الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الثَّالِثُ)
الْأَسْمَاءُ: وَضْعِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، وَشَرْعِيَّةٌ، وَمَجَازٌ
مُطْلَقٌ.
فَالْوَضْعِيُّ: الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعٍ أَوَّلَ.
وَالْعُرْفِيُّ: مَا خُصَّ عُرْفًا بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ الْوَضْعِيَّةِ، كَالدَّابَّةِ لِذَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْوَضْعِ لِكُلِّ مَا دَبَّ، أَوْ يَشِيعُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، كَالْغَائِطِ، وَالْعَذِرَةِ، وَالرَّاوِيَةِ، وَحَقِيقَتُهَا: الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ، وَالْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ. وَهُوَ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْضُوعِ الْأَوَّلِ، وَحَقِيقَةٌ فِيمَا خُصَّ بِهِ عُرْفًا لِاشْتِهَارِهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ» أَيِ: الْبَحْثُ الثَّالِثُ مِنْ أَبْحَاثِ اللُّغَةِ: «الْأَسْمَاءُ وَضْعِيَّةٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
أَيِ الْأَسْمَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
«وَضْعِيَّةٌ» : أَيْ: ثَابِتَةٌ بِالْوَضْعِ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْوَاضِعِ لَفْظًا بِاسْمٍ، بِحَيْثُ إِذَا أُطْلِقَ ذَلِكَ اللَّفْظُ، فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، كَمَا إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَسَدِ، فَهِمْنَا مِنْهُ حَدَّ الْحَيَوَانِ الْخَاصِّ الْمُفْتَرِسِ.
«وَعُرْفِيَّةٌ» : وَهِيَ مَا ثَبَتَتْ بِالْعُرْفِ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَخَاطِبِينَ.
«وَشَرْعِيَّةٌ» : وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِوَضْعِ الشَّرْعِ لِلْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا.
«وَمَجَازٌ مُطْلَقٌ» : وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «فَالْوَضْعِيُّ» ، أَيِ: الِاسْمُ الْوَضْعِيُّ هُوَ «الْحَقِيقَةُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَخْتَصَّانِ بِالْأَسْمَاءِ، بَلْ هُمَا يَجْرِيَانِ فِي الْكَلِمِ الثَّلَاثِ: الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: اللَّفْظُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لِيَعُمَّ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ غَالِبُ تَنَازُعِ الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مُتَعَلِّقًا بِالْأَسْمَاءِ، فَرَضَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَلَامَ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْأَسْمَاءِ، وَتَابَعْتُهُ أَنَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
تَنْبِيهٌ: الْحَقِيقَةُ: فَعِيلَةٌ مِنَ الْحَقِّ، وَهُوَ الثَّابِتُ، لِأَنَّ نَقِيضُهُ الْبَاطِلَ، وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَسُمِّيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَضْعًا مَا: حَقِيقَةً لِثُبُوتِهِ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ.
وَالْمَجَازُ: مَفْعَلٌ، مِنَ الْجَوَازِ. وَهُوَ - أَعْنِي الْمَجَازَ - مَصْدَرٌ وَاسْمُ مَكَانٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْجَوَازِ، وَسُمِّيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ مَجَازًا، لِأَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لَهُ جَازَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعٍ أَوَّلَ» ، أَيِ: الْوَضْعِيُّ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ، أَوْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّفْظُ، وَذَكَرَ ضَمِيرَهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لَفْظٌ.
وَقَوْلُهُ: «اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ» : جِنْسٌ يَشْمَلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، إِذْ كِلَاهُمَا لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ.
وَقَوْلُهُ: «فِي مَوْضِعٍ أَوَّلَ» هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ: فِي مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا فَصْلٌ لِلْحَقِيقَةِ عَنِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ الْمَجَازَ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الْأَوَّلِ.
فَلَفْظُ الْأَسَدِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَجَازٌ، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُنَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ هِيَ الْأَلْفَاظُ، لَا اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضُوعِهِ أَوْ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَهُ: تَحْقِيقٌ وَتَجَوُّزٌ، لَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، تَعْرِيفًا لِلْمَصَادِرِ بِالْمَصَادِرِ، وَلِلْأَسْمَاءِ بِالْأَسْمَاءِ.
قَوْلُهُ: «وَالْعُرْفِيُّ: مَا خُصَّ عُرْفًا بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَاللَّفْظُ الْعُرْفِيُّ مَا خُصَّ فِي الْعُرْفِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ الَّتِي وُضِعَ لَهَا فِي الْأَصْلِ، أَيْ: فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ الَّذِي هُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِكُلِّ مَا دَبَّ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الدَّبِيبِ، وَهُوَ الْمَشْيُ، وَرُبَّمَا كَانَ ضَعِيفًا، ثُمَّ خُصَّ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ يَتَنَاوَلُ الطَّائِرَ، لِوُجُودِ الدَّبِيبِ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: «أَوْ يَشِيعُ اسْتِعْمَالُهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ الْعُرْفِيُّ: مَا خُصَّ عُرْفًا بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، أَوْ شَاعَ، أَيِ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْأَصْلِ، كَالْغَائِطِ: هُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ اسْمٌ لِلْمُطْمَئِنِّ، أَيِ: الْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ عُرْفًا فِي الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَكَالْعَذِرَةِ: الَّتِي هِيَ فِي الْأَصْلِ فِنَاءُ الدَّارِ، وَهُوَ مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهَا، ثُمَّ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْخَارِجِ الْمُرَادِفِ لِلْغَائِطِ، وَكَالرَّاوِيَةِ: الَّتِي هِيَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْبَعِيرِ أَوِ الْبَغْلِ أَوِ الْحِمَارِ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ، ثُمَّ اشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَزَادَةِ الَّتِي هِيَ وِعَاءُ الْمَاءِ.
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: أَوْ يَشِيعُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، كَالْغَائِطِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْعَذِرَةِ، وَالرَّاوِيَةِ، وَحَقِيقَتُهَا: الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ، وَالْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ.
وَقَوْلُنَا: «وَالْجَمَلُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ» ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُخْتَصًّا بِتَسْمِيَتِهِ رَاوِيَةً، بَلْ هُوَ ضَرْبُ مِثَالٍ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مُسَمَّى الرَّاوِيَةِ، وَإِلَّا فَاللُّغَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنَّ الْجَمَلَ وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ إِذَا اسْتُقِيَ عَلَيْهِ سُمِّيَ رَاوِيَةً.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْضُوعِ الْأَوَّلِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَهَذَا اللَّفْظُ الْعُرْفِيُّ هُوَ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَضْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْمَوْضُوعُ الْأَوَّلُ، وَحَقِيقَةٌ فِيمَا خُصَّ بِهِ فِي الْعُرْفِ لِاشْتِهَارِهِ فِيهِ.
أَمَّا أَنَّ هَذَا الْعُرْفِيَّ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَضْعِيِّ، فَلِوُجُودِ حَدِّ الْمَجَازِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّا قَدْ عَرَّفْنَا الْمَجَازَ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعُرْفِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَضْعِيَّةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَائِطَ فِي الْوَضْعِ هُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي عَذِرَةِ الْإِنْسَانِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الرَّاوِيَةُ هِيَ فِي الْوَضْعِ: اسْمٌ لِلدَّابَّةِ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، فَاسْتِعْمَالُهَا فِي وِعَاءِ الْمَاءِ اسْتِعْمَالٌ لَهَا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهَا الْأَوَّلِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَذِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِنَاءِ الدَّارِ، كَمَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي كُتُبِهِمْ.
أَعْنِي: مِنْ أَنَّ الْعَذِرَةَ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ فِنَاءُ الدَّارِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ عُرْفًا فِي الْغَائِطِ الْمُسْتَقْذَرِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ عَكْسُ ذَلِكَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَذِرَةُ: فِنَاءُ الدَّارِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَذِرَةَ كَانَتْ تُلْقَى فِي الْأَفْنِيَةِ، وَهَذَا قَاطِعٌ فِي أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الْعَذِرَةِ لِلْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ فِنَاءُ الدَّارِ لِلْمُجَاوَرَةِ.
وَأَمَّا أَنَّ هَذَا الْعُرْفِيَّ حَقِيقَةٌ فِيمَا خُصَّ بِهِ عُرْفًا، فَلِأَنَّ حَدَّ الْحَقِيقَةِ مَوْجُودٌ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. إِذْ حَدُّ الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَضْعًا مَا.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْغَائِطِ فِي الْعَذِرَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَفْظِ الرَّاوِيَةِ فِي الْمَزَادَةِ، وَلَفْظِ الْعَذِرَةِ فِي الْغَائِطِ الْمَشْهُورِ هُوَ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، فَاشْتَهَرَ فِيهِ، فَصَارَ حَقِيقَةً فِيهِ لِاشْتِهَارِهِ.
تَنْبِيهٌ: التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، وَاللُّغَوِيَّةُ وَضْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ.
فَاللُّغَوِيَّةُ الْوَضْعِيَّةُ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ، كَالْإِنْسَانِ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ.
وَاللُّغَوِيَّةُ الْعُرْفِيَّةُ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ، كَالدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْغَائِطِ وَالْعَذِرَةِ فِي الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ.
وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِلْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ.
وَقَوْلُنَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ يَعُمُّ الْحَقِيقَةَ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ.
وَبَعْضُهُمْ قَسَمَ الْحَقِيقَةَ إِلَى لُغَوِيَّةٍ، وَشَرْعِيَّةٍ، وَعُرْفِيَّةٍ عَامَّةٍ، كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَعُرْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْجَوْهَرِ فِي الْمُتَحَيِّزِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قُلْتُ: وَالتَّقْسِيمُ الْمُخْتَارُ لِلْحَقِيقَةِ أَنَّهَا: إِمَّا لُغَوِيَّةٌ، أَوِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَاللُّغَوِيَّةُ وَضْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ كَمَا سَبَقَ، وَالِاصْطِلَاحِيَّةُ شَرْعِيَّةٌ وَغَيْرُ شَرْعِيَّةٍ.
فَالشَّرْعِيَّةُ: كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ.
وَغَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ: هِيَ كُلُّ لَفْظٍ فِي عِلْمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ اشْتَهَرَ عِنْدَ أَهْلِهِ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَدْلُولِهِ عِنْدَهُمْ. فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ اصْطِلَاحَ الْفَلَاسِفَةِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْجَدَلِيِّينَ، وَالنُّحَاةِ، وَالْأَطِبَّاءِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَاصْطِلَاحِ النَّجَّارِينَ، وَالْحَدَّادِينَ، وَالصَّاغَةِ وَالْمَلَّاحِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصُّنَّاعِ عَلَى حَقَائِقِهِمُ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْحَقَائِقُ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَاضِعِ، لُغَةً أَوْ شَرْعًا أَوِ اصْطِلَاحًا.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ حَقِيقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اشْتَهَرَتْ فِيهِ عُرْفًا، مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خُصَّتْ مِنْهُ وَضْعًا، كَالدَّابَّةِ: هِيَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، مَجَازٌ وَضْعِيٌّ فِيهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، لَا فِي كُلِّهِ.
أَمَّا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ، فَيَنْبَنِي الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي ذِكْرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ وَضْعُ الشَّارِعِ ابْتِدَاءً، فَهِيَ حَقِيقَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَضَعْهَا ابْتِدَاءً، بَلْ نَقَلَ الْحَقَائِقَ اللُّغَوِيَّةَ إِلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ، وَزَادَ فِيهَا شُرُوطًا، فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشَّرْعِ، مَجَازٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَضْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالشَّرْعِيُّ: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ فَوَضَعَهُ إِزَاءَ مَعْنًى شَرْعِيٍّ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ.
وَقِيلَ: لَا شَرْعِيَّةَ، بَلِ اللُّغَوِيَّةُ بَاقِيَةٌ، وَزِيدَتْ شُرُوطًا.
لَنَا: حِكْمَةُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَذَلِكَ بِالنَّقْلِ أَسْهَلُ مِنْهُ بِالتَّبْقِيَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ.
ــ
أَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَتَلْخِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى كَشْفٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ يَتَسَلَّمُهُ تَقْلِيدًا، وَلَوْ سُئِلَ عَنْ تَحْقِيقِهِ لَمْ يُفْصِحْ بِهِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا إِمْكَانُ وَضْعِ الشَّارِعِ أَلْفَاظًا مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ تُعْرَفُ بِهَا، فَلَا خِلَافَ فِيهِ - أَعْنِي الْإِمْكَانَ - إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي اسْتُفِيدَتْ مِنْهَا الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ: هَلْ خَرَجَ بِهَا الشَّارِعُ عَنْ وَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِمْ؟
مِثَالُهُ: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَالزَّكَاةَ: الطَّهَارَةُ أَوِ النَّمَاءُ، وَالْحَجَّ: الْقَصْدُ. وَفِي الشَّرْعِ: الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ: أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ ذَاتُ شُرُوطٍ وَأَرْكَانٍ، وَالزَّكَاةُ: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مُقَدَّرٍ مِنْ مِقْدَارٍ خَاصٍّ وَنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الْمَالِ، إِلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ عَلَى وَجْهِ الْقِرْبَةِ. فَهَلْ خَرَجَ الشَّارِعُ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْرَضَ فِيهَا عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ، فَلَمْ يُلَاحِظْهُ أَصْلًا، بَلْ خَطَفَ مَثَلًا لَفْظَ الصَّلَاةِ فَوَضَعَهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَعْرُوفَةِ شَرْعًا، وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: مَا نَقَلَهُ الشَّرْعُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَيْ: مُعْرِضًا عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ. أَمْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ مَوْضُوعِهِمْ، بَلْ لَاحَظَ فِي كُلِّ لَفْظٍ مَوْضُوعَهُ اللُّغَوِيَّ، لَكِنَّهُ زَادَ فِيهِ شُرُوطًا شَرْعِيَّةً؟
مَثَلًا: إِنَّ مَوْضُوعَ الصَّلَاةِ لُغَةً - وَهُوَ الدُّعَاءُ - مُرَادٌ لِلشَّرْعِ، وَمُلَاحَظٌ فِي نَظَرِهِ، لَكِنْ ضُمَّ إِلَيْهِ اشْتِرَاطُ الْوُضُوءِ، وَالْوَقْتِ، وَالسُّتْرَةِ، وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالنِّيَّةِ، وَالتَّحْرِيمَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالتَّسْلِيمِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: وَقِيلَ: لَا شَرْعِيَّةَ، أَيْ: مُسْتَقِلَّةٌ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللُّغَوِيَّةِ، بَلِ اللُّغَوِيَّةُ بَاقِيَةٌ، وَزِيدَتْ شُرُوطًا، فَهَذَا تَلْخِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ: مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ، كَالْعَيْنِ وَالْقُرْءِ، لِأَنَّ الْمَدْلُولَ مُخْتَلِفٌ مُطْلَقًا بِأَصْلِ الْوَضْعِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاطِئِ كَالْحَيَوَانِ، إِذْ بَيْنَ الصَّلَاةِ لُغَةً وَشَرْعًا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ الدُّعَاءُ، كَمَا أَنَّ بَيْنَ أَنْوَاعِ جِنْسِ الْحَيَوَانِ، كَالْفَرَسِ، وَالْبَعِيرِ، وَالشَّاةِ، وَنَحْوِهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، وَهُوَ الْحَيَوَانِيَّةُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ - هُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّرْعِ: إِمَّا جَارِيَةٌ عَلَى الْأَفْعَالِ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِهَا، فَهِيَ شَرْعِيَّةٌ، أَوْ جَارِيَةٌ عَلَى الْفَاعِلِينَ، كَالْمُؤْمِنِ، وَالْفَاسِقِ، وَالْكَافِرِ، فَهِيَ دِينِيَّةٌ، تَفْرِقَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي أَنَّ الْجَمِيعَ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ. كَذَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي «الْمَحْصُولِ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَمُّوا الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْمُزَكِّيَ أَسْمَاءً دِينِيَّةً، لِجَرَيَانِهَا عَلَى الْفَاعِلِ، وَالْإِيمَانَ وَالْفِسْقَ وَالْكُفْرَ أَسْمَاءً شَرْعِيَّةً، لِجَرَيَانِهَا عَلَى الْفِعْلِ.
وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَمَلِيٌّ، وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ، أَوِ اعْتِقَادِيٌّ، وَهِيَ الدِّينِيَّةُ. وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ لَمْ تَخْلُ عَمَّا يُقَالُ فِيهَا، أَوْلَى وَأَطْرَدُ مِنَ الْأُولَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: حِكْمَةُ الشَّرْعِ تَقْتَضِي» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَنَّ حِكْمَةَ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ، «وَذَلِكَ» ، أَيْ: وَتَخْصِيصُ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ يَحْصُلُ بِالنَّقْلِ، أَيْ: بِنَقْلِ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً إِلَى الشَّرْعِ أَسْهَلَ مِنْ حُصُولِهِ بِتَبْقِيَةِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ، مَعَ زِيَادَةِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ.
أَمَّا أَنَّ حِكْمَةَ الشَّرْعِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ فَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ لَهُ، وَأَنْبَلُ لِقَدْرِهِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ يَكُونُ تَبَعًا لِلُّغَةِ فِي أَلْفَاظِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِقْلَالَ أَشْرَفُ مِنَ التَّبَعِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ
…
وَشَفَتْ أَنْفُسَنَا مِمَّا نَجِدْ
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً
…
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
وَالِاسْتِبْدَادُ: الِاسْتِقْلَالُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ هُوَ أَبْيَنُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَأَجْدَرُ بِزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ يَكُونُ لَفْظُ الصَّلَاةِ مَثَلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الدُّعَاءِ لُغَةً، وَالصَّلَاةِ شَرْعًا، وَصُدُورُ اللَّفْظِ عَنِ الشَّارِعِ قَرِينَةٌ فِي إِرَادَةِ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ، وَالْمُشْتَرَكُ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ الْقَرِينَةُ صَارَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنَ الْمُتَوَاطِئِ، بِتَقْدِيرِ عَدَمِ تَخْصِيصِ الشَّرْعِ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُشْتَرَكَ مَعَ الْقَرِينَةِ أَبْيَنُ مِنَ الْمُتَوَاطِئِ، لِأَنَّ الْقَرِينَةَ تُعَيِّنُ أَحَدَ مَحْمَلَيِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَيَتَبَادَرُ الْفَهْمُ إِلَيْهِ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، وَالْمُتَوَاطِئُ يُبْقِي الذِّهْنَ - لِأَجْلِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ - مُتَرَدِّدًا، لَا يَدْرِي عَلَى مَا يَحْمِلُ لَفْظَهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِهَا، أَوْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا مُمْكِنًا، غَيْرَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى غَيْرِ أَحَدِ مَحْمَلَيْهِ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ، وَالْبَيَانُ أَوْلَى، فَكَانَ أَوْلَى.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: خُذْ عَيْنًا، وَاذْهَبْ فَاشْتَرِ لَنَا خُبْزًا، أَوْ أَحْضِرْ لَنَا عَيْنًا نَشْرَبُ مِنْهَا مَاءً، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عَيْنَ الذَّهَبِ، بِقَرِينَةِ الشِّرَاءِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْأَثْمَانِ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ أَرَادَ عَيْنَ الْمَاءِ بِقَرِينَةِ الشُّرْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ، فَاشْتَرِ لَنَا حَيَوَانًا، بَقِيَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ مُتَرَدِّدًا، بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا، أَوْ فَرَسًا، أَوْ شَاةً، أَوْ ثَوْرًا. وَمُجَرَّدُ هَذَا التَّرَدُّدِ يَكْفِينَا فِي تَرْجِيحِ الِاشْتِرَاكِ مَعَ الْقَرِينَةِ، لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى فَهْمِ الْمُرَادِ.
فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ اسْتَشَارَ أَوْ نَظَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِشِرَاءِ حَيَوَانٍ، وَبِشِرَاءِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى حَيَوَانًا - أُخْرِجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَكَانَ هَذَا طَرِيقًا إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْمَلَامَةِ، لَكِنَّهُ بَعْدَ بُطْءٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنَ الْبَرَاءَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قِيلَ لَهُ: احْفِرْ لَنَا عَيْنًا نَشْرَبْ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِ الْمِسْحَاةِ، قَاطِعًا بِأَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ الْمَاءِ، وَالْمُقَابَلَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ الْمُتَوَاطِئِ وَالْمُشْتَرَكِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمُرَادِ، فَلَا يَرُدُّ قَوْلَ الْخَصْمِ: الْحَمْلُ عَلَى التَّوَاطُؤِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُشْتَرَكِ الْمُجَرَّدِ عَنْ قَرِينَةٍ، لَا فِي الْمُقْتَرِنِ بِهَا.
وَأَمَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّرْعِ مُسَمَّيَاتِهِ بِأَسَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ، يَكُونُ بِالنَّقْلِ أَسْهَلَ مِنْهُ بِالتَّبْقِيَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ، فَلِوَجْهَيْنِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّقْلَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَالتَّبْقِيَةَ مَعَ الزِّيَادَةِ فِعْلَانِ، وَفِعْلٌ وَاحِدٌ أَسْهَلُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْ فِعْلَيْنِ بِالضَّرُورَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنْ لُزُومِ الْإِبْهَامِ بِالتَّوَاطُؤِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا أَبْقَى لَفْظَ الصَّلَاةِ مَثَلًا عَلَى مُسَمَّى الدُّعَاءِ لُغَةً، ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ شُرُوطَ الصَّلَاةِ وَأَرْكَانَهَا، وَقَعَ التَّرَدُّدُ عِنْدَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ بَيْنَ الْمُرَادِ اللُّغَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، فَحَصَلَ الْإِبْهَامُ، بِخِلَافِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنَ الشَّرْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَاطِعًا فِي الْمُرَادِ الشَّرْعِيِّ كَمَا سَبَقَ.
قَالُوا: الْعَرَبُ لَمْ تَضَعْهَا فَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا.
قُلْنَا: عَرَبِيَّةٌ بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا مَجَازًا، وَإِنْ سُلِّمَ، فَلَا يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا بِأَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالُوا: لَوْ فَعَلَ، لَعَرَّفَ الْأُمَّةَ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ.
ــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْعَرَبُ لَمْ تَضَعْهَا» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ ثَبَتَتِ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْهَا، وَكُلُّ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ، فَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، فَالْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ لَوْ ثَبَتَتْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا، لَكِنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، فَهَذِهِ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ عَرَبِيَّةٌ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَهِيَ بَعْضُهُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً، لَكَانَ بَعْضُ الْقُرْآنِ غَيْرَ عَرَبِيٍّ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْقُرْآنِ غَيْرَ عَرَبِيٍّ، لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ عَرَبِيًّا.
وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، فَبِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ، فَتَكُونُ عَرَبِيَّةً وَالْعَرَبِيُّ مَا وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْحَقَائِقُ مِنْ مَوْضُوعَاتِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِ وَضْعًا اسْتِقْلَالِيًّا، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَبْقَاهَا عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا فِي الْأَصْلِ، وَزَادَهَا شُرُوطًا شَرْعِيَّةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا عَرَبِيَّةٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَرَبَ لَوْ لَمْ تَضَعْ هَذِهِ الْحَقَائِقَ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً، قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ، فَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، مَمْنُوعٌ، بَلْ جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحَقَائِقُ عَرَبِيَّةً، بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا مَجَازًا عَنِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ تَضَعْهُ الْعَرَبُ لَا يَكُونُ عَرَبِيًّا، لَخَرَجَتْ مَجَازَاتُ اللُّغَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً، لِأَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا الْعَرَبُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا، فَكَمَا سُمِّيَتْ مَجَازَاتُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَرَبِيَّةً - مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً وَضْعًا أَوَّلِيًّا - فَكَذَا حَقَائِقُ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ مَجَازَاتٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللُّغَةِ.
وَمَوْضِعُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُقَالَ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْهَا؟ إِنْ أَرَدْتُمْ لَمْ تَضَعْهَا وَضْعًا أَوَّلِيًّا فِي اللُّغَةِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ عَرَبِيَّةً، بِدَلِيلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ وَلَيْسَ مَوْضُوعًا وَضْعًا أَوَّلِيًّا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا أَصْلًا فَمَمْنُوعٌ، إِذْ هِيَ مَشْهُورَةٌ فِي لُغَتِهِمْ، وَبِاسْتِعْمَالِهِمْ لَهَا صَحَّ اسْتِعَارَةُ الشَّارِعِ لَهَا، وَتَجَوُّزُهُ بِهَا إِلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ يُصَحِّحُ كَوْنَهَا عَرَبِيَّةً مَجَازًا، لِأَنَّ حَدَّ الْمَجَازِ مَوْجُودٌ فِيهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، لَكُنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقُرْآنَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا فِي عَرَبِ اللُّغَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْقُرْآنِ، وَالْيَسِيرُ لَا يَغْلِبُ الْكَثِيرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْفُصَحَاءِ، كَالْأَعْشَى وَغَيْرِهِ أَلْفَاظٌ أَعْجَمِيَّةٌ، وَلَمْ يَخْرُجْ شِعْرُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى فِي أَنَّ فِي الْقُرْآنِ الْمُعَرَّبَ، وَهُوَ مَا أَصْلُهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، وَهُوَ كَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ. وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّخْرُفِ: 3] بِأَلْفَاظٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَسِيرَةٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ سَهْلٌ، إِذِ التَّخْصِيصُ كَثِيرٌ، فَهُوَ أَسْهَلُ مِمَّا يَلْزَمُكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْيِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَجَعْلِ الشَّارِعِ تَابِعًا لِلْوَاضِعِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: لَوْ فَعَلَ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِمُنْكِرِي الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ وَضَعَ لِلْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَسْمَاءً كَمَا ذَكَرْتُمْ، لَوَجَبَ أَنْ تُعَرَّفَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ قَدْ وَضَعَ لِلْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَسْمَاءً وَضْعًا اسْتِقْلَالِيًّا.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ لَهَا، وَلَمْ يُعَرِّفِ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَرِّفِ الْأُمَّةَ بِوَضْعِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلِأَنَّ طَرِيقَ التَّعْرِيفِ: الْعِلْمُ، أَمَّا الْعَقْلُ، فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي اللُّغَاتِ وَنَحْوِهَا، أَوِ النَّقْلُ، وَتَوَاتُرُهُ مَفْقُودٌ، وَإِلَّا لَحَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ كَحُصُولِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِالْوَضْعِ الْمَذْكُورِ عَدَمُ ذَلِكَ الْوَضْعِ، فَلِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لَازِمٌ لِلْوَضْعِ، وَإِذَا انْتَفَى مَلْزُومُهُ.
قُلْنَا: فُهِمَ مَقْصُودُهُ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّكْرِيرِ، فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّوْقِيفِ. ثُمَّ هِيَ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَلَعَلَّهُ قَصَدَ إِيصَالَ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ لِأَهْلِهِ. ثُمَّ يَبْطُلُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ.
ــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: فُهِمَ مَقْصُودُهُ بِالْقَرَائِنِ وَالتَّكْرِيرِ، فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّوْقِيفِ» .
تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ طَرِيقِ تَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِوَضْعِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، حَتَّى يَنْتَفِيَ التَّعْرِيفُ بِانْتِفَائِهَا، بَلْ ثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ فَهْمُ الْأُمَّةِ مَقْصُودَهُ، بِتَكْرِيرِ اسْتِعْمَالِهِ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَضَافُرُ الْقَرَائِنِ الْمُخْتَصَّةِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى أَنَّهُ وَضَعَهَا لَهَا. وَهَذَا كَمَا يَفْهَمُ الْأَطْفَالُ لُغَةَ آبَائِهِمْ بِالتَّكْرَارِ وَالْقَرَائِنِ، لَا بِالْعَقْلِ وَلَا بِالنَّقْلِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ عَرَّفَهُمْ بِالْوَضْعِ الْمَذْكُورِ، فَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ فِي الْمُلَازَمَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ حُجَّةِ الْخَصْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هِيَ اجْتِهَادِيَّةٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مَنْعٌ عَلَى الْمُلَازَمَةِ الَّتِي قَرَّرُوهَا.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ وَضَعَ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ، لَوَجَبَ أَنْ يُعَرِّفَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَلَعَلَّهُ - يَعْنِي الشَّارِعَ - يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِعَدَمِ تَعْرِيفِهِمْ ذَلِكَ تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْبَحْثِ فِيهَا، لِيَحْصُلَ لَهُمْ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ: أَنَّ الِاجْتِهَادِيَّةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالِاعْتِقَادِ الظَّنِّيِّ، وَالْقَطْعِيَّاتِ يَجِبُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ الْقَطْعِيُّ، وَالظَّنُّ وَالْقَطْعُ فِيهِمَا تَابِعٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لِلدَّلِيلِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ بَيَانَ هَذَا فِي آخِرِ كِتَابِ «التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَبْطُلُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» ، أَيْ: دَلِيلُهُمُ الَّذِي قَرَّرُوهُ بِالْمُلَازَمَةِ الْمَذْكُورَةِ يَبْطُلُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي حَكَمَ بِهَا الشَّارِعُ، وَلَمْ يُوصِلْهَا إِلَى الْأُمَّةِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، وَلَيْسَ وَضْعُ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ أَهَمَّ وَلَا أَشَدَّ حُكْمًا مِنْ إِنْشَاءِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ تَعْرِيفِ الْأُمَّةِ بِوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَنْشَأَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ إِيَّاهَا بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ مَسْأَلَةً قَطْعِيَّةً، ثُمَّ رَتَّبْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْإِلْزَامَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً لَنُصِبَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ، يَثْبُتُ الْقَطْعُ فِيهَا بِمِثْلِهِ، كَأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِلْزَامُ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ فِيهَا مُنْتَفٍ قَطْعًا، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ هَذَا النِّزَاعُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا تُصْرَفُ إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُبَيِّنُ الشَّرْعَ، لَا اللُّغَةَ، وَكَذَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنِ الْقَاضِي أَنَّهَا تَكُونُ مُجْمَلَةً، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ مَعْنَيَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّفْظُ لِحَقِيقَتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِلَّا لَاخْتَلَّ مَقْصُودُ الْوَضْعِ، وَهُوَ التَّفَاهُمُ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا تُصْرَفُ إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ» ، إِلَى آخِرِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ بِالدَّلِيلِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الشَّرْعِيَّةَ، كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا صَدَرَتْ عَنِ الشَّارِعِ، أَوْ عَنِ الْفُقَهَاءِ فِي تَخَاطُبِهِمْ وَتَصَانِيفِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ بِنَصٍّ أَوْ قَرِينَةٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَوْضُوعُ اللُّغَوِيُّ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَوْضُوعُ الشَّرْعِيُّ، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، لِأَنَّ الْقَرَائِنَ كَالنُّصُوصِ، أَوْ لَا يُعْلَمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ حَالُ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ هُنَا.
فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُجْمَلَةً، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ شَأْنَ الشَّارِعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ، لَا أَحْكَامَ اللُّغَةِ، فَلَوْ صَرَفْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الصَّادِرَةَ مِنْهُ إِلَى مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ، لَكُنَّا قَدِ اعْتَقَدْنَا فِيهِ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَعْنِيهِ، وَعَدَلَ إِلَى بَيَانِ مَا لَا يَعْنِيهِ، مَعَ أَنَّ مَا تَرَكَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَمَا عَدَلَ إِلَيْهِ قَدْ يَكْفِيهِ غَيْرُهُ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ تَسْفِيهٌ لَا يَلِيقُ أَنْ يُعْتَقَدَ بِعَامَّةِ النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ وَاضِعِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ.
«وَحَكَى عَنِ الْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ -: «أَنَّهَا تَكُونُ مُجْمَلَةً، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ مَعْنَيَيْهَا» يَعْنِي: اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ «وَالْأَوَّلُ أَوْلَى» يَعْنِي: حَمْلَهَا عَلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَتَرَدُّدُهَا بَيْنَ مَعْنَيَيْهَا إِنْ أَرَادُوا بِهِ مُطْلَقَ التَّرَدُّدِ، مَعَ رُجْحَانِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ يُسَلَّمُ لَهُمْ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ مَعَ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُهُ عليه السلام: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الطَّعَامِ، فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيُطْعِمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ حَمَلَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ هَاهُنَا عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَيْ: لِيَتَشَاغَلَ بِالصَّلَاةِ، تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ، لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى تَعْرِيفِهِمْ ذَلِكَ خِطَابًا، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ رِيَاءٍ أَوْ عُجْبٍ، وَلَيْسَ الْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ بِالصَّلَاةِ كَالْحَاصِلِ مِنْهُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْقَوْلِ، وَالشَّارِعِ دَأْبُهُ تَقْلِيلُ الْمَفَاسِدِ، وَالْتِزَامُ أَيْسَرِهَا بِدَفْعِ أَعْظَمِهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَى دَفْعِ الْجَمِيعِ سَبِيلًا.
وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى مُسَمَّاهُ اللُّغَوِيِّ، أَيْ: لِيَدَعَ لَهُمْ وَلَا يَأْكُلَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام: تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْجَزُورِ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ: وَهُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ: وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، مَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، كَمَا يُرْوَى فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ:«وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ لَهُمْ» وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: حَدِيثِ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ أَكَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَرِيدًا، ثُمَّ بَعْدَهُ رُطَبًا، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ! هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هُوَ غَرِيبٌ.
أَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ، فَلَمْ يَرِدْ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، فَلَا جَرَمَ جَزَمَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُوجِبُهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَاللَّفْظُ لِحَقِيقَتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُتَرْجِمُهَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى وَرَدَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي بَابِهِ، لُغَةً أَوْ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، مِنْ مُعَارِضٍ قَاطِعٍ، أَوْ عُرْفٍ مَشْهُورٍ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْتُ رَاوِيَةً، فَإِنَّ إِرَادَةَ الْمَزَادَةِ مِنْهُ ظَاهِرٌ بِالْعُرْفِ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّفْظَ لِحَقِيقَتِهِ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَكُنَّا إِمَّا أَنْ نُعَيِّنَ حَمْلَهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عَلَى مَجَازِهِ، أَوْ نَجْعَلَهُ مُجْمَلًا، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ احْتِمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَالثَّانِي: يُوجِبُ اخْتِلَالَ مَقْصُودِ الْوَضْعِ - وَهُوَ التَّفَاهُمُ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ إِنَّمَا هُوَ مَعَانِيهَا، وَدَلَالَتُهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ جُعِلَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ حَقَائِقِهَا وَمَجَازَاتِهَا لَكَانَتْ مُجْمَلَةً، وَالْمُجْمَلُ شَأْنُهُ أَنْ يَبْقَى مُعَطَّلًا، مَوْقُوفًا عَلَى مَا يُبَيِّنُهُ، وَلَوْ عُطِّلَتْ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ، وَوَقَفَتْ عَلَى مَا يُبَيِّنُهَا وَيُعِينُ الْمُرَادَ مِنْهَا، لَاخْتَلَّ مَقْصُودُ الْإِفْهَامِ مِنْهَا، وَهُوَ عَكْسُ مَقْصُودِ حِكْمَةِ الْوَضْعِ. وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةَ، لَمَا فَهِمَ أَحَدٌ الْمُرَادَ بِلَفْظٍ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي الدَّلِيلِ الْخَارِجِ الْمُبَيِّنِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تَتَبَادَرُ أَفْهَامُهُمْ عِنْدَ إِطْلَاقِ غَالِبِ الْأَلْفَاظِ إِلَى مَعَانِيهَا، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْمَعَانِي مَجَازًا بِاتِّفَاقٍ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالْمَجَازُ، اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ أَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَشَرْطُهُ الْعِلَاقَةُ، وَهِيَ مَا يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ بِوَاسِطَتِهِ عَنْ مَحَلِّ الْمَجَازِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُعْتَبَرُ ظُهُورُهَا، كَالْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ، بِجَامِعِ الشُّجَاعَةِ، لَا عَلَى الْأَبْخَرِ، لِخَفَائِهَا.
وَيُتَجَوَّزُ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ، وَالْعِلَّةِ عَنِ الْمَعْلُولِ، وَاللَّازِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ، وَالْأَثَرِ عَنِ الْمُؤْثَرِ، وَالْمَحَلِّ عَنِ الْحَالِ، وَبِالْعَكْسِ فِيهِنَّ، وَبِاعْتِبَارِ وَصْفٍ زَائِلٍ، كَالْعَبْدِ عَلَى الْعَتِيقِ، أَوْ آيِلٍ، كَالْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ، وَبِمَا بِالْقُوَّةِ عَلَى مَا بِالْفِعْلِ، وَعَكْسُهُ، وَبِالزِّيَادَةِ، نَحْوَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وَبِالنَّقْصِ، نَحْوَ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أَيْ: حُبَّهُ
ــ
الْمَجَازُ
قَوْلُهُ: «وَالْمَجَازُ» : هُوَ «اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ أَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ» ، قَدْ بَيَّنَّا اشْتِقَاقَ الْمَجَازِ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَوْلُنَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ: هُوَ جِنْسُ الْحَدِّ، يَتَنَاوَلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، إِذْ كِلَاهُمَا لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ.
وَقَوْلُنَا: فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ أَوَّلَ: فَصْلٌ لِلْمَجَازِ مِنَ الْحَقِيقَةِ، كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْأَسَدِ الْأَوَّلِ، إِذْ مَوْضُوعُهُ الْأَوَّلُ هُوَ السَّبُعُ.
وَقَوْلُنَا: عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ نُرِيدُ بِهِ وُجُودَ شُرُوطِ الْمَجَازِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ احْتِرَازٍ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ مَا إِذَا انْتَفَتْ شُرُوطُهُ أَوْ بَعْضُهَا، بِأَنْ كَانَ لَا لِعِلَاقَةٍ، أَوْ لِعِلَاقَةٍ خَفِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْطُهُ» ، أَيْ: وَشَرْطُ الْمَجَازِ، أَوْ صِحَّةُ التَّجَوُّزِ، «الْعِلَاقَةُ» ، وَقَدْ أَشَرْنَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فِيمَا سَبَقَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالتَّجَوُّزِ.
قَوْلُهُ: «وَهِيَ» يَعْنِي الْعِلَاقَةَ، هِيَ مَا يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ بِوَاسِطَتِهِ عَنْ مَحَلِّ الْمَجَازِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ كَالشَّجَاعَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ بِوَاسِطَتِهَا عَنِ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ إِذَا أَطْلَقْنَا عَلَيْهِ لَفْظَ أَسَدٍ إِلَى السَّبُعِ الْمُفْتَرِسِ، إِذْ لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَاقَةُ، وَهِيَ صِفَةُ الشَّجَاعَةِ، لَمَا صَحَّ التَّجَوُّزُ، وَلَمَا انْتَقَلَ الذِّهْنُ إِلَى السَّبُعِ الْمُفْتَرِسِ عِنْدَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَلَكَانَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَيْهِ عِلْمِيَّةً ارْتِجَالًا، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْبَلَادَةِ فِي قَوْلِنَا لِلْبَلِيدِ: حِمَارٌ، وَالْكَثْرَةِ فِي قَوْلِنَا لِلْعَالَمِ وَالْجَوَادِ: بَحْرٌ، وَالطُّولِ فِي قَوْلِنَا لِلطَّوِيلِ: نَخْلَةٌ.
وَالْعِلَاقَةُ هَاهُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَا تَعَلَّقَ الشَّيْءُ بِغَيْرِهِ، نَحْوَ عِلَاقَةِ السَّوْطِ وَالْقَوْسِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ عِلَاقَةُ الْمَجَازِ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ؟ وَتَعْلِيقُهَا بِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ انْتِقَالِ الذِّهْنِ بِوَاسِطَتِهَا عَنْ مَحَلِّ الْمَجَازِ إِلَى الْحَقِيقَةِ.
أَمَّا الْعَلَاقَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فَهِيَ عَلَاقَةُ الْخُصُومَةِ وَالْحُبِّ، وَهِيَ تَعَلُّقُ الْخَصْمِ بِخَصْمِهِ، وَالْمُحِبِّ بِمَحْبُوبِهِ.
قَوْلُهُ: «وَيُعْتَبَرُ ظُهُورُهَا» ، إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ: وَيُعْتَبَرُ ظُهُورُ عِلَاقَةِ الْمَجَازِ، أَيْ: أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً، يُسْرِعُ الْفَهْمُ إِلَيْهَا عِنْدَ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَجَازِ، حِرْصًا عَلَى سُرْعَةِ التَّفَاهُمِ، وَحَذَرًا مِنْ إِبْطَائِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَكْسُ