الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ
الظَّاهِرُ:
حَقِيقَةً، هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُتَبَادِرُ، وَاسْتِعْمَالًا، اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ، هُوَ فِي أَحَدِهَا أَظْهَرُ، أَوْ مَا بَادَرَ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مَعْنًى مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِدَلِيلٍ يَصِيرُ بِهِ الْمَرْجُوحُ رَاجِحًا.
ــ
قَوْلُهُ: «وَالظَّاهِرُ حَقِيقَةً» أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هُوَ الشَّاخِصُ الْمُرْتَفِعُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِأَشْرَافِ الْأَرْضِ: ظَوَاهِرُ. وَالظَّاهِرُ خِلَافُ الْبَاطِنِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الْحَدِيدِ: 3] ، وَكَمَا أَنَّ الْمُرْتَفِعَ مِنَ الْأَشْخَاصِ هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي تُبَادِرُ إِلَيْهِ الْأَبْصَارُ، فَكَذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ، هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي تُبَادِرُ إِلَيْهِ الْبَصَائِرُ وَالْأَفْهَامُ.
أَمَّا إِطْلَاقُ الظَّاهِرِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ أُمُورًا، هُوَ فِي أَحَدِهَا أَرْجَحُ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَا حَقِيقَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَاسْتِعْمَالًا» ، أَيْ: وَالظَّاهِرُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ «اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ هُوَ فِي أَحَدِهَا أَظْهَرُ» وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: هُوَ فِي أَحَدِهَا أَرْجَحُ دَلَالَةٍ، لِئَلَّا يَصِيرَ تَعْرِيفًا لِلظَّاهِرِ بِنَفْسِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ، بِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ.
فَقَوْلُنَا: هُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: احْتِرَازٌ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ النَّصُّ كَمَا سَبَقَ.
وَقَوْلُنَا: فَأَكْثَرَ. لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ وَمَعَانِيَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: هُوَ فِي أَحَدِهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَرْجَحُ، لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ جَمْعٌ لَا تَثْنِيَةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: مَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ.
قَوْلُهُ: «أَوْ مَا بَادَرَ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مَعْنًى، مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ» .
هَذَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ، أَيِ: الظَّاهِرُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُحْتَمَلُ، إِلَى آخِرِهِ، أَوِ اللَّفْظُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مَعْنًى، مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ، بِأَيِّهِمَا شِئْتَ عَرِّفْهُ، لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
فَقَوْلُنَا: «مَا بَادَرَ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ» احْتِرَازٌ مِمَّا لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مَعْنًى، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُجْمَلُ، كَالْقُرْءِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ حَيْضٌ وَلَا طُهْرٌ.
وَقَوْلُنَا: عِنْدَ إِطْلَاقِهِ: احْتِرَازٌ مِمَّا كَانَتْ مُبَادَرَةُ الْمَعْنَى مِنْهُ لَا عِنْدَ إِطْلَاقِهِ فَقَطْ، بَلْ مَعَ قَرِينَةٍ أَوْ دَلِيلٍ آخَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ، وَإِنَّ سُمِّي ظَاهِرًا بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْمُرَادِ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ، إِذْ لَيْسَ ظَاهِرًا بِذَاتِهِ، بَلْ بِالدَّلِيلِ الْخَارِجِ، وَنَحْنُ كَلَامُنَا فِي الظَّاهِرِ بِذَاتِهِ. فَلَوْ قِيلَ: مَا بَادَرَ مِنْهُ لِذَاتِهِ مَعْنًى مَعَ تَجْوِيزِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ النَّصُّ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ» ، أَيْ: عَنِ الظَّاهِرِ «إِلَّا بِتَأْوِيلٍ» ، أَيْ: حُكْمُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ تَرْكَ الِاحْتِمَالِ الظَّاهِرِ الرَّاجِحِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْخَفِيِّ الْمَرْجُوحِ كَتَرْكِ النَّصِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ، إِلَّا أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي قَدْرٍ مِنَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهَذَا كَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَاجْتَنِبُوهُ، هَذَا الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى بَعْدَ ذَلِكَ:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [الْمَائِدَةِ: 91] ، هُوَ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ، فَيَكُونُ الْخَمْرُ عَلَى هَذَا مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا، فَإِنَّ هَذَا مُرَاغَمَةٌ لِخِطَابِ الشَّرْعِ، إِذِ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِيجَابِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَوَامِرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَصِيغَةُ: هَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: هِيَ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى: انْتَهُوا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي، يَعْنِي الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، أَيِ: اتْرُكُوهُ وَلَا تُؤْذُوهُ. وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا فِي هَذَا بَيْنَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ.
فَالظَّوَاهِرُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي صِفَاتِ الْبَارِئِ جل جلاله، لَنَا أَنْ نَسْكُتَ عَنْهَا، وَلَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، فَإِنْ سَكَتْنَا عَنْهَا قُلْنَا: تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَسَائِرِ أَعْيَانِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَإِنْ تَكَلَّمْنَا فِيهَا، قُلْنَا: هِيَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهَا بِالتَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ يَبْقَى فِي ظَوَاهِرِهَا مَا هِيَ؟ فَالْجَهْمِيَّةُ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ، لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا إِلَّا الظَّاهِرَ الْمُشَاهَدَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، مِنْ يَدٍ، وَقَدَمٍ وَوَجْهٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا إِلَى مَجَازَاتٍ بَعِيدَةٍ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مَعَانٍ، هِيَ حَقَائِقُ فِيهَا، ثَابِتَةٌ لِلَّهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سبحانه وتعالى، مُخَالِفَةٌ لِلْمَعَانِي الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، قُلْنَا: وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا تَعَارَضَ الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ، فَالْمَجَازُ أَوْلَى، قُلْنَا: هَذَا تَرْجِيحٌ ظَنِّيٌّ، أَيْ: إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّيَاتِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً، فَلِمَ يَغْلُونَ فِي الدِّينِ، وَيَكْفُرُونَ بِهَا، أَوْ يَفْسُقُونَ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى، بَلِ الِاشْتِرَاكُ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ الْمُطْلَقِ، أَوْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ الْمُقْتَرِنِ بِقَرِينَةٍ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَنَحْنُ قَدْ دَلَّتْنَا قَرِينَةُ إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى عَدَمِ التَّأْوِيلِ، وَكَثْرَةُ الظَّوَاهِرِ وَنُصُوصِيَّةُ بَعْضِهَا فِي الْمَقْصُودِ عَلَى أَنَّهَا مَقُولَةٌ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى وَخَلْقِهِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضْنَا لِلْكَلَامِ فِي هَذَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ إِلَّا بِهِ، هُوَ «صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِدَلِيلٍ يَصِيرُ بِهِ الْمَرْجُوحُ رَاجِحًا» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الشَّرْعِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ قَدْ يَكُونُ دَلِيلُهُ قَاطِعًا لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَيُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ قَطْعًا، كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ يَكُونُ دَلِيلُهُ غَيْرَ قَاطِعٍ، فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ قَطْعًا، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْأَرْجَحَ فَالْأَرْجَحَ، وَذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّعِيفَ قَدْ يَقْوَى بِغَيْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ أَقْوَى مِمَّا كَانَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَقْوَى مِنْهُ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ:
لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ
…
فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيَّا
وَهَذَا أَمْرٌ مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ، فَكَذَلِكَ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ، قَدْ يَكُونُ أَحَدُ مَدْلُولَيِ اللَّفْظِ أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَدْلُولَ الْمَرْجُوحَ قَدْ يُوَافِقُهُ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ صَارَا جَمِيعًا مُسَاوِيَيْنِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْمُرَجَّحِ أَوِ الرَّاجِحَيْنِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ وَالْعُدُولُ إِلَيْهِمَا.
وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَالْمُقَابِلِ أَيْضًا، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ الْمُخَالِطُ، إِمَّا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا، لَكِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِرِ، فَلَمَّا نَظَرْنَا إِلَى قَوْلِهِ عليه السلام: إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، صَارَ هَذَا الْحَدِيثُ مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الضَّعِيفِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، حَتَّى تَرَجَّحَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَدَّمْنَاهُمَا، وَقُلْنَا: لَا شُفْعَةَ إِلَّا لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ. وَحَمَلْنَا عَلَيْهِ الْجَارَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ.
ثُمَّ قَدْ يَبْعُدُ الِاحْتِمَالُ، فَيَحْتَاجُ فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ، وَقَدْ يَقْرُبُ، فَكَيْفِيَّةُ أَدْنَى دَلِيلٍ، وَقَدْ يَتَوَسَّطُ، فَكَيْفِيَّةُ مِثْلِهِ. وَالدَّلِيلُ قَرِينَةٌ، أَوْ ظَاهِرٌ آخَرُ، أَوْ قِيَاسٌ.
ــ
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ الْمُقَابِلَ لِلرَّاجِحِ الظَّاهِرِ، قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْإِرَادَةِ، وَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَعِيدِ عَنْهَا وَالْقَرِيبِ مِنْهَا، فَالِاحْتِمَالُ الْبَعِيدُ يَحْتَاجُ فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ، لِتَجْبُرَ قُوَّةُ الدَّلِيلِ ضَعْفَ الِاحْتِمَالِ، فَيَقْوَيَانِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالِاحْتِمَالُ الْقَرِيبُ يَكْفِيهِ فِي ذَلِكَ أَدْنَى دَلِيلٍ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ يَكْفِيهِ دُونَ مَا يَكْفِي الِاحْتِمَالَ الْبَعِيدَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي إِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الْقَرِيبِ تَرَجَّحَا جَمِيعًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَإِلَّا، فَأَدْنَى دَلِيلٍ قَدْ لَا يَكُونُ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْقَرِيبِ مُؤَثِّرًا فِي اسْتِيلَائِهِمَا عَلَى الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، وَالِاحْتِمَالُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ قُرْبًا وَبُعْدًا يَكْفِيهِ دَلِيلٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ قُوَّةً وَضَعْفًا.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْغَرَضُ مِنْ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا انْضَمَّ إِلَى احْتِمَالِ اللَّفْظِ الْمُؤَوَّلِ اعْتَضَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَاسْتَوْلَيَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَقُدِّمَا عَلَيْهِ، فَمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كَانَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ مِنْ ضَعْفِ جَبْرٍ بِاعْتِبَارِ قُوَّةٍ فِي الدَّلِيلِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ سُومِحَ بِقَدْرِهِ فِي الدَّلِيلِ، وَالْمُعْتَمَدُ قُبَالَةَ الْمُعْتَدِلِ فَهُمَا يُحَصِّلَانِ الْغَرَضَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَالْمِيزَانِ، فَلَوْ فَرَضْنَا مِيزَانًا فِي إِحْدَى كِفَّتَيْهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ، وَفِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ، احْتَجْنَا لِتَعْدِيلِهِمَا إِلَى سَبْعَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ مَعَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكِفَّةِ الْمَرْجُوحَةِ سَبْعَةُ أَرْطَالٍ، احْتَجْنَا فِي تَعْدِيلِهِمَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ مَعَ الدَّلِيلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكِفَّةِ الْمَرْجُوحَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ أَوْ سِتَّةُ أَرْطَالٍ احْتَجْنَا فِي التَّعْدِيلِ إِلَى خَمْسَةٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَرْطَالٍ، فَالتَّفَاوُتُ هَاهُنَا مُتَوَسِّطٌ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاحْتِمَالِ الْمُتَوَسِّطِ مَعَ الدَّلِيلِ الْمُتَوَسِّطِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا أَوْ بَعْضِهِ أَمْثِلَةٌ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالدَّلِيلُ قَرِينَةٌ، أَوْ ظَاهِرٌ آخَرُ، أَوْ قِيَاسٌ» أَيْ: دَلِيلُ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ عَلَى الظَّاهِرِ، قَدْ تَكُونُ قَرِينَتُهُ مُتَّصِلَةً بِالظَّاهِرِ، أَوْ مُنْفَصِلَةً، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا آخَرَ، أَوْ نَصًّا يُوَافِقُ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ، وَقَدْ يَكُونُ قِيَاسًا، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَدِلَّةٌ تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، إِذْ مَقْصُودُهُ حَاصِلٌ بِهَا.
فَالْقَرِينَةُ الْمُتَّصِلَةُ، كَالْمُنَاظَرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَحَنْبَلٍ: كَلَّمْتُ الشَّافِعِيَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْوَاهِبَ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي قَيْئِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - وَكَانَ يَرَى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ -: لَيْسَ بِمُجْرِمٍ عَلَى الْكَلْبِ أَنْ يَعُودَ فِي قَيْئِهِ قَالَ أَحْمَدُ: فَقُلْتُ لَهُ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، فَسَكَتَ، يَعْنِي الشَّافِعِيَّ.
قُلْتُ: فَالشَّافِعِيُّ تَمَسَّكَ بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلْبَ لَمَّا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ فِي قَيْئِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا رَجَعَ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ التَّشْبِيهِ اسْتِوَاءُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ احْتِمَالًا قَوِيًّا جِدًّا، فَضَعُفَ حِينَئِذٍ جَانِبُ أَحْمَدَ فِي الِاسْتِدْلَالِ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَقَوَّاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ وَهِيَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ، وَجُعِلَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ دَلِيلُ الِاهْتِمَامِ بِهِ، فَأَفَادَ ذَلِكَ لُغَةً وَعُرْفًا، أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مَثَلُ سَوْءٍ، وَقَدْ نَفَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَمَا نَفَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ يَحْرُمُ إِثْبَاتُهُ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَحْرُمُ إِثْبَاتُهُ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَمِثَالُ الْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ: مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ بِمُشْرِكٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَمَّنَهُ، فَأَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُ، وَادَّعَى أَسْرَهُ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ظَاهِرُ الْحَالِ صِدْقُهُ، فَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ أَظْهَرَ قُوَّةً وَبَطْشًا وَشَهَامَةً مِنَ الْمُسْلِمِ، جُعِلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ذَلِكَ قَرِينَةً فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْمُسْلِمِ لِإِسْلَامِهِ وَعَدَالَتِهِ رَاجِحٌ، وَقَوْلَ الْكَافِرِ مَرْجُوحٌ، لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الْمُنْفَصِلَةَ عَضَّدَتْهُ، حَتَّى صَارَ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ الْمُسْلِمِ الرَّاجِحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِثَالُ الظَّاهِرِ: أَنَّ قَوْلَهُ سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ جِلْدِهَا، دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْجِلْدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْعُمُومِ احْتِمَالًا مُتَرَدِّدًا، لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِضَافَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَيْتَةِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْأَكْلِ، وَالْجِلْدُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَيَقْتَضِي عَدَمَ تَنَاوُلِ الْجِلْدِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ قَوِيٌّ، مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، يَقْتَضِي تَنَاوُلَ الْجِلْدِ، فِي نَظَرِنَا فِي قَوْلِهِ عليه السلام: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ فَهُوَ عُمُومٌ وَظَاهِرُهُ، يَتَنَاوَلُ إِهَابَ الْمَيْتَةِ، فَكَانَ هَذَا الظَّاهِرُ مُقَوِّيًا لِاحْتِمَالِ عَدَمِ إِرَادَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّحْرِيمِ.
وَمِثَالُ النَّصِّ: قَوْلُهُ عليه السلام فِي شَاةِ مَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ: أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ، فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا، فَهَذَا نَصٌّ فِي طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ.
وَمِثَالُ الْقِيَاسِ: أَنَّ تَرْكَهُ سبحانه وتعالى ذِكْرَ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ، إِذْ لَوْ وَجَبَ، لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ التَّحْرِيرَ وَالصِّيَامَ. هَذَا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مَسْكُوتًا عَنْهُ، يَسْتَخْرِجُهُ الْمُجْتَهِدُونَ، ثُمَّ رَأَيْنَا إِثْبَاتَ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِالْقِيَاسِ عَلَى إِثْبَاتِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالصِّيَامِ وَالْيَمِينِ مُتَّجِهًا، لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحُكْمُ الْأَمْثَالِ وَاحِدٌ، فَثُبُوتُ الْإِطْعَامِ فِي تِلْكَ الْكَفَّارَاتِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا فِي بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَا شَكَّ.
وَكُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ وَعَاضِدِهِ. وَقَدْ يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَ مَجْمُوعُ قَرَائِنِ الظَّاهِرِ، دُونَ آحَادِهَا، كَتَأْوِيلِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُفَارَقَةَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ حَيْثُ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ:«أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» ، عَلَى تَرْكِ نِكَاحِهِنَّ ابْتِدَاءً، وَعَضَّدُوهُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ عَدَمُ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضِهِنَّ بِالْإِمْسَاكِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ نَحْوِهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَكُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ وَعَاضِدِهِ» أَيْ: وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ تَأْوِيلَ ظَاهِرٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ، فَعَلَيْهِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ مَعَ الظَّاهِرِ.
الثَّانِي: بَيَانُ عَاضِدِهِ، أَيْ: عَاضِدِ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، أَيْ: لِدَلِيلِ الَّذِي يُعَضِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ، حَتَّى يُقَدَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ، لَمْ يَكُنْ بَيَانُ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ وَلَمْ نَتَحَقَّقِ التَّأْوِيلَ، إِذْ شَرْطُهُ الدَّلِيلُ، فَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ مُجَرَّدًا، وَهُوَ لَا يُقَاوِمُ الظَّاهِرَ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَدْفَعُ الِاحْتِمَالَ مَجْمُوعُ قَرَائِنِ الظَّاهِرِ دُونَ آحَادِهَا» ، يَعْنِي أَنَّ الظَّاهِرَ وَالِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ إِذَا تَقَابَلَا، فَقَدْ يَحْتَفُّ بِالظَّاهِرِ قَرَائِنُ تَدْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ وَتُبْطِلُهُ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرَائِنِ دَافِعَةً لِلِاحْتِمَالِ وَحْدَهَا، وَقَدْ لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْقَرَائِنِ وَظُهُورِهَا، وَمُقَاوَمَتِهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَقُصُورِهَا عَنْهُ، فَقَدْ تُقَاوِمُهُ قَرِينَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ قَرِينَتَانِ، فَتَدْفَعُهُ، وَقَدْ لَا تُقَاوِمُهُ إِلَّا جَمِيعُهَا، فَلَا يَنْدَفِعُ بِدُونِهَا.
قَوْلُهُ: «كَتَأْوِيلِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُفَارَقَةَ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مِثَالٌ لِدَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ بِالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِالظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ رضي الله عنه أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي لَفْظٍ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءُ قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ، وَعَلَيْهِ اتَّجَهَ النِّزَاعُ:
فَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ شَيْئًا، وَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ مُتَعَاقِبَاتٍ، اخْتَارَ مِنَ الْأَوَّلِ أَرْبَعًا، وَتَرَكَ الْبَاقِيَ.
وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا مُطْلَقًا.
وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، إِذْ ظَاهِرُ الْإِمْسَاكِ فِيهِ اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ أَرْبَعَةٍ، وَظَاهِرُ الْمُفَارَقَةِ تَسْرِيحُ الْبَاقِيَاتِ، احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِهِ، فَحَمَلُوا الْإِمْسَاكَ عَلَى ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا بِأَنْ تَبْتَدِئَ نِكَاحَهُنَّ، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ بِأَنْ لَا تَبْتَدِئَ الْعَقْدَ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ ثَبَتَ لَهُمْ هَذَا التَّأْوِيلُ، لَوَافَقَ الْحَدِيثَ مَذْهَبُهُمْ، إِذْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنَّ بِإِسْلَامِ غَيْلَانَ يَبْطُلُ نِكَاحُ زَوْجَاتِهِ، فَإِمْسَاكُهُ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ يَكُونُ بِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، وَفِرَاقُهُ لِلْبَوَاقِي يَكُونُ بِتَرْكِ نِكَاحِهِنَّ، وَعَضَّدُوا هَذَا التَّأْوِيلَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ لَيْسَ بِأَوْلَى بِالْإِمْسَاكِ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ هُوَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ، أَوْ بِنَحْوِ هَذَا الْقِيَاسِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ السَّابِقَ إِلَى فَهْمِنَا وَفَهْمِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنَ الْمُفَارَقَةِ التَّسْرِيحُ، لَا تَرْكُ النِّكَاحِ، وَبِأَنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ مُسْتَقِلًّا بِهِ، وَابْتِدَاءُ النِّكَاحِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَى الْمَرْأَةِ، وَبِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَصُّ بِهِنَّ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: انْكِحْ أَرْبَعًا مِمَّنْ شِئْتَ، فَهَذِهِ قَرَائِنُ تَدْفَعُ تَأْوِيلَهُمْ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، أَيْ: تَأْوِيلُ الْحَنَفِيَّةِ الْمَذْكُورُ بِوُجُوهٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ:
أَحَدُهَا: أَنَّ السَّابِقَ إِلَى فَهْمِنَا وَفَهْمِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِنَ الْإِمْسَاكِ الِاسْتِدَامَةُ، لَا ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ، وَمِنَ الْمُفَارَقَةِ التَّسْرِيحُ، لَا تَرْكُ النِّكَاحِ، فَيَكُونُ هَذَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ [هَذَا] السَّابِقُ إِلَى فَهْمِنَا مِنَ الْحَدِيثِ، ذَلِكَ الْوُجْدَانُ مِنَّا، وَالتَّأْوِيلُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِيمَا قُلْنَاهُ، لَمَا احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّابِقَ إِلَى فَهْمِنَا مِنَ الْحَدِيثِ ذَلِكَ الْوُجْدَانُ، ثَبَتَ أَنَّهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَعَدَمُ التَّغْيِيرِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَوْضُوعَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَّضَ ذَلِكَ - يَعْنِي الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ - إِلَى غَيْلَانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ، حَيْثُ قَالَ: أَمْسِكْ وَفَارِقْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ ابْتِدَاءً لِنِكَاحٍ، لَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَى الزَّوْجَةِ، وَمِنَ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ إِنْ رَضِينَ، وَيُبَيِّنَ لَهُ شَرَائِطَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، كَمَا قُرِّرَ فِي مَوْضِعِهِ، خُصُوصًا لِمَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِجَاهِلِيَّةٍ، دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَحْوَجُ إِلَى الْبَيَانِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِمُ: انْكِحْ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ، وَاتْرُكْ نِكَاحَ سَائِرِهِنَّ، أَيْ: وَلَا تَنْكِحْ سَائِرَهُنَّ، وَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَالنَّهْيُ دَائِرٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْحَظْرِ، وَابْتِدَاءُ النِّكَاحِ لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسْوَةِ اللَّاتِي أَسْلَمَ عَلَيْهِنَّ وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا، بَلْ هُنَّ كَغَيْرِهِنَّ فِيهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: انْكِحْ أَرْبَعًا مِمَّنْ شِئْتَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهُنَّ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، فَكَانَ يَكُونُ إِبْهَامًا فِي الدِّينِ، وَتَلْبِيسًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بُعِثَ لِلْإِيضَاحِ وَالتَّبْيِينِ، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي بَعْدَ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ، لَا اخْتِصَاصَ لَهُنَّ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِهِنَّ، وَهُوَ مُوهِمٌ ذُلَّهُ، خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ يَرَى مَفْهُومَ اللَّقَبِ، فَيَكُونُ اخْتِصَاصُهُنَّ بِالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِهِنَّ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، لِانْعِقَادِهِ عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ سِوَى الْأَرْبَعِ اللَّاتِي أُمْسِكْنَ بِالنِّكَاحِ.
فَهَذِهِ قَرَائِنُ احْتَفَّتْ بِالْحَدِيثِ تَدْفَعُ تَأْوِيلَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَذْكُورَ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا فَهِمَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ: الِاسْتِدَامَةُ، وَالْمُفَارَقَةَ: التَّسْرِيحُ.
وَمَا يَقُولُونَهُ: مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ النِّسْوَةِ أَوْلَى بِالْإِمْسَاكِ مِنْ بَعْضٍ مَرْدُودٌ، بِأَنَّ الْأَوْلَى بِهِ مِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَهُ الزَّوْجُ، وَاخْتِيَارُهُ هُوَ الْمُرَجَّحُ، وَمَا فَصَلُوهُ مِنْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ مَعًا بَطَلَ نِكَاحُهُنَّ، وَإِنْ كَانَ عَقَدَ مُتَعَاقِبًا، أَمْسَكَ الْأُولَى فَالْأُولَى مِنْهُنَّ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ عليه السلام لِفَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ: أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِدَامَةِ، مَعَ الْمَعِيَّةِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِمَا مُتَعَاقِبَتَانِ، فَقَدْ خَيَّرَهُ فِي إِمْسَاكِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْأُولَى. فَالنُّصُوصُ مُخَالِفَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِكُلِّ حَالٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَثَارَ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ هُوَ الْحِفْظُ لِلشَّيْءِ، لِكَوْنِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ آلَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْإِمْسَاكُ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْإِمْسَاكِ وَأَمْسَكَ عَنْ آلَتِهِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا، إِذِ الْإِمْسَاكُ - الَّذِي هُوَ هَاهُنَا حِفْظُ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ - يَصِحُّ حُصُولُهُ بِالِاسْتِدَامَةِ، وَالِاسْتِبْقَاءِ، وَالِاسْتِصْحَابِ كَمَا قُلْنَاهُ، وَيَصِحُّ حُصُولُهُ بِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ كَمَا قَالُوهُ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ بُطْلَانِ النِّكَاحِ، ثُمَّ تَصْحِيحِهِ بِابْتِدَاءِ عَقْدِهِ عَلَيْهِنَّ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ كَاللَّفْظِ الْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ، بِدُونِ إِضْمَارٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ كَاللَّفْظِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِإِضْمَارٍ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، فَكَانَ مَا أَشْبَهَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى، وَهُوَ تَأْوِيلُنَا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْإِنْصَافُ أَنَّ ذَلِكَ، يَعْنِي تَأْوِيلَ الظَّوَاهِرِ، يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَّا فَلَسْنَا نَقْطَعُ بِبُطْلَانِ تَأْوِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَذْلِيلُ الطَّرِيقِ لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَكَتَأْوِيلِهِمْ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» عَلَى الْأَمَةِ، ثُمَّ صَدَّهُمْ:«فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» ، إِذْ مَهْرُ الْأَمَةِ لِسَيِّدِهَا، لَا لَهَا فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ، إِذْ هَذَا عَامٌّ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَكَتَأْوِيلِهِمْ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ عَلَى الْأَمَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَكَتَأْوِيلِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَهُ عليه السلام: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ أَيْ: أَيْضًا مِنْ أَمْثِلَةِ دَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ بِقَرَائِنِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى بَعْضِ مَنَافِعِهَا، فَاسْتَقَلَّتْ بِهِ، كَإِجَارَةِ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ صَرِيحًا فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ، احْتَاجُوا إِلَى دَفْعَةٍ عَنْهُمْ بِالتَّأْوِيلِ، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْأَمَةِ، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي نَفْسِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَيْسَتِ الْحُرَّةُ مُرَادَّةً مِنَ الْحَدِيثِ «ثُمَّ صَدَّهُمْ» عَنْ إِطْلَاقِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ عليه السلام فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ: فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنَّهُ أَضَافَ الْمَهْرَ إِلَيْهَا بِلَامِ التَّمْلِيكِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مَلَكَهَا، وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ مَهْرَهَا، بَلْ هُوَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهَا، فَخَصَّصُوا التَّأْوِيلَ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، لِأَنَّ فِيهَا شَوْبًا مِنَ الرِّقِّ، فَلَا تَسْتَقِلُّ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهَا، كَالْأَمَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْقِنِّ، وَشَوْبًا مِنَ الْحُرَّةِ، فَيَكُونُ مَهْرُهَا لَهَا كَالْحُرَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: هَذَا التَّأْوِيلُ، «تَعَسُّفٌ» ، وَهُوَ سُلُوكٌ غَيْرُ الطَّرِيقِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ النَّصَّ «عَامٌّ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ هَذَا التَّأْوِيلُ الضَّعِيفُ» وَبَيَانُ قُوَّةِ عُمُومِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَدَّرَهُ بِلَفْظَةِ: أَيُّ، وَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَكَّدَهَا بِمَا فِي قَوْلِهِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ» وَهِيَ مِنْ مُؤَكِّدَاتِ الْعُمُومِ وَغَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ رَتَّبَ بُطْلَانَ النِّكَاحِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْمُفِيدِ لِلْعُمُومِ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ، وَقَرَائِحُ ذَوِي الْفَصَاحَةِ لَا تَسْمَحُ فِي الْعُمُومِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَجْزَلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ.
وَأَمَّا ضَعْفُ تَأْوِيلِهِمْ، فَإِنَّهُ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْعُمُومَ بِالْأُمَّةِ، فَقَصَرُوهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَصَرُوا الْأَمَةَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعُمُومِ الْمُؤَكَّدِ، وَإِطْلَاقُ مِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ، وَإِرَادَةُ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ يُعَدُّ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ إِلْغَازًا فِي الْكَلَامِ، وَهَذْرًا مِنَ الْقَوْلِ، بَلْ لَوْ قَالَ الْمُتَكَلِّمُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ: لَمْ أُرِدِ الْمُكَاتَبَةَ، وَلَمْ تَخْطُرْ بِبَالِي، لَمْ يُسْتَنْكَرْ ذَلِكَ مِنْهُ لِقِلَّتِهَا وَنُدُورِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَدْلُولِ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَهُوَ جَمِيعُ النِّسَاءِ، فَمَا يَبْلُغُ مِنَ الْقِلَّةِ وَالنُّدْرَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إِلَى حَيْثُ لَا يَخْطُرُ عِنْدَ التَّلَفُّظِ بِالْكَلِمِ بِبَالِ الْمُتَكَلِّمِ، كَيْفَ يَجُوزُ قَصْرُ الْعُمُومِ عَلَيْهِ، وَإِلْغَاءُ أَضْعَافِ أَضْعَافِهِ مِنْ مَدْلُولِهِ؟
وَقَدْ قِيلَ فِي حَمْلِ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ: إِنَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِوُجُوبِهِمَا بِسَبَبٍ عَارِضٍ، فَهُوَ كَالْمُكَاتَبَةِ فِي حَدِيثِ النِّكَاحِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِثْلَهَا فِي النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ. فَقَصْرُ مَضْمُونِ الْحَدِيثِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا، أَنَّ إِخْرَاجَ النَّادِرِ قَرِيبٌ، وَالْقَصْرَ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ، وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ، بُعْدًا وَقُرْبًا.
وَالْمُجْمَلُ يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
قَوْلُهُ: «وَقَدْ قِيلَ فِي حَمْلِ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوا قَوْلَهُ عليه السلام: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ لَهُمَا، دُونَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ زَمَنَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصِيَامِهِ فَرْضًا، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي الْبُعْدِ وَالنُّدْرَةِ، كَتَأْوِيلِ حَدِيثِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:«لَا صِيَامَ» صِيغَةُ عُمُومٍ، فَيَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالتَّطَوُّعَ، فَإِذَا خَصَّ مِنْهَا التَّطَوُّعَ بِدَلِيلٍ جَازَ، وَكَانَ قَرِيبًا، لِقِلَّةِ التَّطَوُّعِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَصْنَافِ الصِّيَامِ. أَمَّا إِذَا قَصَرَ هَذَا الْعُمُومُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، كَانَ بَعِيدًا نَادِرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْلَ يَخْرُجُ مِنَ الْعُمُومِ بِاتِّفَاقٍ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الصِّيَامِ رُتْبَةً عِنْدَ الْخَصْمِ مُتَعَيِّنٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَضَاءُ، وَالنَّذْرُ، وَصَوْمُ الْكَفَّارَاتِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، فَهُوَ لِذَلِكَ نَادِرٌ، كَالْمُكَاتَبَةِ فِي حَدِيثِ النِّكَاحِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ عَادَاتِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النَّاسِ - الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُمْ يَهْتَمُّونَ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَهَمُّ، فَيُضَمِّنُونَهُ كَلَامَهُمْ، وَيُرِيدُونَهُ مِنْهُ، كَرَمَضَانَ مِنْ عُمُومِ الصِّيَامِ، وَالْحُرَّةِ مِنْ عُمُومِ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ» . أَمَّا إِرَادَةُ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ، وَقَصْرُ الْكَلَامِ عَلَى إِرَادَتِهَا دُونَ الْأُمُورِ الْأَصْلِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا تَأْبَاهُ الْأَفْهَامُ، وَلَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْكَلَامِ.
هَذَا تَقْرِيرُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا: وَقَدْ قِيلَ.
قَوْلُهُ: «وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِثْلَهَا فِي النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ» .
أَيِ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالنَّذْرَ، اللَّذَيْنِ قَصَرَ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ لَيْسَا فِي النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ، كَالْمُكَاتَبَةِ الَّتِي قَصَرَ عَلَيْهَا حَدِيثُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّ الْعُمُومَ هُنَاكَ أَقْوَى مِنَ الْعُمُومِ هُنَا، وَالْمُكَاتَبَةَ هُنَاكَ أَقَلُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُمُومِ مِنَ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ هُنَا.
أَمَّا أَنَّ الْعُمُومَ هُنَاكَ أَقْوَى، فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِي قُوَّتِهِ وَتَأَكُّدِهِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ.
وَأَمَّا صِيغَةُ «لَا صِيَامَ» وَنَحْوَهَا، فَالْخِلَافُ فِيهَا مَشْهُورٌ مُتَّجِهٌ، لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ نَفْيَ كَمَالِ الصَّوْمِ لَا صِحَّتَهُ، وَبِتَقْدِيرِ نَفْيِ صِحَّتِهِ، فَأَصْنَافُ الصَّوْمِ خَمْسَةٌ، قَدْ قَصَرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهَا: وَهِيَ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ. وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّطَوُّعُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَلَيْسَ نِسْبَةُ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ، كَنِسْبَةِ نَوْعِ الْمُكَاتَبَةِ إِلَى جِنْسِ النِّسَاءِ.
قَوْلُهُ: «فَقَصْرُ مَضْمُونِ الْحَدِيثِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ» .
مَضْمُونُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وُجُوبُ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لِكُلِّ صِيَامٍ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، قَصْرٌ لِمَضْمُونِ الْحَدِيثِ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، أَيْ: حَبْسٌ لَهُ عَنْهُ حَتَّى لَا يَتَنَاوَلَهُ، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ، لِكَوْنِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَسْبَقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الصِّيَامِ فِيهِ، لِأَنَّهُ آكَدُ الصَّوْمِ وَأَعْلَى رُتْبَةً، وَلَا يَبْطُلُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَبُطْلَانِ قَصْرِ حَدِيثِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ.
قَوْلُهُ: «فَحَصَلَ مِنْ هَذَا» ، إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ: فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فِي أَمْثِلَةِ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ إِخْرَاجَ النَّادِرِ مِنَ الْعَامِّ قَرِيبٌ، كَإِخْرَاجِ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ النِّكَاحِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَقَصْرُ الْعُمُومِ عَلَى النَّادِرِ مُمْتَنِعٌ، كَقَصْرِ حَدِيثِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَبَيْنَهُمَا، أَيْ: بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، كَقَصْرِ حَدِيثِ الصِّيَامِ عَلَى النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ دُونَ إِخْرَاجِ النَّادِرِ مِنَ الْعَامِّ فِي الْقُرْبِ، وَدُونَ قَصْرِ حَدِيثِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الْبُعْدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالصُّوَرُ تَتَفَاوَتُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَتَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الْعُمُومِ، وَقَصْرِهِ عَلَيْهَا فِي الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «وَالْمُجْمَلُ يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» .
يَعْنِي أَنَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ، أَنَّ الْكَلَامَ نَصٌّ وَظَاهِرٌ وَمُجْمَلٌ، وَلَمْ نَتَكَلَّمْ إِلَّا عَلَى النَّصِّ وَالظَّاهِرِ، لِقُرْبِ مَبَاحِثِهِمَا مِنْ مَبَاحِثِ مَبَادِئِ اللُّغَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَحْثِ. وَأَخَّرْتُ الْكَلَامَ فِي الْمُجْمَلِ إِلَى مَوْضِعِهِ فِي عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ بَعْدَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ. وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ اسْتَوْعَبَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ إِخْوَتِهِ فِي بَابِ تَقَاسِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ بَابُ اللُّغَاتِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.