الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي
تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ
، قَوْلَانِ: الْإِثْبَاتُ، لِفَهْمِهِ الْخِطَابَ. وَالْأَظْهَرُ النَّفْيُ، إِذْ أَوَّلُ وَقْتٍ يَفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابَ، غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَنُصِبَ لَهُ عَلَمٌ ظَاهِرٌ يُكَلَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ.
وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَعِتْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَطَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ وَنَحْوِهَا، مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَفِي تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ، قَوْلَانِ» عَنْ أَحْمَدَ:
«الْإِثْبَاتُ» أَيْ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، إِثْبَاتُ تَكْلِيفِهِ، لِأَنَّهُ يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مُمَيِّزًا، لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، خَيْرًا وَشَرًّا، وَجَيِّدًا وَرَدِيئًا.
وَالتَّمْيِيزُ: التَّخْلِيصُ وَالتَّفْصِيلُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «اللُّمَعِ» : التَّمْيِيزُ: تَخْلِيصُ الْأَجْنَاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُقَالُ: مَيَّزْتُ هَذَا مِنْ هَذَا، أَيْ: أَفْرَزْتُهُ عَنْهُ، وَفَصَلْتُهُ مِنْهُ، فَإِذَا فَهِمَ الْمُمَيِّزُ الْخِطَابَ، كَانَ مُكَلَّفًا، كَالْبَالِغِ.
«وَالْأَظْهَرُ» يَعْنِي مِنَ الْقَوْلَيْنِ، «النَّفْيُ» يَعْنِي: نَفْيَ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ، «إِذْ أَوَّلُ وَقْتٍ يَفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابَ، غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَنُصِبَ لَهُ عَلَمٌ ظَاهِرٌ يُكَلَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ» .
قُلْتُ: هَذَا تَوْجِيهٌ ظَاهِرٌ، وَأَزِيدُهُ كَشْفًا بِأَنْ نَقُولَ: الْعَقْلُ قُوَّةٌ غَرِيزِيَّةٌ، يُدْرَكُ بِهَا الْكُلِّيَّاتُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ يُوجَدُ بِوُجُودِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ بِتَزَايُدِ الْبَدَنِ تَزَايُدًا تَدْرِيجِيًّا خَفِيًّا عَنِ الْحِسِّ، كَتَزَايُدِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي النَّمَاءِ، وَضَوْءُ الصُّبْحِ، وَظِلُّ الشَّمْسِ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْمُتَزَايِدَاتِ الْخَفِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى أَوَّلِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَقْتٍ يُفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابُ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ بُلُوغَهُ عَلَمًا ظَاهِرًا عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلتَّكْلِيفِ، وَضَابِطًا لَهُ.
وَعَلَامَاتُ الْبُلُوغِ: الِاحْتِلَامُ، أَوِ الْإِنْبَاتُ، أَوِ اسْتِكْمَالُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، كَمَا ذُكِرَ فِي الْفِقْهِ، يَعْنِي مِنْ أَحْكَامِهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
قَوْلُهُ: «وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَعِتْقِهِ، وَتَدْبِيرِهِ وَطَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ، وَنَحْوِهَا» يَعْنِي: مِنْ أَحْكَامِهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا «مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ» ، أَيْ: عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، أَوْ لَا.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ عَلَى تَفَاصِيلَ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ تَبِعَتِ الْفُرُوعُ أَصْلَهَا وَلَا كَلَامَ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنْهَا، مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، كَمَا سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ وَالْغَرَامَةِ فِي مَالِهِ.
الثَّانِيَةُ: لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ. وَمَا ثَبَتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، كَغَرَامَةٍ، وَنُفُوذِ طَلَاقٍ، فَسَبَبِيٌّ، كَمَا سَبَقَ. فَأَمَّا {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ، إِمَّا عَلَى مَعْنَى: لَا تَسْكَرُوا ثُمَّ تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، أَوْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
ــ
تَكْلِيفُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ:
قَوْلُهُ: «الثَّانِيَةُ» ، أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ، «لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ» يَعْنِي: لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْخِطَابِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِجَامِعِ عَدَمِ الْفَهْمِ، وَإِنِ افْتَرَقُوا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، مِثْلُ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، لَا يَسْتَدْرِكَانِ مَا تَرَكَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، فَإِنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا، لَسَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ.
تَنْبِيهٌ: عَدَمُ الْفَهْمِ فِي هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مُخْتَلِفٌ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، لَا يُدْرِكَانِ مَعْنَى كَلَامِ الشَّرْعِ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَبِالْأَصَالَةِ، لِأَنَّ عَقْلَهُ الَّذِي يَفْهَمُ ذَلِكَ بِهِ لَمْ يَكْمُلْ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ، فَبِعَارِضٍ قَوِيٍّ قَهْرِيٍّ، وَهُوَ الْجُنُونُ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ، عَدَمُ فَهْمِهِ لِعَارِضٍ، لَكِنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ، فَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، هَلْ هُوَ كَالصَّاحِي أَوْ كَالْمَجْنُونِ؟ وَالنَّائِمُ، عَدَمُ فَهْمِهِ لِعَارِضٍ طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ النَّوْمُ، أَمَّا النَّاسِي، فَيُخَالِفُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ فِي السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَمَّا السَّبَبُ، فَلِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ فَهْمِهِ عَارِضٌ ضَرُورِيٌّ خَفِيفٌ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ بِكَلِمَةٍ، فَيَذَّكَّرُ، بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ. وَأَمَّا فِي الْمُسَبَّبِ - وَهُوَ عَدَمُ الْفَهْمِ -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي غَيْرِهِ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ، بِحَيْثُ لَوْ خُوطِبَ أَحَدُهُمْ بِخِطَابِ الشَّرْعِ لَمْ يَفْهَمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي النَّاسِي، انْقِطَاعُ اتِّصَالِ ذِكْرِهِ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ، بِحَيْثُ لَوْ سَهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: صَلِّ، أَوْ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَنَحْوُهُ، سَمِعَ وَفَهِمَ وَتَذَكَّرَ، وَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُسْقِطَاتِ لِلتَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْكَافِي مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ تَوْجِيهِ التَّكْلِيفِ، ذِكْرُ الْإِنْسَانِ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا.
وَشَرْطُ الشَّيْءِ، يَجِبُ دَوَامُهُ وَاتِّصَالُهُ، كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَنَحْوِهِ، فَمَتَى انْقَطَعَ اتِّصَالُهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، زَالَ التَّكْلِيفُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَتْ نِيَّةُ الْوُضُوءِ أَوِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ زَالَ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ فِي وَقْتٍ مَا، زَالَ لُزُومُهُ الَّذِي الْقَبْضُ شَرْطٌ لَهُ. فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يُكَلَّفُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ، فَهُوَ مُلَاحَظَةٌ لِأَمْرٍ تَقْدِيرِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ فِي تَقْدِيرِ التَّجَدُّدِ عِنْدَ بُلُوغِ كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَعِنْدَ تَكْلِيفِهِ بِكُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْأَحْكَامِ الْمُتَكَرِّرَةِ هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْخِطَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا، عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَنُقَرِّرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَالْمُكَلَّفُ كُلَّ يَوْمٍ، هُوَ مُخَاطَبٌ فِي التَّقْدِيرِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ. عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا بِخِطَابٍ مُقَدَّرٍ مُتَجَدِّدٍ، وَالْأُمُورُ التَّقْدِيرِيَّةُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَفْهَمُونَ الْخِطَابَ، أَيْ: لَوْ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الْمُقَدَّرَ خُوطِبُوا بِهِ الْآنَ تَحْقِيقًا، لَمْ يَفْهَمُوهُ، إِلَّا النَّاسِيَ بِوَاسِطَةِ التَّذَكُّرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
قَوْلُهُ: «وَمَا ثَبَتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ» يَعْنِي: أَحْكَامَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ، «كَغَرَامَةٍ، وَنُفُوذِ طَلَاقٍ، فَسَبَبِيٌّ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُكَلَّفِينَ، لَمَا ثَبَتَتْ أَحْكَامُهُمْ، كَالْغَرَامَاتِ عَنِ الْجِنَايَاتِ، كَالنَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى مَالٍ فَيُتْلِفُهُ، أَوْ إِنْسَانٍ فَيَقْتُلُهُ، وَنُفُوذُ الطَّلَاقِ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي حَقِّهِمْ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ، بَلْ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، «كَمَا سَبَقَ» فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: الْغَرَامَةُ لَازِمَةٌ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا جَنَوْهُ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَفِيمَا يُوجِبُهَا، كَقَتْلِ الْخَطَأِ، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ كَمَا سَبَقَ.
أَمَّا الطَّلَاقُ، فَلَا يَقَعُ مِنَ النَّائِمِ، لِأَنَّ شَرْطَهُ قَصْدُ الْإِيقَاعِ، وَلَا قَصْدَ لِلنَّائِمِ، بَلْ كَلَامُهُ فِي مَنَامِهِ، كَكَلَامِ الْمُبَرْسَمِ فِي بِرْسَامِهِ.
أَمَّا النَّاسِي وَالسَّكْرَانُ، فَفِي طَلَاقِهِمَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي النَّاسِي قَوْلَانِ، وَفِي السَّكْرَانِ أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِيهِمَا، الْوُقُوعُ، وَالْأَشْبَهُ عَدَمُهُ، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَيْنِ، وَلَا عِبَادَةَ لِغَيْرِ مُكَلَّفٍ.
فَإِنْ جَعَلُوا الْوُقُوعَ فِيهِمَا سَبَبًا، عَارَضَهُمْ فِي النَّاسِي قَوْلُهُ عليه السلام: عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَفِي السَّكْرَانِ - حَيْثُ قَالُوا: يَقَعُ طَلَاقُهُ عُقُوبَةً لَهُ، لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ - أَنَّهُمْ قَدْ عَاقَبُوهُ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا، وَجَعْلِهِ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَهْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْجِنَايَةُ شَرْعًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عُقُوبَتَانِ.
وَقَوْلُنَا: مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، احْتِرَازٌ مِنْ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدًا مَمْلُوكًا، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِحَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَالْقِيمَةُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، فَهُمَا جِهَتَانِ.
قَوْلُهُ: «فَأَمَّا {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} » [النِّسَاءِ: 43] ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاءِ: 43] وَهُوَ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، وَلَا يُخَاطِبُ الشَّارِعُ إِلَّا مُكَلَّفًا، فَالسَّكْرَانُ مُكَلَّفٌ، وَجَوَابُهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، تَأْوِيلُهَا وَاجِبٌ، وَلَهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: «لَا تَسْكَرُوا ثُمَّ تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ» ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]، أَيِ: اسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ، وَقَوْلُنَا: لَا تَقْرَبِ التَّهَجُّدَ وَأَنْتَ شَبْعَانُ، أَيِ: اسْتَمِرَّ عَلَى خِفَّةِ الْبَدَنِ، حَتَّى تَقُومَ لِلتَّهَجُّدِ، فَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ: اسْتَمِرُّوا عَلَى الصَّحْوِ حَتَّى تَدْخُلُوا الصَّلَاةَ، وَتَفْرَغُوا مِنْهَا، وَلَا تَدْخُلُوهَا سُكَارَى، فَتَضْطَرِبَ عَلَيْكُمْ صَلَاتُكُمْ. وَحَاصِلُ هَذَا، أَنَّهُمْ خُوطِبُوا فِي حَالِ الصَّحْوِ، بِأَنْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى، لَا أَنَّهُمْ خُوطِبُوا حَالَ السُّكْرِ، وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا، فَالسُّكْرُ مُتَعَلِّقٌ بِقُرْبَانِ الصَّلَاةِ، لَا بِخِطَابِ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِلْمُصَلِّينَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى - أَيْ أَدْعُوكُمْ وَأُخَاطِبُكُمْ وَأَنْتُمْ سُكَارَى - لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خِلَافُ ذَلِكَ ظَاهِرَ الْكَلَامِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافَ صَرِيحِهِ وَنَصِّهِ الْقَاطِعِ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَنْبَغِي أَنَّ يُسَمَّى هَذَا الْوَجْهُ تَأْوِيلًا، بَلْ هُوَ مَنْعٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، بَلْ لِلصُّحَاةِ، بِأَنْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى، وَفِي حَالِ السُّكْرِ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْخِطَابُ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ «مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ، وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ» ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الثَّانِي «جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ» . أَيْ: يَجِبُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا، أَيْ: لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي أَشْعَرَتْ بِخِطَابِ السَّكْرَانِ، وَعَدَمِ الْفَهْمِ، الَّذِي دَلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ خِطَابِهِ، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ وَحَمْلُهَا عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مُتَعَيِّنًا لِتَعَذُّرِ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَاطِعُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَابِ الْآيَةِ، كَانَ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً، أَمَّا الْآنَ، فَقَدْ حُرِّمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَمَبَادِيهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّشْأَةِ، حَيْثُ يَرَى النَّاسَ يَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ، فَيَظُنُّ ذَلِكَ مُبَاحًا أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَرَى إِبَاحَتَهَا، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ «مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ» ، فَتَقْوَى الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِهِ.
وَالنَّشَاطُ: خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ تَكُونُ عِنْدَ سُرُورِ النَّفْسِ وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ.
وَالطَّرَبُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، لِشِدَّةِ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ عَنْ سُرُورٍ، وَهُوَ مِمَّا حَرَّفُوهُ، وَكَانَ عَامًّا فَخَصُّوهُ، كَالْمَأْتَمِ: هُوَ اسْمٌ لِجَمْعِ النِّسَاءِ، فِي فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ، فَخَصُّوهُ بِالْحُزْنِ.
الثَّالِثَةُ: الْمُكْرَهُ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: عَاقِلٌ قَادِرٌ يَفْهَمُ، فَكُلِّفَ كَغَيْرِهِ. وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، أَوِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى، قِيلَ: أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ. ثُمَّ إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِلَّا كَانَ مُطِيعًا.
ــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثَةُ» ، أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ «الْمُكْرَهِ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ» .
قُلْتُ: حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا مُطْلَقًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مُطْلَقًا.
الثَّالِثُ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ التَّرْكُ، كَمَنْ أُلْقِيَ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ مَالٍ فَأَتْلَفَهُ، أَوْ صَائِمٌ أُلْقِيَ مَكْتُوفًا فِي الْمَاءِ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُكَلَّفْ، وَإِلَّا كُلِّفَ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْوَاضِحِ» عَنْ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ.
وَالْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ: الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قُلْتُ: «الْمُكْرَهُ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ» إِلَى آخِرِهِ، لِأَنِّي أَخْتَارُ عَدَمَ تَكْلِيفِهِ مُطْلَقًا، كَمَا ذَكَرْتُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا حَكَيْتُ فِي أَوَّلِهَا مَا عَلِمْتُهُ قِيلَ فِيهَا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَوْلُهُ: «لَنَا» هَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى لِسَانِ أَصْحَابِنَا، أَيْ: لَنَا، أَنَّ الْمُكْرَهَ «عَاقِلٌ قَادِرٌ يَفْهَمُ، فَكُلِّفَ، كَغَيْرِهِ» أَيْ: كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ، وَحَاصِلُهُ، أَنَّهُ قِيَاسٌ لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْمُخْتَارِ، بِجَامِعِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ.
قَوْلُهُ: «وَإِذَا أُكْرِهَ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ ثَانٍ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ «عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، أَوِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى، قِيلَ» يَعْنِي: فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ: قَدْ «أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ» فَيُسَمَّى مَا أَدَّاهُ مُكْرَهًا تَكْلِيفًا.
قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةَ إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بِمَثَابَةِ تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ، وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بِوُقُوعِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى قَوْلِنَا: أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ، حَصَلَ لَنَا الْمَقْصُودُ مِنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا.
أَمَّا كَوْنُهُ مُطِيعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ غَيْرَ مُطِيعٍ، فَذَاكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا ظَاهِرًا.
أَمَّا كَوْنُهُ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، فَنَقُولُ: إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةَ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ أَوْ صَلَّى اتِّقَاءً لِلْقَتْلِ، لَا انْقِيَادًا بِالْبَاطِنِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ، كَانَ عَاصِيًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَقِيَّةً، بَلْ إِيمَانًا وَانْقِيَادًا صَحِيحًا خَالِصًا، كَانَ مُطِيعًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
قَالُوا: الْإِكْرَاهُ يُرَجِّحُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ فَهُوَ كَالْآلَةِ، فَالْفِعْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكْرَهِ. وَتَرْجِيحُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بَقَاءَ نَفْسِهِ يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلِذَلِكَ يُقْتَلُ.
ــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ مِنْ مَنْعِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الْإِكْرَاهَ يُرَجِّحُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ» وَإِذَا رَجَّحَ مِنْهُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، صَارَ وَاجِبًا، «لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ كَالْآلَةِ» ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ، وَالْفِعْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِهَا - كَالْآلَةِ، لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُهُ، كَمَا لَا تُكَلَّفُ الْآلَاتُ.
قُلْتُ: هَذَا تَقْرِيرٌ ظَاهِرٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ: صَارَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَاجِبًا، لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ:
إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُلْجَأُ إِلَى الْفِعْلِ، كَالْمُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ، فَهُوَ وَاضِحٌ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ، كَالْمُكْرَهِ بِضَرْبٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَقْلًا، لِجَوَازِ أَنْ يَحْتَمِلَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَلَا يَفْعَلَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ رَفَعَ الضِّرَارَ، وَأَقَامَ الْأَعْذَارَ، حَيْثُ قَالَ سبحانه وتعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] ، فَأَجَازَ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ:«وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ، دَفْعُ ضَرَرِ الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِجَابَةِ الْمُكْرِهِ لَهُ إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا سَلَكَ طَرِيقَ الرُّخْصَةِ وَالْجَوَازِ الْمَذْكُورِ، صَارَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَاجِبًا، أَيْ: رَاجِحَ الْوُقُوعِ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ الرُّخْصَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بِالْإِجَابَةِ، فَصَارَتْ مِمَّا لَا تَتِمُّ الرُّخْصَةُ إِلَّا بِهِ، فَكَانَتْ - أَعْنِي الْإِجَابَةَ - رُخْصَةً رَاجِحَةَ الْوُقُوعِ شَرْعًا، لِتَوَقُّفِ حُصُولِ الرُّخْصَةِ الْمَقْصُودَةِ - وَهِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ - عَلَيْهَا. فَهَذَا تَحْقِيقٌ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَتَرْجِيحُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بَقَاءَ نَفْسِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَرَدٌّ عَلَى دَلِيلِ الْمَانِعِينَ لِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ.
وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا، لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْقَتْلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَمَا أَثِمَ بِفِعْلِهِ، وَلَمَا وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ بِهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْكُ، وَيَأْثَمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ تَرْجِيحَهُ بَقَاءُ نَفْسِهِ، يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا، وَبَيَانُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِكْرَاهُ الْقَتْلُ، بِأَنْ يُقَالَ لِزَيْدٍ مَثَلًا: إِنْ قَتَلْتَ عَمْرًا وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، فَيَقَعُ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ فَيَسْلَمَ، أَوْ يَمْتَنِعَ فَيُقْتَلُ، فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ تَفْوِيتِ نَفْسِهِ وَنَفْسِ غَيْرِهِ، وَهُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدْلِ الشَّرْعِ، فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ رَجَّحَ بَقَاءَ نَفْسِهِ عَلَى فَوَاتِهَا وَبَقَاءَ نَفْسِ غَيْرِهِ، فَصَارَ مُخْتَارًا، وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ زَيْنَبَ، فَطَلَّقَ عَمْرَةَ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِدَرَاهِمَ، فَأَقَرَّ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِالْعَكْسِ فِيهِمَا، فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ أَوْلَى بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ رُجْحَانِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ عَلَى الْأَمْوَالِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ، يَخْرُجُ بِهِ حَدُّ الْإِكْرَاهِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ يَصِيرُ عِنْدَ الْقَتْلِ مُخْتَارًا لَا مُكْرَهًا، فَلِذَلِكَ يُقْتَلُ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ، مَنْ رَآهَا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، إِذْ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ وَاجِبَةٌ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهَا وَتَركِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ. وَمَنْ لَا، فَلَا. وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ، يَقْتَضِي عَدَمَ تَكْلِيفِهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ» . هَذَا مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ اسْتَخْرَجْتُهُ أَنَا بِالنَّظَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، يُنَاسِبُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ، «فَمَنْ رَآهَا خَلْقَ اللَّهِ سبحانه وتعالى» اتَّجَهَ لَهُ أَنْ يَقُولَ «بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ» لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ سبحانه وتعالى عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تَصِيرُ بِخَلْقِ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَهَا وَاجِبَةً، صَارَ التَّكْلِيفُ بِهَا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، سَوَاءً كَانَ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ بِتَرْكِ مَنْهِيٍّ، كَالزِّنَى وَالرِّبَا، لِأَنَّ مَا اسْتَقَلَّتْ قُدْرَةُ الْبَارِئِ جل جلاله بِخَلْقِهِ وَإِيجَادِهِ، كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَإِيجَادًا لِلْمَوْجُودِ، وَخَلْقًا لِلْمَخْلُوقِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَائِرَ التَّكْلِيفِ الْإِنْسَانِيِّ تَكْلِيفٌ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْمُكْرَهِ: إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ، فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَخَلْقِهِ، فَلْيَصِحَّ هَاهُنَا أَيْضًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَخْلُوقٌ لِلَّهِ سبحانه وتعالى.
قَوْلُهُ: «وَهَذَا أَبْلَغُ» يَعْنِي: أَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ أَفْعَالَهُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لَهُ، أَبْلَغُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَقْلًا بِاحْتِمَالِ أَلَمِ الْإِكْرَاهِ، وَقَدْ شُوهِدَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْ لَا، فَلَا» ، أَيْ: وَمَنْ لَا يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ سبحانه وتعالى، لَمْ يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ، لَا لِلَّهِ سبحانه وتعالى، تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ، إِذْ لَوْ خَلَقَهَا، ثُمَّ عَاقَبَ عَلَيْهَا، كَانَ ذَلِكَ جَوْرًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِهِمْ تَقْرِيرُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ كُلَّهُ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَيَلْحَقُ بِهِ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى.
وَذَكَرَ الْكِنَانِيُّ لِلْمَسْأَلَةِ مَأْخَذًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ مَا يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ لِدَاعٍ، أَيْ: مَا يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إِلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ، أَمْ لَا؟
قُلْتُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ وُقُوعُهُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي عَدَمَ تَكْلِيفِهِ» يَعْنِي تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا، أَمَّا الَّذِي بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ بِمُطْلَقِ الْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا عُرِّفَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ فَلِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ وَاجِبٌ مِنْهُ شَرْعًا، فَفِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَتَضْيِيقٌ لِمَا وَسَّعَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَيُرْوَى: عُفِيَ لِأُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ» إِشَارَةٌ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ وَنُكْتَتِهِ الَّتِي تَاهَتْ فِيهَا الْعُقُولُ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلَّهِ سبحانه وتعالى فِي خَلْقِهِ تَصَرُّفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَكْوِينِيٌّ بِحُكْمِ إِيجَادِهِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمْ، فَبِذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَغَيْرِهِ، وَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] ، وَهُوَ عَدْلٌ بَاطِنٌ، لِمَا سَنُقَرِّرُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالتَّصَرُّفُ الثَّانِي: تَكْلِيفِيٌّ بِحُكْمِ اسْتِدْعَائِهِ مِنْهُمُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي.
فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ، سَلَكَ مَعَهُمْ مَسْلَكَ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مُحَالًا فِي الظَّاهِرِ، بَلْ أَزَاحَ جَمِيعَ عِلَلِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا الْمَحْرَمُ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، وَالرَّجُلُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَحْمَلٌ يَسْوي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَلَا الْأُصُولِ إِلَّا مَسْأَلَةَ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفِ الْأَوَّلِ، لَا مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ. وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الظَّاهِرُ، فَمُقْتَضَاهُ: أَنْ لَا يُكَلَّفَ الْمُكْرَهُ، لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْإِسْرَاءِ: 15] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ تَقْرِيرِ نُكْتَةِ الْقَدَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَالِمٌ بِمَا كَانَ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمَا يَكُونُ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، فَاللَّهُ سبحانه وتعالى عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْخَلْقَ مُسْتَقِلِّينَ بِأَفْعَالِهِمْ خَلْقًا وَإِيجَادًا، لَكَانُوا كَمَا هُمُ الْآنَ، طَائِعٌ وَعَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ. فَعَلِمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَكُونُ كَافِرًا، وَأَنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْحَالَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِقْلَالِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ، وَإِجْبَارِهِمْ عَلَيْهَا بِسِرِّ الْقَدَرِ سَوَاءٌ، رَجَّحَ جَانِبَ ضَبْطِ الْوُجُودِ، وَتَعْمِيمِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْفَالِ: 23] ، إِلَى هَذَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ هَذَا الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ سِرَّ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِخَلْقِهِ، بِسِرِّ الْقَدَرِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عَدْلٌ بَاطِنٌ، وَإِزَاحَتُهُ لِعِلَلِهِمْ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ ظَاهِرًا عَدْلٌ ظَاهِرٌ، فَالْوَاجِبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَدْلِ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ، إِذَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ بِأَسْرِهَا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ، فَلْيَكُنِ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا، لِأَنَّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى، إِنْ كَلَّفَ خَلْقَهُ بِمَا لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ، فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَصَرُّفِهِ الْكَوْنِيِّ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ خَاصٌّ بِهِ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ حَتَّى يَلْحَقَ الْمُكْرَهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ - أَعْنِي مَسْأَلَةَ تَكْلِيفِ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ - أَصْلٌ لِأَحْكَامِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَفْعَالِهِمَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِهِمَا، رَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ الْخِطَابِيِّ، فَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُنَافِيَاتِهَا، نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ كَذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ، وَالطَّلَاقُ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِتَكْلِيفِهِمَا، مِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ أَصْلَهُ، وَأَلْغَى أَفْعَالَهُمَا، فَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهَا تَكْلِيفًا، لَا أَقُولُ عَدْلِيًّا، إِذْ قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا. أَعْنِي: بَيْنَ التَّكْلِيفِ وَالْعَدْلِ فِيمَا سَبَقَ. فَلَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، ضَمِنَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا أَحْكَامَ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، وَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، فَكَلَامُهُمَا فِي الصَّلَاةِ سَبَبُ بُطْلَانِهَا. وَوَطْؤُهُمَا فِي الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ سَبَبُ بُطْلَانِهِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، وَالْحِنْثُ مِنْهُمَا، سَبَبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى مَحَلِّهِ سَبَبٌ لِوُقُوعِهِ، كَقَوْلِ الْمُكْرَهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَى، فَزَنَتْ، لَمْ تُحَدَّ، وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ، لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الْإِكْرَاهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحَدُّ، فَرْقًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّجُلَ فَاعِلٌ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، وَبِأَنَّهُ لَوْلَا الدَّاعِي الِاخْتِيَارِيُّ لَمَا انْتَشَرَتْ آلَتُهُ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النُّورِ: 2] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمَا، وَبَدَأَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِذِكْرِهَا، فَحَظُّهَا مِنَ الزِّنَى أَوْفَرُ، وَلِهَذَا أَخَّرَهَا فِي قَوْلِهِ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [الْمَائِدَةِ: 38] ، لِمَا كَانَ حَظُّ الرَّجُلِ مِنَ السَّرِقَةِ أَوْفَرُ.
وَأَمَّا انْتِشَارُ الْآلَةِ، فَإِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَلَيْسَ حَدُّ الزَّانِي الْمُخْتَارِ عَلَى انْتِشَارِ آلَتِهِ، بَلْ عَلَى إِقْدَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى الزِّنَى. فَلَعَلَّ هَذَا لَوْ لَمْ يُكْرَهْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الزِّنَى.
وَالْمُخْتَارُ فِيهِمَا، أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ وَضْعِيًّا سَبَبِيًّا.
أَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا، الْمُكْرَهُ الْحَامِلُ لِتَسَبُّبِهِ، وَالْقَاتِلُ لِمُبَاشَرَتِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُلْجَأٌ، وَالْحَامِلَ مُتَسَبِّبٌ غَيْرُ مُبَاشِرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْحَامِلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فَعَلَهُ بِالْإِكْرَاهِ بِوَاسِطَةِ الْقَاتِلِ، وَالْقَاتِلُ كَالْآلَةِ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِمُبَاشَرَتِهِ دُونَ الْحَامِلِ، فَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مُوَافِقٌ لِمَسْأَلَةِ الْأَصْلِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي: لَا يُخَاطَبُونَ مِنْهَا بِغَيْرِ النَّوَاهِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ مُطْلَقًا. وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا، دُونَهُمْ.
ــ
قَوْلُهُ: «الرَّابِعَةُ» أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ، «الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي» أَيِ: الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَنَا «لَا يُخَاطَبُونَ مِنْهَا بِغَيْرِ النَّوَاهِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ» يَعْنِي أَكْثَرَهُمْ كَمَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، «وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ» يَعْنِي: أَصْحَابَ الرَّأْيِ «عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ مُطْلَقًا» يَعْنِي: بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
قَالَ الْآمِدِيُّ: تَكْلِيفُهُمْ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَوَاقِعٌ شَرْعًا، خِلَافًا لِأَكْثَرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي خِطَابِهِمْ بِالْفُرُوعِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ خِطَابُهُمْ بِهَا، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ.
قُلْتُ: وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثَلَاثَةٌ، ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَثَمَّ قَوْلٌ رَابِعٌ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَغَيْرِهِ، فَيُخَاطَبُ الْمُرْتَدُّ دُونَ الْأَصْلِيِّ.
قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَهُوَ مُؤَاخَذَتُهُ بِسَابِقَةِ الْتِزَامِهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ.
عُدْنَا إِلَى تَوْجِيهِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
هَذَا، مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَصَرٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ - وَهُوَ الْإِيمَانُ هَاهُنَا - لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ شَرْطًا، فَيُكَلَّفُونَ بِالْفُرُوعِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مَوْجُودًا حَالَ تَكْلِيفِهِمْ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الْفُرُوعِ مِنْهُمْ، لَا فِي حِصَّةِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْفُرُوعِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ تَوَقُّفَ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ، وَبَيَانُ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ، يَظْهَرُ بِمَا يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ، كَأَمْرِ الْمُحَدِّثِ بِالصَّلَاةِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ. وَمَنْعُ الْأَصْلِ، يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عُمْرَهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ وَالنَّصُّ، نَحْوَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} .
ــ
قَوْلُهُ: «لَنَا الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ» إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِمَّا فِي جَوَازِهَا عَقْلًا، أَوْ فِي وُقُوعِهَا شَرْعًا.
أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا، فَمَقْطُوعٌ بِهِ، إِذْ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا، بِشَرْطِ أَنْ تُقَدِّمُوا الشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمُحَدِّثَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ الْأَصْلِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: مَنْعُ أَنَّ الْمُحْدِثَ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ، «يَسْتَلْزِمُ أَنَّ» الْمُحْدِثَ «لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عُمْرَهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ» لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَأْمُورًا بِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ «وَالْإِجْمَاعُ خِلَافُهُ» أَيْ: خِلَافُ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ، بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ طُولَ عُمْرِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا.
وَفَرَّعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْإِلْزَامِ، أَنَّ الْمُحْدِثَ لَوْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ، يَلْزَمُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِاشْتِرَاطِ تَقْدِيمِهَا، وَهُوَ إِلْزَامٌ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَةَ جُزْءُ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً مُنْفَرِدَةً عَنْهَا، كَالْوُضُوءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُنْزِلُوا أَجْزَاءَهَا مَنْزِلَةَ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَقِلَّةِ، مُؤَاخَذَةً بِمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُ الْخَصْمِ مِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اشْتِرَاطِ التَّقْدِيمِ، وَجُزْءُ الشَّيْءِ يَتَقَدَّمُهُ، وَيَتَوَقَّفُ الشَّيْءُ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: هَذَا تَدْقِيقٌ، لَيْسَ وَرَاءَهُ تَحْقِيقٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ إِعْنَاتِ الْخَصْمِ.
وَقَوْلِي: «وَمَنْعُ الْأَصْلِ» أَيْ: مَنْعُ حُكْمِ الْمُحْدِثِ الْمَذْكُورِ، يَسْتَلْزِمُ مَا قَرَّرْنَاهُ، لِأَنَّا جَعَلْنَا حُكْمَ الْمُحْدِثِ - وَهُوَ تَكْلِيفُهُ بِالصَّلَاةِ - بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ، أَصْلًا لِحُكْمِ الْكَافِرِ - وَهُوَ تَكْلِيفُهُ بِالْفُرُوعِ - بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْكِنَانِيُّ فِي «مَطَالِعِ الْأَحْكَامِ» : مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْتِيبِ الثَّوَانِي عَلَى الْأَوَائِلِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً.
قُلْتُ: مَعْنَاهُ، أَنَّ تَرْتِيبَ التَّكْلِيفِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، هُوَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ ثَانٍ عَلَى وُجُودِ أَمْرٍ أَوَّلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا، وَلَا مُوجِبًا لِلِامْتِنَاعِ، كَالْآحَادِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَرَتِّبُ الْوُجُودِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي، وَهَلُمَّ جَرَّا.
قَالَ أَيْضًا: وَإِذَا ثَبَتَ مُعَاقَبَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ إِجْمَاعًا فَلْتَصِحَّ مُعَاقَبَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، إِذَا مَضَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ، يَعْنِي إِذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ بِبَلَاغِ الْخِطَابِ مَا يَسَعُ فِعْلَ الْإِيمَانِ، بِأَنْ يَقُولَ الْكَافِرُ: آمَنْتُ، أَوْ يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالنَّصُّ» إِلَى آخِرِهِ. هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْقَطْعُ، فِي قَوْلِهِ:«لَنَا، الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ» أَيْ: لَنَا الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَالنَّصُّ عَلَى الْوُقُوعِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْجَوَازِ، نَحْوَ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَقَوْلِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَةِ: 21] . وَسَائِرُ الْخِطَابِ الْوَارِدِ بِلَفْظِ النَّاسِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، بَلْ هُوَ فِي الْأَصْلِ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا قَبْلَ وُرُودِ الْخِطَابِ، فَلَمَّا وَرَدَ لَمْ يَرِدْ إِلَّا عَلَى كَافِرٍ، فَهَدَى اللَّهُ سبحانه وتعالى لِاتِّبَاعِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ.
وَالْحِجُّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَالْعِبَادَةُ فِي الثَّانِيَةِ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ التَّذَلُّلُ، وَفِي الشَّرْعِ التَّذَلُّلُ بِمُتَابَعَةِ مَرْسُومِ الشَّرْعِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ.
قَالُوا: وَجُوبُهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهَا فِي الْكُفْرِ، وَانْتِفَاءُ قَضَائِهَا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُفِيدٍ.
قُلْنَا: الْوُجُوبُ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ، كَمَا سَبَقَ. وَالْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنِ انْتَفَى بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، نَحْوَ:«الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ، عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ النَّصُّ، نَحْوَ:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} . وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَنَاهِي، يَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّرْكِ تَقَرُّبًا. وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ.
ــ
هَذَا دَلِيلُ الْمَانِعِينَ مِنْ تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، إِذْ هُوَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ عَبَثٌ مُحَالٌ عَلَى الشَّرْعِ. وَالْفَائِدَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ فِعْلِهَا حَالَ الْكُفْرِ، أَوْ وُجُوبُ قَضَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ عِبَادَةٌ فَرْعِيَّةٌ حَالَ كُفْرِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَيَنْتَفِي التَّكْلِيفُ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ السُّؤَالِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ دَلِيلُهُمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ وُجُوبَهَا حَالَ الْكُفْرِ، إِنَّمَا هُوَ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ - كَمَا سَبَقَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يَرِدُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَهَا حَالَ الْكُفْرِ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمُحَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُوجِبُهَا بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ قَضَائِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَنَقُولُ:
قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ هُوَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ يَعْنِي:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْخِطَابَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ أَصْلُ التَّكْلِيفِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، سَقَطَ السُّؤَالُ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ، إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِانْتِفَاءِ وُرُودِ الْأَمْرِ الْجَدِيدِ بِهَا، لَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ حَالَ الْكُفْرِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، قُلْنَا: هُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا حَالَ الْكُفْرِ، لَكِنْ سَقَطَ قَضَاؤُهَا عَنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَجَدِّدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ عليه السلام: الْإِسْلَامُ - يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْحَجُّ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا أَيْ: يَقْطَعُ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّ الْكَافِرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَصْلًا، وَلَحَظَ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَامَّةً، وَهُوَ تَيْسِيرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرُهُ مِنْهُمْ، إِذْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ فِي الْكُفْرِ، لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَوَاتِهَا، وَسَائِرِ عِبَادَاتِهَا، لَجَبُنَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَهُلَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ.
أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَلَا يُسْقِطُهَا الْإِسْلَامُ، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ الْعَامِّ بَيْنَ الْعَالَمِ.
قَوْلُهُ: «وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ» هَذَا مِنْ تَمَامِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الْجَوَابِ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ بِالْفُرُوعِ غَيْرُ مُفِيدٍ، بَلْ فَائِدَتُهُ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالتَّخْلِيدِ، وَعَلَى تَرْكِ فُرُوعِهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَهُوَ زِيَادَةُ كَمِّيَّةِ الْعَذَابِ أَضْعَافًا يَسْتَحِقُّونَهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصُّ بِذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فُصِّلَتْ: 6 - 7]، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى حِكَايَةً عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ:{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [الْمُدَّثِّرِ: 40 - 45]- وَهَذِهِ كُلُّهَا فُرُوعٌ - {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [الْمُدَّثِّرِ: 46]، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِتَرْكِهِ وَالْجَزْمِ بِضِدِّهِ يَكُونُ الْإِيمَانُ. وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْفُرْقَانِ: 68 - 69] .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ، أَنَّهُ رَتَّبَ الْوَعِيدَ فِيهَا عَلَى مَجْمُوعِ تَرْكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَكَانَتِ الْفُرُوعُ جُزْءًا مِنْ سَبَبِ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَقِلُّ بِالْوَعِيدِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ هُوَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ، بِدَلِيلِ اسْتِقْلَالِهِ بِالتَّخْلِيدِ.
فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ اسْتِقْلَالَهُ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، بَلِ الْوَعِيدُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، لِأَنَّ الْفُرُوعَ فِي النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَجْمُوعُ الْإِشْرَاكِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُثْبِتُوا اسْتِقْلَالَ الْكُفْرِ بِالتَّخْلِيدِ، وَإِنْ كُنَّا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّكُمْ لَوْ فَرَضْتُمْ كَافِرًا أَتَى فِي حَالِ كُفْرِهِ بِجَمِيعِ الْفُرُوعِ [لَمْ يُقْبَلْ] مِنْهُ مَعَ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ بِهَا بِشَرْطِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَنْ يُوقِعَهَا مُسْلِمًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ وَإِنِ اسْتَقَلَّ بِالتَّخْلِيدِ، لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْفُرُوعِ بِالْمُضَاعَفَةِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يَعْنِي الْإِشْرَاكَ وَالْقَتْلَ وَالزِّنَى {يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ، يَعْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعَذَّبُ ضِعْفًا مِنَ الْعَذَابِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ، أَعْنِي عِقَابَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْفُرُوعِ فِي الْآخِرَةِ، بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُعَيِّنُهَا، أَيْ: لَا فَائِدَةَ لِتَكْلِيفِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ هُنَا فَوَائِدَ:
مِنْهَا: تَيْسِيرُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا رُبَّمَا سَهُلَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، دُونَ فِعْلِ أَصْلِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا حَسَنٌ عَقْلًا، تَمِيلُ الطِّبَاعُ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ إِلَّا الشَّهَادَتَانِ. مِثْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلْعَدْلِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، وَبَعْضُ مَنْ أَدْرَكَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، أَجَابَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَتْ بِهِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِرْغَامِ الْأُنُوفِ، فَإِذَا عَلِمَ الْكَافِرُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَفَعَلَهَا بِنِيَّةِ الطَّاعَةِ، وَالْإِجَابَةِ لِدَاعِي الشَّرْعِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ - فَرُبَّمَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهُدَى بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ. وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ، أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، فَيُنَاسِبُ أَنْ يُخْتَمَ لِلْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ، وَقَدْ أَتَى مِنْهَا بِكَبَائِرَ، كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَأَنَّ إِثْمَ ذَلِكَ لَاحِقٌ لَهُ، ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، رُبَّمَا اسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ مِنْ عَاقِبَةِ مَا فَعَلَ مِنْهَا، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْهَادِمِ لَهَا.
وَمِنْهَا: الْحُكْمُ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِ بِفِعْلِ بَعْضِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ بَعْضِ الشُّرُورِ، إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَفَعَلَهَا جَازَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ فِي الْمَنَازِلِ وَالدِّرَكَاتِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» .
ذَكَرَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ الْقَرَافِيُّ فِي «شَرْحِ التَّنْقِيحِ» وَأَحَالَ بِفَوَائِدَ أُخَرَ عَلَى شَرْحِهِ لِـ «الْمَحْصُولِ» .
وَمِنَ الْمَآخِذِ السَّمْعِيَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاسَ عَامَّةً إِلَى قَبُولِ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَنَاهِي، يَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّرْكِ تَقَرُّبًا، وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ» .
هَذَا تَقْرِيرٌ لِضَعْفِ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِمَنَاهِي الشَّرْعِ الْفَرْعِيَّةِ، كَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، دُونَ مَأْمُورَاتِهِ، كَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى بِإِيجَادِهَا، وَمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ، كَإِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ بِالزَّكَاةِ، وَنَحْوِهِ. وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ. فَمَقْصُودُ الْأَوَامِرِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْكَافِرِ قَبْلَ الْإِيمَانِ، بِخِلَافِ الْمَنَاهِي، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا إِعْدَامُ مَفْسَدَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، كَمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ وَالزِّنَى وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَرْكُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَبَرَاءَةُ تَارِكِهَا مِنْ عُهْدَتِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقٍ وَلَا إِيمَانٍ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ فِيهِ سِيَّانِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُكُمُ: التَّقَرُّبُ بِالْمَأْمُورَاتِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ، لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا فِي الصِّحَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي التَّكْلِيفِ بِهَا حَالَ الْكُفْرِ، بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ عَلَى فِعْلِهَا، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُ ذَلِكَ وَفَوَائِدُهُ.
أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْكَافِرَ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِتَرْكِهِ، فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُ بِهِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ.
قُلْنَا: هَذَا مَوْضِعُ تَحْقِيقٍ وَتَفْصِيلٍ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ مُثَابٌ وَمُعَاقَبٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ وَمَنْهِيٌّ، فَثَوَابُهُ يَحْصُلُ تَارَةً عَنْ فِعْلِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ، وَتَارَةً عَنْ تَرْكِ مَحْظُورٍ، كَالزِّنَى وَالرِّبَا، وَعِقَابُهُ يَحْصُلُ، تَارَةً عَنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، كَالزِّنَى، وَتَارَةً عَنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ، وَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَفَاعِلُ الْمَأْمُورِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثَّوَابَ الشَّرْعِيَّ إِلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَتَارِكُ الْمَحْظُورِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ ثَوَابُ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ سبحانه وتعالى وَخَافَهُ، وَآثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَرَكَ شَهَوَاتِهِ لِرِضَاهُ، إِلَّا بِنِيَّةِ ذَلِكَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنْ آثَارِ التَّكْلِيفِ، وَكَلَامُنَا فِيهِ.
أَمَّا بَرَاءَةُ الْعُهْدَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَنْهِيِّ بِتَرْكِهِ، فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَدْلِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ، وَالْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْمَجْنُونَ لَوْ أَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى، وَجَبَ مَهْرُهَا فِي مَالِهِ، وَلَوْ هَمَّ بِهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا، خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْغَرَامَةِ الَّتِي كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً بِفِعْلِهِ لَوْ فَعَلَ، وَلَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْعَاقِلُ الْمُسْلِمُ، لَوْ فَعَلَ هَذَا بِعَيْنِهِ، لَلَزِمَهُ الْمَهْرُ مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ، وَالْإِثْمُ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ كَفَّ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهَا نَاوِيًا التَّقَرُّبَ، لَبَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْمَهْرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ، وَمِنْ عُهْدَةِ الْحَدِّ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ، وَلَحَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْكَفِّ، وَثَوَابُ الْمُتَّقِينَ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 40 - 41] ، وَلَوْ كَفَّ عَنْهَا غَيْرَ نَاوٍ لِلْقُرْبَةِ، بَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْمَهْرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ الثَّابِتِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَبَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْحَدِّ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ الثَّابِتِ بَيْنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَخَلْقِهِ، ثُمَّ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ كَفُّهُ خَوْفًا مِنْ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ جُبْنٌ لَا تَقْوَى، وَإِنْ كَانَ إِيثَارًا لِطَهَارَةِ الْعِرْضِ، وَالشَّجَاعَةِ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَافَاهُ أَصْحَابُ الْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ الْفَاضِلَةِ الْأَبِيَّةِ، فَهَذَا مَحْمُودٌ عَلَى عَفَافِهِ الْعُرْفِيِّ، وَبِالضَّرُورَةِ لَا يُسَاوِي مَنْ كَانَ كَفُّهُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ.