بِهِ كَوْنَهُ عَالِمًا.

وَهُوَ دَوْرِيٌّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعَالِمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: الْعِلْمُ: مَا أَوْجَبَ لِمَنْ قَامَ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ.

وَحُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: مَعَ سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مُعْتَقَدِهِ.

وَهُوَ بَاطِلٌ، بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا، وَبِاعْتِقَادِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ وَيَسْكُنُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَهْلًا، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ عِنْدَنَا وَالْمَعْدُومَ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدُّ، فَيَكُونُ غَيْرَ جَامِعٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْوَاضِحِ» : الْعِلْمُ وِجْدَانُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ لِلْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا.

وَفِيهِ مِنَ الْخَلَلِ، أَنَّ لَفْظَ «وِجْدَانُ» مُشْتَرِكٌ أَوْ مُتَرَدِّدٌ، غَيْرَ أَنَّ قَرِينَةَ التَّعْرِيفِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِدْرَاكُ، فَيَقْرُبُ الْأَمْرُ.

وَفِيهِ أَنَّ عِلْمَ الْبَارِئِ سبحانه وتعالى يَخْرُجُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نَفْسًا نَاطِقَةً، فَلَوْ قَالَ: وِجْدَانُ النَّفْسِ لِلْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا، لَأَمْكَنَ دُخُولُ عِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى فِيهِ،

ص: 169

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَةِ: 116] اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَقِيلٍ عَرَّفَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْعِلْمَ الْمُحْدَثَ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِكَلَامِهِ.

وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّ الْعِلْمِ عِبَارَاتٍ.

فَمِنْهُمُ ابْنُ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: الْعِلْمُ هُوَ الْقَضَاءُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَا، مَعَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا قَضَاءً لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ.

فَقَوْلُهُ: الْقَضَاءُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَا، جِنْسُ الْحَدِّ، وَقَوْلُهُ: مَعَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا، فَصْلٌ يَخْرُجُ بِهِ الظَّنُّ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، لَكِنْ مَعَ إِمْكَانِ أَلَّا يَكُونَ، وَقَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، يَفْصِلُهُ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الْمُصَمِّمِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِالتَّشْكِيكِ أَوْ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ، وَقَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، يَفْصِلُهُ عَنِ الْجَهْلِ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ.

وَمِنْهُمْ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيُّ، قَالَ: الْعِلْمُ، عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا لِنَفْسِ الْمُتَّصِفِ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ تَمْيِيزًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ.

وَمِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ، اخْتَصَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْعِلْمُ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ.

فَقَوْلُهُ: صِفَةُ، جِنْسٌ لِلْحَدِّ، يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، كَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَقَوْلُهُ: تُوجِبُ تَمْيِيزًا، أَخْرَجَ جَمِيعَ ذَلِكَ إِلَّا الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ، لَكِنْ بَقِيَ الْحَدُّ مُتَنَاوِلًا لِلظَّنِّ وَالشَّكِّ وَالْوَهْمِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا صِفَاتٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا، فَبِقَوْلِهِ: لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، خَرَجَ ذَلِكَ، وَبَقِيَ الْحَدُّ مُسْتَقِلًّا بِصِفَةِ الْعِلْمِ.

ص: 170

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وَالَّذِي فُهِمَ مِنْ كَلَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي أَثْنَاءِ تَقْسِيمِ ذِكْرِهِ: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِمُوجَبٍ.

فَالْحُكْمُ، هُوَ إِسْنَادُ الذِّهْنِ أَمْرًا إِلَى آخَرَ بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَالْجَازِمُ: الْقَاطِعُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الظَّنُّ وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ، وَالْمُطَابِقُ: الْمُوَافِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ: وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: لِمُوجَبٍ، أَيْ: لِمُدْرَكٍ، اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إِلَيْهِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ أَوْ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُمَا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الْمُطَابِقِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُوجِبٍ.

هَذَا مَا اتَّفَقَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِيهِ لِلنَّاسِ غَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

وَأَمَّا أَقْسَامُ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ إِلَى قَدِيمٍ، وَهُوَ مَا لَا أَوَّلَ لَهُ، وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَهُوَ عِلْمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِعَرَضٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ، يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَإِلَى مُحْدَثٍ، وَهُوَ مَالَهُ أَوَّلٌ، وَهُوَ عِلْمُ مَنْ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى تَصَوُّرٍ، وَهُوَ إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْأَحْكَامِ، وَقِيلَ: حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ.

وَإِلَى تَصْدِيقٍ، وَهُوَ نِسْبَةٌ حُكْمِيَّةٌ بَيْنَ الْحَقَائِقِ بِالْإِيجَابِ أَوِ السَّلْبِ، وَقِيلَ: إِسْنَادُ أَمْرٍ إِلَى آخَرَ إِيجَابًا أَوْ سَلْبًا، كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ حَسَنٌ، أَوْ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.

وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، إِمَّا بَدَهِيٌّ غَنِيٌّ عَنِ الْكَسْبِ، كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النَّارِ، وَأَنَّهَا حَارَّةٌ، وَمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَإِمَّا كَسْبِيٌّ، كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى الْمَلَكِ، وَأَنَّهُ مِنْ نُورٍ، وَمَعْنَى الْجِنِّيِّ، وَأَنَّهُ مِنْ نَارٍ.

وَأَمَّا مَدَارِكُ الْعِلْمِ، وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا، فَهِيَ عَلَى تَعَدُّدِهَا، إِمَّا حِسٌّ أَوْ عَقْلٌ أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا.

وَالْحِسُّ: إِمَّا بَاطِنٌ، وَهُوَ الْوِجْدَانُ، كَمَا يَجِدُهُ الْحَيُّ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِ النَّفْسِ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ: السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ، وَاللَّمْسُ.

وَالْعَقْلُ: غَرِيزَةٌ طَبَعِيَّةٌ يُدْرَكُ بِهَا الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ، وَقِيلَ: عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَقِيلَ: جَوْهَرٌ بَسِيطٌ يُدْرِكُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَطَلْتُ الْقَوْلَ فِيهِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» وَهَلْ مَحَلُّهُ الرَّأْسُ أَوِ الْقَلْبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلنَّاسِ، وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ فِي الرَّأْسِ، وَهَلْ يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: نَعَمْ، لِأَنَّ كَمَالَ الشَّيْءِ وَنَقْصَهُ يُعْرَفُ بِكَمَالِ آثَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَنَقْصِهَا، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ قَطْعًا تَفَاوُتَ آثَارِ الْعُقُولِ فِي الْآرَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْعُقُولِ نَفْسِهَا، وَأَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَقَلُّ عَقْلًا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَكْمَلُ عَقْلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَحَكَوْا عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إِلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتِ الْعُقُولُ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ السَّفْسَطَةُ، إِذْ كَانَ يَتَّسِعُ لِبَعْضِ النَّاسِ إِذَا أُلْزِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، أَوِ اسْتِحَالَةِ

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، أَنْ يَقُولَ: أَنْتُمْ تُدْرِكُونَ ذَلِكَ وَأَنَا لَا أُدْرِكُهُ، وَلَمَّا رَأَيْنَا الْحُجَّةَ تَقُومُ مُطْلَقًا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى هَذِهِ الْقَضَايَا، عَلِمْنَا اسْتِوَاءَ النَّاسِ فِي الْعُقُولِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُجَّةَ قَوِيَّةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ مَوْرِدُهُ وَاحِدًا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، أَنَّ الْعَقْلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طَبْعِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْعُقَلَاءِ، وَكَسْبِيٌّ تَجْرِيبِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ.

وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ الْعَقْلَ الطَّبِيعِيَّ يَتَنَاهَى إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَالتَّجْرِيبِيَّ لَا يَتَنَاهَى إِلَّا بِالْمَوْتِ.

ثُمَّ الْعَقْلُ، تَارَةً يُصَدِّقُ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ قَضِيَّتِهِ، كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ وَالضَّرُورِيَّاتُ، وَتَارَةً يَحْتَاجُ فِي التَّصْدِيقِ إِلَى وَاسِطَةِ النَّظَرِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْوَاسِطَةِ، فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، وَهِيَ النَّظَرِيَّاتُ، وَيَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَصَدَّقَ بِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَهُ مُشَاهَدٌ، وَصَدَّقَ بِأَنَّ الْمُؤَلَّفَ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا، إِذِ

ص: 173

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الْمُحْدَثُ مَا لَهُ أَوَّلٌ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنْ ضَرُورَتِهِ التَّأْلِيفُ، وَقَبْلَ تَأْلِيفِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْمُؤَلَّفَ لَهُ أَوَّلٌ، فَيَكُونُ مُحْدَثًا.

وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، كَالْمُتَوَاتِرَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ حِسِّ السَّمْعِ وَالْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنَّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ عَادَةً، وَكَالتَّجْرِيبِيَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ لَا يَكُونُ مُطَّرِدًا وَلَا أَكْثَرِيًّا، وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الْقَضَايَا وَأَنْوَاعِهَا مَوْضِعُهُ كُتُبُ الْمَنْطِقِ.

وَأَمَّا الظَّنُّ، فَهُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُوَ الْحُكْمُ الرَّاجِحُ غَيْرُ الْجَازِمِ، وَسَنُدْرِجُهُ فِي تَقْسِيمٍ حَاصِرٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ، بَلْ وَبَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ بِهِ، بَلْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ.

وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ، فَقِيلَ: هِيَ الْعِلْمُ، لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ تَعْرِيفِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَدْعِي سَابِقَةَ جَهْلٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِئِ جل جلاله، فَلَا يُقَالُ: عَرَفَ اللَّهُ كَذَا، فَهُوَ عَارِفٌ، بِخِلَافِ عَلِمَ فَهُوَ عَالِمٌ، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: غَيْرُ ذَلِكَ.

تَنْبِيهٌ: حُكْمُ الْعَقْلِ بِأَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، إِمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ، وَالْجَازِمُ إِمَّا غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَهُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، أَوْ مُطَابِقٌ، وَهُوَ إِمَّا لِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ، كَاعْتِقَادِ الْعَوَامِّ،

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أَوْ لِمُوجِبٍ، وَهُوَ إِمَّا عَقْلٌ وَحْدَهُ أَوْ حِسٌّ أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، فَالْعَقْلِيُّ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْكَسْبِ، فَهُوَ الْبَدِيهِيُّ، وَإِلَّا فَهُوَ النَّظَرِيُّ.

وَالْحِسِّيُّ وَحْدَهُ: هُوَ الْمَحْسُوسَاتُ الْخَمْسُ، وَالْوِجْدَانِيَّاتُ مِنْهَا كَمَا سَبَقَ، أَوْ مُلْحَقَةٌ بِهَا لِاشْتِبَاهِهِمَا، إِذْ يُقَالُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَحْسَسْتُ بِكَذَا، وَأَنَا أُحِسُّ بِكَذَا.

وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ: هُوَ الْقَضَايَا الْمُتَوَاتِرَاتُ وَالتَّجْرِيبِيَّاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ.

وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ الْجَازِمِ، فَإِنِ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَيْ: تَرَدَّدَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَهُوَ شَكٌّ، وَإِلَّا، فَالرَّاجِحُ ظَنٌّ، وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ ذِكْرُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ الْحُكْمُ الْجَازِمُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ.

فَإِذَا قِيلَ لِلْفَقِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مَثَلًا: هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ، كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا بَسِيطًا. وَلَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، كَانَ جَهْلًا مُرَكَّبًا، لِأَنَّهُ تَرَكَّبَ مِنْ عَدَمِ الْفُتْيَا بِالْحُكْمِ الصَّحِيحِ، وَمِنَ الْفُتْيَا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 175