الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَقْصُودِ الْوَاضِعِ، وَالْمُتَجَوِّزِ، وَالْمُتَخَاطِبِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ بِجَامِعِ الشُّجَاعَةِ، وَهِيَ صِفَةٌ ظَاهِرَةٌ، لَا كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْأَبْخَرِ لِخَفَائِهَا، أَيْ: لِخَفَاءِ صِفَةِ الْبَخْرِ فِي الْأَسَدِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَعْلَمُهَا فِيهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، بِخِلَافِ الشَّجَاعَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْهَلُهَا إِلَّا الْقَلِيلُ النَّادِرُ.
قَوْلُهُ: «وَيُتَجَوَّزُ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا ذِكْرُ
أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ
، وَالْمَذْكُورُ مِنْهُ هَاهُنَا سِتَّةَ عَشَرَ قِسْمًا، نَحْنُ ذَاكِرُوهَا عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْمُخْتَصَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى:
أَحَدُهَا: التَّجَوُّزُ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 13]، أَيْ: نُعَرِّفُهَا، تَجُوزُ بِالِابْتِلَاءِ عَنِ الْعِرْفَانِ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ سَبَبُهُ، إِذْ مَنِ ابْتَلَى شَيْئًا عَرَّفَهُ.
وَأَصْنَافُ السَّبَبِ أَرْبَعَةٌ: قَابِلِيٌّ، وَصُورِيٌّ، وَفَاعِلِيٌّ، وَغَائِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنْ مُسَبِّبِهِ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ قَابِلِهِ - قَوْلُهُمْ: سَالَ الْوَادِي، وَالْأَصْلُ: سَالَ الْمَاءُ فِي الْوَادِي، لَكِنَّ الْوَادِيَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا قَابِلًا لِسَيَلَانِ الْمَاءِ فِيهِ، صَارَ الْمَاءُ مِنْ حَيْثُ الْقَابِلِيَّةُ كَالْمُسَبِّبِ لَهُ، فَوُضِعَ لَفْظُ الْوَادِي مَوْضِعَهُ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ صُورَتِهِ - قَوْلُهُمْ: هَذِهِ صُورَةُ الْأَمْرِ وَالْحَالِ، أَيْ: حَقِيقَتُهُ، وَمِثْلُهُ فِي «الْمَحْصُولِ» بِتَسْمِيَتِهِمُ الْيَدَ بِالْقُدْرَةِ، كَأَنَّهُ جَعَلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْقُدْرَةَ صُورَةَ الْيَدِ.
وَمِثَالُ الثَّالِثِ: - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ فَاعِلِهِ، حَقِيقَةً أَوْ ظَنًّا - قَوْلُهُمْ فِي الْكِتَابِ الْجَامِعِ لِتَنَوُّعِ عِلْمِهِ: هُوَ شَيْخٌ جَالِسٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ، أَوْ عَلَى الرَّفِّ، لِأَنَّ الشَّيْخَ - أَعْنِي الْمُصَنِّفَ - هُوَ فَاعِلُ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُمْ لِلْمَطَرِ: سَمَاءٌ، لِأَنَّ السَّمَاءَ فَاعِلٌ مَجَازِيٌّ لِلْمَطَرِ، بِدَلِيلِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِمْ: أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ.
وَمِثَالُ الرَّابِعِ: - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَايَتِهِ - تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ خَمْرًا، وَالْعَقْدِ نِكَاحًا، لِأَنَّهُ غَايَتُهُ وَيَئُولُ إِلَيْهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّجَوُّزُ بِالْعِلَّةِ عَنِ الْمَعْلُولِ، كَالتَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ عَنِ الْمُرَادِ، لِأَنَّهَا عِلَّتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النِّسَاءِ: 150]، أَيْ: وَيُفَرِّقُونَ. بِدَلِيلِ أَنَّهُ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا} [النِّسَاءِ: 152]، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يُفَرِّقُوا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ اللَّهَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ مُوجِدُ كُلِّ شَيْءٍ وَعِلَّتُهُ، فَأَطْلَقَ لَفْظَهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: رَأَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ، فَاسْتَدْلَلْتُ بِهِ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، لِظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى مَعْلُولِهَا، وَالْمَفْعُولِ عَلَى فَاعِلِهِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّجَوُّزُ بِاللَّازِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ، كَتَسْمِيَةِ السَّقْفِ جِدَارًا، لِأَنَّ الْجِدَارَ لَازِمٌ لَهُ، وَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ حَيَوَانًا، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَازِمٌ لَهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْأَثَرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، كَتَسْمِيَتِهِمْ مَلَكِ الْمَوْتِ عليه السلام مَوْتًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ أَثَرٌ لَهُ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ ظَبْيَةً:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
لِأَنَّ الْإِقْبَالَ وَالْإِدْبَارَ مِنْ أَفْعَالِهَا، وَهِيَ آثَارٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سُمِّيَ بِاسْمِ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، نَحْوَ: زَيْدٌ صَوْمٌ، وَعَدْلٌ، وَكَرَمٌ، وَفَضْلٌ، وَخَيْرٌ، وَبِرٌّ، وَالطَّرِيقُ جَوْرٌ، أَيْ: مَائِلٌ، فَهُوَ وَصْفٌ لِلطَّرِيقِ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَثَرِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْمَحَلِّ عَنِ الْحَالِ فِيهِ، كَتَسْمِيَةِ الْمَالِ كَيْسًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِي قَوْلِهِمْ: هَاتِ الْكَيْسَ، وَالْمُرَادُ: الْمَالُ الَّذِي فِيهِ، لِأَنَّهُ حَالٌ فِي الْكَيْسِ، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْخَمْرِ كَأْسًا، أَوْ زُجَاجَةً، وَالطَّعَامَ مَائِدَةً أَوْ خِوَانًا، وَالْمَيِّتَ جِنَازَةً، وَالْمَكْتُوبَ وَرَقَةً وَكِتَابًا وَبِطَاقَةً، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالَةٌ فِي الْمَحَالِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ.
قَوْلُهُ: «وَبِالْعَكْسِ فِيهِمْ» ، أَيْ: عَكْسِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَهِيَ خَمْسَةٌ أُخْرَى:
أَوَّلُهَا: - وَهُوَ الْقِسْمُ السَّادِسُ -: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَةِ: 188]، أَيْ: لَا تَأْخُذُوهَا، فَتَجُوزُ بِالْأَكْلِ عَنِ الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَخْذِ، إِذْ إِنْسَانٌ يَأْخُذُ فَيَأْكُلُ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْمَعْلُولِ عَنِ الْعِلَّةِ، كَالتَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْمُرَادِ عَنِ الْإِرَادَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مَرْيَمَ: 35]، أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ، فَالْقَضَاءُ مَعْلُولُ الْإِرَادَةِ، فَتَجَوَّزَ بِهِ عَنْهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ عز وجل:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 42]، أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحْكُمَ.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: التَّجَوُّزُ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ، كَتَسْمِيَةِ الْعِلْمِ حَيَاةً، لِأَنَّهُ مَلْزُومُ الْحَيَاةِ، إِذِ الْحَيَاةُ شَرْطٌ لِلْعِلْمِ، وَالْمَشْرُوطُ مَلْزُومٌ لِلشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ التَّجَوُّزُ بِكُلِّ مَشْرُوطٍ عَنْ شَرْطِهِ، هُوَ تَجَوُّزٌ بِالْمَلْزُومِ عَنْ لَازِمِهِ، وَكَتَسْمِيَةِ الْجِدَارِ سَقْفًا، وَالْحَيَوَانِ إِنْسَانًا لَوْ سُمِّيَ بِهِ.
الْقِسْمُ التَّاسِعُ: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ عَنِ الْأَثَرِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ اللَّهَ، وَمَا أَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ، يُرِيدُ آثَارَهُ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي الْعَالَمِ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ وَغَيْرِهِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
- 511 - هَذِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ، أَيْ: مُرَادُهُ، فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْإِرَادَةِ عَلَى الْمُرَادِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مُؤَثِّرَةٌ.
الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْحَالِ عَنِ الْمَحَلِّ، كَتَسْمِيَةِ الْكَيْسِ مَالًا، وَالْكَأْسِ خَمْرًا، وَالْمَائِدَةِ طَعَامًا، وَالْجِنَازَةِ مَيِّتًا، وَالْوَرَقَةِ مَكْتُوبًا، عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ.
الْقِسْمُ الْحَادِي عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ «بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ» أَيْ: كَانَ بِهِ وَزَالَ عَنْهُ، كَإِطْلَاقِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَتِيقِ، بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بِهِ، فَزَالَ عَنْهُ، وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْخَمْرِ عَصِيرًا، وَالْعَصِيرِ عِنَبًا، بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي عَشَرَ: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ آيِلٍ، أَيْ: يَئُولُ وَيَصِيرُ إِلَيْهِ، كَإِطْلَاقِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يُوسُفَ: 36] ، وَإِنَّمَا كَانَ يَعْصِرُ عِنَبًا، فَيَحْصُلُ مِنْهُ عَصِيرٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعَصِيرُ يَئُولُ إِلَى وَصْفِ الْخَمْرِيَّةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَمْرِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إِطْلَاقُ مَا بِالْقُوَّةِ عَلَى مَا بِالْفِعْلِ، كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ فِي الدَّنِّ مُسْكِرًا، لِأَنَّ فِيهِ قُوَّةَ الْإِسْكَارِ، وَتَسْمِيَةِ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ، أَيْ: قَابِلٌ لِصَيْرُورَتِهِ إِنْسَانًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْقِسْمُ الرَّابِعَ عَشَرَ: عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ إِطْلَاقُ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ، كَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقِيِّ نُطْفَةً، أَوْ مَاءً مَهِينًا، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ.
الْقِسْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّجَوُّزُ بِالزِّيَادَةِ، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشُّورَى: 11]، أَيْ: لَيْسَ مِثْلَهُ، وَالْكَافُ زَائِدَةٌ.
الْقِسْمُ السَّادِسَ عَشَرَ: التَّجَوُّزُ بِالنَّقْصِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [الْبَقَرَةِ: 93] ، أَيْ: حُبَّ الْعِجْلِ، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يُوسُفَ: 32] ، أَيْ: فِي حُبِّهِ أَوْ فِي مُرَاوَدَتِهِ.
هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَثَمَّ وُجُوهٌ أُخَرُ:
مِنْهَا: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يُشَابِهُهُ، كَتَسْمِيَةِ الشُّجَاعِ أَسَدًا، وَالْبَلِيدِ حِمَارًا، لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي وَصْفِ الشَّجَاعَةِ وَالْبَلَادَةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى اسْتِعَارَةً بِاتِّفَاقٍ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْمُسْتَعَارُ لَهُ، نَحْوَ: رَأَيْتُ أَسَدًا أَوْ حِمَارًا، تُرِيدُ رَجُلًا شُجَاعًا أَوْ بَلِيدًا. وَهَلْ تُسَمَّى بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ اسْتِعَارَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ مِنْ قَائِلِهِ.
وَالثَّانِي: نَعَمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُصَحِّحَ لِلتَّجَوُّزِ، مُسْتَعَارٌ لِمَحَلِّ الْمَجَازِ مِنْ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، كَشَجَاعَةِ الْأَسَدِ لِلرَّجُلِ.
وَمِنْهَا: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ ضِدِّهِ، نَحْوَ:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 194] ، حَيْثُ سَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَعُدْوَانًا، وَجُوِّزَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِلْمُشَابَهَةِ، لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ يُشْبِهُهَا فِي صُورَةِ الْفِعْلِ وَفِي كَوْنِهَا تَسُوءُ مَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ السَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ: سَمَّى عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ وَالِاعْتِدَاءِ سَيِّئَةً وَاعْتِدَاءً، لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ مُسَبَّبَةٌ عَنِ السَّيِّئَةِ وَالِاعْتِدَاءِ.
وَمِنْهَا: تَسْمِيَةُ الْجُزْءِ بِاسْمِ الْكُلِّ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَامِّ، وَالْمُرَادُ الْخَاصُّ، نَحْوَ قَوْلِهِ عز وجل:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَقَوْلُنَا: قَامَ الرِّجَالُ، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ، وَرَأَيْتُ زَيْدًا، وَإِنَّمَا رَأَيْتُ بَعْضَهُ.
وَمِنْهَا: عَكْسُ ذَلِكَ: تَسْمِيَةُ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، كَقَوْلِهِمْ لِلزَّنْجِيِّ: أَسْوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْأَسْوَدُ إِنَّمَا هُوَ جُزْؤُهُ، وَهُوَ أَكْثَرُهُ، فَأَطْلَقَ الْأَسْوَدَ عَلَى جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ أَسْنَانُهُ وَأَخْمَصُهُ أَبْيَضَيْنِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمِثَالُ ذَكَرَهُ فِي الْمَحْصُولِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ، وَالْمِثَالُ الْوَاضِحُ قَوْلُهُ عليه السلام: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، فَسَمَّى الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْهُمْ - وَهُوَ الْيَدُ - إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي الِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ كَيَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِنْهَا إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ، كَقَوْلِنَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الضَّرْبِ: ضَارِبٌ، وَهَذَا مَحَلُّ خِلَافٍ.
وَمِنْهَا: الْمَجَازُ بِالْمُجَاوَرَةِ كَتَسْمِيَةِ مَزَادَةِ الْمَاءِ رِوَايَةً.
وَمِنْهَا: الْمَجَازُ الْعُرْفِيُّ كَاسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ فِي الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَانِ قَبْلُ.
وَمِنْهَا: تَسْمِيَةُ الْمُتَعَلَّقِ - بِفَتْحِ اللَّامِ - بِاسْمِ الْمُتَعَلِّقِ - بِكَسْرِهَا - كَتَسْمِيَةِ الْمَعْلُومِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عِلْمًا، وَالْمَقْدُورِ قُدْرَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255]، أَيْ: مَعْلُومِهِ، وَقَوْلِهِمْ: رَأَيْنَا قُدْرَةَ اللَّهِ، أَيْ: مَقْدُورَهُ. وَقَدْ يُتَجَوَّزُ بِلَفْظِ الْمَعْلُومِ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْمَقْدُورِ عَنِ الْقُدْرَةِ، عَكْسَ الْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ بِمَعْلُومِ اللَّهِ وَمَقْدُورِهِ، وَأَرَادَ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، جَازَ وَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ.
وَوُجُوهُ الْمَجَازِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ الْعِلَاقَةِ الرَّابِطَةِ بَيْنَ مَحَلِّ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ، فَكُلُّ مُسَمَّيَيْنِ بَيْنَهُمَا عِلَاقَةُ رَابِطَةٍ جَازَ التَّجَوُّزُ بِاسْمِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ نُقِلَ ذَلِكَ التَّجَوُّزُ الْخَاصُّ عَنِ الْعَرَبِ، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
نَعَمْ، يَتَفَاوَتُ الْمَجَازُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ رَبْطِ الْعِلَاقَةِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَفِي ذَلِكَ. فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمَجَازَ بِالْمُجَاوَرَةِ قَدْ يَكُونُ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا ذُكِرَ فِي الرَّاوِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَلِ، وَالْغَائِطِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَدْ يَكُونُ بِأَكْثَرَ مِنْ دَرَجَةٍ، كَتَسْمِيَتِهِمُ الْغَيْثَ سَمَاءً فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَيْ: إِذَا نَزَلَ الْغَيْثُ، وَفِيهِ مَجَازَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِفْرَادِيٌّ بِأَكْثَرَ مِنْ دَرَجَةٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمَّى الْغَيْثَ سَمَاءً، لِحُصُولِهِ عَنِ الْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّحَابِ الْمُجَاوِرِ لِلسَّمَاءِ.
وَالثَّانِي: إِسْنَادِيٌّ، وَهُوَ وَصْفُهُ الْعُشْبَ بِالنُّزُولِ، لِحُصُولِهِ عَنِ الْمَاءِ الْمُتَّصِفِ بِالنُّزُولِ مِنَ الْغَمَامِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَجَازُ السَّبَبِيُّ يَكُونُ أَيْضًا بِمَرَاتِبَ، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الْأَعْرَافِ: 26] وَنَفْسُ اللِّبَاسِ لَمْ يَنْزِلْ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ اللِّبَاسُ بِوَسَائِطَ، مِثَالُهُ: ثِيَابُ الْكَتَّانِ حَاصِلَةٌ عَنِ الْكَتَّانِ، الْحَاصِلُ عَنْ بِذْرَةِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ، بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَثِيَابُ الْحَرِيرِ حَاصِلَةٌ عَنِ الْحَرِيرِ الْحَاصِلِ عَنِ الْقَزِّ، الْحَاصِلِ عَنْ بَزْرِهِ الْمُرَبَّى، بِسَبَبِ الْمَاءِ النَّازِلِ، وَكَذَلِكَ دُودُ الْقَزِّ إِنَّمَا يَتَغَذَّى بِوَرَقِ التُّوتِ، النَّاشِئِ عَنْ شَجَرِ التُّوتِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ
…
صَارَ الثَّرِيدُ فِي رُءُوسِ الْعِيدَانِ
يُرِيدُ بِالثَّرِيدِ السُّنْبُلَ الَّذِي فِي رُءُوسِ الْحِمْلِ، وَهُوَ مَادَّةُ التِّبْنِ، لِأَنَّ السُّنْبُلَ يُحْصَدُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثُمَّ يُدْرَسُ، ثُمَّ يُذَرَّى وَيُصَفَّى، ثُمَّ يُطْحَنُ، ثُمَّ يُخْبَزُ، ثُمَّ يُطْبَخُ فَيَصِيرُ ثَرِيدًا، فَهَذَا مَجَازٌ بِسِتِّ مَرَاتِبَ.
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ مَحَاسِنِ لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَاوَلَ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ النَّظَرُ وَالِارْتِيَاضُ فِيهِ، لِيَعْلَمَ مَوَاقِعَ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ طَرَفٍ صَالِحٍ فَعَلَيْكَ «بِكِتَابِ الْمَجَازِ» لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ أَجْوَدُ مَا رَأَيْتُ فِي هَذَا الْفَنِّ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ فِيهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَضَمَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّكَتَ الْبَدِيعَةَ وَالْفَوَائِدَ الْحِسَانَ، جَزَاهُ اللَّهُ وَسَائِرَ الْعُلَمَاءِ، عَمَّا أَفَادُوا بِهِ جَزِيلَ الْإِحْسَانِ.
وَتُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ بِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ، وَبِصِحَّةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ، وَتَصْرِيفِهِ، نَحْوَ أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا فِي الْأَمْرِ اللَّفْظِيِّ، بِخِلَافِهِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، نَحْوَ:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} إِذْ لَا يَتَصَرَّفُ، وَبِاسْتِعْمَالِ لَفْظِهِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْمَكْرِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِهِ فِيهِ نَحْوَ:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، وَبِاسْتِحَالَةِ نَفْيِهِ، نَحْوَ: الْبَلِيدُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، بِخِلَافِ، لَيْسَ بِحِمَارٍ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَتُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ بِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ» ، إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَقْسَامِ التَّجَوُّزِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ مَا تُعَرَّفُ بِهِ الْحَقِيقَةُ مِنَ الْمَجَازِ مِنَ الْعَلَامَاتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مُبَادَرَتُهَا، أَيْ: مُبَادَرَةُ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا قَرِينَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُحْتَمِلَ لِمَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ، إِمَّا أَنْ يَتَبَادَرَ فَهْمُ أَهْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ بِلَا قَرِينَةٍ إِلَى جَمِيعِ مُحْتَمَلَاتِهِ، أَوْ إِلَى بَعْضِهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُشْتَرَكُ، كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَوْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى أَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ، لَمَا سَبَقَ إِلَى فَهْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُبَادَرَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَانَ لِإِلْفِهِ لَهُ، وَكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي عُرْفِ التَّخَاطُبِ، لَا لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْوَضْعِيَّةُ.
قُلْنَا: الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوَضْعِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُبَادَرَةُ اللَّفْظِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِإِلْفِهِ لَهُ، يَكُونُ أَيْضًا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أَوِ اصْطِلَاحِيَّةً، فَلَا تَخْرُجُ الْمُبَادَرَةُ عَنْ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُنَا: بِلَا قَرِينَةٍ، احْتِرَازٌ مِنْ مُبَادَرَةِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا، إِذْ شَرْطُ الْمَجَازِ الْقَرِينَةُ، لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ فَهُوَ لِلْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ أَسَدًا، أَوْ بَحْرًا، أَوْ حِمَارًا، وَلَا قَرِينَةَ هُنَاكَ، حُمِلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَلَى أَنَّهُ رَأَى سَبُعًا، وَمَاءً كَثِيرًا، وَالْحِمَارَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَبَوَيِ الْبَغْلِ، وَلَوْ قَالَ: رَأَيْتُ أَسَدًا بِيَدِهِ سَيْفٌ، أَوْ بَحْرًا عَلَى فَرَسٍ، أَوْ حِمَارًا عَلَى مِنْبَرٍ، عَلِمْنَا بِهَذِهِ الْقَرَائِنِ أَنَّهُ أَرَادَ الشُّجَاعَ وَالْكَرِيمَ وَالْبَلِيدَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِقَاقُ، وَالتَّصْرِيفُ إِلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَاللَّفْظُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الْحَقِيقَةَ، وَالثَّانِي مَجَازًا، لِأَنَّ تَصَرُّفَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ وَأَصَالَتِهِ، وَعَدَمَ تَصَرُّفِهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وَفَرْعِيَّتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازَ فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ التَّصَرُّفُ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ كَلَفْظِ الْأَمْرِ: يُطْلَقُ عَلَى الصِّيغَةِ الطَّلَبِيَّةِ، نَحْوَ: اضْرِبْ، وَاجْلِسْ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ وَالْفِعْلِ، نَحْوَ:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هُودٍ: 97]، أَيْ: شَأْنُهُ وَفِعْلُهُ، فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ يُصَرِّفُونَ الْأَمْرَ اللَّفْظِيَّ فَيَقُولُونَ: أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا، فَهُوَ آمِرٌ وَمَأْمُورٌ، وَلَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ حَقِيقَةٌ، وَالثَّانِيَ مَجَازٌ. وَقَدْ ضَعُفَتْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ بِأَنَّهَا دَعْوَى عَامَّةٌ، فَلَا تَثْبُتُ بِمِثَالٍ وَاحِدٍ، وَنُقِضَتْ مِنْ حَيْثُ الطَّرْدُ بِالرَّائِحَةِ، هِيَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهَا، وَلَمْ يُشْتَقَّ مِنْهَا اسْمٌ، وَمِنْ حَيْثُ الْعَكْسُ بِأَنَّ الْبَلِيدَ يُقَالُ لَهُ: حِمَارٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى حُمُرٍ، فَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمٌ مَعَ أَنَّهُ مَجَازٌ.
قُلْتُ: وَفِي النَّقْضِ بِالرَّائِحَةِ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِعْلَهَا مُتَصَرِّفٌ، يُقَالُ: رَاحَ الشَّيْءُ يَرَاحُهُ وَيُرِيحُهُ: إِذَا وَجَدَ رِيحَهُ، وَتَرَوَّحَ الْمَاءُ إِذَا أَخَذَ رِيحَ غَيْرِهِ لِقُرْبِهِ، فَهُوَ مُتَرَوَّحٌ. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّصَرُّفِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يُسْتَعْمَلُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، وَالْآخَرُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمُقَابَلَةِ، كَالْمَكْرِ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَكَرَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مُقَابَلَةً لِمَكْرِ الْمَخْلُوقِ، نَحْوَ:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54]، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النَّمْلِ: 50] ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ الْمَكْرِ إِلَى الْآدَمِيِّ حَقِيقَةٌ، وَإِسْنَادَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، لِأَنَّ انْفِرَادَ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِعْمَالِ دَلِيلُ تَأَصُّلِهِ، وَتَمَكُّنِهِ وَاحْتِيَاجِهِ فِيهِ إِلَى مَا يُقَابِلُهُ دَلِيلٌ عَلَى فَرْعِيَّتِهِ وَتَزَلْزُلِهِ، فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مُقَابِلٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ اسْتَجَازُوا مَعَ الْمُقَابَلَةِ مَا لَمْ يَسْتَجِيزُوهُ بِدُونِهَا.
قُلْتُ: الْأَجْوَدُ هُنَا التَّمْثِيلُ بِالنِّسْيَانِ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ بِدُونِ مُقَابِلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، وَفِي حَقِّ فَتَى مُوسَى:{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الْكَهْفِ: 63] ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى إِلَّا مَعَ الْمُقَابِلِ، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 67]، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الْجَاثِيَةِ: 34] ، وَفِي الْحَدِيثِ: فَالْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، يَقُولُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا التَّمْثِيلُ بِالْمَكْرِ فَيَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 99] ، فَأَسْنَدَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْمَكْرَ إِلَى نَفْسِهِ بِدُونِ مُقَابِلٍ، وَإِنَّمَا زَعَمَ أَنَّ الْمَكْرَ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ الْمُقَابَلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَكْرَ: هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْغَرَضِ خُفْيَةً لِلْعَجْزِ عَنْهُ مُجَاهَرَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْمُرَادِ خُفْيَةً، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْمُجَاهَرَةِ، كَمَا فِي الْمَخْلُوقِ، أَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ، كَمَا فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 182] ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمَكْرِ بِهِمْ، مَعَ قُدْرَتِهِ سبحانه وتعالى عَلَى اضْطِرَارِهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ جَهْرًا، بِالنَّارِ الْمُحْرِقَةِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ الْمُسْتَحَثَّةِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدْلِهِ سبحانه وتعالى.
وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُطْلَقُ عَلَى لَفْظِ السَّيِّئَةِ إِلَّا مَعَ الْمُقَابَلَةِ نَحْوَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40] ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: اسْتِحَالَةُ نَفْيِ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَجَوَازُ نَفْيِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ.
مِثَالُهُ: أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ لِلْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ: لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: لَيْسَ بِحِمَارٍ، فَالْإِنْسَانُ حَقِيقَةٌ فِيهِ لِاسْتِحَالَةِ نَفْيِهِ عَنْهُ، وَالْحِمَارُ مَجَازٌ فِيهِ لِصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنْهُ، وَعَكْسُ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لِلْحِمَارِ الْحَقِيقِيِّ: لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ بِحِمَارٍ، فَلَفْظُ الْحِمَارِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، لِاسْتِحَالَةِ نَفْيِهِ عَنْهُ.
وَتَوْجِيهُ هَذَا مَعَ ظُهُورِهِ، أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ ثُبُوتًا مُؤَبَّدًا، وَالثَّابِتَ ثُبُوتًا مُؤَبَّدًا يَسْتَحِيلُ زَوَالُهُ وَانْتِفَاؤُهُ.
وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَامَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ. هَذَا الَّذِي اتَّفَقَ ذِكْرُهُ مِنْهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هَاهُنَا.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ حَدَّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْحَدُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جَامِعًا مَانِعًا، وَالْحَدُّ يُرَادُ لِلتَّعْرِيفِ، وَمَعَ جَمْعِهِ وَمَنْعِهِ يُفِيدُ تَعْرِيفَ جُزْئِيَّاتِ الْمَحْدُودِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الَّذِي ذَكَّرْتُمُوهُ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَفِي بِتَعْرِيفِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَهُمَا؟ وَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْحُدُودِ إِجْمَالِيٌّ وَكُلِّيٌّ، وَتَعْرِيفَ الْعَلَامَاتِ وَالْخَوَاصِّ تَفْصِيلِيٌّ جُزْئِيٌّ، فَفَائِدَةُ ذِكْرِ عَلَامَاتِ الشَّيْءِ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِّهِ كَفَائِدَةِ ذِكْرِ تَفْصِيلِهِ بَعْدَ إِجْمَالِهِ، وَجُزْئِيَّاتِهِ بَعْدَ كُلِّيَّاتِهِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْلَنَا فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، يُفِيدُنَا مَعْرِفَةَ حَقِيقَتِهِ عَلَى جِهَةٍ قَانُونِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ، فَإِذَا قُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْ عَلَامَةِ الْإِنْسَانِ وَخَوَاصِّهِ أَنَّهُ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ، ضَحَّاكٌ، قَابِلٌ لِتَعْلِيمِ الْعُلُومِ وَنَحْوِهِ، أَفَادَنَا ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ مَا لَمْ يُفِدْهُ قَوْلُنَا: إِنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
وَاللَّفْظُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لِعَدَمِ رُكْنِ تَعْرِيفِهِمَا، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، وَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ، وَفِي الْعَكْسِ خِلَافٌ، الْأَظْهَرُ الْإِثْبَاتُ.
ــ
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّا لَمَّا قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ: إِنَّهُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعٍ أَوَّلَ، أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ أَوَّلَ، ثَبَتَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ رُكْنٌ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جُزْءٌ مِنْهُ وَرُكْنُ الشَّيْءِ جُزْؤُهُ الدَّاخِلُ فِي حَقِيقَتِهِ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى اللَّفْظِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي لُغَةِ الْوَاضِعِ، لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَلَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ وَضْعِ اللَّفْظِ وَقَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ يُمْكِنُ انْفِكَاكُهُ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مُمْكِنٌ لَا شَكَّ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
أَمَّا إِمْكَانُهُ، فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَضْعَ اللَّفْظِيَّ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْشَاءِ لَفْظٍ، وَتَخْصِيصِهِ بِمَعْنًى، بِحَيْثُ إِذَا أُطْلِقَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالِاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِيُّ: هُوَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَدْلُولِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَهُمَا - أَعْنِي الْوَضْعَ وَالِاسْتِعْمَالَ - مُتَغَايِرَانِ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَسْتَلْزِمُ الْوَضْعَ، وَالْوَضْعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِعْمَالَ، لِمَا سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ بَعْضَ وَاضِعِي اللُّغَةِ يَقُولُ: قَدْ أَنْشَأْتُ لَفْظَةَ «الْأَسَدِ» ، وَخَصَّصْتُهَا بِهَذَا السَّبُعِ الْخَاصِّ، لِتَدُلَّ عَلَيْهِ إِذَا أُطْلِقَتْ، فَإِذَا تَخَاطَبْتُمْ أَيُّهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
النَّاسُ، فَلْيُطْلِقِ الْمُتَكَلِّمُ مِنْكُمْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِإِزَاءِ هَذَا السَّبُعِ، وَلْيَفْهَمِ السَّامِعُ ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِهَا، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْوَاضِعِ وَضْعًا مُجَرَّدًا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنَّهُ عَرَّفَهُمْ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِ هَذَا، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ التَّوْجِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ وَلَمْ يُشَاهَدْ، إِذْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ لَمْ يَعْقِلْ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، إِلَّا وَهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِلُغَتِهِمَا، وَلَمْ تَعْرِفِ الْعَرَبُ هَذِهِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْمَوْضُوعَةَ عَلَى غَايَةِ الْحِكْمَةِ إِلَّا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا، وَإِذَا انْتَفَى النَّقْلُ وَالْعِيَانُ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا تَصَوُّرُ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوُقُوعُ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ وَاقِعًا.
وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لِهَذَا الْبَحْثِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِيِّينَ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَكِنِّي لَمَّا اسْتَشْكَلْتُهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَشَفْتُ أَمْرَهُ هَاهُنَا، إِزَالَةً لِلْإِشْكَالِ عَنِ النَّاظِرِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ، وَفِي الْعَكْسِ خِلَافٌ. الْأَظْهَرُ: الْإِثْبَاتُ» . مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَجَازٌ، وَأَمَّا الْمَجَازُ فَهَلْ يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَهَذَا هُوَ الْعَكْسُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْمَجَازَ فَرْعُ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا الْعِلَاقَةَ فِيهِ لِتَكُونَ رَابِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَصْلٌ لِلْمَجَازِ، وَهُوَ فَرْعٌ لَهَا، فَبِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْأَصْلَ يَسْتَغْنِي عَنِ الْفَرْعِ، إِذِ الْفَرْعُ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَالشَّيْءُ الْكَامِلُ الْمَاهِيَّةِ يَسْتَغْنِي عَنِ الزِّيَادَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، وَالْفَرْعُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ مَادَّةٌ لِلْفَرْعِ، وَمَنْشَأٌ، وَمَبْدَأٌ، وَوُجُودُ شَيْءٍ مُحْدَثٍ بِدُونِ مَنْشَأٍ وَمَبْدَأٍ وَمَادَّةٍ مُحَالٌ.
وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَإِنَّ الْوَالِدَ بِالْقُوَّةِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْوَلَدُ، وَالْوَلَدُ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْوَالِدُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ، وَالْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:«الْأَظْهَرُ الْإِثْبَاتُ» . أَيْ: إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ.
أَمَّا الْخِلَافُ فِي هَذَا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ إِمْكَانِ انْفِكَاكِ الْوَضْعِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ بَيْنَ وَضْعِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
وَبَيَانُهُ أَنَّا إِذَا فَرَضْنَا ذَلِكَ، أَمْكَنَ وُجُودُ مَجَازٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بِأَنْ يَقُولَ الْوَاضِعُ مَثَلًا: قَدْ وَضَعْتُ لَفْظَ الْأَسَدِ لِلسَّبُعِ الْخَاصِّ الْمُفْتَرِسِ، وَلَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَعْمِلُوهُ فِيهِ أَنْ تُطْلِقُوهُ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ اسْتِعَارَةً، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّ شَرْطَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الِاسْتِعْمَالُ كَمَا سَبَقَ، وَالِاسْتِعْمَالُ هَاهُنَا إِنَّمَا وُجِدَ فِي الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى غَايَةِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْبَيَانِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمَجَازِ الْعِلَاقَةُ، وَهِيَ الصِّفَةُ الظَّاهِرَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ مَحَلِّ الْمَجَازِ وَمَا تُجُوِّزَ بِهِ عَنْهُ، لِتَكُونَ رَابِطَةً بَيْنَهُمَا، مُصَحِّحَةً لِلتَّجَوُّزِ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ فِي الصُّوَرِ الْمَفْرُوضَةِ: اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي مَوْضُوعِهِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ السَّبُعُ الْخَاصُّ، إِنِ انْتَفَى فِي التَّحْقِيقِ، فَهُوَ ثَابِتٌ فِي التَّقْدِيرِ، وَلَا بُدَّ، لِيَصِحَّ كَوْنُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْمُصَحِّحِ لِلتَّجَوُّزِ - وَهُوَ الْعِلَاقَةُ، الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ السَّبُعِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ - رَابِطَةً بَيْنَهُمَا، وَحِينَئِذٍ الْمَجَازُ قَدِ اسْتَلْزَمَ الْحَقِيقَةَ تَقْدِيرًا، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّ الْمَجَازَ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ تَحْقِيقًا بَلْ تَقْدِيرًا، فَتَنْتَقِلُ الْمَسْأَلَةُ، وَيَصِيرُ النِّزَاعُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِلْزَامِ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةَ، لَا فِي نَفْسِ اسْتِلْزَامِ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةُ، وَيَكُونُ قَدْ سَلَّمَ مَحَلَّ النِّزَاعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْبَحْثِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ عَلَى نَقْلِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنِ الْعَرَبِ عَلَى الْأَظْهَرِ، اكْتِفَاءً بِالْعِلَاقَةِ الْمُجَوِّزَةِ، كَالِاشْتِقَاقِ وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَاللُّغَوِيِّ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ عَلَى نَقْلِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنِ الْعَرَبِ عَلَى الْأَظْهَرِ اكْتِفَاءً بِالْعِلَاقَةِ الْمُجَوِّزَةِ» . مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ، هَلْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَحَلِّهِ مَنْقُولًا عَنِ الْعَرَبِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ مَثَلًا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَلَا لَفْظِ الْحِمَارِ فِي الْبَلِيدِ، وَلَا لَفْظِ الْبَحْرِ فِي الرَّجُلِ الْغَزِيرِ الْعِلْمِ، أَوِ الْكَثِيرِ الْعَطَاءِ، أَوِ الْفَرَسِ الشَّدِيدِ الْجَرْيِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُنْقَلَ اسْتِعْمَالُهُ عَنِ الْعَرَبِ كَذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلِ اسْتِعْمَالُهُ عَنِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ «اكْتِفَاءً» ، أَيِ:«اكْتِفَاءً بِالْعِلَاقَةِ الْمُجَوِّزَةِ» وَهِيَ الصِّفَةُ الرَّابِطَةُ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فِي جَوَازِ التَّجَوُّزِ بِاللَّفْظِ عَنْ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ إِلَى مَحَلِّ الْمَجَازِ بِمُجَرَّدِهَا، لَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ، وَإِلَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي الْمَجَازِ، لَكِنْ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْحُكَمَاءُ الْعُقَلَاءُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا صِحَّةُ التَّجَوُّزِ عِنْدَ وُجُودِهَا وَعَدَمُ صِحَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ نُقِلَ التَّجَوُّزُ عَنِ الْعَرَبِ، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ.
وَفِيمَا يُحْتَجُّ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّجَوُّزَ وَالِاسْتِعَارَةَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي تَحْقِيقِهِ إِلَى تَدْقِيقٍ، وَالنَّقْلِيَّاتِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِالنَّقْلِ، وَالتَّجَوُّزُ لَيْسَ نَقْلِيًّا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعَارَةَ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ لِلْمَجَازِ إِنَّمَا هُوَ تَبَعٌ لِاسْتِعَارَةِ مَعْنَاهَا لِمَعْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَائِدَةَ قَوْلِنَا لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ: أَسَدٌ، إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمُهُ، وَتَعْظِيمُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا اسْتَعَرْنَا لَهُ صِفَةَ الشَّجَاعَةِ مِنَ الْأَسَدِ الْحَقِيقِيِّ، وَوَصَفْنَاهُ بِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ التَّجَوُّزَ بِاللَّفْظِ تَبَعٌ لِلتَّجَوُّزِ بِالْمَعْنَى، ثُمَّ التَّجَوُّزُ بِالْمَعْنَى حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْمُبَالَغَةِ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى السَّمْعِ، فَكَذَلِكَ التَّجَوُّزُ بِاللَّفْظِ، يَجِبُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ التَّجَوُّزُ بِهِ إِلَى السَّمْعِ.
وَهَذَانِ وَجْهَانِ قَوِيَّانِ، وَأَجَابَ عَنْهُمَا فِي «الْمَحْصُولِ» بِمَا لَيْسَ لَهُ مَحْصُولٌ. وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَلَائِقَ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالشَّجَاعَةِ وَالْبَخْرِ بَيْنَ الْأَسَدِ وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَثَلًا، فَلَوْ لَمْ يَتَوَقَّفِ التَّجَوُّزُ عَلَى السَّمَاعِ، لَجَازَ بِكُلِّ عِلَاقَةٍ وَصْفِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الْأَبْخَرِ، بِجَامِعِ صِفَةِ الْبَخْرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّجَوُّزَ يَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ، وَاسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ: نَخْلَةٌ، بِجَامِعِ الطُّولِ، وَلَمْ يَقُولُوا لِكُلِّ طَوِيلٍ غَيْرَ الْإِنْسَانِ: نَخْلَةٌ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ السَّمَاعِ فِي التَّجَوُّزِ لَجَازَ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَاضِعَ إِنَّمَا فَوَّضَ إِلَيْنَا التَّجَوُّزَ بِشَرْطِ ظُهُورِ الْعِلَاقَةِ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي لُغَتِهِ مَا يُخَالِفُهَا فِي الْبَيَانِ، وَالْبَخْرُ عِلَاقَةٌ خَفِيَّةٌ كَمَا سَبَقَ، فَلِذَلِكَ لَمْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَجُزْ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الْأَبْخَرِ، لَا لِمَا ذَكَرْتُمْ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَاقَةَ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الطُّولِ، بَلِ الطُّولُ مَعَ الِانْتِصَابِ وَالنُّمُوِّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّخْلَةِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْعِلَاقَةُ إِلَّا بَيْنَهُمَا. فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ أَوِ الْجَمَلِ الطَّوِيلِ الْجِسْمِ نَخْلَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُنْتَصِبَ الشَّخْصِ، وَلَا تَسْمِيَةُ عَمُودِ الرُّخَامِ وَنَحْوِهِ نَخْلَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ نَامِيًا، حَتَّى لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطُّولَ بِمُجَرَّدِهِ هُوَ الْعِلَاقَةُ، لَالْتَزَمْنَا جَوَازَ إِطْلَاقِ لَفْظِ النَّخْلَةِ عَلَى كُلِّ طَوِيلٍ.
وَقَوْلُهُ: «بِالْعِلَاقَةِ الْمُجَوِّزَةِ» ، أَيْ لِلتَّجَوُّزِ، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَحِّحَةُ الْمُجَوِّزَةُ لَهُ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «كَالِاشْتِقَاقِ وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَاللُّغَوِيِّ» : هَذِهِ نَظَائِرُ كَالْأُصُولِ، يُقَاسُ عَلَيْهَا جَوَازُ التَّجَوُّزِ بِدُونِ السَّمَاعِ مِنَ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ: هُوَ اقْتِطَاعُ لَفْظٍ مِنْ لَفْظٍ مُوَافِقٍ لَهُ فِي حُرُوفِهِ الْأُصُولِ مَعَ تَغْيِيرٍ مَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّا مَتَى وَجَدْنَا لَفْظَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ فِي الْمَادَّةِ - وَهِيَ الْحُرُوفُ الْأُصُولُ - حَكَمْنَا بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْآخَرِ، وَجَازَ لَنَا أَنْ نَشْتَقَّ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ مَا شِئْنَا، مَعَ مُرَاعَاةِ شَرْطِ الِاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَمَاعٍ، كَقَوْلِنَا: ضَرَبَ يَضْرِبُ فَهُوَ ضَارِبٌ وَمَضْرُوبٌ، كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ، لِمُشَارَكَتِهَا لَهُ فِي الْحُرُوفِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ (ض ر ب) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالضَّيْغَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّغْمِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَادَّةِ (ض غ م)، وَالْجَبَلُ: بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْلِ، بِسُكُونِ الْبَاءِ، لِأَنَّهُ طِينٌ مَجْبُولٌ اسْتَحْجَرَ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ عَلَى مَا قِيلَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَادَّةِ (ج ب ل) ، فَكَمَا جَازَ لَنَا الِاشْتِقَاقُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَنَا التَّجَوُّزُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْعِلَاقَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ التَّجَوُّزِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ.
وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ: لَمَّا كَانَتْ أَرْكَانُهُ الَّتِي يُوجَدُ بِوُجُودِهَا أَصْلًا وَفَرْعًا وَعِلَّةً وَحُكْمًا، جَازَ لَنَا الْقِيَاسُ مَتَى وُجِدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ الْقِيَاسُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنَ الشَّارِعِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي التَّجَوُّزِ بِوُجُودِ الْعِلَاقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ اللُّغَوِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَدُورُ مَعَ مَعَانِيهَا الْقَائِمَةِ بِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَجَازِ.
تَنْبِيهٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ فُضَلَاءِ أَصْحَابِنَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَجَازِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَجَازِ الِاسْتِعْمَالِ، فَاشْتَرَطَ النَّقْلَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي.
وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ: أَنَّا إِذَا سَمِعْنَا كَلَامًا قَدْ تَجَوَّزَ فِيهِ قَائِلُهُ، كَكَلَامِ الشَّارِعِ وَنَحْوِهِ، وَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِرَأْيِنَا أَنَّهُ أَرَادَ الْوَجْهَ الْفُلَانِيَّ مِنَ الْمَجَازِ بِالْعِلَاقَةِ الْفُلَانِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ بِالسَّمَاعِ مَا أَرَادَ مِنَ الْمَجَازِ، ثُمَّ نَسْتَدِلُّ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَرَدْنَا نَحْنُ أَنْ نُنْشِئَ كَلَامًا لَنَا، نَسْتَعْمِلُ فِيهِ الْمَجَازَ، فَإِنَّ لَنَا أَنْ نَتَجَوَّزَ كَيْفَ شِئْنَا.
قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنِّي ظَنَنْتُ صِحَّةَ هَذَا الْفَرْقِ، وَقُوَّةَ مَأْخَذِهِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثُمَّ إِنِّي نَظَرْتُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ لَا ظُهُورَ لَهُ مَعَ اشْتِرَاطِنَا لِلْمَجَازِ ظُهُورَ الْعِلَاقَةِ، سَوَاءٌ كُنَّا مُسْتَدِلِّينَ بِهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِنَا، أَوْ مُسْتَعْمِلِينَ لَهُ مِنْ كَلَامِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا اشْتَرَطْنَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَاقَةُ فِي الْمَجَازِ ظَاهِرَةً، لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَاقَةُ ظَاهِرَةً فِي كُلِّ مَجَازٍ، وَإِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً، بَادَرَ الذِّهْنُ إِلَيْهَا فِي مَجَازِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ خَطَأٌ وَلَا مُحَالٌ، حَتَّى لَوْ رَأَيْنَا مُتَجَوِّزًا بِعِلَاقَةٍ خَفِيَّةٍ، مِثْلَ إِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ أَبْخَرُ، أَوْ لَفْظُ الْحِمَارِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ طَوِيلُ الْآذَانِ، أَوْ مَرْقُومُ الذِّرَاعِ، أَوْ مُنْكَرُ الصَّوْتِ، يُشْبِهُ صَوْتُهُ نُهَاقَ الْحِمَارِ، لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ كَلَامًا، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَلَوْ خَفِيَ عَنَّا مُرَادُ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ، حَتَّى حَمَلْنَا نَحْنُ كَلَامَهُ عَلَى الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ، فَأَخْطَأْنَا مَا أَرَادَهُ، كَانَتْ عُهْدَةُ الْخَطَأِ عَلَيْهِ لَا عَلَيْنَا، حَيْثُ غَرَّنَا بِإِطْلَاقِ لَفْظٍ، أَرَادَ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ.
بَقِيَ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعِلَاقَةَ - الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ - قَدْ تَكُونُ مُتَعَدِّدَةً وَمُتَسَاوِيَةً، كَمَا يُقَالُ لِلْفَارِسِ الْمُلَبَّسِ الْعَظِيمِ الْجُثَّةِ فِي الْحَرْبِ: جَبَلٌ، وَلِلشَّابِّ الْمَلِيحِ الْقَوَامِ: رُمْحٌ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَارِسُ شُبِّهَ بِالْجَبَلِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ السِّلَاحِ فِيهِ، كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجَبَلِ، أَوْ لِعِظَمِ جُرْمِهِ، أَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَهُوَ لَا يَفِرُّ، كَالْجَبَلِ فِي ثَبَاتِهِ، وَالشَّابُّ يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوَامَهُ شُبِّهَ بِالرُّمْحِ لِطُولِهِ وَاعْتِدَالِهِ، أَوْ لِحُسْنِ تَثَنِّيهِ وَاهْتِزَازِهِ. وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ، يَظْهَرُ الْفَرْقُ بِتَقْدِيرِهَا بَيْنَ مَجَازِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: زَيْدٌ فِي الْحَرْبِ جَبَلٌ، احْتَمَلَ أَنَّ عِلَاقَةَ الْمَجَازِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى تَقْدِيرِ إِرَادَةِ أَحَدِهَا، كُنَّا قَدْ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا إِنْ فَرَضْنَا تَعَدُّدَ الْعِلَاقَةِ وَتَسَاوِيَهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ، بَقِيَ ذَلِكَ الْمَجَازُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ الْخَارِجِيِّ، وَحَيْثُ لَا تَتَعَدَّدُ الْعِلَاقَةُ وَتَتَسَاوَى، يَتَعَيَّنُ الظَّاهِرُ مِنْهَا وَالْأَظْهَرُ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ، وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ.
وَأَنْكَرَ قَوْمٌ الْمَجَازَ مُطْلَقًا، وَالْحَقُّ ثُبُوتُهُ فِي الْمُفْرَدِ، كَالْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ، وَفِي الْمُرَكَّبِ، نَحْوَ: أَشَابَنِي الزَّمَانُ، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، وَأَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ، عَلَى الْأَظْهَرِ فِيهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَأَنْكَرَ قَوْمٌ الْمَجَازَ مُطْلَقًا، وَالْحَقُّ ثُبُوتُهُ» .
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجَازِ، فَأَثْبَتَهُ الْجُمْهُورُ مُطْلَقًا، مُفْرَدًا وَمُرَكَّبًا، فِي عُمُومِ اللُّغَةِ، وَخُصُوصِ الْقُرْآنِ.
وَأَنْكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ مُطْلَقًا، وَاحْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا غَيْرُ مُفِيدٍ، فَلَيْسَ مِنَ اللُّغَةِ، لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، أَوْ مُفِيدٌ لِلْمُرَادِ بِهِ فَإِفَادَتُهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ، أَوْ مَعَ الْقَرِينَةِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لِإِفَادَتِهِ عَيْنَ الْمُرَادِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: رَأَيْتُ أَسَدًا بِيَدِهِ سَيْفٌ يَضْرِبُ بِهِ، يُفِيدُ الرَّجُلَ الشُّجَاعَ قَطْعًا، كَمَا أَنَّ قَوْلَنَا: رَأَيْتُ أَسَدًا، يُفِيدُ السَّبُعَ الْخَاصَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَضْعًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ النِّزَاعَ بِمُوجَبِ مَا ذَكَرْتُمْ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّكُمْ أَنْتُمْ تُسَمُّونَ اللَّفْظَ الْمُفِيدَ مُطْلَقًا حَقِيقَةً، سَوَاءٌ أَفَادَ بِنَفْسِهِ أَوْ قَرِينَةٍ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنْ أَفَادَ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ تَوَقَّفَتْ إِفَادَتُهُ عَلَى قَرِينَةٍ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْخَطْبُ فِي النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ يَسِيرٌ، وَتَسْمِيَتُنَا أَوْلَى، إِعْطَاءٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُسَمًّى وَمَدْلُولًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي لَهُمْ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَجَازِ مَعَ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ، وَإِمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ، مُخَالِفٌ حُكْمَ أَهْلِ الْوَضْعِ، لِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ خَالٍ عَنْ فَائِدَةٍ، كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْحِمَارِ فِي الْبَلِيدِ، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَقُولَ: هُوَ بَلِيدٌ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ، وَلَا أَنَّهُ خَالٍ عَنْ فَائِدَةٍ، بَلِ الْمَجَازُ أَخَفُّ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَعْوَنُ عَلَى تَحْقِيقِ الْأَوْزَانِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَعَلَى تَحْقِيقِ الْجِنَاسِ وَالطِّبَاقِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّحْقِيرِ، وَهُوَ أَخَفُّ عَلَى الْقُلُوبِ، وَأَسْهَلُ دُخُولًا فِي الْأَسْمَاعِ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمَحَاسِنِهَا.
وَالدَّلِيلُ لَنَا عَلَى ثُبُوتِهِ: أَنَّهُ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ. أَمَّا إِمْكَانُهُ فَلِأَنَّ فَرْضَ وُقُوعِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي حَدِّهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ، فَمَا اشْتَهَرَ مِنِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ عَلَى الْبَلِيدِ، وَالْبَحْرِ عَلَى الْعَالِمِ، وَالْجَوَادِ، وَالْفَرَسِ الشَّدِيدِ الْجَرْيِ، فِي قَوْلِهِ عليه السلام فِي فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ لَمَّا رَكِبَهُ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ إِفَادَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً: نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ ثُبُوتُهُ» ، يَعْنِي أَصْلَ الْمَجَازِ مُطْلَقًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَالْحَقُّ ثُبُوتُهُ أَيْضًا فِي الْمُفْرَدِ وَالْمُرَكَّبِ عَلَى الْأَظْهَرِ فِيهِ، لِأَنَّ النِّزَاعَ إِمَّا فِي أَصْلِ الْمَجَازِ أَوْ فِي أَقْسَامِهِ، فَبَعْضُ مَنْ وَافَقَ عَلَى أَصْلِ الْمَجَازِ إِمْكَانًا وَوُقُوعًا نَازَعَ فِي أَقْسَامِهِ فَقَالَ: لَا مَجَازَ إِلَّا فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ مُرَكَّبَاتِهَا.
فَالْمَجَازُ الْإِفْرَادِيُّ، أَيِ: الْوَاقِعُ فِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ، كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشُّجَاعِ، فَإِنَّ الْأَسَدَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، دَلَّ عَلَى مُسَمًّى مُفْرَدٍ، وَالشُّجَاعُ كَذَلِكَ، فَهَذَا يُسَمَّى مَجَازًا إِفْرَادِيًّا، وَمَجَازًا فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَالْمَجَازُ التَّرْكِيبِيُّ، أَيِ: الْوَاقِعُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُرَكَّبَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الْكَبِيرَ
…
كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيِّ
وَإِلَى هَذَا أَشَرْتُ بِقَوْلِي: «نَحْوَ أَشَابَنِي الزَّمَانُ» وَكَقَوْلِ هَذَا الشَّاعِرِ بِعَيْنِهِ:
تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ
…
وَتَبْقَى لَهُ حَاجَةُ مَا بَقِيَ
فَلَفْظُ الْإِشَابَةِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَهُوَ تَبْيِيضُ الشَّعْرِ لِنَقْصِ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ، لِضَعْفِ الْكِبَرِ، وَلَفْظُ الزَّمَانِ - الَّذِي هُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ أَيْضًا، لَكِنَّ إِسْنَادَ الْإِشَابَةِ إِلَى الزَّمَانِ مَجَازٌ، إِذِ الْمُشَيِّبُ لِلنَّاسِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى، فَهَذَا مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، أَيْ: فِي إِسْنَادِ الْأَلْفَاظِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، لَا فِي نَفْسِ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَهَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ كَانَ مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ لِيُسْنَدَ إِلَى لَفْظٍ آخَرَ فَأُسْنِدَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، فَإِسْنَادُهُ مَجَازٌ تَرْكِيبِيٌّ، كَلَفْظِ السُّؤَالِ، فَإِنَّهُ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لِيُسْنَدَ إِلَى أُولِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، نَحْوَ: سَأَلْتُ زَيْدًا عَنْ كَذَا، {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 59] ، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النَّحْلِ: 43] ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النِّسَاءِ: 32] ، فَإِذَا أُسْنِدَ السُّؤَالُ إِلَى غَيْرِ ذَوِي الْعِلْمِ كَانَ مَجَازًا إِسْنَادِيًّا، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يُوضَعْ لِيُسْنَدَ إِلَى الْقَرْيَةِ، الَّتِي هِيَ الْأَبْنِيَةُ وَالْجُدْرَانُ الْجَامِدَةُ، بَلْ إِلَى الْعُقَلَاءِ، فَلِذَلِكَ قُدِّرَ فِيهِ الْأَهْلُ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَهَكَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ
فَلَفْظُ الْمَوْتِ وَالْحَاجَةِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهَا، وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي إِسْنَادِ الْمَوْتِ إِلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ الْمَوْتُ لِيُسْنَدَ إِلَى الْأَجْسَامِ الْحَيَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2] ، فَلَفْظُ الْإِخْرَاجِ وَالْأَرْضِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِمَا، وَالْمَجَازُ فِي إِسْنَادِ الْإِخْرَاجِ إِلَى الْأَرْضِ، إِذِ الْمُخْرِجُ لِأَثْقَالِ الْأَرْضِ - وَهُمُ الْمَوْتَى فِي الْحَقِيقَةِ - إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ، حَقِيقَتُهُ: سَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ، لَكِنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِحْيَاءِ عَلَى السُّرُورِ مَجَازًا إِفْرَادِيًّا، لِأَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطُ صِحَّةِ السُّرُورِ، وَهُوَ مِنْ آثَارِهَا.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الِاكْتِحَالِ عَلَى الرُّؤْيَةِ مَجَازٌ إِفْرَادِيٌّ، لِأَنَّ الِاكْتِحَالَ جَعَلَ الْعَيْنَ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْكُحْلِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ جَعَلَ الْعَيْنَ مُشْتَمِلَةً عَلَى صُورَةِ الْمَرْئِيِّ بِانْطِبَاعِهَا فِي الْجَلِيدَةِ. فَلَفْظُ الْإِحْيَاءِ وَالِاكْتِحَالِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِمَا، وَهُوَ سَلْكُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ وَوَضْعُ الْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، وَاسْتِعْمَالُهُ - أَعْنِي لَفْظَ الْإِحْيَاءِ وَالِاكْتِحَالِ - فِي السُّرُورِ وَالرُّؤْيَةِ مَجَازٌ إِفْرَادِيٌّ، وَإِسْنَادُ الْإِحْيَاءِ إِلَى الِاكْتِحَالِ مَجَازٌ تَرْكِيبِيٌّ، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِحْيَاءِ لَمْ يُوضَعْ لِيُسْنَدَ إِلَى الِاكْتِحَالِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، لِأَنَّ الْأَحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ الْحَقِيقِيَّيْنِ مِنْ خَوَاصِّ قُدْرَتِهِ سبحانه وتعالى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الْمَجَازَ إِمَّا فِي الْإِفْرَادِ، كَاسْتِعْمَالِ الْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ، أَوْ فِي التَّرْكِيبِ نَحْوَ: أَشَابَنِي الزَّمَانُ، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2] ، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] ، أَوْ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ مَعًا، نَحْوَ: أَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ، فَإِنَّ التَّجَوُّزَ فِي لَفْظِ الْإِحْيَاءِ فِي إِسْنَادِ الْإِحْيَاءِ إِلَى الِاكْتِحَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «عَلَى الْأَظْهَرِ فِيهِ» ، فَإِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي الْمَجَازِ التَّرْكِيبِيِّ، وَهَكَذَا أَطْلَقَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ الْخِلَافَ فِيهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ فِي جَوَازِهِ، وَلَا فِي وُقُوعِهِ، بِدَلِيلِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا، أَيْ: فِي أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي هَذَا الْمَجَازِ، هَلْ هُوَ حُكْمٌ عَقْلِيٌّ أَوْ لَفْظٌ لُغَوِيٌّ وَضْعِيٌّ؟
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وَالْإِنْبَاتَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ} [الزَّلْزَلَةِ: 2]، وَ {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [الْبَقَرَةِ: 61] ، غَيْرُ مُسْنَدَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْأَرْضِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 267]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عَبَسَ: 27] ، وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى أَمْرٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ: يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْأَرْضِ نَقْلٌ لِحُكْمٍ عَقْلِيٍّ عَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مُتَعَلِّقِهِ الْحَقِيقِيِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِنَا: إِنَّ الْمَجَازَ التَّرْكِيبِيَّ عَقْلِيٌّ إِلَّا هَذَا.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ صِيغَةَ أَخْرَجَ وَأَنْبَتَ وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ بِإِزَاءِ صُدُورِ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ عَنْ عَالِمٍ قَادِرٍ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ تِلْكَ الصِّيغَةُ فِي صُدُورِهَا عَنِ الْأَرْضِ، فَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهَا، كَمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْأَسَدِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَجَازُ لُغَوِيًّا.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ صِيَغَ الْأَفْعَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْفَاعِلِ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً، لَا مُطَابَقَةً وَلَا تَضُمُّنًا، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً عَقْلِيَّةً الْتِزَامِيَّةً، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: صِيغَةُ أَخْرَجَ وَأَنْبَتَ لَا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِهِمَا عَنْ عَالِمٍ قَادِرٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ، لِاسْتِحَالَةِ صُدُورِ الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً عَنِ الْجَمَادَاتِ، وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَاعِلِهِ مُطْلَقًا دَلَالَةَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، لِاسْتِحَالَةِ فِعْلٍ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَهِيَ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ أَنَّ دَلَالَةَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ عَلَى صُدُورِهِمَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَقْلِيَّةٌ، فَيَكُونُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْأَرْضِ نَقْلًا لِحُكْمٍ عَقْلِيٍّ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَجَازُ عَقْلِيًّا لَا لُغَوِيًّا، وَإِنَّ قَوْلَنَا: هُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْأَظْهَرِ فِيهِ، مُتَابَعَةٌ لِمَنْ أَطْلَقَ خِلَافَ الصَّوَابِ، وَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُقُوفِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.