الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قُلْتُ: فَهَذَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ بِصِفَةٍ، وَعَلَيْهِ دَلَّ بَحْثُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ أَلْزَمُوهُمْ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْقُبْحُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى صِفَةٍ لِأَجْلِهَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الذَّمَّ، وَالْحُسْنُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُمْ بِالصِّفَةِ الْمَفْسَدَةُ.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ الْقَوْلَيْنِ الِاخْتِلَافُ، وَرُبَّمَا أَمْكَنَ التَّلَطُّفُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ
الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: النِّزَاعُ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، فَعِنْدَهُمْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى رِعَايَةُ مَصَالِحِ خَلْقِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ وُجُوبَ ذَلِكَ مِنْهُ جَزْمًا تَحْقِيقًا لِلْجُودِ وَالْعَدْلِ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلَا مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، لَكَانَ تَخْصِيصُ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَلَمَّا خَصَّ بَعْضَ الْأَفْعَالِ بِالْوُجُوبِ وَبَعْضَهَا بِالتَّحْرِيمِ وَبَعْضَهَا بِالْإِبَاحَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَالتَّحْرِيمَ لِدَفْعِهَا، وَالْإِبَاحَةَ لِخُلُوِّ الْأَفْعَالِ عَنْ مَصْلَحَةٍ وَمُفْسِدَةٍ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ.
فَأَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ فِي الْأَفْعَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَبُّدًا مَحْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ تَفَضُّلًا، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي رِعَايَتِهَا وُجُوبًا، وَلِلَّهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لَهُ سبحانه وتعالى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ لِإِكْمَالِهِ أَنَّ يَتَفَضَّلَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالْغِنَى وَالْعِزِّ وَالْعِلْمِ وَأَنْ لَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُشَاهَدًا فِي الْعَالَمِ، حَيْثُ النَّاسُ مَا بَيْنَ مُعَافًى وَمُبْتَلًى، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَعَزِيزٍ وَذَلِيلٍ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ.
فَهَذَا مَا أَرَدْنَا إِثْبَاتَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، لِأَنَّ مَدَارَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِ.
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَيْدِينَا مَبَاحِثُ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتُحَالُ عَلَيْهِ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ، مَسْأَلَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَأَحْكَامُ الْأَفْعَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وَقَدْ ذَكَرْةُ جُمْلَةً مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ:«رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
خَاتِمَةٌ: خِطَابُ الْوَضْعِ: مَا اسْتُفِيدَ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ عَلَمًا مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ، لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ خِطَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، لَا بِالِاقْتِضَاءِ وَلَا بِالتَّخْيِيرِ. صَحَّ، عَلَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
ــ
قَوْلُهُ: «خَاتِمَةٌ» ، أَيْ: لِهَذَا الْفَصْلِ، قَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ إِمَّا اقْتِضَائِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ.
قَالَ الْآمِدِيٌّ: الْحُكْمُ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُفِيدُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الطَّلَبِ أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالطَّلَبُ إِمَّا لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبًا، فَهُوَ إِمَّا تَخْيِيرٌ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الْإِبَاحَةُ، وَالثَّانِي: هُوَ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ، كَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَنَصْبُ الْأَسْبَابِ، وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ إِعَادَةً، أَوْ قَضَاءً، أَوْ أَدَاءً، أَوْ رُخْصَةً، أَوْ عَزِيمَةً.
هَذَا تَقْسِيمُهُ، وَذَكَرْتُهُ هَاهُنَا تَطْرِيَةً لِذِهْنِ النَّاظِرِ بِتَصَوُّرِ الْحُكْمِ وَتَقْسِيمِهِ وَأَقْسَامِهِ، وَتَكْمِيلًا لِلْقِسْمَةِ إِلَى نَوْعَيِ الْخِطَابِ، أَعْنِي: اللَّفْظِيَّ وَالْوَضْعِيَّ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ: خِطَابَ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ.
أَمَّا مَعْنَى الْوَضْعِ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ، أَيْ: شَرَعَ أُمُورًا سُمِّيَتْ أَسْبَابًا وَشُرُوطًا وَمَوَانِعَ تُعْرَفُ عِنْدَ وُجُودِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، فَالْأَحْكَامُ تُوجَدُ بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ، وَتَنْتَفِي لِوُجُودِ الْمَوَانِعِ وَانْتِفَاءِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ بِوَضْعِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَخْبَرَنَا بِوُجُودِ أَحْكَامِهِ أَوِ انْتِفَائِهَا عِنْدَ وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ أَوِ انْتِفَائِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ مَثَلًا: إِذَا وُجِدَ النِّصَابُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطُهُ، فَاعْلَمُوا أَنِّي أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ الدَّيْنُ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهَا، أَوِ انْتَفَى السَّوْمُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ، فَاعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أُوجِبْ عَلَيْكُمُ الزَّكَاةَ.
وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَى، وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَعَكْسِ ذَلِكَ.
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ «الْمُخْتَصَرِ» .
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الْخِطَابِ وَالْوَضْعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا خِطَابُ وَضْعٍ.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّرِيعَةِ لَمَّا كَانَ دَائِمًا إِلَى انْقِضَاءِ الْوُجُودِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ خِطَابُ الشَّارِعِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ سَمَاعُهُ وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ وَتَعَدُّدِ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ إِمَّا اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَخِطَابُهُ لَا يَعْرِفُهُ الْمُكَلَّفُونَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ عليهم السلام الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَلَّدٍ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُعْرَفَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ فِي الْحَوَادِثِ بِوَاسِطَتِهِ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كُلِّ وَقْتٍ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ زَمَانًا حَتَّى عَرَّفَهُمْ أَحْكَامَ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، ثُمَّ صَارَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ نَصْبَ أَشْيَاءَ تَكُونُ أَعْلَامًا عَلَى حُكْمِهِ وَمُعَرِّفَاتٍ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، تَحْصِيلًا لِدَوَامِ حُكْمِهَا وَأَحْكَامِهَا مُدَّةَ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، وَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي نُصِبَتْ مُعَرِّفَاتٍ لِحُكْمِ الشَّرْعِ هِيَ الْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه وتعالى.
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُمْكِنُهُمْ لِوُجُودِهِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ أَعْيَانِ الْحَوَادِثِ بِأَشْخَاصِهَا، فَيُجِيبُهُمْ عَنْهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَهَا، فَلَوِ اتَّفَقَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، مَثَلًا، مِائَةُ زَانٍ أَوْ سَارِقٍ أَوْ شَارِبِ خَمْرٍ، أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، إِمَّا بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِالْوَحْيِ، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُهُ فِيهِمْ مُتَّفِقَةً وَمُخْتَلِفَةً، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَأَحْكَامُهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِالْأَقْيِسَةِ.
كَمَا أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْجُهَنِيَّةِ دُونَ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَرْجُومٌ فِي الْحَدِّ بِإِقْرَارِهِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقِيَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَّا مَنْ لَيْسَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى فِي كُلِّ حَادِثَةٍ بِعَيْنِهَا، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَضْعُ أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ تَكُونُ مُعَرِّفَاتٍ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ زَنَى مُحْصَنًا، فَارْجُمُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ، فَاقْطَعُوهُ، وَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَاجْلِدُوهُ، وَمَنْ قَتَلَ أَوِ ارْتَدَّ، فَاقْتُلُوهُ. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْجَارِيَةِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَعِلَلِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا لَنَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ - أَعْنِي: وُجُوبَ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَهَا - هِيَ الَّتِي اسْتُفِيدَتْ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ أَعْلَامَهَا الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وَهِيَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةُ وَالشُّرْبُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ، وَهِيَ - أَعْنِي الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ - خِطَابُ الْوَضْعِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ» ، أَيْ: وَإِنْ قِيلَ خِطَابُ الْوَضْعِ هُوَ خِطَابُ الشَّرْعِ «الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالِاقْتِضَاءِ وَلَا بِالتَّخْيِيرِ، صَحَّ عَلَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ» .
قُلْتُ: هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الطَّلَبِيِّ، حَيْثُ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: هُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَوِ الْوَضْعِ، لِيَتَنَاوَلَ خِطَابَ الْوَضْعِ الَّذِي نَحْنُ الْآنَ نَتَكَلَّمُ فِيهِ.
فَإِذَا قِيلَ هَاهُنَا: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالِاقْتِضَاءِ، وَلَا بِالتَّخْيِيرِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا خِطَابُ الْوَضْعِ الْمُرَادِ هَاهُنَا، غَيْرَ أَنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التَّعْرِيفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ «لَا» ، وَ «لَا» فِيهِ نَافِيَةٌ، لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقُولُ فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ: هُوَ مَا لَيْسَ بِفَرَسٍ، وَلَا شَاةٍ، وَلَا ثَوْرٍ، وَلَا طَائِرٍ، وَيَعُدُّ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ وَيَنْفِيهَا، وَهُوَ مُسْتَكْرَهٌ، فَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا فِي خِطَابِ الْوَضْعِ التَّعْرِيفَ الْأَوَّلَ.
وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْرِيفِ خِطَابِ الْوَضْعِ بِتَعْرِيفِهِ الثَّانِي مِنْ تَقْسِيمِ الْآمِدِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
ثُمَّ هَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ خِطَابَ الطَّلَبِ هُوَ الْأَصْلُ، وَخِطَابُ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِهِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَذُّرِ خِطَابِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ لَاحَ لَكَ ذَلِكَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، فَالْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: أَوْجَبْتُ أَوْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ، أَوِ افْعَلُوا أَوْ لَا تَفْعَلُوا، أَوِ ارْجُمُوا هَذَا الزَّانِيَ، أَوِ اقْطَعُوا هَذَا السَّاقَ.
أَمَّا جَعْلُهُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةَ عَلَمًا عَلَى الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ، فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
نَعَمْ خِطَابُ الْوَضْعِ يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ، كَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النُّورِ: 2] ، وَقَوْلِهِ عليه السلام: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْخِطَابَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، بِخِلَافِ خِطَابِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ الْوَضْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَنَا الشَّارِعُ: تَوَضَّئُوا لَا عَنْ حَدَثٍ، فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَفْظِيٌّ بِفِعْلٍ مُجَرَّدٍ عَنْ سَبَبٍ مَوْضُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ يُقَسِّمُ خِطَابَ الشَّرْعِ إِلَى خِطَابِ تَكْلِيفٍ وَخِطَابِ وَضْعٍ، وَهِيَ قِسْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ هُوَ التَّكْلِيفُ، وَكَذَلِكَ مَا فُهِمَ مِنْ قِسْمَةِ الْآمِدِيِّ لِلْحُكْمِ مِنْ أَنَّهُ طَلَبِيٌّ وَوَضْعِيٌّ، هُوَ مُتَدَاخِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ خِطَابِ الْوَضْعِ الطَّلَبُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِخِطَابِ الْوَضْعِ، إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ طَلَبَ مِنَّا عِنْدَ قِيَامِ الْأَعْلَامِ الَّتِي نَصَبَهَا، أَوْ عِنْدَ بَعْضِهَا فِعْلًا أَوْ كَفًّا، كَقَوْلِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وُجُودِ الزِّنَى مِنْ هَذَا: رَجْمَهُ، وَعِنْدَ وُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ هَذَا: قَطْعَهُ، وَعِنْدَ مِلْكِ النَّصَّابِ وَوُجُودِ الْحَوْلِ: الزَّكَاةَ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ: الْكَفَّارَةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَالصَّوَابُ فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَالَ: خِطَابُ الشَّرْعِ إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ، أَيْ: إِمَّا ثَابِتٌ بِالْأَلْفَاظِ نَحْوَ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43]، أَوْ عِنْدَ الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا: كَقَوْلِهِ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَجَبَتْ عَلَيْكُمُ الظُّهْرُ، فَاللَّفْظُ أَثْبَتَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَالْوَضْعُ عَيَّنَ وَقْتَ وُجُوبِهَا.
الثَّالِثُ: قَدْ عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ اللَّفْظِ وَالْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، فَهُوَ أَنَّ خِطَابَ اللَّفْظِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ. أَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ، فَكَالنَّائِمِ يُتْلِفُ شَيْئًا حَالَ نَوْمِهِ، وَالرَّامِي إِلَى صَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ وَرَاءَ حَائِلٍ يَقْتُلُ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُمَا يُضَمَّنَانِ مَا أَتْلَفَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا، وَكَالْمَرْأَةِ تَحِلُّ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَا تَعْلَمُ.
وَأَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ وَالْكَسْبِ، فَكَالدَّابَّةِ تُتْلِفُ شَيْئًا، وَالصَّبِيِّ أَوِ الْبَالِغِ يَقْتُلُ خَطَأً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْعَاقِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ وَالْقَتْلُ مَقْدُورًا وَلَا مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَ مَوْقِعِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ بِمُطْلَقِ الْإِكْرَاهِ أَوْ مَعَ الْإِلْجَاءِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
أَمَّا الْمُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَهُوَ قَاعِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ، كَالْقِصَاصِ لَا يَجِبُ عَلَى مُخْطِئٍ فِي الْقَتْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَحَدُّ الزِّنَى لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَيْضًا، وَلَا عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، إِذِ الْعُقُوبَاتُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُنْتَهَكُ بِهَا حُرْمَةُ الشَّرْعِ زَجْرًا عَنْهَا وَرَدْعًا، وَالِانْتِهَاكُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَالْجَاهِلُ وَالْمُكْرَهُ قَدِ انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِ، وَهُوَ شَرْطُ تَحَقُّقِ الِانْتِهَاكِ، فَيَنْتَفِي الِانْتِهَاكُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، فَتَنْتَفِي الْعُقُوبَةُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهَا.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَسْبَابُ النَّاقِلَةُ لِلْأَمْلَاكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَنَحْوِهَا: يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مُقْتَضَاهُ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا بَيْنَ الْعَرَبِ، أَوْ عَرَبِيًّا بَيْنَ الْعَجَمِ، أَوْ طَارِئًا عَلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 29] ، وَلَا يَحْصُلُ الرِّضَى إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِثْنَاءِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْتِزَامُ الشَّرْعِ قَانُونَ الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَإِعْفَائِهِمْ مِنْ تَكْلِيفِ الْمَشَاقِّ، أَوِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: لَوْ لَفَظَ أَعْجَمِيٌّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، أَوْ عَرَبِيٌّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْعَجَمِ، وَهُوَ «بِهَشْنَمْ» وَلَمْ يَعْلَمَا مَعْنَاهُ، لَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: إِنْ نَوَى مُوجِبَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ وَارِدًا عَلَى الْقَاعِدَةِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُخْتَارٌ عَالِمٌ، غَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنَّ عِلْمَهُ مُبْهَمٌ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى النِّيَّةِ.